أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-07-2015
574
التاريخ: 25-10-2014
514
التاريخ: 25-10-2014
1438
التاريخ: 6-3-2019
707
|
في بيان الأقوال في الإرادة : فعن الحكماء كما في جملة من كتبهم : أنّها العلم بالنظام الأصلح .
وعن متكلّمي الإمامية (1) ، أو جمهورهم ، (2) أو مشهورهم ، (3) وجماعة من رؤساء المعتزلة (4) : أنّها العلم بما في الفعل من المصلحة ، ويسمّونه بالداعي.
وعن الأشاعرة وجمهور معتزلة البصرة : أنّها صفة ثالثة مغايرة للعلم والقدرة ، وهي توجب أحد المقدورين لذاتها .
وعن الكعبي : أنّها في فعله علمه بما في الفعل من المصلحة .
وعن البلخي : أنّها فيه إيجاده ، وأمّا في أفعال غيره فقالا : إنّها أمره بها .
وعن ضرار : كونه تعالى مريداً ، نفس ذاته .
عن الكرامية : أنّها حادثة قائمة به تعالى .
وعن الجبائية : أنّها حادثة لا في محلّ .
وعن الحسين النجّار معنى مريديته كونه غير مغلوب ولا مكره .
فهذه أقوال تسعة ، لكن الثاني يرجع إلى الأَوّل ؛ إذ لا فرق بينهما من جهة أنّ التأثير من العلم بالأصلح ، وإنّا يفترقان في أنّ الأصلح المذكور هل هو علّة غائية لفعله تعالى كما يقوله المتكلّمون ، أو لا بل العلة الغائيّة هو نفس ذاته المقدّسة دون سواها ؟ فإنّ العالي لا يُقصد لأجل السافل كما يتوهّمه الفلاسفة . وبكلمة واضحة : الاختلاف بينهما في العلّة الغائية دون العلّة الفاعلية ، التي هي المبحوث عنها في المقام ، فما به التخصيص وعنه التأثير ، هو علمه تعالى بالأصلح على كلا القولين ، فافهم جيّداً .
وأمّا القول الثالث فهو مبني على أصل فاسد وهو زيادة صفاته تعالى وقِدمها ، فإذا هدّمناه ـ كما يأتي في المقصد الرابع إن شاء الله ـ ينهدم القول المذكور ، نعم يحتمل أن تكون الإرادة بلا رجوعها إلى العلم وغيره ، من الصفات الذاتية على نحو العينية ... وأمّا ما نُقل عن ضرار فهو مجمل إلاّ أن يرجع إلى القول الأَوّل ، ومن رواية سليمان المروزي المنقولة في توحيد الصدوق ، يظهر أنّ له قولاً آخر نُسب إليه .
وأمّا القول الرابع فهو أيضاً راجع إلى الثاني ، وتفسيره إرادة الله المتعلّقة بأفعالنا بالأمر ؛ إمّا من جهة إبطال شبهة الجبر ، وإمّا للإشارة إلى تقسيم الإرادة إلى التكوينية والتشريعية ، وبه يظهر حال تفصيل القول الخامس أيضاً ، فإنّه قول بحدوث إرادته تعالى ، وإنّه نفس الإيجاد ، وحيث إنّ إيجاده أفعال غيره غير معقول ، وإلاّ كانت الأفعال أفعاله لا أفعال غيره ، فسّرها بالأمر بها .
وأمّا القول السابع فأُورد عليه أنّه مستلزم لكونه تعالى محلاًّ للحوادث .
وأمّا الثامن فردّ باستحالة صفةٍ لا في محلّ فينتقص به حدّ الجوهر والعرض .
هذا وأوردوا على القولين معاً لزوم التسلسل في الإرادات ، فإنّ الإرادة حادثة ، وكلّ حادث لابدّ له من إرادة ، وهذا ظاهر .
وأمّا القول الأخير فهو تعريف للإرادة بلوازمها لا بنفسها .
فالمتحصّل أنّ ما يصحّ تفسير إرادته تعالى به أُمور ثلاثة :
1 ـ إنّها صفة في قبال سائر الصفات من دون رجوعها إلى العلم .
2 ـ إنّها علمه بالأصلح ، فتكون هي واجبة عين ذاته تعالى .
3 ـ إنّها الإيجاد والإحداث فتكون حادثةً .
