قول المتكلّمين و بعض الحكماء في إثبات كونه عالما بذاته وبكلّ ما عداه |
948
02:04 صباحاً
التاريخ: 24-10-2014
|
أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-10-2014
6874
التاريخ: 24-10-2014
769
التاريخ: 24-10-2014
1082
التاريخ: 9-3-2019
687
|
وهو انّه ـ سبحانه ـ فعل أفعالا متقنة محكمة ـ أي : خالية عن وجوه النقصان والخلل ـ مشتملة على غرائب المصالح والحكم ، وكلّ من كان كذلك فهو عالم ؛
أمّا الكبرى فظاهر بديهية ، وينبه عليها انّ من رأى خطوطا مليحة أو سمع الفاظا فصيحة ينبئ عن معان دقيقة واغراض صحيحة علم قطعا انّ فاعلها عالم ؛
وامّا الصغرى فلما ثبت انّه ـ تعالى ـ خالق جميع العالم من الافلاك والعناصر بما فيها من الجواهر والاعراض وانواع المعادن والنبات وأصناف الحيوانات على سياق وانتظام تحيّرت فيه ثواقب الأفهام وعلى اتقان واحكام تاهت فيه صوائب الاوهام من اشتماله على عجائب الحكم والمصالح وغرائب الفوائد والمنافع ووضع كلّ شيء في موضع يليق به واعطاء كلّ شيء ما يصلح بحاله بحيث تكلّ عن دركها العقول والافهام ولا يفي بتفاصيلها الدفاتر والاقلام ـ على ما يشهد به علم الهيئة وعلم التشريح وعلم الآثار العلوية والسفلية وعلم الحيوان والنبات ـ ، كما لا يخفى على من اتقن بصره في حقائق بواطن الأشياء وحدق نظره في دقائق مقارّ الأرض ومجارى السماء. وكلّ من يرى صنعة مشتملة على أشياء مختلفة موافق كلّ شيء لما يجب له موضوع كلّ واحد موضعه ـ ولو كان ذلك شيئا يسيرا ، كصورة حيوان منقوشة على ساحة ـ فانّه يعلم ضرورة من غير تأمّل وتوقّف انّ ذلك لم يصدر الاّ عن حي عالم ، فمثل هذا العالم الوسيع والكرسي الرفيع والسماء ذات ابراج والأرض ذات فجاج والشمس المضيئة المنيرة والقمر وتشكّلاته الهلالية والبدرية والأنجم الزاهرة من الثوابت والسيار واختلاف الليل والنهار وجري الأودية والأنهار والجبال الراسيات والفلك الجاريات والرياح المرسلات والسحب المعصرات وأصناف البسائط والمركّبات وأنواع المعادن والنباتات وضروب الدواب والحيوانات وما دبّر في خلق شخص واحد ـ فضلا عمّا لا يخفى من غيره من ظواهر أعضائه وبواطن أحشائه وحواسّه الظاهرة والباطنة وقواه الخارجة والدّاخلة ـ كيف يمكن أن يصدر إلاّ عن عالم حكيم ؛ وإلى ذلك أشير في قوله ـ سبحانه ـ : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ... وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة: 164]. وجميع ذلك انّما هو في عالم الحسّ والشهادة ، وهو بالنسبة إلى عالم الغيب ـ أعني : عالم المجرّدات النفسية والعقلية الّتي أدركت بنور العقل والكشف كحلقة في فلاة. وهذا الدليل يدلّ أوّلا على علمه ـ تعالى ـ بالأفعال ثمّ بواسطته يدلّ على علمه ـ تعالى ـ بذاته ، لانّ كلّ من علم شيئا يعلم انّه هو الّذي يعلمه ، والعالم بالقضية يجب أن يعلم الموضوع ، والموضوع ذاته ؛ فيجب ان يعلم بذاته. وهذا ممّا وافقه الحكماء وصرّح به الشيخان ـ : الفارابي وابن سينا ـ وادّعاه المحقّق الدوانى في شرح العقائد.
