أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-7-2016
12592
التاريخ: 19-7-2016
18184
التاريخ:
4127
التاريخ: 19-7-2016
11780
|
... إن بُعد قريش عن بلاد العجم من جميع جهاتها لم يَحُلْ دون تسرب بعض الألفاظ الفارسية والرومية إليها. وأكدنا أن مقدرة لغة ما على تمثل الكلام الأجنبي تعد مزية وخصيصة لها إذا هي صاغته على أوزانها، وأنزلته على أحكامها، وجعلته جزءًا لا يتجزأ من عناصر التعبير فيها. ولم تكُ هذه إلا دعوى تفتقر إلى دليل يثبتها، وحجة تشهد لها. وفي فصلنا هذا بيان شافٍ لذلك كله.
إن العربية ليست بدعًا من اللغات الإنسانية، فهي جميعًا تتبادل التأثر والتأثير، وهي جميعًا تُقرض غيرها وتقترض منه، متى تجاورت أو
ص314
اتصل بعضها ببعض على أي وجه، وبأي سبب، ولأي غاية. ومن يرم العربية مقصورة على الإعراب، محبوسة عن التعريب، ويزعم أنها بصيغها وأنواع اشتقاقها وحدها أعربت عن خصائصها الذاتية، وأنها أن أدخلت على نفسها بالتعريب مصطلحات الحضارة شوهت محاسنها وفقدت خصائصها وأنكرت نفسها بنفسها، فليس يريد لهذه العربية إلا الموت، وليس يعيش بعربيته إلا في بروج من العاج بناها له خيال سقيم!
إن تبادل التأثير والتأثر بين اللغات قانون اجتماعي إنساني، وإن اقتراض بعض اللغات من بعض ظاهرة إنسانية أقام عليها فقهاء اللغة المحدثون أدلة لا تحصى. وقد رأينا فيما مضى من مباحث هذا الكتاب صورًا من ذلك التأثر المتبادل. ونماذج من هذا الاقتراض المستمر، إلا أنها صورة جزئية "ونماذج" مصغرة لهذه الحقيقة اللغوية التي لا يملك مدافعتها إلا جاهل أو مكابر؛ إذ تعلقت غالبًا باللهجات العربية وأخذت بعضها عن بعض، ومراعاة بعضها بعضًا، وتبادلها الألفاظ والتراكيب ووسائل التعبير(1).
وما يصدق على العربية من تبادل التأثير بين لهجاتها، لا بد أن يصدق عليها فيما اضطرت إلى إدخاله في ثروتها من لغات الأمم المجاورة لها أو التي كان لها معها ضرب من الاتصال، ولم يكن ما أدخلته من هذه الألفاظ الأجنبية قليلًا؛ لأنها عربت منه الكثير قبل الإسلام حتى رأيناه في لغة الشعر الجاهلي، وقرأناه في سور القرآن، واستخرجناه من بعض الحديث النبوي، ثم عربت منه الكثير بعد الإسلام فوجدناه أعجميًّا في زي عربي على ألسنة الأمراء والشعراء، وفي البيوت والأسواق، وبين الخاصة والدهاء!
ص315
ففي الجاهلية عُرب عن الفارسية مثل: الدولاب، والدسكرة، والكعك، والسميد، والجُلُنَّاز؛ وعند الهندية أو السنسكرييتية مثل: الفلفل، والجاموس، والشطرنج، والصندل، وعن اليونانية مثل: القبان، والقنطار، والترياق(2).
وورد في القرآن كثير من معربات الجاهلية حتى قال ابن جرير: "في القرآن من كل لسان! "(3). ولقد ذكر السيوطي في "المتوكلي" نماذج مما ورد في القرآن بالرومية(4) والفارسية(5) والهندية(6) والسريانية(7) والحبشية(8) والنبطية(9) والعبرية(10) حتى التركية(11). ومع أن بعضها ليس صحيح النسبة إلى إحدى اللغات المذكورة، كان للسيوطي في جمعه فضل التنسيق والتصنيف، وتوجيه الأنظار وجهة جديدة لا ترى في تعريب القرآن للأعجمي خطرًا، بل ترى في ذلك مزية له على الكتب السابقة، فـ"من خصائص القرآن على سائر كتب الله المنزلة أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، لم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم،
ص316
والقرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير"(12).
