أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-10-2016
972
التاريخ: 23-7-2020
2735
التاريخ: 18-8-2016
1050
التاريخ: 18-8-2016
989
|
فهاهنا مطالب :
الأوّل : في أقسام القطع:
نقول : إنّ القطع قد يتعلّق بموضوع خارجي أو موضوع ذي حكم أو حكم شرعي متعلّق بموضوع مع قطع النظر عن القطع . ويشترك الكلّ في أنّ القطع كاشف دائماً في نظر القاطع .
وأمّا توضيح الأقسام فيحتاج إلى تقديم أمر وهو : أنّ العلم من الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة، فله قيام بالنفس ـ قيام صدور(1) أو حلول(2) على المسلكين ـ وإضافة إلى المعلوم بالذات الذي هو في صقع النفس إضافة إيجاد ، وإضافة إلى المعلوم بالعرض المحقّق في الخارج .
وما ذكرنا : من قيام العلم بالنفس وأنّ الصورة المعلومة بالذات فيها أيضاً إنّما يصحّ على عامّة الآراء المذكورة في الوجود الذهني(3) .
نعم ، على القول المنسوب إلى الإمام الرازي من أنّ حقيقة العلم هو إضافة النفس إلى الخارج بلا وساطة صورة اُخرى(4) لا يصحّ القول بقيام الصورة المعلومة بالنفس ; إذ ليس هنا شيئاً وراء الصورة المحقّقة في الخارج حتّى نسمّيه علماً ومعلوماً بالذات ، بل حقيقة العلم على هذا المسلك ليس إلاّ نيل النفس الاُمور الخارجية بالإضافة إليها ، لا بالحصول فيها .
وبذلك يظهر : أنّ ما أفاده بعض أعاظم العصر من قيام العلم بالنفس ، من دون فرق بين أن نقول : إنّ العلم من مقولة الكيف أو مقولة الفعل أو الانفعال أو الإضافة(5) لا يخلو عن مناقشة.
ثمّ إنّ للقطع جهات ثلاثة :
جهة قيامه بالنفس وصدوره منها أو حلوله فيها ، وعلى الجملة : كونه من الأوصاف النفسانية مثل القدرة والإرادة والبخل وأمثالها .
وجهة أصل الكشف المشترك بينه وبين سائر الأمارات .
وجهة كمال الكشف وتمامية الإراءة المختصّة به المميّزة إيّاه عن الأمارات .
ثمّ هذه الجهات ليست جهات حقيقية حتّى يستلزم تركّب العلم من هذه الجهات ، وإنّما هي تحليلات عقلانية وجهات يعتبرها العقل بالمقايسات ، كتحليل البسائط إلى جهات مشتركة وجهات مميّزة ، مع أنّه ليس في الخارج إلاّ شيء واحد بسيط . وتجد نظير ذلك في حقيقة التشكيك الموجود في أصل الوجود ; فإنّ الوجود مع كونه بسيطاً ينقسم إلى شديد وضعيف ، ولكن الشديد ليس مؤلّفاً من أصل الوجود والشدّة ، ولا الضعيف من الوجود والضعف ، بل حقيقة الوجود في عامّة الموارد بسيطة لا جزء لها ، إلاّ أنّ المقايسة بين مراتبه موجبة لانتزاع مفاهيم مختلفة عنه .
ثمّ إنّ القطع قد يكون طريقاً محضاً ، وقد يؤخذ في الموضوع ، والمأخوذ في الموضوع تربوا إلى أقسام ستّة :
الأوّل والثاني : أخذه تمام الموضوع أو جزئه بنحو الوصفية ; أي بما أنّه شيء قائم بالنفس ومن نعوتها وأوصافها ، مع قطع النظر عن الكشف عن الواقع .
الثالث والرابع : أخذه في الموضوع على أن يكون تمام الموضوع أو جزئه بنحو الطريقية التامّة والكشف الكامل .
الخامس والسادس : جعله تمام الموضوع أو جزئه على نحو أصل الكشف الموجود في الأمارات أيضاً .
ثمّ إنّ بعض الأعاظم أنكر جواز أخذ القطع الطريقي تمام الموضوع ; قائلاً : إنّ أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه ، وأخذه على وجه الطريقية يستدعي لحاظ ذي الصورة وذي الطريق ، ويكون النظر في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم(6).
قلت : الظاهر أنّ نظره في كلامه هذا إلى امتناع اجتماع هذين اللحاظين ; فإنّ الطريقية يستدعي أن يكون القطع ملحوظاً آلياً غير استقلالي ، بل الملحوظ استقلالاً هو الواقع المقطوع به ، وأخذه تمام الموضوع يستدعي لحاظ القطع استقلالاً غير آلي ، وهذان اللحاظان لا يجتمعان.
أقول : يرد عليه ـ مضافاً إلى عدم اختصاص الإشكال ـ حينئذ بما إذا كان القطع تمام الموضوع، بل يعمّ صورة أخذه بعض الموضوع ; لامتناع الجمع بين اللحاظين المتغايرين ـ أنّ الامتناع على فرض تسليمه إنّما يلزم لو جعل الجاعل قطعه الطريقي تمام الموضوع لحكمه ، وأمّا لو جعل قطع الغير ـ الذي هو طريقي ـ تمام الموضوع لحكمه فلا يلزم ما ادّعاه من المحال ، وهل هذا إلاّ خلط بين اللحاظين ؟
فإن قلت : لعلّ مراده من الامتناع هو أنّ الجمع بين الطريقية وتمام الموضوع يستلزم كون الواقع دخيلاً وعدم كونه دخيلاً ; فإنّ لازم الطريقية دخالة الواقع في حدوث الحكم ، وكون القطع تمام الموضوع يستلزم دوران الحكم مداره ، من دون دخالة للواقع .