وأورد عليه بعض الفضلاء : بأنّا كثيرا ما نعلم شيئا ونغفل عن كوننا عالمين به ، ولعلّه لهذا عدل بعض المحقّقين عن دعوى ذلك إلى دعوى امكانه واثبت المطلوب بتحقّق الامكان حيث قال : إذا علم أفعاله علم ذاته ، إذ من يعلم افعاله يمكنه ان يعلم انّه أفعاله ومن امكان ذلك العلم يلزم تحقّق امكان العلم بذاته ومن امكان تحقّق العلم بذاته يلزم تحقّق العلم بذاته ـ إذ علم الشيء بذاته لا يمكنه الاّ بحضور ذاته ـ ، ومن يمكنه أن يحضر ذاته عند ذاته فقد حضر ذاته عند ذاته، إذ لو لم يحضر لا يمكن أن يحضر ـ كما لا يخفى على المتفطّن. وعلى هذا فيمكن أن يجعل الدليل المذكور مع هذه العلاوة ابتداء دليلا واحدا على علمه بذاته وبما سواه بان يقال : انّه ـ تعالى ـ فاعل للأفعال المحكمة المتقنة ، وكلّ فاعل كذلك لا ينفكّ عن العلم بأفعاله ، ومن يعلم أفعاله يعلم ذاته ، إذ من يعلم افعاله يمكن ان يعلم انّه يعلم افعاله ـ ... إلى آخره ـ. انتهى كلام بعض المحقّقين.
وقال الفاضل المذكور : لا يخفى ما فيه!.
ولعلّ ما فيه هو : انّ علم الشيء بذاته الّذي هو عبارة عن حضور ذاته لا يتحقّق بدون التفاته إلى الذات ، وبدون ذلك لا يتحقّق حضور الذات للذات. والتفات الشيء إلى ذاته ليس لازما ، فيمكن أن يكون الالتفات ممكنا ولم يتحقّق بالفعل ، فإمكان الحضور لا يستلزم الحضور بالفعل. فهذا الايراد منه قريب من ايراده السابق ـ أعني : ما ذكره من : انّا كثيرا ما نعلم شيئا ونغفل عن كوننا عالمين به ـ.
وأنت تعلم انّ عدم الالتفات إلى الذات مع كونه ممكنا والغفلة مع العلم بكون أفعاله أفعالا له فينا لا يمكن أن يكون دائميا ، لانّ الغفلة عن الشيء انّما يتحقق إذا كان هذا الشيء موجودا في خزانة القوّة المدركة ولكنها لا يلتفت إليه ؛ ولذا استدلوا بالفرق بين « الذهول » و « النسيان » في المعقولات على تحقّق الخزانة للنفس ، وبالفرق بينهما في الصور الجزئية على تحقّق الخزانة للحسّ المشترك ـ وهو « الخيال » ـ ، وبالفرق بينهما في المعاني الجزئية على تحقّق الخزانة للواهمة ـ وهي « الحافظة » ـ. ولا ريب انّ الشيء إذا كان موجودا في الخزانة لا يمكن أن ينعدم الالتفات إليه بالكلّية ، بل إذا حصل عائق ينعدم الالتفات فيحصل الغفلة وإذا زال العائق فيحصل التذكّر ، ولو لم يحصل التذكّر أصلا لم يكن موجودا في الخزانة وكان نسيانا.