أمّا الوجه الأَوّل فقد اختاره بعض الأجلاّء من أهل المعقول والمنقول قال : ( ومن البيّن أنّ مفهوم الإرادة كما هو مختار الأكابر من المحقّقين ، هو الابتهاج والرضا وما يقاربهما مفهوماً ، ويعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا ، والسرّ في التعبير عنها بالشوق فينا، وبصرف الابتهاج والرضا فيه تعالى ؛ إنّا لمكان إمكاننا ناقصون غير تامين في الفاعلية ، وفاعليتنا لكل شيء بالقوة ؛ فلذا نحتاج في الخروج من القوة إلى الفعل إلى أمور زائدة على ذواتنا من تصوّر الفعل ، والتصديق بفائدته ، والشوق الأكيد ، المميلة جميعاً للقوّة الفاعلة المحرّكة للعضلات ، بخلاف الواجب تعالى ، فإنّه لتقدّسه عن شوائب الإمكان ، وجهات القوّة والنقصان ، فاعل وجاعل بنفس ذاته العليمة المريدة ، وحيث إنّه صرف الوجود ، وصرف الوجود صرف الخير ، فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج ، وذاته مرضي لذاته أتمّ الرضا .
وينبعث من هذا الابتهاج الذاتي ـ وهي الإرادة الذاتية ـ ابتهاج في مرحلة الفعل ، فإنّ مَن أحبّ شيئاً أحبّ آثاره ، وهذه المحبّة الفعلي الفعلية ، هي الإرادة في مرحلة الفعل ، وهي التي وردت الأخبار عن الأئمة الطاهرين ( سلام الله عليهم ) بحدوثها ....
والوجه في تعبير الحكماء عن الإرادة الذاتية بالعلم بنظام الخير وبالصلاح : أنّهم بصدد ما به يكون الفعل اختيارياً ، وهو ليس العلم بلا رضا ، وإلاّ كانت الرطوبة الحاصلة بمجرّد تصوّر الحموضة اختياريةً ... وكذلك ليس الرضا بلا علم ، وإلاّ كانت جميع الآثار والمعاليل الموافقة لطبايع مؤثّراتها وعللها اختياريةً ، بل الاختياري هو الفعل الصادر عن شعور ورضا .
فمجرّد الملاءمة والرضا المستفادَينِ من نظام الخير والصلاح التام لا يوجب الاختيارية ، بل يجب إضافة العلم إليهما ، فما يكون به الفعل اختيارياً منه تعالى، هو العلم بنظام الخير ، لا أنّ الإرادة فيه تعالى بمعنى العلم بنظام الخير.
وهذا الذي ذكرنا مع موافقته للبرهان مرموز في كلمات الأعيان ، بل مصرّح به في كلمات جملة من الأركان ... ) .
وقال أيضاً : ( إنّ حقيقة إرادته تعالى في مرتبة ذاته ابتهاج ذاته بذاته ... فهو صرف الخير ، والخير هو الملائم اللذيذ الموجب للابتهاج والرضا ، فهو صرف الرضا والابتهاج ، كما كان صرف العلم والقدرة ... إلخ ) (5) .
أقول : ومن جملة الأركان الفيلسوف الشهير صاحب الأسفار ، والسبزواري في شرح منظومته وحاشية الأسفار ، ففي الأسفار : الإرادة والمحبّة معنى واحد كالعلم ، وهي في الواجب عين ذاته ، وهي بعينها عين الداعي . وقال في فصل آخر : بل هو مبتهج بذاته وعاشق لذاته ، ويلزم من هذا الابتهاج ويترشّح منه حصول سائر الخيرات والابتهاجات ... إلخ ، لكنّه صرّح غير مرّة أيضاً ، بأنّ إرادته هو العلم بالنظام الأتم ، ونسبه إلى مذهب الحكماء كما يظهر لمَن لاحظ مبحث القدرة والإرادة من إلهيات أسفاره . لكنّ الحقّ أنّ الإرادة ليست نفس الشوق والابتهاج كما عرفت ، بل ولا ملزومة له كما في الأفعال العادية من تحريك الأعضاء ، وكثير من الأفعال العبثية والجزافية ، وكما في تناول الأدوية وغيرها ، كما صرّح به في الأسفار أيضاً .