قلت ـ مضافاً إلى أنّه خلاف ظاهـر كلامـه ـ إنّ أخـذ القطع تمام الموضوع على وجه الطريقية ينافي دخالـة الواقـع حتّى يلزم ما ذكره ، بل المراد لحاظ القطع بما أنّ لـه وصف الطريقية والمرآتية مـن بين عامّـة أوصافه ، ولا يستلزم هـذا دخالـة الواقع ، كما هو واضح .
الثاني : في أخذ القطع موضوعاً لحكم يخالفه أو يماثله أو يضادّه:
إنّك قد عرفت أنّ القطع قد يتعلّق بموضوع خارجي ، فيأتي فيه الأقسام المذكورة ، وقد يتعلّق بحكم شرعي ، فيقع الكلام تارة في أخذه موضوعاً لحكم غير ما تعلّق به العلم ممّا يخالفه أو يماثله أو يضادّه ، واُخرى في أخذه موضوعاً لنفس الحكم الذي تعلّق به .
فنقول : لا إشكال في إمكان أخذه تمام الموضوع وجزئه في حكم يخالفه ، كما إذا رتّب على العلم بوجوب صلاة الجمعة وجوب التصدّق .
إنّما الإشكال في أخذه كذلك لما يماثله أو يضادّه .
والذي يمكن أن يكون مانعاً اُمور نشير إليها :
منها : كونه مستلزماً لاجتماع الضدّين أو المثلين .
وفيه : أنّه قد مرّ بما لا مزيـد عليه في مبحث النواهي أنّ الأحكام ليست مـن الاُمور الوجودية الواقعية ، بل من الاعتباريات(7) ، وقد عرّف الضدّان بأنّهما الأمران الوجوديان غير المتضائفين المتعاقبان على موضوع واحد ، لا يتصوّر اجتماعهما فيه ، بينهما غاية الخلاف ، فما لا وجود لها إلاّ في وعاء الاعتبار لا ضدّية بينها ، كما لا ضدّية بين أشياء لا حلول لها في موضوع ولا قيام لها به قيام حلول وعروض .
ومن ذلك الباب عدم تضادّ الأحكام لأجل أنّ تعلّق الأحكام بموضوعاتها ومتعلّقاتها ليس حلولياً عروضياً نحو قيام الأعراض بالموضوعات ، بل قيامها بها قيام اعتباري لا تحقّق لها أصلاً ، فلا يمتنع اجتماعها في محلّ واحد ، ولذا يجوز الأمر والنهي بشيء واحد من جهة واحدة من شخصين أو شخص واحد مع الغفلة ، ولو كان بينها تضادّ لما صار ممكناً مع حال الغفلة ، وممّا ذكرنا يظهر حال المثلية .
ومنها : اجتماع المصلحة والمفسدة .
وفيه : لا مانع من كون موضوع ذا مصلحة من جهة وذا مفسدة من جهة اُخرى ، والجهتان متحقّقتان في المقام ، فيمكن أن يكون ذا مصلحة حسب عنوانه الذاتي ، وذا مفسدة عند كونه مقطوعاً أو مظنوناً .
ومنها : أنّه يستلزم اجتماع الكراهة والإرادة ، والحبّ والبغض .
وفيه : أنّ هذا إنّما يرد لو كان الموضوع للحكمين المتضادّين صورة وُحدانية له صورة واحدة في النفس ، وأمّا مع اختلاف العناوين تكون صورها مختلفة ، ولأجل اختلافها تتعلّق الإرادة بواحدة منها والكراهة بصورة اُخرى ، وليست الصور الذهنية مثل الموضوعات الخارجية ; حيث إنّ ذات الموضوع الخارجي محفوظة مع اختلاف العناوين ، بخلاف الصور الذهنية ; فإنّ الموضوع مع كلّ عنوان له صورة على حدة ، فتأمّل لما سيجيء من التفصيل .
ومنها : لزوم اللغوية في بعض الموارد ـ أعني إذا اُحرز أنّ المكلّف ينبعث عند حصول القطع بحكم من أحكام المولى ـ فجعل حكم آخر مثله لغو لا يترتّب عليه الانبعاث في هذه الصورة . نعم لو اُحرز أنّ المكلّف لا ينبعث إلاّ إذا تعلّق أمر آخر على المحرز المقطوع فلا يلزم اللغوية، بل يكون لازماً .
وفيه : أنّ ما ذكره صحيح في الأحكام الجزئية والخطابات الشخصية دون الأحكام الكلّية ، فتعلّقها مطلقاً لا يكون لغواً ; لعدم إحراز الإتيان أو عدمه ، بل المحقّق اختلاف المكلّفين في ذلك المقام ; فربّ مكلّف لا ينبعث إلاّ عن أمرين أو أزيد ، وعليه لا بأس لجعل آخر مماثل لما تعلّق به لأجل حصول الانبعاث في بعض المكلّفين .
ومنها : لزوم الأمر بالمحال ; فإنّه ـ مضافاً إلى أنّه يستلزم لغوية جعل الحرمة للخمر ـ إذا فرضنا أنّ الخمر حرام فإذا قطع بحرمة الخمر يصير مقطوع الحرمة مرخّصاً فيه ، يستلزم ذلك الأمر بالمحال ; فإنّ الامتثال في هذه الصورة غير ممكن ، وسيجيء دفعه في آخر البحث .