وإذا عرفت ذلك فنقول : الغفلة وعدم الالتفات انّما يتحقّقان في حقّ غافل كان لتعقّله خزانة ، ومن لم يكن لتعقّله خزانة ولا يحتاج في التعقّل إلى شيء سوى ذاته لا يتحقّق في حقّه الغفلة وعدم الالتفات ؛ فالواجب ـ تعالى ـ لمّا كان متعقّلا لأفعاله ـ كما هو الفرض ـ فامّا يعلم انّه افعاله أو لا ؛ فعلى الأوّل يثبت المطلوب ـ أي : تحقّق العلم بذاته ـ ، وعلى الثاني : فامّا ان لا يعلم انّه افعاله مطلقا ، أو يعلم ذلك في بعض الاوقات ويغفل عنه في بعض ، فعلى الثاني يلزم أن يكون لتعقّله خزانة ـ وهو باطل ، للزوم الافتقار ـ ؛ والأوّل بديهي البطلان ـ لأنّه يستحيل أن يعلم أحد أفعاله ولا يعلم قطّ انّه أفعاله ـ. بل إن كان الفاعل ممّن جاز عليه الغفلة ـ لكون علمه زائدا على ذاته ـ لتأتي عليه الغفلة في العلم بالأفعال أيضا ، كما يغفل عن كون الافعال افعالا له ؛ وإن لم يجز عليه الغفلة ـ لعدم افتقاره في التعقّل إلى أمر زائد على ذاته ـ لم يتأتّ عليه الغفلة في شيء منهما. وما نحن فيه من قبيل الثاني ، لأنّ الواجب لا يحتاج في تعقّله إلى أمر زائد عن ذاته ، فلا يجوز له الغفلة في شيء منهما. ولا يصحّ اثبات احد العلمين له دون الآخر في جميع الاوقات ، لأنّ ما يقتضي العلم بالأفعال يقتضي العلم بكون الأفعال افعالا له أيضا ، لانّ المقتضي للعلم بالأفعال هو الذات ونسبتها إلى العلمين على السواء ؛ ولا مرجّح للاقتضاء الأوّل دون الثاني ، فالتخصيص تحكّم باطل!.
فظهر انّ غفلة الواجب ـ تعالى ـ عن ذاته وعدم التفاته إليها في بعض الاوقات باطل ، وجهله بها دائما مع علمه بأفعاله أيضا باطل.
وبذلك يظهر انّ كلّ واحد من الوجه الأوّل ـ الّذي ذكرناه في استلزام علمه تعالى بالأفعال لعلمه بذاته وذكرناه أيضا انّه ممّا وافقه الفلاسفة ـ ، والوجه الثاني ـ الّذي نقلناه عن بعض المحقّقين ـ صحيح لا غبار عليه.
على انّه يمكن أن يقال في تصحيح الوجه الّذي نقلناه عن بعض المحقّقين : انّه إذا ثبت امكان العلم للواجب ـ تعالى ـ بذاته لزم فعلية علمه ـ تعالى ـ به ، لما مرّ من انّه ليس له ـ تعالى ـ كمال بالقوّة ، بل كلّما يجوز له يكون حاصلا له بالفعل ؛ إلاّ انّه يرجع إلى الدليل الأوّل.
وقال بعض الفضلاء : الأولى أن يدّعى البداهة في أنّ كلّ من علم الغير يعلم ذاته ، لا سيّما إذا كان عالما بلطائف الأفعال ؛ هذا.
واعترض على الدليل المذكور بوجهين :
أحدهما : انّه إن اريد « بانتظام الأشياء وإحكامها » : انتظامها وإتقانها من كلّ وجه بمعنى انّ هذه الآثار مترتّبة ترتيبا لا خلل فيه أصلا وملائمة للمنافع والمصالح المطلوبة منها بحيث لا يتصوّر ما هو أوفق منه وأصلح ، فظاهر انّه ليست كذلك ، بل الدنيا طافحة بالشرور والآفات ويشاهد في العالم اشياء لا تدرى لها منفعة ،بل قد يعلم لها مضرّة ومنقصة ؛ وإن اريد في الجملة ومن بعض الوجوه ، فجلّ آثار المؤثّرات من غير العقلاء بل كلّها كذلك ، فانّ تبريد الماء وتسخين النار ينتفعان بهما.
وثانيهما : انّه قد تصدر عن بعض الحيوانات العجم أفعال محكمة متقنة في ترتيب مساكنها وتدبير معايشها ـ كالنمل وكثير من الوحوش والطيور ، على ما هو في الكتب مسطور وفيما بين الناس مشهور ـ مع أنّها ليست من اولى العلم.