وأمّا ما تصوّره في حقّ الواجب المجرّد القديم من الابتهاج ، ففيه : أنّ الابتهاج والرضا وما يقاربهما مفهوماً غير معقولة في حقّه ؛ لبراءته عن الجسم والجسمانيات ، ولا يفي دليل لإثبات الابتهاج في حقّه ، ولا مجال لقياس الواجب على الممكن بوجه . أمّا إن أُريد بالابتهاج معنى آخر غير ما نجده في أنفسنا ، فلابدّ من بيانه وذكر برهانه، وأنّى لهم بذلك ، هذا مع أنّ الفعل الاختياري لا يتحقّق بمجرّد العلم والرضا ، فإنّ مَن تصوّر الحموضة تصوّراً قهرياً ، وحصلت الرطوبة في فمه ، لا يقال : إنّه حصّل الرطوبة باختياره وإن كان راضياً ومائلاً بحصولها ، فالإنصاف أنّ ما ذكره هذا المدقّق الجليل لا يتمّ قطعاً .
وأمّا القول الثاني فقد عرفت قائله ، وما قيل أو يمكن أن يقال في إثباته وجوه :
1ـ ما ذكره المحقّق الطوسي في التجريد ، من أنّ الإرادة ليست زائدةً على الداعي؛ وإلاّ لزم التسلسل على تقدير حدوثها ، أو تعدّد القدماء بناءً على تقدير قِدمها .
أقول : إلزام التسلسل على حدوث الإرادة معروف ومشهور وقد ذكره الكثيرون ، وربّما أُجيب عنه بأجوبة غير دافعة عنه ، لكن هذا الإلزام عندي هيّن جداً ؛ إذ المراد بالإرادة الحادثة هو الإيجاد والإحداث لا غير ، ومن الضروري أنّ الإيجاد فينا وفيه تعالى لا يحتاج إلى إيجاد آخر ، نعم هو يحتاج إلى مرجّح وهو علمه بالأصلح .
2 ـ الإرادة الواجبة له ممكنة ، فهي ثابتة له بالقاعدة الملازمة .
وفيه : أنّها إمّا الابتهاج فقد عرفت عدم تعقّله في حقّه تعالى ، وإمّا العلم بالصلاح والخير ... فأنّه غير مؤثّر ، فلا يصلح تفسير الإرادة به فإنّها مؤثّرة، وإمّا ما ندركه نحن من أنفسنا فهو ممتنع في حقّ الواجب المجرّد ، ولا معنى معقول لها غير هذه الثلاثة ، فإذن ، الصغرى باطلة في هذا القياس .
3ـ إنّ الإرادة إن كانت من الصفات الذاتية فتمّ الدست ، وإلاّ فإن كانت قديمةً لزم تعدّد القدماء ، الذي يقول به الأشعريون وهو فاسد يقيناً ، وإن كانت حادثةً فإمّا في غير محل ، وإمّا في محل هو غيره تعالى ، فهو باطل كما لا يخفى .
وإن كان حالّةً فيه تعالى لزم كونه محلاً للحوادث ، وهو ممتنع ... فبطلان هذه الشقوق يعيّن المطلوب .
أقول : إرادته الحادثة قائمة به تعالى قياماً صدورياً لا قياماً حلولياً ...
وبالجملة : المِلّيون بأسرهم يقولون بفاعليته تعالى ، وأنّه فعّال وكلّ فعل قائم بفاعله ، وليس هذا من الحلول ، وكونه تعالى محلاًّ للحادثات بشيء ، والإرادة ليست إلاّ نفس الإيجاد ، وهذا واضح .
كيف يؤثّر العلم ؟
الذي يدور عليه هذا القول ويقوم به هو كون علمه تعالى فعلياً ، فإذا ثبت ذلك فقد تمّ المطلوب ، ولابدّ من تسليم أنّ إرادته هي علمه بنظام الخير والأصلح، وإلاّ فالمصير إلى القول الثالث متعيّن .
فنقول : الذي نتعقّله من مفهوم العلم ، هو ما به انكشاف الأشياء وجلاؤها عن العقل ، وأمّا كونه ذا تأثير فليس ببيّن ، فلابدّ من تبيينه بالبرهان ، وإنّي كلّما تصفّحت مظانّه لم أجد منهم دليلاً على ذلك أصلاً ، لا في مباحث الأعراض ، ولا في مبحث أقسام الفاعل ، ولا في الإلهيات ، سوى أمثلة ذكروها مثل علم المهندس ، فإنه يتصوّر البِناء أَوّلاً ثمّ يوجده على وِفق علمه ، فهذا العلم فعلي ؛ إذ المعلوم تابع له دون العكس كما في الانفعالي .