ومع ذلك كلّه فالحقّ : التفصيل بين كونه تمام الموضوع للحكم المضادّ والمماثل وبين كونه بعض الموضوع ، بالجواز في الأوّل والامتناع في الثاني ; لأنّ مصبّ الحكم المضادّ الثانوي إنّما هو عنوان المقطوع بلا دخالة الواقع فيه ، وهو مع عنوان الواقع عامان من وجه ، ويتصادق على الموضوع الخارجي أحياناً ، وقد أوضحنا في مبحث النواهي : أنّ اجتماع الحكمين المتضادّين ـ حسب اصطلاح القوم ـ في عنوانين مختلفين متصادقين على مورد واحد ممّا لا إشكال فيه(8) .
والحاصل : أنّه إذا جعل الشارع القطع تمام الموضوع لحكم من الأحكام ـ سواء ماثل حكم المتعلّق أو ضادّه ـ بأن قال : «الخمر المقطوع الحرمة حرام شربها أو واجب الارتكاب» فلا يلزم اجتماع المثلين ; لأنّ النسبة بين مقطوع الخمرية أو مقطوع الحرمة والخمر الواقعي أو الحرمة الواقعية عموم من وجه ، وإذا انطبق كلّ واحد من العنوانين على المائع الخارجي فقد انطبق كلّ عنوان على مصداقه ; أعني المجمع . وكلّ عنوان يترتّب عليه حكمه بلا تجاوز الحكم عن عنوانه إلى عنوان آخر .
فإذا قال : «أكرم العالم» ثمّ قال : «أكرم الهاشمي» ، وانطبق العنوانان على رجل عالم هاشمي فالحكمان ثابتان على عنوانهما ، وعلى ما هو مصبّ الأحكام ، من غير أن يتجاوز عن موضوعه وعنوانه المأخوذ في لسان الدليل إلى عنوان آخر حتّى يصير الموضوع واحداً ، وتحصل غائلة الاجتماع . ولا يسري الأحكام من عناوينها إلى مصاديقها الخارجية ; لما حقّقناه من أنّ الخارج ظرف السقوط دون العروض . فلا مناص عن القول بثبوت الحكم على عنوانه وعدم سرايته إلى عنوان آخر ، ولا إلى الخارج .
هذا إذا كان القطع تمام الموضوع .
وأمّا إذا كان جزء الموضوع : فينقلب النسبة وتصير النسبة بين الموضوعين الحاملين لحكمين متماثلين أو متضادّين عموماً وخصوصاً مطلقاً ، وقد قرّر في محلّه خروجه عن مصبّ البحث في مبحث الاجتماع والامتناع ، وأنّ الحقّ فيه الامتناع ، فراجع .
لا يقال : المفروض أنّ العنوانين مختلفان في هذا القسم أيضاً ، فلو كان التغاير المفهومي كافياً في رفع الغائلة فليكن مجدياً مطلقاً .
لأنّا نقول : فكم فرق بين التغايرين ؟ ! فإنّ التغاير في العموم من وجه حقيقي والتقارن مصداقي، وأمّا الآخر فالمطلق عين المقيّد متّحد معه ; اتّحاد اللابشرط مع بشرط شيء ، كما أنّ المقيّد عين المطلق زيد عليه قيد . فلو قال : «أكرم هاشمياً» ، ثمّ قال : «أكرم هاشمياً عالماً» فلو لم يحمل مطلقه على مقيّده لزم كون الشيء الواحد مورداً للطلبين والإرادتين ; إذ الهاشمي عين الهاشمي العالم .
نعم ، قد ذكرنا وجهاً لصحّة جعله مورد النزاع ، ولكن قد زيّفناه في محلّه(9) .
وبذلك يظهر : دفع عامّة المحذورات فيما جوّزناه ، وقد عرفت دفع بعض منها ، وبقي لزوم اللغوية في الحكم المماثل ، والأمر بالمحال في الحكم المضادّ :
فنقول أمّا الأوّل : فلأنّ الطرق إلى إثبات الحكم أو موضوعه كثيرة ، فجعل الحرمة على الخمر والترخيص على معلوم الخمرية أو معلوم الحرمة لا توجب اللغوية ; لإمكان العمل بالحكم الأوّل لأجل قيام طرق اُخر .
وأمّا لزوم الأمر بالمحال : فلأنّ أمر الآمر ونهيه لا يتعلّق إلاّ بالممكن ، وعروض الامتثال في مرتبة الامتثال كباب التزاحم لا يوجب الأمر بالمحال ، كما حقّق في محلّه . وبذلك يظهر حال الظنّ ; جوازاً وامتناعاً .
حكم الظنّ في المقام:
بقي الكلام في التفصيل المستفاد من كلام بعض أعاظم العصر ; فإنّه بعد بيان الأقسام المذكورة للظنّ وإمكان أخذه موضوعاً لحكم آخر مطلقاً إلاّ فيما اُخذ تمام الموضوع على وجه الطريقية ـ كما تقدّم منه في القطع إشكالاً وجواباً ـ قال ما هذا ملخّصه :
وأمّا أخذه موضوعاً لمضادّ حكم متعلّقه فلا يمكن مطلقاً ، من غير فرق بين الظنّ المعتبر وغيره ; للزوم اجتماع الضدّين ; ولو في بعض الموارد ، ولا يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، بل يلزم منه الاجتماع في محلّ واحد .
