أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-4-2016
3099
التاريخ: 27-08-2015
1798
التاريخ: 5-10-2014
3887
التاريخ: 5-10-2014
2014
|
فالقرآن الكريم يصف ( فرعون ) بأنّه كان مستكبراً عالياً مسرفاً متجاوزاً الحدّ ، فهو يرى نفسه فوق الآخرين ، وإرادته فوق إرادتهم إذ يقول : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ وَهَارُونَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ } ( يونس : 75 ). { فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ المُسْرِفِينَ } ( يونس : 83 ).{ ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ } ( المؤمنون : 45 ـ 46 ). { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ المُهِينِ * مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ المُسْرِفِينَ } ( الدخان : 30 ـ 31 )
ومن البديهي لمن يعتبر نفسه أعلى من الآخرين ، أن يطغى على الله تعالى ويعصيه ويفسد في الأرض ، وكذلك كان فرعون المستبدّ كما يصفه القرآن إذ يقول : {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَٰهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ * آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ } ( يونس : 90 ـ 91 ).
ترى وأيّ فساد أعظم وأيّ استكبار أكبر من أن يستعبد الناس ، ويسلبهم حرياتهم ويتخذ عباد الله خولاً.
فها هو القرآن ، ينقل عن فرعون قوله مخاطباً قومه وهو يشير إلى قوم موسى وهارون : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } ؟ ( المؤمنون : 45 ـ 47 ).
كما أنّ القرآن الكريم ينقل اعتراض النبيّ موسى (عليه السلام ) على فرعون ، استعباده للناس إذ يقول له بعد أن ذكر تربيته وحضانته وعنايته بموسى في طفولته بقوله : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } ؟ ( الشعراء : 18 ). { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } ( الشعراء : 22)
وما أوقح فرعون وأشد كفره واستكباره إذ يقول : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } !!! ( الشعراء : 23)
إنّ الاستبداد حالة طغيان تجعل الحاكم المستبدّ أن لا يقبل نصيحةً أو انتقاداً فيصير سيّء فعله حسناً في نظره كما يخبر بذلك القرآن عن فرعون إذ يقول : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } ( المؤمن : 36 ـ 37)
إنّ الحاكم المستبد في الرأي والحكم ، يعتقد أنّه يجب على الجميع أن يروا رأيه ويتبعوا فكرته ، سواء وافق الدليل أم لا ، وسواء طابق المصلحة أم لا ، بل يكفي في صحّته ولزوم طاعته أنّه رأي الملك ومشيئته.
ولهذا يقول القرآن حاكياً عن لسان فرعون كلامه بعد ما قال موسى : { يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللهِ إِن جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَىٰ } ( غافر : 29 ).
ويبلغ الاستبداد بالحاكم المتفرّد ، إلى أن يستهين بالمجتمع ولا يعتني بأرائه ، ويستخفّه ، كما فعل فرعون الملك المستبد في مصر آنذاك إذ يقول الله عنه : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ }.
ومن الطبيعي أن يفقد مثل هذا المجتمع ثقته بنفسه وبفكره وبعقله فيطيع الحاكم المستبدّ طاعةً عمياء كما يقول القرآن الكريم معقّباً على هذه الكلمة : { فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } ( الزخرف : 54).
كما قد يبلغ الاستبداد بالحاكم المستبد إلى أن يرى نفسه أعلى من كلّ الموجودات ويطلب من الناس عبادته كما يعبدون الله ويحظر عليهم عبادة غيره ، حظراً شديداً ومنعاً باتاً ، بحيث لو سوّلت لأحد نفسه أن يعبد غير ذلك الحاكم الطاغي والملك المستبد ، أخذه بأشدّ العذاب وأقسى أنواع العقاب بدءاً من السجن وانتهاءً بما هو أشدّ.
وهذا هو ما يخبر به القرآن عن فرعون إذ يقول : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي }( القصص : 38 ). { فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَ ( أي فرعون ) أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَىٰ * فَأَخَذَهُ اللهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَىٰ } ( النازعات : 23 ـ 25 ). { قَالَ ( أي فرعون لموسى (عليه السلام) ) لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المَسْجُونِينَ } ( الشعراء : 29).