قال في الأسفار : ولا استبعاد في كون العلم نفسه سبباً لصدور الأشياء ووجودها، كالماشي على جدار دقيق العرض إذا تصوّر السقوط يسقط بتصوّره ، وعدّ من هذا القبيل تأثير بعض النفوس بالهمّة والوهم ، وكذا إصابة العين التي عُلم تأثيرها بإخبار الوحي والسنة ، من قوله تعالى : {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51]، ومن قوله ( صلى الله عليه وآله ): ( العين تُدخل الرجل القبر والجمل القِدر ) ، وإذا جاز أن يكون العلم الضعيف البشري مؤثّراً في وجود المعلوم ، فأَولى أن يجوز ذلك في العلم الأزلي لمُنشِئ العالَم من العدم الصرف . انتهى.
والإنصاف أنّ ذلك منهم عجيب ! يفرّعون جملةً من البحوث المهمّة في الإلهيات ، على أصل من الأُصول المهمّة العقلية الاعتقادية ، ولا يقدرون على إثباته ، فيكتفون بذكر مثال واستشهاد وقياس ضعيف ، ثمّ يدّعون أنّ الفلسفة تحصيل الحقائق ، ويطعنون على غيرهم بالتقليد والمسامحة في ناموس البرهان والاستدلال ! أَليس علم المهندس أيضاً انفعالياً أُخذ من مشاهداته الخارجية غالباً ؟ نعم هو بالنسبة إلى هذا العمل سابق، لكنّه لا تأثير له تماماً ، وإنّما هو من مقدّمات إرادة ذلك العمل ، وإلاّ فالبِناء لا يوجد ولو تصوّره البنّاء ألف مرّةً .
وبالجملة : إن أرادوا أنّ العلم في طريق العمل ، فهذا ممّا لا شكّ فيه لعاقل ؛ إذ كل عمل اختياري لابدّ له من تصوّر وتصديق ولو ارتكازاً ، ونحن نقر إقراراً ضرورياً أنّ علمه تعالى بالصلاح هو المرجّح لأفعاله ، وبه يترجّح وجوداتها على أعدامها ، وبعض أطوارها على الأُخر ؛ وإن أُريد أنّه المؤثّر التامّ ـ كما قالوا ذلك في علم الله سبحانه ، وسمّوه الفاعل بالعناية ... فأنّه محض الدعوى ، والمثال الذي ذكروه لا يفي به ، بل الوجدان على خلافه .
وأمّا المثال الثاني ففيه : أنّ تصور السقوط ممّن قام على جدار عالٍ ، علم واحد موجود في الخائف المدهوش الذي يسقط به ، وفيمَن اعتاد القيام عليه بكثرة التكرار لا يسقط به كالبنّاء فوق الأبنية والجدران العالية ، ولو كان علة لم يختلف كما اعترف به بعض أفاضلهم أيضاً ، بل الصحيح أنّه لا علم في المثال المفروض ؛ إذ الصاعد على الجدار يُحتمل سقوطه ، ونفس هذا الاحتمال يولّد الخوف في قلبه ، وهذا الخوف هو الذي يسبّب سقوطه ، فهو لا يستند إلى العلم، فتأمل .
وأمّا تأثير النفس وإصابة العين فهما وإن كانا ثابتين في الجملة ، لكن المقام منهما أجنبي بلا خفاء فيه .
فإذن ، قد تحصّل أن ما تسالموا عليه من تقسيم العلم إلى الفعلي والانفعالي ، وجعل الأَوّل علّة المعلوم لا تابعاً له ، أمر خيالي فاسد جداً لا واقع له أبداً .
ومنه يظهر أنّ القول الثاني في تفسير إرادته كالقول الأَوّل منهدم الأساس ، وما فرّع عليه ساقط أيضاً ، فإذن ، لابدّ من الرجوع إلى القول الثالث ، وهو أنّ علمه تعالى غير علّة للممكنات ، بل العلّة هو الإيجاد المسمّى بالإرادة ، وأمّا القصد فلا يعقل في حقه كما يتصوّر في حقنا ؛ ولذا قلنا : إنّ إثبات الإرادة لله القديم نقلي لا عقلي .