وحين نقرأ عن بعض الأئمة الأعلام أنهم شددوا النكير على القائلين بوقوع المعرب في القرآن، حتى قال أبو عبيدة: "من زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول!"(13)، فلنفهم من ذلك منع وقوعه إن بقي على حاله من العجمة، فأما إذا نُزل على أحكام العربية، وحُول إليها، وطبع بميسمها، فلا ضير أن نرى فيه ما رأى أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء، والقول بالمنع عن أهل العربية؛ إذ قال: "والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعًا، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: إنها أعجمية فصادق! "(14).
وليس في هذه العبارة الأخيرة تناقض، فالمراد منها -كما فهم الجواليقي"(15)- "أن هذه الحروف بغير لسان العرب في الأصل ... ثم
ص317
لفظت به العرب بألسنتها، فعربته فصار عربيًّا بتعريبها إياه فهي عربية في هذه الحال، أعجمية الأصل"(16).
ولكن اللغويين العرب حين ألفوا الكتب في المعرب والدخيل، لم يحسنوا دائمًا التمييز بين العربي والأعجمي، فكثيرًا ما نفوا أعجمية لفظ لأن القرآن نزل به، وليس في القرآن عندهم دخيل، وكثيرًا ما زعموا عجمة لفظ من غير أن يقيموا عليها الدليل.
وما بحث الاشتقاق عنا ببعيد، ففيه وجدنا وسيلة رائعة للتمييز بين الأصيل والدخيل، ولكن علماءنا عطلوا هذه الوسيلة وأبطلوها بحنوحهم مثلًا إلى عربية "الفردوس" لنزول القرآن بها، حتى اشتقوها من "الفردسة" بمعنى السعة، وكان عليهم أن يعترفوا بأن الفردسة مشتقة من اللفظ الأجنبي "الفردوس". وقل مثل ذلك في الإستبرق والسندس وسائر ما ورد في القرآن من الألفاظ الأعجمية المعربة التي أذهب القرآن عجمتها باشتماله عليها(17).
وقد ادعوا العجمة أحيانًا دون بيان الأصل، مثل كلمة "جرداب" معرب "كرداب" وهو وسط البحر، أو الدوامة في الماء، وكلمة "جاموس" وهي تعريب "كاوميش"(18).
ص318
وحين ألف هؤلاء كتبهم في "المعرب والدخيل" ذهبوا إلى فارسية أكثر تلك المعربات، كأنما أرادوا بذلك أن يأتوا ببرهان على أن تأثر العربية بالفارسية كان أبلغ وأعمق من تأثرها بسائر اللغات الأخرى. ولعلنا بهذا نفسر إطلاقهم لفظ "أعجمي" كلما أردوا أن يذكروا لفظ "فارسي".
ولم يكن بد من أن تعترضهم أصوات فارسية غريبة على العربية: كالجيم الخالية من التعطيش، والباء المهموسة "P"، والفاء المجهورة "V"، وإذا هم يتناولونها بالتغيير، أو يستبدلون بها صوتًا عربيًّا خالصًا، فالجيم الخالية من التعطيش أبدلت جيمًا معطشة أو كافًا أو قافًا، أو قل حرفًا مترددًا صوته بين هذه الثلاثة، مثل جورب: أصلها "كورب". والباء المهموسة "P"، أبدلوها فاء أو باء مجهورة، فقالوا: فرند، وبرند(19). والفاء المجهورة "V" أبدلوها واوًا، وأمثلتها كثيرة.
والعربية -على اتساع مدرجها الصوتي- ازدادت سعة على سعة يوم أدخلت بين حروفها الهجائية أصواتًا تقاربها مخرجًا أو صفة؛ إذ عربت هذه الأصوات الدخيلة، وحددت لها مواقعها من جهاز النطق" فلم تستعصِ على ألسنة العامة فضلًا على الخاصة، فقطع بذلك الشوط الأول من التعريب: ألا وهو تعريب المادة الصوتية، وتطويعها لأصوات العربية!