وقد بلغ به الاستبداد إلى أن يوجد الكبت في المجتمع ويقف دون يقظتهم ووعيهم ، بحيث لو لمس فيهم ذلك نكّل بهم وعذّبهم أشدّ العذاب : { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } ( الشعراء : 49 ). { قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ } ( طه : 71 ).
إن الحاكم الاستبدادي ، لا يتحمل حركات التوعية والإصلاح ، ولذلك يتهم اصحابها بكلّ تهمة كما فعل فرعون بالنسبة لموسى (عليه السلام) ودعوته الإلهية المباركة حيث اتّهمه فرعون وأخاه بأنّه يطلب الزعامة : { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } ( يونس : 78 ).
بل ينفر الناس عن اولئك المصلحين ، وأصحاب الرسالات بأنّهم يريدون إشقاء الناس وخداعهم وتضليلهم : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَىٰ * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَىٰ } ( طه : 56 ـ 57 ). { قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا } ( طه : 63).
وربّما يصوّر للناس وضعهم الأسود البائس تصويراً جميلاً ويلقّنهم بأنّ ما هم فيه من طريقة ، هي الطريقة المثلى كما يقول ذلك عن لسان فرعون وملائه : { إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ ... وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلَىٰ } ( طه : 63)
وقد يبلغ الاستبداد بالحاكم المستبدّ حداً يجعله يتوسّل بكلّ وسيلة للحفاظ على عرشه حتّى ادّعاء التديُّن ، والتستُّر به ، ونصب نفسه حامياً لحياض الدين مع أنّه يريد ـ في قرارة نفسه ـ ، هدم الدين والقضاء عليه من جذوره ، وربّما يتّهم من يريد إرشاد الناس إلى الحقيقة ، وإلى الدين الحقيقيّ ، بأنّه يريد الفساد والعبث بأمن البلاد ، كما فعل فرعون لما جاءه موسى (عليه السلام) يدعوه ويدعو قومه إلى الله : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ } ( غافر : 26) .
بل أنّ الحاكم المستبدّ لا يمتنع من أن يخادع الجماهير ويضلّلهم ، ويصوّر نفسه مرشداً وهادياً إلى الحقّ إذ يقول القرآن عنه : { قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ } ( غافر : 29) .
وقد يتوسّل لتثبيت سلطانه ، بتقسيم المجتمع إلى مستكبر بالغ درجة كبيرة في استكباره ومستضعف محروم من أقلّ حقوقه الإنسانيّة ، فيستعين بالمستكبرين على المستضعفين كما فعل فرعون إذ يصفه الله تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا } ( القصص : 4 ).
إنّ الاستبداد قد يبلغ بالحاكم المستبد إلى أن يدّعي ملكيّة البلاد كلّها وملكية انهارها وعيونها ، كما ادعى فرعون إذ قال : {وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ } ( الزخرف : 51).
وإذ لم يكن للحاكم المستبد أي رادع من خلق وأي وازع من دين ، فإن استبداده قد ينتهي به إلى حدّ يجعل نفسه مشرّعاً ، ويعطي لنفسه حق التشريع والتقنين ، ويحمل بذلك اهواءه على الناس في قالب الدين ـ كما هو الرائج ـ وهذا هو ما ينهى القرآن عنه إذ يقول : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ } ( النحل : 116).
كما أنّ الاستبداد قد يدفع بصاحبه إلى مساواة نفسه العاجزة بالله في القدرة على بعض الأفعال التي هي من شؤون الله خاصّةً كالإماتة والإحياء ... كما يحدّثنا القرآن الكريم عن نمرود وهو ملك آخر من الملوك المستبدّين ، إذ يقول عنه : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ المُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } ( البقرة : 258).
إنّ التاريخ مليء بألم آسي التي سببّتها الديكتاتوريّة والاستبداد للناس وحوّلت حياتهم إلى جحيم لا يطاق ، فمن يمكن أن ينسى ما لحق ببعض الناس الأبرياء على أيدي أصحاب الاخدود ، الذين يذكرهم القرآن ، وكانوا ملوكاً جبابرة ... أرادوا أن يحملوا الناس على عقيدتهم ومسلكهم فلمّا رفض الناس ذلك خدُّوا لهم أخدوداً وخندقاً ، وأوقدوا فيه النار ، ورموا اولئك الناس فيها أحياء مع أولادهم وأطفالهم ... وكان ذلك من أشدّ ما عاناه الناس على أيدي الملوك المستبدّين ، إذ يقول القرآن وهو يصبُّ لعناته عليهم : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ } ( البروج : 4 ـ 8)
ففي تفسير القمّي في قوله تعالى : ( قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ ) ( كان سببه ، أنّ آخر ملك من ملوك حمير تهوّد ، واجتمعت معه حمير على اليهودية ، وسمّى نفسه يوسف وأقام على ذلك حين من الدهر.