والجواب عن الأوّل : اختيار الشق الأوّل ـ أي : كون الموجودات مرتّبا ترتيبا لا خلل فيه أصلا بحيث لا يتصوّر ما هو أصلح واوفق منه ، فانّه لا شبهة في أنّ هذا النظام المشاهد هو النظام الأصلح الأعلى ، ولا يتصوّر ما هو أكمل ولا يمكن ان يوجد ما هو اعلى منه. أمّا على طريقة المليين فلاستحالة ترجيح المرجوح ، وامّا على طريقة الفلاسفة فلأنّ ذات الواجب ـ تعالى ـ لمّا كان تامّا فوق التمام فيجب أن يكون ما يفيض ويترشّح عنه وما يقتضي صدوره أشرف وأعلى ما يتصوّر ، ولذلك أجمع الكلّ على أنّ هذا النظام الجملي أحسن النظام وأصلحه ولا يتصوّر نظام أكمل من الواقع ، ولم يخالف في ذلك أحد إلاّ الشافعي ـ على ما نقل عنه انّه قال : يجوز أن يوجد نظام يكون أعلى واكمل من النظام الواقع ـ ، وهو ليس من رجال هذا العلم ، بل هو أجنبي العلم في هذا الفن.
وما ذكر من « انّ الدنيا طافحة بالشرور ونرى اشياء نعلم لها مضرّة ومنقصة » ، ففيه : أنّها شرور قليلة تابعة لخيرات كثيرة وواقعة بالعرض وراجعة إلى الأعدام ، فلا يلزم بها خلل ونقصان في نظام الموجودات ـ على ما تقدم مفصّلا ـ ؛ هذا.
وقيل : وممّا يدلّ على كون النظام الموجود نظاما احسن « قاعدة الامكان الأشرف » ؛ وتقريرها : هو انّه إذا وجد الممكن الأخسّ يجب أن يوجد قبله الممكن الأشرف ، لأنّه إذا وجد الأخسّ ولم يوجد الأشرف قبله فلا يخلو : إمّا ان يكون الاشرف ممكن الوجود ، أم لا ؛ والثاني ليس كلامنا فيه ـ لانّ الكلام في الممكن ـ ؛ والأوّل إذا فرض صدوره عن الواجب فامّا ان يصدر عنه ـ تعالى ـ بواسطة الأخسّ ـ فيلزم أن يكون المعلول اشرف من العلّة ، وهو باطل فيما فوق الكون ، أي : في غير الممكنات الكائنة الفاسدة ، أعني : الممكنات الثابتة المستمرّة الوجود ـ ، أو يصدر عنه بلا واسطة الأخسّ ، فيلزم جواز صدور الكثرة عن الواحد ـ بناء على أنّ الفرض وجود الأخسّ بلا واسطة الأشرف ، فاذا فرض وجود الاشرف أيضا بلا واسطة شيء يلزم جواز صدور الكثرة عن الواحد الحقّ ، وهو محال ـ.
وإذا ثبت ذلك نقول : لا يمكن أن يوجد نظام فوق هذا النظام ، لأنّه إذا جاز وجود نظام فوق هذا النظام فلا يتصوّر ذلك إلاّ بأن يكون بعض الموجودات الواقعة فيه أشرف وأكمل من بعض الموجودات الّتي وقعت في هذا النظام ، وهو يوجب وجود الأخسّ قبل الأشرف ؛ فيندفع بالقاعدة المذكورة.