وأمّا أخذه موضوعـاً لحكم المماثل : فإن لم يكن الظـنّ حجّـة فلا مانع منـه ; فإنّ في صورة المصادفـة يتأكّد الحكمـان ; فإنّ اجتمـاع المثلين إنّمـا يلـزم لو تعلّق الحكمان بموضوع واحـد وعنوان فارد ، وأمّا مع تعلّقهما بالعنوانين فلا يلزم إلاّ التأكّد .
وأمّا الظنّ الحجّة : فلا يمكن أخذه موضوعاً للمماثل ; فإنّ الواقع في طريق إحراز الشيء لا يكون من طواريه ; بحيث يكون من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث ملاك غير ما هو عليه من الملاك ; لأنّ الحكم الثاني لا يصلح لأن يكون محرّكاً وباعثاً لإرادة العبد ; فإنّ الانبعاث إنّما يتحقّق بنفس إحراز الحكم الواقعي المجعول على الخمر ، فلا معنى لجعل حكم آخر إلى ذلك المحرز ، كما لا يعقل ذلك في العلم أيضاً .
وقال ـ قدس سره ـ في فذلكة المقام : إنّ الظنّ الغير المعتبر لا يصحّ أخذه موضوعاً على وجه الطريقية ـ لا للمماثل ولا للمخالف ـ فإنّ أخذه على وجه الطريقية هو معنى اعتباره ; إذ لا معنى له إلاّ لحاظه طريقاً .
وأمّا أخذه موضوعاً لنفس متعلّقه إذا كان حكماً فلا مانع منه بنتيجة التقييد مطلقاً ، بل في الظنّ المعتبر لا يمكن ـ ولو بنتيجة التقييد ـ فإنّ أخذ الظنّ حجّة محرزاً لمتعلّقه معناه : أنّه لا دخل له في المتعلّق ; إذ لو كان له دخل لما اُخذ طريقاً فأخذه محرزاً مع أخذه موضوعاً يوجب التهافت ـ ولو بنتيجة التقييد ـ وذلك واضح(10) ، انتهى كلامه .
وفيه مواقع للنظر ، نذكر منها ما يلي ، فنقول :
أمّا أوّلاً : أنّ اختلاف العنوانين إن كان رافعاً لاجتماع المثلين فهو رافع لاجتماع الضدّين ; فإنّ محطّ الأمر والنهي إذا كانا عنوانين مختلفين وفرضنا اتّفاقهما في موضوع واحد فتعدّد العنوان كما يرفع اجتماع المثلين فكذلك يرفع اجتماع الضدّين ، وأمّا إذا كان أحد العنوانين محفوظاً مع الآخر ـ كما في المقام ; فإنّ الخمر محفوظ بعنوانه مع مظنون الخمرية ـ فكما لا يرفع معه التضادّ فكذلك لا يرفع به اجتماع المثلين .
وثانياً : أنّ ما ذكره من ميزان اجتماع المثلين وميزان التأكّد ممّا لا أساس له أصلاً ; فإنّ التأكّد إنّما هو مورده فيما إذا كان العنوان واحداً ، لا ما إذا كان العنوان متعدّداً ، كما ذكره ـ قدس سره ـ ، وكان تعلّق الأوامر به لأجل التأكيد .
ثمّ التأكيد قد يحصل بأداته وقد يحصل بتكرّر الأمر والنهي ، كالأوامر الكثيرة المتعلّقة بعناوين الصلاة والزكاة والحجّ ، وعناوين الخمر والميسر والربا ، كما تجده في الشريعة المقدّسة .
فهذه كلّها من قبيل التأكيد لا اجتماع المثلين ، ويحكي هذه الأوامر المتظافرة عن اهتمام الآمر والناهي ، وعن إرادة واحدة مؤكّدة لا عن إرادات ; فإنّ تعلّق إرادتين بشيء واحد ممّا لا يمكن; لأنّ تشخّص الإرادة بالمراد .
هذا حال العنوان الواحد .
وأمّا مع اختلاف العنوانين فلا يكون من التأكيد أصلاً ; وإن اتّفق اجتماعهما في موضوع واحد، فإنّ لكلّ واحد من العنوانين حكمه ، ويكون الموضوع مجمعاً لعنوانين ولحكمين ، ويكون لهما إطاعتان وعصيانان ، ولا بأس به . وما اشتهر بينهم : أنّ قوله «أكرم العالم وأكرم الهاشمي» يفيد التأكيد إذا اجتمعا في مصداق واحد ممّا لا أصل له .
وثالثاً : أنّ ما أفاده من أنّ الظنّ المعتبر لا يمكن أخذه موضوعاً للحكم المماثل ; معلّلاً تارة بأنّ المحرز للشيء ليس من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث الملاك ، واُخرى بأنّ الحكم الثاني لا يصلح للانبعاث ; وإن خلط المقرّر بينهما .
فيرد على الأوّل : أنّ عدم كون الظنّ المحرز من العناوين الثانوية التي توجب الملاك هل هو من جهة كون الظنّ مختلفاً مع الواقع المظنون في الرتبة ، أو من جهة الاعتبار الشرعي ؟
فعلى الأوّل يلزم أن يكون الظنّ غير المعتبر أيضاً كذلك ، فعلى الثاني فنحن لا نقبله حتّى يقوم الدليل على أنّ الاعتبار الشرعي ممّا ينافي الملاكات الواقعية ويرفعها .