ثمّ أخبر أنّ بنجران بقايا قوم على دين النصرانية ، وكانوا على دين عيسى وحكم الانجيل ، فحمله أهل دينه على أن يسير إليهم ويحملهم على اليهودية ، ويدخلهم فيها فسار حتى قدم نجران ، فجمع من كان بها على دين النصرانية ، ثمّ عرض عليهم دين اليهوديّة والدخول فيها ، فأبوا عليه ، فجادلهم وعرض عليهم وحرص كل الحرص أن يدخلوا في اليهوديّة ، فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها ، واختاروا القتل.
فاتّخذ لهم أخدوداً [ أي خندقاً ] وجمع فيه الحطب ، وأشعل فيه النار ، فمنهم من أحرق بالنار ، ومنهم من قتل بالسيف ، ومثّل بهم كلّ مثلة فبلغ عدد من قتل وأحرق بالنار : عشرين ألفاً ) (1)
وفي حديث آخر حول هذه الآية عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) : « أنّ ملكاً سكر فوقع على ابنته [ أو قال على اخته ] فلمّا أفاق قال لها كيف المخرج ممّا وقعت فيه. . قالت : تجمع أهل مملكتك وتخبرهم أنّك ترى [ أي تجوّز ] نكاح البنات وتأمرهم أن يحلّوه فأخبرهم ، فأبوا أن يتابعوه ، فخدّ لهم اخدوداً في الأرض وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها ، فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار ، ومن أجاب خلى سبيله » (2)
وهكذا يبلغ الاستبداد بالحاكم والملك المستبد إلى أن يرتكب ما يريد ، ويستبيح كلّ حرام ، ويأتي بكل منكر ، ويدعو قومه مع ذلك إلى متابعته ، وإلاّ قتلهم ونكّل بهم وعذّبهم وأخذهم بأشدّ عقاب.
إنّ ما يذكره القرآن الكريم عن فرعون أو بعض الملوك من الاستبداد وما يترتب عليه من مفاسد خطيرة ، لا يختصُّ بفرعون ومن ذكرهم القرآن خاصة ، بل هي خصّيصة تلازم النظام الملكيّ باعتباره حكماً فردياً لا ينطلق من مقاييس إلهيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة ، بل ينطلق من التسلط والقهر ، وحمل الفرد نفسه على رقاب الشعوب ... وإنّما ذكر القرآن فرعون وخصّه بالذكر ، لكونه مثلاً حيّاً ونموذجاً معروفاً للملك المستبدّ.
على أنّ آثار الاستبداد ومفاسده على درجات ومراتب في الكمّية والكيفيّة حسب توفُّر هذه الخصلة [ الاستبداد ] في الحاكم والملك.
فمن مستبد يسلب بعض الحريات ويترك بعضها ، إلى آخر يسلب جميعها جملةً واحدةً ويتجاوز الحدود ويستأثر بفيء العباد ، إلى آخر يتصوّر نفسه مالكاً للبلد الذي يحكم فيه ، ومالكاً لأهله وما فيه قاطبةً ، إلى آخر يشتدُّ فيه الاستبداد حتّى يدعي الالوهيّة ، أو يصف نفسه بأنّه الإله الأعلى وعلى الناس أن يعبدوه إلى ... وإلى ..
فأين هذا النظام من الحكومة التي ينشدها الإسلام ويريد اقامتها ، حيث يخاطب الله تعالى نبيّه داود ـ بصددها ـ بقوله : { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ } ( ص : 26)
أو يخاطب نبيّه محمّداً (صلى الله عليه واله وسلم) قائلاً : { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} ( المائدة : 49).