ولا ريب في أن هذا الشوط الأول من تعريب الأصوات هو أهم الأشواط، فمن بعده لن يكون عسيرًا أن تعرب الكلمات الدالة على مفهوم حضاري معين، ولا سيما إن كانت غير مألوفة للعرب أو غير
ص319
شائعة بينهم. فحينئذ تتابع اللغة عملها في ضم ما تحتاجه من تلك الكلمات إلى ثروتها بعد أن تصنعه على قوالبها، أو تنسجه على منوالها.
ومن المعلوم أن أكثر الألفاظ التي احتاج العرب إلى تعريبها هي ألفاظ الحضارة والعلوم والفنون. ونستثني من العلوم مصطلحات الفقه والحديث والتفسير وما إليها من العلوم النقلية، ما آنس علماؤنا حاجة إلى تعريبها مثل حاجتهم إلى تعريب العلوم الدخيلة؛ إذ كانت تعابيرها من صلب العربية، وجاءت في كتبهم فصيحة محكمة(20).
أما العلوم الدخيلة فقد اتسعت العربية أيضًا لترجمتها وتعريب مصطلحاتها. وبلغت حركة الترجمة في عصر المأمون أوجهًا حين عربت ألفاظ الطب والطبيعة والكيمياء والفلك والرياضيات والفلسفة، وما يزال كثير من هذه الألفاظ صالحًا للتعبير عن هذه العلوم إلى يومنا هذا.
ولقد لخص الأمير العلامة مصطفى الشهابي القواعد التي اتبعها النقلة في وضع المصطلحات في تلك الأيام، فرآها لا تخرج عن هذه الوسائل الأربع:
أ- تحوير المعنى اللغوي القديم للكلمة العربية، وتضمينها المعنى العلمي الجديد.
ب- اشتقاق كلمات جديدة من أصول عربية أو معربة للدلالة على المعنى الجديد.
جـ- ترجمة كلمات أعجمية بمعانيها.
د- تعريب كلمات أعجمية بمعانيها.
وخلص الأمير إلى القول بأن هؤلاء النقلة لم يجمدوا في أداء مهمتهم، وأن قواعدهم هي التي ينبغي لنا اتباعها في وضع المصطلحات الحديثة(21).
ص320
ولمصطلحاتنا الحديثة هذه لا بد من النهوض هيئات وأفرادًا بأعباء التعريب، حتى ننمي لغتنا بألفاظ العلوم التي تتكاثر يومًا بعد يوم، ويميل العلماء فيها إلى التعبير "الفني" الدقيق.
وليس من شأننا هنا أن نعرض للنهضة الحديثة في الفنون والآداب والعلوم في مصر والشام ومختلف الأقطار العربية، وما وضعه النقلة المعاصرون لتعريب مصطلحاتها، ولا من شأننا أن نصف جهد الأفراد وعمل المجامع والجامعات في وضع تلك المصطلحات، فالمقام لا يتسع لهذا كله، وقد استقصاه الأمير الشهابي أتم الاستقصاء في كتابه "المصطلحات العلمية في اللغة العربية في القديم والحديث". والكتاب في نظرنا أدق ما ألف حول تعريب المصطلحات في هذا العصر. وإنما نريد أن نلفت الأنظار إلى شروط لا بد من مراعاتها عند القيام بالنقل والتعريب.
أ- ألا نلجأ إلى التعريب إلا عند الضرورة، انسجامًا مع القرار الحكيم الذي اتخذه مجمع اللغة العربية بالقاهرة، ونصه: "يجيز المجمع أن يستعمل بعض الألفاظ الأعجمية عند الضرورة على طريقة العرب في تعريبهم"(22).
ب- أما قبل تحقق هذه الضرورة فالترجمة الدقيقة تقوم مقام التعريب، إذا تحرى الناقل العليم بأسرار العربية اللفظ العربي الأنسب لأداء مدلول اللفظ الأعجمي.
فنحن نترجم مثلًا Microscope بالمجهار، وDensimetre بالمكثف(23)، وFloriculture بزراعة الأزهار(24) وهكذا.