والحاصل : لا فرق بين الظنّ المعتبر وغيره إلاّ في الجعل الشرعي ، وهو ممّا لا يضادّ الملاكات النفس الأمرية ، مع أنّ الظنّ والقطع كسائر العناوين يمكن أن يكونا موجبين لملاك آخر .
ويرد على التعليل الثاني : أنّه يمكن أن لا ينبعث العبد بأمر واحد وينبعث بأمرين أو أوامر ، وإمكان الانبعاث يكفي في الأمر ، ولولا ذلك لزم لغوية التأكيدات ، مع أنّ المظنون بما أنّه مظنون يمكن أن يكون له ملاك مستقلّ في مقابل الواقع ، كما هو المفروض فيما نحن فيه ، فلا بأس بتعلّق أمر مستقلّ .
وأمّا ما أفاده في فذلكته : من أنّ أخذ الظنّ على وجه الطريقية هو معنى اعتباره ، ففيه : أنّه ممنوع ; فإنّ الظنّ لمّا كان له طريقية ناقصة وكاشفية ضعيفة ذاتاً يمكن أن يؤخذ على هذا الوجه موضوعاً في مقابل الوصفية التي معناها أن يؤخذ مقطوع النظر عن كاشفيته .
وأمّا معنى اعتباره فهو أن يجعله الشارع معتبراً وواجب العمل بالجعل التشريعي ، فمجرّد لحاظ الشارع طريقيته لا يلازم اعتباره شرعاً ; فضلاً عن أن يكون معناه . وإن شئت قلت : إنّ لحاظ الطريقية من مقولة التصوّر وجعل الاعتبار من الإنشاء والحكم ، ولا ربط بينهما .
أضف إلى ذلك : أنّ لحاظ الطريقية لو كان ملازماً للاعتبار لزم أن يلتزم بامتناعه في القطع ; لأنّ جعل الطريقية والاعتبار فيه ممتنع ، فلحاظ القطع الطريقي موضوعاً مطلقاً يصير ممتنعاً .
اللهمّ إلاّ أن يدّعى : أنّ ذاك اللحاظ عين معنى الاعتبار أعمّ من الذاتي أو الجعلي ، وهو كما ترى .
وأمّا ما أفاد : من أنّ أخذ الظنّ بالحكم موضوعاً لنفسه لا مانع منه بنتيجة التقييد فقد يظهر ما فيه عند البحث عن أخذ العلم كذلك من لزوم الدور .
وأمّا ما أفاده أخيراً : من عدم جواز أخذ الظنّ المعتبر موضوعاً لحكم متعلّقه ; معلّلاً بأنّ أخذ الظنّ محرزاً لمتعلّقه معناه أنّه لا دخل له فيه ، وهو ينافي الموضوعية ، ففيه : أنّ ذلك ممنوع جدّاً ; فإنّ الملاك يمكن أن يكون في الواقع المحرز بهذا الظنّ بعنوان المحرزية ، فلابدّ من جعل المحرزية للتوصّل بالغرض ، لكن أخذ الظنّ كذلك محال من رأس ; للزوم الدور .
والذي يسهّل الخطب : أنّ ما ذكره من الأقسام متصوّرات محضة لا واقع لها .
الثالث : في أخذ القطع تمام الموضوع لحكمه:
قد يقال بعدم إمكانه ; للزوم الدور منه ، ويمكن أن يدفع بعدم لزومه فيما إذا كان القطع المأخـوذ في الموضـوع تمام الموضوع ; لأنّ الحكم ـ حينئذ ـ على عنوان المقطوع بما أنّه كذلك ، مـن غير دخالـة التطابق وعدمـه ولا الواقـع المقطوع به . فحينئذ لا يتوقّف تحقّق القطع بالحكم على وجـود الحكم ; لأنّـه قد يكون جهلاً مركّباً .
وليس معنى الإطلاق لحاظ القيدين حتّى يكون الأخذ بلحاظ قيديه ممتنعاً ، بل معناه عدم القيدية وكون الطبيعة تمام الموضوع ، وهو لا يتوقّف على الحكم ، وإنّما يتوقّف الحكم عليه ، فلا دور.
وبعبارة أوضح : أنّ الدور المذكور في المقام ـ أعني توقّف القطع بالحكم على وجود الحكم ، وتوقّف الحكم على الموضوع الذي هو القطع ; سواء كان تمام الموضوع أو جزئه ـ إنّما يلزم لو كان القطع مأخوذاً على نحو الجزئية ، ومعنى ذلك عدم كون القطع موضوعاً برأسه ، بل هو مع نفس الواقع ; أعني الحكم الشرعي .
فالقطع يتوقّف على وجود الحكم ، ولو توقّف الحكم على القطع يلزم الدور . وأمّا إذا كان القطع تمام الموضوع لحكم نفسه فلا يلزم الدور ; لأنّ ما هو الموضوع هو القطع ـ سواء وافق الواقع أم خالفه ـ لأنّ الإصابة وعدمها خارجتان من وجود الموضوع .
وعليه : فلا يتوقّف حصول القطع على الواقع المقطوع به ; وإن توقّف على المقطوع بالذات ـ أعني الصورة الذهنية من الحكم ـ وأمّا المقطوع بالعرض ـ الذي هو المقطوع به في الخارج ـ فلا يتوقّف القطع على وجوده . وأمّا المأخوذ جزء موضوع فلا يمكن دفع الدور بالبيان المتقدّم; لأنّ معنى جزئيته للموضوع أنّ الجزء الآخر هو الواقع . وتوهّم إمكان جعل الجزء هو المعلوم بالذات كما ترى .