أجل ، تلك هي طبيعة الملكية ... جشع بالغ وطمع يتجاوز الحدود ، وتفرعن واستعلاء وفساد وإفساد ، وبالتالي تاريخ مشحون بالمآسي والدموع ، وإخراج الآمنين من أوطانهم ظلماً وعدواناً.
وأمّا الملكيّة التي منّ الله بها على بني اسرائيل ، فهي تختلف عن هذه الملكية لأنّها مقرونةً بالنبوّة ، موهوبةً من جانب الله سبحانه ، فلا تفرعن فيها ولا استكبار ولا عدوان فيها ولا إفساد.
وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم : { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا } ( المائدة : 20).
والمقصود من الملوك في الآية ، هم الأنبياء أمثال يوسف وداود وسليمان : إذ يقول القرآن عن ذلك : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا } ( النساء : 54 ) (3)
ومن المعلوم ، أنّ يوسف وداود وسليمان : كانوا من آل إبراهيم (عليه السلام) وكانوا في القمّة من أنبياء بني اسرائيل.
وأمّا الشخص الذي اختاره الله ملكاً لبني اسرائيل كما في قوله سبحانه : { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ( البقرة : 247 ).
فهو وإن لم يكن نبيّاً ، ولكنّه مع ذلك لم يكن فرداً عادياً ، بل كان ممّن تربّى بالتربية الإلهية ، وحظي بمؤهلات الحكم والملك ، ولذلك اختاره الله سبحانه ، وإلى هذه المؤهلات أشار القرآن الكريم بقوله : { إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالجِسْمِ }.
فلا يمكن الاستدلال بهذه الموارد التي اقترنت فيها الملوكيّة بالنبوّة ، والصفات الإنسانيّة العليا الموهوبة من الله سبحانه لهم ، على حسن الملوكيّة وقدرتها على إقامة العدل بين الاُمّة.
وهذا أشبه شيء بالاستدلال بموارد نادرة على طبيعة الحكم الكلّي.
أضف الى ذلك ، أنّ من المحتمل جداً أن يكون المراد من الملوكيّة هو مطلق الحاكميّة على الناس ، وامتلاك هؤلاء الأنبياء إدارة اُمور الناس ، الذي اعطي لهم من جانب الله سبحانه وتعالى.
غير أنّ التعبير عن هذه الحاكميّة والامتلاك بلفظ الملوكيّة ، إنّما هو لأجل المحافظة على الاصطلاح الرائج بين الناس في موضوع الحاكميّة ، حيث إنّه لم يكن يوجد بينهم أي لون من الحاكميّة إلاّ الملوكيّة ، فاستعار سبحانه هذه اللفظة للتعبير عن حاكميتهم المعطاة لهم ، مع الفارق الكبير والبون الشاسع بين الحاكميتين والامتلاكين.
وبالتالي ، فانّ هذه الملوكية التي وصف الله بها ثلّةً من الأنبياء ، تختلف جداً عن الملكية التي هي محطُّ بحثنا هنا ، فإنّ الملكيّة التي في هذه الآيات ، هي ممّا جعلها الله سبحانه لرجل صالح من الأنبياء ، وليست ممّا حصّلت بالقهر ، والتغلُّب بالقوّة على رقاب الناس ، ممّا تتصف بها جميع ملوكيات الأرض.
وباختصار : إنّ الملوكية التي كانت للأنبياء ، تفترق عن الملوكيات الدارجة المتعارفة ـ التي يذمُّها الله سبحانه في ما مضى من الآيات في مطلع هذا البحث ـ في أمرين :
الأوّل : اقتران العصمة والصفات الكريمة العليا مع صفة الملوكية في الأنبياء دون غيرهم من ملوك الأرض.
الثاني : إنّ الملوكية التي اتّصف بها الأنبياء ، كانت معطاة من الله سبحانه ، لا أنّهم اكتسبوها بالقوّة والقهر كما هو شأن ملوك الأرض.
ولو كانت الملوكية مجردةً عن ذينك الأمرين ، لأدّى إلى الفساد ، والتفرعن كما يشهد به التأريخ.
وأقصى ما يمكن أن يقال حول توصيف الله سبحانه لبعض الأنبياء الصالحين بالملوكيّة : أنّ التأريخ وإن كان يشهد على أنّ الملوكيّة وإن كانت مقرونة بالاستكبار والتفرعن والفساد ، غير أنّه لم يكن يتبادر من تلك الكلمة ـ في عصر نزول القرآن ـ ما يتبادر في العصور المتأخّرة عن نزوله وبالأخصّ في هذه الأعصار الأخيرة.