ص321
جـ- الكف عن استعمال اللفظ المعرب إذا كان له اسم في لغة العرب، إحياء للفصيح وقتلًا للدخيل. ولقد عقد السيوطي فصلًا في المزهر للمعرب الذي له اسم في لغة العرب(25)، نقل فيه أمثلة من كتب اللغة المختلفة تشهد بأن العرب عرفت مثلًا في لسانها الصرفان قبل أن تعرب "الأرزرز" بالرصاص(26)، والمَغْد قبل أن تعرب الباذنجان(27)، والحُرُض قبل الأشنان(28). والفصل الذي عقده الثعالبي(29) في فقه اللغة للأسماء التي تفرت بها الفرس، يؤكد أن طائفة من تلك الأسماء عربتها العرب أو تركتها كما هي(30)، ولكنها غالبًا مما له اسم في لسان العرب رغم تعريبها إياه(31). فلنقتل الأعجميات الذميمات باستعمال العربيات الفصيحات.
د- أن نحاول -كلما اضطررنا إلى التعريب- أن ننزل اللفظ المعرب على أوزان العربية، حتى يكون عربيًّا أو بمنزلته. ولقد كان أهل اللغة يتصرفون في الكلمة المعربة ويُعْمِلُون مباضع الاشتقاق في بنيتها، فقالوا في زنديق: زندقة وتزندق، وفي سردق: بيت مسردق، وفي
ص322
ديوان: دون تدوينًا، وفي النوروز: نورز ينورز(32).
ومن تنزيل الكلمة الأعجمية على أحكام العربية أن نختار لتعريبها وزنًا يشبه بعض الأوزان العربية، فكلمة "physique" يمكن أن تترجم بعلم الطبيعة، ولكن الترجمة ليست دقيقة، وخير منها تعريب اللفظة نفسها منتهية بالألف الممدوة لكيلا يضيع أصل التسمية فنقول "الفيزياء" على نحو ما قال الأستاذ العلامة عز الدين التنوخي في كتابه "مبادئ الفيزياء"، فقد نبه على أنه "لم يراع في الاصطلاح إلا الأفضل مما اشتد إليه مسيس الحاجة، ولو كانت الكلمة أعجمية الأصل، فإنا إذا ما تعربت بنزولها على أحكام العربية خفت على اللسان وعذبت بصقله إياهاه في البيان، يدل على ذلك مثلًا اسم الكتاب: مبادئ الفيزياء"(33).
والعليم بأسرار هذه اللغة لا يختلط عليه الأعجمي والعربي، ولا يلتبس عنده الأصيل والدخيل، فإن للكلمة العربية نسيجها المحكم وجرسها المتناسق وإيقاعها المعبر. ولم يضن علينا أئمة العربية بمقاييس نعرف بها عجمة الاسم؛ لكي نتناوله بالتغيير إن شئنا صياغته على أوزان العربية، أو نعرف حقيقته على الأقل إن آثرنا تركه على لفظه دون تبديل فيه.
وأكثر هذه المقاييس يقوم على النقل والسماع، فبنية الكلمة وحدها تسمها بالعربية أو بالعجمة، وحسبك أن تردد في سمعك لفظ "إبريسم" لترى أن وزنه مفقود في العربية. ولن تجد كلمة عربية أولها نون ثم راء مثل "نرجس"، ولا آخرها زاي بعد دال مثل "مهندز"، أو كلمة يجتمع فيها الصاد والجيم نحو "الجص"، أو يجتمع فيها الجيم
ص323
والقاف نحو "المنجنيق"(34). ولن تجد كلمة رباعية أو خماسية عارية عن حرف أو أكثر من حروف الذلاقة(35)، فإنها متى كانت عربية فلا بد أن يكون فيها حرف ذلقي، نحو: سفرجل، وقُذَعْمِل(36).
هـ- ولا مانع من النحت إذا اضطررنا إليه في تعريب المصطلحات العلمية والفنية، ولكننا -رغم انتصارنا للنحت وذهابنا إليه وعدنا إياه نوعًا من الاشتقاق(37)- نود أن نقيد الضرورة فيه بـ"القصوى" لأن أساليب الاشتقاق الشائعة تغني عنه غالبًا، ولأن للذوق دخلًا كبيرًا في النحت، فما كل مركب مزجي ترجم به لفظ أعجمي يثقل في السمع أو يستكره، ولا كل لفظ منحوت مختزل يخف في الأسماع، وتكتب له السيرورة في المجتمعات.