ثمّ إنّه أجاب بعض الأعاظم عن الدور بما يلي : إنّ العلم بالحكم لمّا كان من الانقسامات اللاحقة للحكم فلا يمكن فيه الإطلاق ولا التقييد اللحاظي ، كما هو الشأن في الانقسامات اللاحقة للمتعلّق باعتبار تعلّق الحكم به ، كقصد التعبّد والتقرّب بالعبادات ، فإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق ; لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة .
لكن الإهمال الثبوتي لا يعقل ; فإنّ ملاك تشريع الحكم إمّا محفوظ في حالتي الجهل والعلم فلابدّ من نتيجة الإطلاق ، وإمّا في حالة العلم فلابدّ من نتيجة التقييد . فحيث لا يمكن بالجعل الأوّلي فلابدّ من دليل آخر يستفاد منه النتيجتان ;وهو متمّم الجعل . وقد ادّعي : تواتر الأدلّة على اشتراك العالم والجاهل في الأحكام ; وإن لم نعثر إلاّ على بعض أخبار الآحاد ، لكن الظاهر قيام الإجماع والضرورة ، فيستفاد من ذلك نتيجة الإطلاق وأنّ الحكم مشترك بين العالم والجاهل ، لكن تلك الأدلّة قابلة للتخصيص ، كما خصّصت بالجهر والإخفات والقصر والإتمام(11) ، انتهى كلامه .
وفيه مواقع للإشكال :
الأوّل : أنّ الانقسامات اللاحقة على ضربين :
أحدهما : ما لا يمكن تقييد الأدلّة به ، بل ولا يمكن فيه نتيجة التقييد ، مثل أخذ القطع موضوعاً بالنسبة إلى نفس الحكم ; فإنّه غير معقول ـ لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد ـ فإنّ حاصل التقييد ونتيجته أنّ الحكم مختصّ بالعالم بالحكم ، وهذا دور .
وحاصله : توقّف الحكم على العلم به ، وهو متوقّف على وجود الحكم ، وهذا الامتناع لا يرتفع; لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد .
وهذا غير ما ربّما يورد على الأشاعرة القائلين بأنّ أحكام الله تابعة لآراء المجتهدين(12) ; فإنّه يورد عليهم باستلزامه الدور(13) ; إذ يمكن الذبّ عنه بأنّ الشارع أظهر أحكاماً صورية بلا جعل أصلاً لمصلحة في نفس الإظهار حتّى يجتهد المجتهدون ، ويصلوا إلى هذه الأحكام الغير الحقيقية ، فإذا أدّى اجتهادهم إلى حكم ـ سواء وافق الحكم الصوري أم خالف ـ أنشأ الشارع حكماً مطابقاً لرأيه تابعاً له ، ولكنّه مجرّد تصوير ربّما لا يرضى به المصوّبة .
وأمّا عدم الإعادة فيما لو خافت في موضع الجهر أو جهر في موضع المخافات ، أو أتمّ في موضع القصر أو قصّر في موضع التمام فلا يتوقّف الذبّ عنه بالالتزام بما ذكره من الاختصاص ، بل يحتمل أن يكون عدم الإعادة من باب التقبّل والتخفيف ـ كما ربّما يحتمل ذلك في قاعدة لا تعاد لو قلنا بعموميته للسهو وغيره ـ ويمكن أن يكون لأجل عدم قابلية المحلّ للقضاء والإعادة بعد الإتيان بما كان خلاف الوظيفة ، وله نظائر في التكوين .
وأمّا القسم الثاني من الانقسامات اللاحقة : ما يمكن التقييد به بدليل آخر ، كقصد القربة والتعبّد والأمر ; فإنّ في هذا القسم يمكن تقييد المتعلّق بالتقييد اللحاظي ـ كما يمكن بنتيجة التقييد ـ فإنّ الآمر يمكن أن يلاحظ متعلّق أمره وما له من قيود وحدود ، ويلاحظ حالة تعلّق أمره به في المستقبل ، ويلاحظ قصد المأمور للتقرّب والتعبّد بما أنّها من قيود المتعلّق ، ويأمر به مقيّداً بهذه القيود كسائر قيوده . وقد وافاك خلاصة القول في ذلك في مباحث الألفاظ(14) .
نعم نفس تعلّق الأمر ممّا يمكّن المكلّف من إتيان المتعلّق ; فإنّ قبل تعلّقه لا يمكن له الإتيان بالصلاة ـ مثلاً ـ مع تلك القيود ، وبالتعلّق يصير ممكناً .
فـإن قلت : بناءً على ذلك لم يكـن الموضـوع المجـرّد مـن قصد الأمـر مأموراً به ، فكيف يمكن الأمر به بقصد أمره ؟
قلت : هذا إشكال آخر غير الدور ، ويمكن دفعه بأنّ الموضوع متعلّق للأمر الضمني ، وقصده كاف في الصحّة ، وقد أوضحنا حاله في الجزء الأوّل(15) ، فراجع .
الثاني من الإشكالات على كلامه : أنّ توصيف الإطلاق والتقييد باللحاظي مع القول بأنّ تقابلهما تقابل العدم والملكة جمع بين أمرين متنافيين ; لأنّ الإطلاق على هذا متقوّم باللحاظ كالتقييد ، واللحاظان أمران وجوديان لا يجتمعان في مورد واحد ، فيصير التقابل تقابل التضادّ ، لا العدم والملكة .