ثمّ انّ هذه القاعدة على ما ذكره الشيخ الإلهي في المطارحات انّما يجري فيما فوق الكون ـ أعني: الممكنات الثابتة المستمرّة الوجود الدائمة بدوام عللها الثابتة الغير المتغيّرة بالحركات الفلكية ـ ، لا فيما تحت الكون أيضا ـ أي : الممكنات المتغيّرة المتبدّلة بالحركات والاستعدادات ، كالمواليد الثلاثة (1) ـ. والسرّ في ذلك أنّ الأمور الخارجة عن سلسلة الحركات والتغيرات والاستعدادات المختلفة لا يمنعها أمر غريب عن كمالاتها الممكنة ؛ لانّ علّة كمالاتها إمّا ذات الفاعل ، أو أمر لازم له ، فيوجد تلك الكمالات فيها البتة. وبالجملة كلّ ممكن يكون امكانه الذاتي كافيا لفيضان وجوده ، ولا يحتاج في الفيضان إلى الامكان الإستعدادى بكون جميع كمالاته حاصلة له في بدو فطرته وعلل وجوده هي بعينها علل كمالاته من دون مغايرة بينهما ؛ بخلاف الحوادث اليومية ، فانّ علل وجودها على وجه خاصّ وعلل كمالاتها قد تكون مغايرة لعلل وجودها ، وكلّ واحد من وجودها وكمالاتها يتوقّف على استعدادات سوى امكانها الذاتي ، وفقدان بعض الاستعدادات بالنسبة إلى بعض تلك الحوادث ممكن. فحينئذ يجوز أن لا يوجد ما هو الأشرف بالنسبة إليها ـ لفقدان الاستعدادات الّتي هي علّة لحصول ذلك الأشرف. فقاعدة الامكان الأشرف انّما تدلّ على أنّ الموجودات الثابتة المستمرّة الغير الكائنة والفاسدة ـ أعني : من العقل الأوّل إلى آخر العناصر ـ لا يمكن أن يوجد بدل أحدها ما هو اشرف واكمل منه ، ولا أن يوجد شيء سواها في الحقيقة يكون أشرف من بعضها ؛ بل كلّ واحد ممّا في هذه السلسلة أشرف وأكمل ما يتصوّر ويمكن ، ولا يمكن وجود غيرها يكون من تلك السلسلة ـ أي : تكون ثابتة مستمرّة دائمة بدوام عللها ـ ؛ ولا يدل على انّ حكم الحوادث اليومية أيضا كذلك.
وبذلك يندفع ما أورد على هذه القاعدة : بأنّها لو تمّت لدلّت على أن لا يكون شيء من الاشخاص ممنوعا عمّا هو أشرف بالنسبة إليه ويمكن تحقّقه فيه ، مع أنّا نرى أكثر الأشخاص ممنوعا من الكمالات الممكنة لهم الّتي حصولها فيهم اولى ؛ ووجه الاندفاع : انّ هذه الأشخاص انّما هي من الحوادث اليومية ، وتلك القاعدة لا تجرى فيها ؛
ثمّ الوجه في فقدان بعض الكمالات الممكنة لبعض الأشخاص من الحوادث عنها مع انّه لو كانت حاصلة لها كانت أحسن بحالها وصار النظام الجملي حينئذ أصلح من الواقع في نظرنا قد تقدّم مفصّلا. ونقول هنا : الحكم بأصلحية النظام مع وجود بعض الكمالات المتصوّرة لبعض الاشخاص من النظام الواقع الّذي لم توجد فيه تلك الكمالات المتصوّرة لهذا البعض ممنوع ، بل باطل ؛ والأمر بالعكس ، لانّ أصلحية النظام لا يستلزم وجود كلّ ما هو أصلح بالنسبة الى كلّ شخص من الحوادث إذا كان ممكنا له ؛ وان استلزم ذلك بالنسبة إلى الموجودات الّتي فيما فوق الكون.