ولأن تقول: هذه السمكة من شائكات الزعانف "Acanthopterigiens" خير وأقرب إلى الفهم من أن تقول: "هي من الشوجنيات". والذوق يمج وصف الحشرات بالمسجناحيات؛ بينما يرضى عن وصفها بمستقيمات الأجنحة "Orthopteres". وإن المعنى ليستغلق على من يسمع أو يقرأ تسمية عصبيات الأجنحة من الحشرات "Nevropteres" بالعصجناحيات(38). ولا ريب في أن التركيب المزجي في جميع الأمثلة المتقدمة أوضح دلالة وأخف وقعًا من الكلمات المنحوتة المختزلة، بل ربما كان ألطف في الأسماع وأقصر في الرسم حتى من بعض الكلمات الأعجمية.
ص324
وكما أدخلت اللغات الحية على بعض ألفاظها العلمية صدورًا وكواسع "prefixes et suffixes" من لغات الحضارة القديمة "كاليونانية واللاتينية"، يسوغ الذوق أحيانًا إدخال مثل تلك السوابق واللواحق على بعض الألفاظ العربية. ويبدو لنا أن أساتذة جامعة دمشق لم يرتكبوا شططًا حين اضطروا إلى تعريب "Carbonyle" بالفَحْمِيل، و"formyle" بالنَّمْلِيل، و "Amyloide" بالنَّشَوِيد، و"Alcoyle" بالغَوْلِيل، فقد ملكوا العربية المطواع بهذه الكواسع ألفاظًا علمية مختزلة يرضى عنها الذوق ولا يأباها نسيج الكلمة العربية(39).
ومن الصدور التي نظن أن لا ضير في ترجمتها لنؤلف بها على طريقة النحت كثيرًا من مصطلحات العلوم والفنون: الصدر اليوناني "A" الذي يكتب "An" أما الأحرف الصوتية، ويفيد بكلا رسميه معنى النفي، فقد قرر مجمع القاهرة ترجمته بكلمة لا النافية مركبة مع الكلمة العربية
ص325
المنحوتة(40). ولقد صدر المجمع في قراره هذا عن المنهج الذي أخذ به المتقدمون أنفسهم في التعبير عن الشيء الذي لا يتناهى باللامتناهي، وعن الذي لا يدوم باللادائمي، وعن طائفة من الفلاسفة العناديين باللاأدريين؛ فيسعنا منا وسعهم حين نقول اليوم: لا أخلاقي "Amoral" لا اجتماعي Asocial" لا تناظري "Asymetrique"، لا مائي "Annydrique"، لا هوائي "Anaerobe"(41).
وحين يسوغ الذوق ترجمة صدر أو كاسعة "perfixe ou Suffixe" لتركيبها مع كلمة عربية نحتًا واختزالًا، لا ريب أنه سيكون أقرب إلى تسويغ النحت في كلمتين عربيتين خالصتين يتألف منهما اصطلاح علمي مختصر، فلا ضير في استعمال "الزمكان"(42) نحتًا من الزمان والمكان، و "الْحَيْنَب والحينبات"(43) نحتًا من الحيوان والنبات Zoopgyle، و"الحيزمن" نحتًا من الحيز والزمن Espace- Temps(44). ومقياسنا في هذا كله الذوق السليم الذي نرجو أن يصدق فيه قولنا: لا يجتمع ذوق المطبوعين على مستكره في السمع مستثقل على اللسان!
ص326
وإننا على يقين من أن نقلة العلوم الحديثة في هذا العصر إذا وضعوا ما ذكرناه من الشروط نصب أعينهم خدموا لغتهم أخلص خدمة، وعبروا عن خصائصها أصدق تعبير، فما هي باللغة الجامدة الميتة، بل هي اللغة المرنة المطواع التي كتب الله لها النماء والبقاء والخلود.
ص327
_______________
(1) ارجع إلى بحث "العربية الباقية وأشهر لهجاتها". ثم بحث "لهجة تميم وخصائصها"، وأخيرًا بحث "مقاييس اللغة الفصحى".
(2) المصطلحات العلمية "للأمير مصطفى الشهابي" ص17.