وممّا يدلّ على أنّ إرادته تعالى ليست راجعةً إلى علمه ، وأنّ علمه ليس بفعلي ـ زائداً على ما ذكرنا ـ وجهان :
الأَوّل : إنّه يعلم نفسه ويعلم الضروريات ، كلزوم الإمكان للممكن ، والزوجية للأربعة ونحوهما ، ويعلم امتناع الممتنعات ، مع أنّ علمه بهذه الأُمور لا يكون بفعلي ومؤثّر قطعاً ، ولا يمكن أن يتفوّه به عاقل جزماً ، فمطلق علمه ليس بفعلي، فلئن كان ، فهو علمه بالممكن الأصلح ، فإذن ، نسأل من أين جاءت هذه السببية والتأثير ؟ أَليس علمه تعالى شيئاً واحداً لا اختلاف في حقيقته ؛ لأنّها عين الذات المقدّسة ، فإذا لم يكن التأثير مستنداً إلى العلم نفسه ، وإلاّ لم يتعلّق بالضروريات الآبية عن التأثير المذكور مع أنّ علمه متعلّق بها اتّفاقاً ، فلابدّ من استناده إمّا إلى نفس الأصلح ، وهذا هو معنى كون الشيء مؤثّراً ومتأثراً ، ومعنى إثبات عجز الإله ، ومعنى الترجّح بلا مرجّح ، ومعنى إنكار فاعلية الحقّ بتاتاً ؛ وإمّا إلى تعلّق العلم بالأصلح ، وهذا أيضاً باطل ؛ إذ التعلّق المذكور اعتباري محض وهو لا يصير منشأ للتأثير ، كيف ولو كان كذلك لكان تعلّق علمنا بالأصلح أيضاً مؤثّراً ؟ وهو كما ترى .
الثاني : إنّ الله تعالى يعلم كلّ شيء كما مرّ ، فيعلم الشرّ والظلم والكفر والقبايح بما هي شرّ وظلم وكفر وقبايح ، بلا فرق بين علمه بها ، وعلمه بالعدل والإيمان والخير والمحاسن أصلاً ، بل يعلم الجميع مع أنّه تعالى لعدله وحكمته لا يريد الطائفة الأُولى أبداً ، فيُعلم أنّ إرادته غير علمه ، فتأمل .
وأمّا ما أجاب عنه في الأسفار وأطال ، فيظهر ضعفه من نفس هذا التقريب ، فلا نطوّل بذكره ونقده ، فقد ثبت حينئذٍ ثبوتاً قطعياً ، أنّ إرادته هو إحداثه وإيجاده لا غير، فإنّ بطلان القولين الأَوّلين يعيّن الالتزام بهذا القول ، إذ لا شقّ رابع .
وهذا القول هو الذي اختاره ثقة الإسلام الكليني ، (6) والشيخ الأجلّ الصدوق ، (7) والشيخ الأعظم المفيد ، (8) حيث قال : إنّ إرادة الله تعالى لأفعاله هي نفس أفعاله ، وإرادته لأفعال خلقه أمره بالأفعال ، وبهذا جاءت الآثار عن أئمة الهدى من آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو مذهب سائر الإمامية إلاّ مَن شذّ منها عن قرب ، وفارق ما كان عليه الأسلاف (9) ، وإليه يذهب جمهور البغداديين من المعتزلة ، وأبو القاسم البلخي خاصّةً ، وجماعة من المرجئة ، ويخالف فيه من المعتزلة البصريون ، ويوافقهم على الخلاف فيه المشبّهة وأصحاب الصفات انتهى .
قوله : نفس أفعاله ، أي نفس إيجاداته فلا تغفل .
فظهر أنّ هذا القول هو مختار الإمامية في الأعصار الأُولى ، غير أنّ المتأخّرين منهم أو جماعة من المتأخّرين عدلوا عنه إلى القول بأنّها العلم بالمصلحة ، ولعمري إنّ هذا القول لا يجامع القول باختياره تعالى أصلاً ...