نعم ، لو قلنا بما أوضحناه في محلّه(16) من عدم تقوّم الإطلاق باللحاظ ، وأنّه لا يحتاج إلى لحاظ السريان ، بل هو متقوّم بعدم لحاظ شيء في موضوع الحكم ، مع كون المتكلّم في مقام البيان ، يرد عليه إشكال آخر ، وهو : أنّ امتناع الإطلاق حينئذ ممنوع ، فيصير ما ادّعاه من أنّه كلّما امتنع التقييد امتنع الإطلاق قولاً بلا برهان .
والحقّ : أنّ بين الإطلاق والتقييد ـ كما ذكره ـ تقابل العدم والملكة أو شبه ذلك التقابل ، لكن لا يرتّب عليه ما رتّبه ـ قدس سره ـ من إنكار مطلق الإطلاق في الأدلّة الشرعية حتّى احتاج إلى دعوى الإجماع والضرورة لاشتراك التكليف بين العالم والجاهل .
وخلاصة الكلام : أنّ عدم التقييد قد يكون لأجل عدم قابلية المتعلّق له وقصوره عن ذلك ، ففي مثله لا يمكن الإطلاق ، ولا يطلق على مثل ذلك التجرّد من القيد أنّه مطلق ، كما لا يطلق على الجدار أنّه أعمى ; فإنّ الأعمى هو اللابصير الذي من شأنه أن يكون بصيراً ، وليس الجدار كذلك ، ونظيره الأعلام الشخصية ، فلا يطلق لزيد أنّه مطلق أفرادي ، كما لا يطلق أنّه مقيّد .
وقد يكون لا لأجل قصوره وعدم قابليته ، بل لأجل أمر خارجي ، كلزوم الدور في التقييد اللحاظي ; فإنّ امتناع التقييد في هذا المورد ونظائره لا يلازم امتناع الإطلاق ; إذ المحذور مختصّ به ولا يجري في الإطلاق ; فإنّ المفروض أنّ وجه الامتناع لزوم الدور عند التقييد ـ أي تخصيص الأحكام بالعالمين بها ـ وأمّا الإطلاق فليس فيه أيّ محذور من الدور وغيره ، فلا بأس ـ حينئذ ـ في الإطلاق ; وإن كان التقييد ممتنعاً لأجل محذور خارجي .
والشاهد على صحّة الإطلاق ووجوده : هو جواز تصريح المولى بأنّ الخمر حرام شربه على العالم والجاهل ، وصلاة الجمعة واجبة عليهما بلا محذور .
بل التحقيق : أنّ الإطلاق في المقام لازم ـ ولو لم تتمّ مقدّماته ـ لأنّ الاختصاص بالعالمين بالحكم مستلزم للمحال ، والاختصاص بالجهّال وخروج العالمين به خلاف الضرورة ، فلا محيص عن الاشتراك والإطلاق . نعم هذا غير الإطلاق الذي يحتاج إلى المقدّمات ويكون بعد تمامها حجّة . ولعلّ ما ذكرناه من الوجه سند دعوى الإجماع والضرورة .
ثمّ إنّ بعض محقّقي العصر ـ قدس سره ـ أراد التفصّي بوجه آخر ، فقال ما هذا تلخيصه : يمكن التفصّي عن الدور على نحو نتيجة التقييد الراجع إلى جعل الحكم لحصّة من الذات في المرتبة السابقة التوأمة مع العلم بحكمه في المرتبة المتأخّرة ، لا مقيّداً به على نحو يكون عنوان التوأمية مع العلم المزبور معرّفاً محضاً لما هو الموضوع ، وكان الموضوع هو الحصّة الخاصّة بلا تعنونه بعنوان التوأمية أيضاً ; فضلاً عن العلم بحكمه ونحوه من العناوين المتأخّرة ، كما هو الشأن في كلّ معروض بالنسبة إلى عارضه المتحفّظ في الرتبة المتأخّرة ، وكما في كلّ علّة لمعلولها ، من دون اقتضاء التلازم والتوأمية اتّحاد الرتبة بينهما أصلاً(17) ، انتهى .
وفيه : أنّ نفس الطبائع لا تتحصّص بالحصص ـ لا في الذهن ولا في الخارج ـ وإنّما تتقوّم الحصّة بأمر خارج عنها لاحق بها لحاظاً في الذهن لا في الخارج ، كالكلّيات المقيّدة ، مثل «الإنسان الأبيض» و«الإنسان الأسود» . وأمّا الخارج فإطلاق الحصّة على الفرد الخارجي لا يخلو عن إشكال .
وعلى ذلك : فالطبيعة لا تتحصّص بحصص إلاّ بإضافة قيود لها عند جعلها موضوعاً لحكم من الأحكام . وحينئذ فالحكم :
إمّا يتعلّق على الطبيعة مع قطع النظر عن العلم بحكمها ، فلا تكون الحصّـة موضوعـاً ; لأنّها مع قطـع النظر عن القيود ليست إلاّ نفس الطبيعة .
وإمّا أن يتعلّق على الحصّة الملازمة للعلم بحكمها ـ ولو في الرتبة المتأخّرة ـ فلا تكون الحصّة حصّة إلاّ بعروض القيد للطبيعة في الذهن ، فلا محيص إلاّ عن لحاظ الموضوع توأماً مع العلم بحكمه ، وهذا الموضوع بهذا الوصف يتوقّف على الحكم ، والحكم على العلم به ، فعاد الدور .