(3) انظر مخطوطة "ما وقع في القرآن من المعرب للسيوطي" 2/ 1. وقد رجعنا إلى نسخة الصديق الكريم الأستاذ أحمد عبيد، أحد أصحاب المكتبة العربية بدمشق. وسنرمز إليها بـ"المتوكلي" لأن السيوطي سماها بهذا الاسم في المقدمة.
(4) كالقسطاس، فإنه بلغة الروم. الميزان "المتوكلي 3/ ب".
(5) كالإستبرق، فإنه بالفارسية. الديباج الغليظ "3/ ب".
(6) مثل طوبى: اسم الجنة بالهندية "4/ 1".
(7) مثل السري: النهر، بالسريانية "4/ 1".
(8) مثل الأرائك: السرر، بالحبشية "3/ ب".
(9) مثل {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} : كتابنا، بالنبطية "5/ 1".
(10) مثل {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} : امح عنهم، بالعبرية "4/ ب".
(11) مثل "غساق": هو البارد المنتن، بلسان الترك! "5/ ب". وتجد في الصفحة نفسها، ما ورد في القرآن بالزنجية والبريرية!!
(12) نسب السيوطي هذا القول إلى الإمام ابن النقيب في تفسيره "قارن بالمتوكلي 2/ 1".
(13) المهذب للسيوطي "6/ ب" وهو مخطوط صغير يتلو مخطوط "المتوكلي" الذي سبق ذكره، وقد ضم أحدهما إلى الآخر في مجلدة صغيرة أتاح لنا الاطلاع عليها مالكها الأستاذ أحمد عبيد، فله جزيل الشكر. وقارن بالمعرب للجواليقي ص4.
(14) قارن المزهر 1/ 269 بالمهذب 8/ 1 والصاحبي 29.
(15) الجواليقي هو موهوب بن أحمد، أبو منصور، صاحب كتاب "المعرب من الكلام الأعجمي على حروف العجم" الذي حققه وشرحه ونشره العلامة أحمد محمد شاكر. وله كتب أخرى أشهرها "شرح أدب الكاتب" وقد طبع بمكتبة القدسي في القاهرة سنة 1350هـ "وتكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة" الذي أكمل به "درة الغواص للحريري" وقد طبع سنة 1355هـ بدمشق بمطبعة ابن زيدون. توفي الجواليقي سنة 540هـ "انظر ترجمته في مقدمة الشيخ شاكر لكتاب المعرب، ومقدمة الأستاذ عز الدين التنوخي لكتاب التكملة".
(16) المعرب "للجواليقي" ص5.
(17) قارن بما ذكرناه ص178. وقد رتب السيوطي في كتابه "المهذب" على حروف المعجم ما رجع أنه أعجمي مع أنه وارد في القرآن. وفي الكتاب زهاء مائة كلمة من هذه المعربات القرآنية، فلو أن دراسًا للغات الأجنبية المذكورة قارن هذه المائة من المعربات بما يظن أن يقابلها في تلك اللغات لخرج -كما نقدر- بنتيجة لا تسر، فسيرى أن علماءنا كانوا يجهلون تلك اللغات، ويخلطون بينها، ويجعلون اللغات السامية شقيقات العربية، على نسبة واحدة من العجمة مع سائر اللغات الأجنبية "قارن بأسرار اللغة 113 ط/ 2".
(18) انظر تقديم المرحوم الدكتور عبد الوهاب عزام لكتاب المعرب "للجواليقي" ص4 من أسفل.
(19) قارن بما ذكرناه ص285 عن قول العرب "فور" بين الفاء والباء اضطرت إلى نطق "بور" بالباء المهموسة. وانظر مقدمة الجمهرة ص4.
(20) قارن بالمصطلحات العلمية 23.
(21) المصطلحات العلمية 24.
(22) وقد علق الأمير الشهابي على قيد "الضرورة" بقوله: "أرى أن قيد "الضرورة" الذي وضعه المجمع للتعريب هو ضرورة، أقول هذا لأنني عارف بسخافات بعض أساتيذ العلوم الحديثة، الذين عربوا ألفاظًا علمية أعجمية، كان في استطاعتهم أن يجدوا لها ألفاظًا عربية مقبولة بقليل من الجهد، ومن المعرفة بأصول تلك الألفاظ الأعجمية وبمعانيها" المصطلحات العلمية 63.