ولأجل ذلك وصف الله سبحانه طالوت بالملوكيّة ( بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ) ومنّ على بني اسرائيل بأن جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكاً ، قال سبحانه : { اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا } ( المائدة : 20 ).
كما وصف آل ابراهيم بقوله : { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا } ( النساء : 54).
إلى أن عاد سبحانه ينقل عن داود بأنّه طلب من الله سبحانه أن يهب له ملكاً ، قال تعالى : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي } ( ص : 35)
إنّ الملكيّة بكلّ أنواعها ، مرفوضة في نظر الإسلام وخاصّة الوراثيّة منها ، لما في ذلك من الفساد وضياع الحق والعدل ... كما أثبتته التجارب التأريخيّة في حياة البشريّة.
يقول المؤرّخ المعروف ابن خلدون في مقدّمته في الفصل الحادي والعشرين تحت عنوان ( فيما يعرض في الدول من حجر السلطان والاستبداد عليه ):
(إذا استقر الملك في نصاب معيّن ومنبت واحد من القبيل القائمين بالدولة وانفردوا به ، ودفعوا سائر القبيل عنه ، وتداوله بنوهم واحداً بعد واحد ، بحسب الترشيح ، فربّما حدث التغلّب على المنصب من وزرائهم وحاشيتهم ، وسببه في الأكثر ولاية صبيّ صغير ، أو مضعف من أهل المنبت يترشّح للولاية بعهد أبيه ، أو بترشيح ذويه وخوله ، ويؤنس منه العجز عن القيام بالملك ، فيقوم به كافله من وزراء أبيه وحاشيته ومواليه أو قبيله ، ويورّي بحفظ أمره عليه حتّى يؤنس منه الاستبداد ويجعل ذلك ذريعةً للملك ، فيحجب الصبيّ عن الناس ، ويعوده اليها ترف أحواله ، ويسيمه في مراعيها متى أمكنه ، وينسيه النظر في الاُمور السلطانيّة حتّى يستبدّ عليه ، وهو بما عوّده يعتقد أنّ حظّ السلطان من الملك ، إنّما هو الجلوس على السرير ، وإعطاء الصّفقة ، وخطاب التهويل ، والقعود مع النساء خلف الحجاب ، وأنّ الحلّ والربط والأمر والنهي ومباشرة الأحوال الملوكيّة ، وتفقُّدها من النظر في الجيش والمال والثغور ، إنّما هو للوزير ، ويسلّم له في ذلك إلى أن تستحكم له صبغة الرئاسة والاستبداد ، ويتحوّل الملك إليه ويؤثر به عشيرته وأبناءه من بعده كما وقع لبعض البلاد.
وقد يتفطّن ذلك المحجور المغلّب لشأنه ، فيحاول على الخروج من ربقة الحجر والاستبداد ، ويرجع الملك إلى نصابه ، ويضرب على أيدي المتغلّبين عليه ، إمّا بقتل أو برفع عن الرتبة فقط ، إلاّ أنّ ذلك في النادر ... وإنّما يحدث لأبناء الملوك ذلك ، لأنّهم ينشأون منغمسين في نعيمه وقد نسوا عهد الرجولة ) (4)
وصفوة القول ، أنّ النظام الملكيّ المطلق منه والدستوري والوراثيّ ، أمر ملازم للاستعلاء والطغيان.
_________________________
(1) تفسير القمّي كما في نور الثقلين 5 : 544.
(2) مجمع البيان 10 : 465 والدرّ المنثور للسيوطيّ 6 : 333.
(3) والمراد بالملك ـ في المورد هو السلطة على الاُمور الماديّة والمعنويّة ، فيشمل ملك النبوّة والولاية والهداية والثروة وغيرها ، وذلك هو الظاهر من سياق الجمل السابقة واللاحقة ، فإنّ الآية السابقة ( أي الآية 53 ) تؤمى إلى دعواهم أنّهم يملكون القضاء والحكم على المؤمنين ، راجع الميزان للعلاّمة الطباطبائيّ 4 : 375.
(4) مقدمة ابن خلدون : 185-186.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|