وأظن أنّ القائلين به من متكلّمي الإمامية جماعة غير كثيرة ، على خلاف ما مرّ من المجلسي رحمه الله من نسبته إلى مشهورهم أو جميعهم ، ويدلّ على ما ذكرناه أو يؤيّده ، أنّ السيّد المرتضى الرازي رحمه الله ذكر ، في باب الحادي والعشرين من كتابه تبصرة العوام في عداد معتقدات الإمامية : أنّ الله مريد بالإرادات الحادثة ، فنسب حدوثها إلى الإمامية قاطبةً ، واختاره من متأخّري المتأخّرين جمع كثير ، كصاحب مجمع البحرين ، وصاحب الفصول ، وصاحب تفسير لوامع التنزيل وسواطع التأويل ، (10) وصاحب كفاية الموحّدين قدّس سرهم ، وسيدنا الأُستاذ المحقّق الخوئي ـ دام ظله العالي ـ وغيرهم ، بل المظنون أنّه مختار معظم الأخباريين من أصحابنا ، حتى أنّ المحدّث الجزائري جعل حدوث الإرادة ـ في محكي شرح التهذيب (11) ـ موارد التعارض بين العقل القطعي الدالّ على قِدمها ، والشرع الدالّ على حدوثها ، وما توهّمه هذا المحدّث الجليل ضعيف جداً .
وبالجملة : إنّ هذا القول كما يقتضيه العقل يدلّ عليه ظاهر الكتاب وصريح السُنة أيضاً، أمّا القرآن المجيد ، فإليك بعض آياته الكريمة :
1 ـ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
2ـ {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40]. فكلمة ( إذا ) تدلّ على حدوث الإرادة ، فإنّ الصفات الذاتية يستحيل تحقّقها في وقت دون وقت .
3 ـ {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 22].
4 ـ {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً } [الأحزاب: 17].
5. {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وجه الدلالة واضح ...
وأمّا السنّة فإليك ما بلغه جهدي من الروايات :
1ـ صحيحة صفوان قال : قلت لأبي الحسن ( عليه السلام ) : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق ؟ قال : فقال : ( الإرادة من الخلق الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك ؛ لأنّه لا يروي ولا يهم ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفية عنه ، وهي صفات الخلق ، فإرادة الله الفعل لا غير ذلك ، يقول له : كن فيكون ، بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همّة ، ولا تفكّر ، ولا كيف لذلك كما أنّه لا كيف له ) (12) .
2 ـ صحيحة ابن أُذينة عن الصادق ( عليه السلام ) قال : ( خلق الله المشيئة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة ) (13) ومعنى هذه الرواية على مسلكنا : أنّه تعالى أوجد الأشياء ، وأعطى لها الوجود بإيجاده ، وأمّا هذا الإيجاد فهو صادر عنه تعالى بنفسه لا بإيجاد ثانٍ كما هو واضح ، وكأنّ الرواية ناظرة إلى إبطال التسلسل المتوهّم ...
3 ـ صحيحة محمد بن مسلم عنه ( عليه السلام ) قال : ( المشيئة مُحدَثة ) (14) .
4 ـ صحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال : قلت : لم يزل الله مريداً ؟ قال : ( إنّ المريد لا يكون إلاّ المراد معه ، لم يزل الله عالماً قادراً ثمّ أراد ) (15) .
5 ـ رواية بكير بن أعين قال : قلت : لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : علم الله ومشيئته مختلفان أو متّفقان ؟ فقال : ( العلم ليس هو المشيئة ، أَلا ترى أنّك تقول : سأفعل كذا إن شاء الله ، ولا تقول : سأفعل كذا إن علم الله ، فقولك : إن شاء الله ، دليل على أنّه لم يشأ ، فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء ، وعلم الله سابق المشيئة ) (16) . وفي التوحيد : ( وعلم الله سابق للمشيّة ) (17) .
أقول : وهذه الرواية الشريفة ناصّة على بطلان القول الثاني ، فيتعيّن القول الثالث كما يدلّ عليه قوله : ( وعلم الله سابق للمشيئة ) .
6 ـ صحيحة سليمان بن جعفر الجعفري قال : قال الرضا ( عليه السلام ) : ( المشيئة والإرادة من صفات الأفعال ، فمَن زعم أنّ الله لم يزل مريداً شائياً فليس بموحّد) (18).
أقول : لأنّه يستلزم إيجابه وقِدم العالَم .
7 ـ رواية أبي سعيد القماط قال : قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ( خلق الله المشيئة قبل الأشياء ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة ) (19) .
ولعلّ المراد بالقبلية : القبلية الرتبية ؛ ولذا يقال : أوجد فوجد ولا يُعكس ، وعلى أيّ ، فالرواية تدلّ على حدوث الإرادة وهو المطلوب ، ويُحتمل أن تكون المشيئة بمعناها الآتي.