(23) قارن بالمصطلحات العلمية 67.
(24) نفسه 66.
(25) المزهر 1/ 283.
(26) الرواية هنا عن ابن درستويه في "شرح الفصيح" انظر المزهر 1/ 284.
(27) عن أمالي ثعلب. قارن بالمزهر 1/ 284.
(28) عن "صحاح" الجوهري. وقارن بالمزهر 1/ 283.
(29) الثعالبي هو عبد الملك بن محمد، أبو منصور. نسب إلى صناعته إذ كان يخيط جلود الثعالب. أحد أئمة اللغة والأدب في عصره. طبع له الكثير من تصانيفه، وأشهرها " فقه اللغة وسر العربية" و"يتيمة الدهر" و"لطائف المعارف". ومن كتبه المخطوطة الجديرة بالنشر "غرر البلاغة" و"يواقيت المواقيت" و"المتشابه" و"المقصور والممدود". توفي الثعالبي سنة 429هـ. "الوفيات 1/ 290".
(30) انظر فقه اللغة "للثعالبي" فصل في سياقه أسماء تفردت بها الفرس دون العرب، فاضطرت العرب إلى تعريبها أو تركها كما هي "ص253-255".
(31) مثلًا: السكرجة تسمى عند العرب الثقوة "المزهر 1/ 283" والياسمين يسمى "السمسق" والباذنجان "الأنب" والنرجس "العبهر". نفسه 1/ 284.
(32) الاشتقاق والتعريب "للمغربي" 48.
(33) انظر الجزء الأول، صفحة "ج". وقارن بالمباحث اللغوية في العراق 86.
(34) المزهر 1/ 270.
(35) أحرف الذلاقة -كما رأينا ص 283-384- ستة: ب ر ف ل م ن.
(36) المعرب للجواليقي 12 وقارن بالجمهرة 11.
(37) راجع النحت أو الاشتقاق الكبار.
(38) قارن بالمصطلحات العلمية 98.
(39) إذا رغبت في الاطلاع على نماذج من هذه التعريبات العلمية التي وفق إليها زملاؤنا الكرام أساتذة جامعة دمشق، فعليك بالنسخة العربية لمعجم "كلارفيل Clairvlle" التي أشرفت على طبعها في مطعبة الجامعة لجنة مؤلفة من الأساتذة الدكتور مرشد خاطر، والدكتور أحمد حمدي الخياط، والدكتور محمد صلاح الدين الكواكبي. والمعجم -كما هو معروف- خاص بالمصطلحات الطبية.
ولا يسعنا إلا أن نكبر هؤلاء الأساتذة وإخوانهم الذين أعانوهم في هذا العمل الضخم. ونذكر بكثير من الفخر كتاب الدكتور خاطر في علم الجراحة، والدكتور خياط في علم الجراثيم، والدكتور الكواكبي في الاصطلاحات الكيماوية، والدكتور حسني سبح في الأمراض الباطنية، والمرحوم محمد جميل الحاني في علم الطبيعة، فقد برهن هؤلاء جميعًا على أن اللغة العربية تصلح للتعبير عن أدق المصطلحات العلمية.
(40) وكان قرار المجمع حكيمًا حين قيد هذا النوع من النحت بموافقته للذوق. فقد أذن باستعمال "لا" مركبة مع الاسم المفرد، دون أن يتخذ قرارًا باستعمالها دائمًا أو عدم استعمالها دائمًا "مجلة المجمع، المجلد 6 ص172".
(41) انظر في ترجمة هذه الصدور والكواسع على طريقة النحت مقالًا ممتعًا لساطع الحصري في مجلة التربية والتعليم سنة 1928 "المجلد 6 ص361-375".
(42) رأينا هذا الاصطلاح في أبحاث المشتغلين بنظرية النسبية، وانظر على سبيل المثال مقدمة كتاب "نظرية النسبية" للدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا.
(43) هذه من نحت الأستاذ عز الدين التنوخي.
(44) المباحث اللغوية في العراق 98.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|