بل نقول : فقدان بعض الكمالات عن بعض الحوادث هو الأصلح بحال النظام لأدائه الى الكمالات والخيرات الكثيرة. ولمّا كانت العناية الالهية متعلّقة بتدبير الكلّ من حيث هو كلّ أوّلا وبالذات وبتدبير الجزء ثانيا وبالعرض وكان الأحسن بحال الكلّ أن لا يحصل لبعض الأشخاص ما هو أحسن وأكمل بالنسبة إليه وبالنظر إلى خصوصيته ، اختار ما هو الأحسن بالكلّ وترك ما هو المخلّ به وان كان أحسن بالنظر إلى الجزء. ونظير ذلك انّ المعمار إذا طرح نقش عمارة فربما كان الأحسن بالنسبة إلى تلك العمارة أن يكون بعض اطرافه مجلسا وبعض اخر مبرزا بحيث لو غيّر هذا الوضع لاختلّ حسن مجموع العمارة وإن كان الأحسن بالنسبة إلى كلّ موضع منه أن يكون مجلسا مثلا ، وقس عليه قطع عضو من الأعضاء واخراج الدم من البدن بالفصد والحجامة اذا كان فيه صلاح مجموع البدن. وبالجملة لا ريب في أنّ الواجب الحقّ مبدأ تامّ من جميع الوجوه ، فما هو المناسب به أحسن وأكمل من غيره ، ولا شكّ في انّ النظام الواقع الصادر هو الأنسب وبالمناسبة استحقّ فيض الوجود منه ـ تعالى ـ عليه ، فيكون أعلى وأكمل ما يتصوّر ، ويكون ما وجد بغير هذا الوجه من الوجوه أبعد عن المناسبة له ، فيكون أدون وأخسّ ؛ فكلّ فرد فرض على خلاف ما عليه يكون مخلاّ بحسن النظام وإن خفي وجهه علينا.
ولعلّ تفاصيل كيفية هذا الحسن واختلاله بتغيّر حال فرد فرد عمّا هو عليه مع انّه يمكن أن يوجد ما هو الأحسن له في نظرنا من أسرار القدر الّذي استاثره الله بعلمه ولم يطّلع عليه أحد سواه ، أو اطّلع عليه بإذنه واحد بعد واحد من طوائف الأنبياء وأعاظم الأولياء.
وما يمكن أن يتكلّم فيه ويصل إليه الأفهام قد تقدّم قبل ذلك مفصّلا.
ثمّ انّه لو اخترنا الشقّ الثاني لدلّ على المطلوب أيضا ـ وان لم يكن حقّا مطابقا للواقع ـ ، لأنّه إذا ثبت الانتظام والإحكام في الجملة لدلّ على علم الموجد ولا يضرّ معه اشتماله على نوع من الخلل والنقصان ومثله مثل صورة منقوشة في جدار إذا كانت فاقدة لبعض اعضائها ، فانّك إذا رأيتها لا تشكّ في علم مصوّرها وصدورها عن خبرة وغرض فيها ، بل تجزم بأنّ نقصان بعض اعضائها إنّما هو لغرض يعلمه مصوّرها ومصلحة يراها وان لم تكن أنت عالما به.
وما ذكر من النقص بتبريد الماء وتسخين النار ففيه : انّ هذا التأثير فيهما وفي امثالهما انّما هو بفعله ـ تعالى ـ وهو الّذي اوجده فيهما ، لانّ الممكن من حيث هو لا يجوز أن يصير منشأ لشيء ومؤثّرا في غيره ـ لكونه لا شيئا محضا وقوّة صرفة ـ ، وبالجملة لا ريب في اشتمال هذا النظام على لطائف الصنع وبدائع الترتيب وحسن الملائمة للمنافع والمطابقة على وجه الكمال. وان سلّم اشتماله بالعرض على نوع من الخلل وجور في بادى النظر أن يكون ما هو أكمل. والعلم بأنّ مثل ذلك لم يصدر الاّ عن العالم ضروري ، سيّما مع تكثّر ما في هذا النظام من الموجودات وتكرّر ما يوجد فيه من الأفعال والآثار.
ثمّ بداهة ذلك لا ينافي مخالفة بعض العقلاء ونفيهم علم الواجب ، لانّ الضروري قد يخفى على بعض العقلاء. على انّه قيل : لم ينف أحد علم الواجب ؛
والجواب عن الثاني : انّه لو سلّم انّ الآثار والأفعال الّتي تشاهد من الحيوانات انّما تصدر منها وهي موجدها فلم لا يجوز أن يكون فيها من العلم قدر ما تهتدى الى ذلك بأن يجعلها الله ـ تعالى ـ عالما بذلك أو يلهمها حين ذلك الفعل ، كما جعلها قادرة ومتمكّنة على ذلك الفعل؟
__________________
(1) راجع : المشارع والمطارحات ، ص 434.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|