8 ـ حديث الإهليلجة المعروف حيث قال الرضا ( عليه السلام ) في جواب الطبيب : ( إنّ الإرادة من العباد : الضمير وما يبدو بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله عزّ وجلّ فالإرادة للفعل إحداثه ، إنّما يقول : كن فيكون بلا تعب وكيف ) (20) .
9 ـ رواية عبد الرحيم القصير عن الصادق ( عليه السلام ) (21) ففيها : ( كان ـ عزّ وجلّ ـ ولا متكلّم ولا مريد ، ولا متحرّك ولا فاعل ، جلّ وعزّ ربّنا ، فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه ) (22) .
10 ـ رواية الهاشمي الطويلة المشتملة على مباحثة الرضا ( عليه السلام ) مع أهل الم، ففيها قال عمران : فأيّ شيء غيره ؟ قال الرضا عليه السلام : ( مشيئته واسمه وصفته وما أشبه ذلك ، وكل ذلك محدث مخلوق مدبّر ) ، وقال ( عليه السلام ) فيها أيضاً : ( واعلم : الإبداع والمشيئة والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة ) (23) .
11 ـ رواية النوفلي الهاشمي (24) المتقدّم عنه ( عليه السلام ) في مناظرته مع سليمان المروزي ، وللإمام ( عليه السلام ) كلام طويل في هذه الرواية ، في إبطال قِدم الإرادة ، وكونها من صفات الذات ، وكونها نفس العلم ، وكونها نفس الأشياء ، كما قال به جمع من أصحاب الفلسفة ، وقسّموا الإرادة إلى الذاتية والفعلية ، ولعمري إنّ الرواية بطولها وتشديدها حجّة ساطعة على مرادنا ، وكأنّ الإمام عليه السلام كان ناظراً إلى أقوال الفلاسفة فردّ عليهم ، فلاحظها والله الهادي .
12 ـ صحيحة يونس عن الرضا ( عليه السلام ) ففيها (25) : قلت : فما معنى شاء ؟ قال : ( ابتداء الفعل . قلت : فما معنى أراد ؟ قال : الثبوت عليه ) وفي رواية الهاشمي عن الكاظم ( عليه السلام ) ، أيضاً تفسير معنى شاء بابتداء الفعل (26) .
13ـ رواية ابن إسحاق عن أبي الحسن ( عليه السلام ) قال فيها : ( أتدري ما المشيئة ؟ فقال : لا ، فقال : همّه بالشيء ، أَوَ تدري ما أراد ؟ قال : لا ، قال : إتمامه على المشيئة ) (27) .
أقول : لعلّ المراد بالهمّ هو ابتداء الفعل كما يفهم من قوله : إتمامه ، ومن تصريح الرواية المتقدّمة بذلك ، وإلاّ فالهمّ عليه محال ، وقد صرّح به في الروايات المتقدّمة أيضاً...
هذا ما وقفنا عليه من الروايات الدالة على حدوث الإرادة ، ولم أجد روايةً ـ ولو ضعيفة السند والدلالة ـ على أنّها قديمة ، أو عين ذاته تعالى ، أو هي راجعة إلى العلم ، مع أنّ الصفات الذاتية مصرّح بها في روايات كثيرة ، عن أهل العصمة والنبوّة سلام الله عليهم أجمعين .
وأمّا ما ذكره بعض الأماجد (28) من آل كاشف الغطاء ـ من أنّ الإرادة في لسان أهل البيت تُطلق على معنيين : الخلق الإيجاد ، ثمّ العلم حسبما استقصينا من أحاديثهم ، واستشهد للثاني برواية نقلها عن الكافي ـ فهو ممنوع ، والموجود في الكافي مغاير لِما نقله في كتابه ، على أنّ استعمال الإرادة في العلم أحياناً ، لا يُسمن ولا يغني من شيء أصلاً كما لا يخفى ، ولا سيما بعد ما صرّح في الرواية الخامسة بتغايرهما .
إزاحة وإنارة :
قد تحصّل أنّ الروايات صريحة كما هي الأكثر ، أو ظاهرة غاية الظهور في حدوث الإرادة ، وجملة منها صحيحة الإسناد ، فلا يعتريها شكّ وارتياب ، غير أنّ جماعةً من الباحثين كالمحقّق الداماد على ما في الأسفار ، والمحدّث المجلسي في البحار ومرآة العقول ، وصاحب الأسفار في شرحه على الكافي ، والفيض الكاشاني في الوافي ، والفيّاض اللاهيجي في الشوارق وگوهر مراد ، والشيخ المحقّق محمد حسين في نهاية الدراية وتحفة الحكيم ، وغيرهم في غيرها أغمضوا أعينهم عن صراحة هذه الروايات ، فوجّهوها بتوجيهات باردة ، وحملوها على محامل بعيدة فاسدة ، بل بعضها مخالف لصراحة بعض الروايات المذكورة.
وإنّي لا أرى فائدةً في إيرادها وإبطاله ، فالمنصف إذا راجعها ولاحظها بالقياس إلى الروايات يجدها موهومةً موهونة ، والعجب أنّ الأئمة ( عليهم السلام ) بيّنوا صفات الذات وعينيتها معها ، ولكن لمّا وصل بيانهم إلى الإرادة لم يبيّنوها ؛ لعدم استعداد الأذهان كما يقول بعض هؤلاء ، أو أنّهم ( عليهم السلام ) بيّنوا الإرادة الفعلية ، وأهملوا ذكر الإرادة الذاتية ، مع أنّه لا أثر إلاّ في أوهام هذا القوم . وإن تعجب فعجب من المجلسي قدّس سره ، فإنّه مع جموده الجميل على ظواهر الروايات ، كيف ترك النصوص ، وأصرّ على تأويلها والعصمة لأهلها ؟!
تتمة :
ثمّ إنّك ـ بعد ما دريت معنى الإرادة تقدر على تطبيق جملة كثيرة من الآيات الكتابية عليه (29) .
نعم ربّما يعسر تفسير بعض الآيات المشتملة على هذه المادة ـ الإرادة والمشيئة ـ بهذا المعنى كقوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]، وقوله : {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] ، وقوله : {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] وغيرها ، فإنّ تنزيلها على الإحداث ، والإيجاد ، والفيض ، وإعمال القدرة ، وإنفاذ القوّة ، إلى غير ذلك من الألفاظ المترادفة بعيد جداً ، فلك أن تحملها على القصد للمشاكلة لإرادتنا ، كما في قوله تعالى ( يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) فنسب الإرادة إلى الجدار مع أنّه لا قصد له أصلاً ، وإن أبيتَ عن ذلك فلابدّ لك أن تحملها على المعنى الثاني للإرادة ، فإنّ لها معنيين ...
______________________
(1) مرآة العقول / 76.
(2) حاشية الآشتياني على رسائل الشيخ / 35.
(3) بحار الأنوار 4 / 136.
(4) شرح المواقف 3 / 67.
(5) نهاية الدراية شرح كفاية الأُصول 1 / 164.
(6) أُصول الكافي 1 / 109.
(7) توحيد الصدوق / 11.
(8) أوائل المقالات / 19.
(9) فما في الكتاب المنسوب إليه المسمّى بـ ( نكت الاعتقاد ) من تفسيرها بعلمه الموجب لوجود الفعل غير صحيح عنه ، فتأمّل .
(10) لوامع التنزيل وسواطع التأويل 7 / 8.
(11) الحاكي هو المحقّق الآشتياني في حاشية الرسائل / 35.
(12) أُصول الكافي 1 / 109.
(13) أُصول الكافي 1 / 110.
(14) أُصول الكافي 1 / 110.
(15) أُصول الكافي 1 / 109.
(16) أُصول الكافي 1 / 109.
(17) التوحيد / 144.
(18) البحار 4 / 145.
(19) البحار 4 / 145.
(20) البحار 3 / 196.
(21) البحار 5 / 31.
(22) التوحيد، الباب 64.
(23) التوحيد، الباب 64.
(24) التوحيد، الباب 65.
(25) مرآة العقول 1 / 104، والبحار 5 / 122.
(26) الكافي 1 / 150.
(27) البحار 5 / 122.
(28) الدين والإسلام 1 / 188.
(29) الآيات المتضمّنة للفظة الإرادة والمشيئة تزيد على المِئة والستّين ، على ما استخرجناها من القرآن الحكيم .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
قسم التربية والتعليم يكرّم الطلبة الأوائل في المراحل المنتهية
|
|
|