وأمّا المعروض بالنسبة إلى عارضه فليس كما أفاد ; لأنّ العارض لا يعرض الحصّة ، بل يعرض نفس الطبيعة ، ويصير الطبيعة بنفس العروض متخصّصاً ، فلا يكون قبل العروض وفي الرتبة المتقدّمة حصّة .
وأمّا التوأمية بين العلّة والمعلول مع حفظ التقدّم الرتبي بينهما فهو حقّ لو أراد ما ذكرنا .
هذا كلّه في أخذه تمام الموضوع في نفس حكمه ، وهكذا إذا جعل بعض الموضوع لحكم نفسه ، فمحال للدور المتقدّم(18) ، فتدبّر .
قيام الأمارات والاُصول مقام القطع :
وإشباع الكلام في قيام الأمارات والاُصول بنفس أدلّتها مقام القطع يتوقّف على البحث في مقامين :
الأوّل : في إمكان قيامها مقامه ثبوتاً بجميع أقسامه ; سواء كان طريقياً أو موضوعياً وكان تمام الموضوع أو بعض الموضوع ، كان التنزيل بجعل واحد أو بجعلين .
والثاني : فـي وقوعـه إثباتاً وبحسب الدلالـة .
قيام الأمارات والاُصول مقام القطع ثبوتاً
أمّا الأوّل: فالظاهر إمكانه ، ويستفاد من المحقّق الخراساني الامتناع فيما إذا كان التنزيل بجعل واحد ; لوجهين :
الأوّل ما محصّله : أنّ الجعل الواحد لا يمكن أن يتكفّل تنزيل الظنّ منزلة القطع وتنزيل المظنون منزلة المقطوع فيما اُخذ في الموضوع على نحو الكشف ; للزوم الجمع بين اللحاظين المتنافيين ـ أي اللحاظ الآلي والاستقلالي ـ حيث لابدّ في كلّ تنزيل من لحاظ المنزل والمنزل عليه ، مع أنّ النظر في حجّيته وتنزيله منزلة القطع آلي طريقي ، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع استقلالي موضوعي ، والجمع بينهما محال ذاتاً(19) .
وأنت خبير بما فيه ; يظهر من التأمّل فيما ذكرناه جواباً(20) لما استشكله بعض أعاظم العصر في تصوير القطع الطريقي على نحو تمام الموضوع ، وحاصله : أنّ نظر القاطع والظانّ إلى المقطوع به وإن كان استقلالياً وإلى قطعه وظنّه آلياً إلاّ أنّ الجاعل والمنزّل ليس نفس القاطع حتّى يجتمع ما ادّعاه من الامتناع ، بل المنزّل غير القاطع ; فإنّ الشارع ينظر إلى قطع القاطع وظنّه ، ويلاحظ كلّ واحد استقلالاً واسمياً ، وينزّل كلّ واحد منزلة الاُخرى .
فكلّ واحد من القطع والظنّ وإن كان ملحوظاً في نظر القاطع والظانّ على نحو آلية إلاّ أنّه في نظر الشارع والحاكم ملحوظ استقلالاً . فالشارع يلاحظ ما هو ملحوظ آلي للغير عند التنزيل على نحو الاسمية والاستقلال ، ويكون نظره إلى الواقع المقطوع به والمظنون بهذا القطع والظنّ ، وإلى نفس القطع والظنّ في عرض واحد بنحو الاستقلال .
فما ذكره ـ قدس سره ـ من الامتناع من باب اشتباه اللحاظين ; فإنّ الحاكم المنزّل للظنّ منزلة القطع لم يكن نظره إلى القطع والظنّ آلياً ، بل نظره استقلالي ; قضاءً لحقّ التنزيل ، كما أنّ نظره إلى المقطوع به والمظنون استقلالي .
وأمّا القول بقصور الأدلّة فهو خارج عن المقام ، وسوف نستوفي الكلام فيه في المقام الثاني .
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر أجاب عنه : بأنّ المجعول هـو الكاشفية والوسطيـة في الإثبات ، وبنفس هـذا الجعل يتمّ الأمـرين(21) ، وسوف يوافيك في محلّه عدم صحّة تلك المقالة(22) .
ثمّ إنّ المحقّق الخراساني في «تعليقتـه» أجاب عـن هـذا الإشكال : بأنّ المجعول في الأمـارات هـو المؤدّى ، وأنّ مفاد أدلّـة الأمـارات جعل المؤدّى منزلـة الواقع . ولكن بالملازمـة العرفيـة بين تنزيل المؤدّى منزلـة الواقـع وبين تنزيل الظـنّ منزلـة العلم يتمّ المطلب(23) .
وعدل عنه في «الكفاية»(24) بما أوضحه بعض أعاظم العصر : أنّ ذلك يستلزم الدور ; فإنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع فيما كان للعلم دخل لا يمكن إلاّ بعد تحقّق العلم في عرض ذلك التنزيل ، فإنّه ليس للواقع أثر يصحّ بلحاظه التنزيل ، بل الأثر مترتّب على الواقع والعلم به ، والمفروض أنّ العلم بالمؤدّى يتحقّق بعد تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ، فيكون التنزيل موقوفاً على العلم ، والعلم موقوفاً على التنزيل ، وهذا دور محال(25).
وهذا هو الوجه الثاني من الوجهين .
وفيه : أنّ اشتراط ترتّب الأثر على التنزيل إنّما هو لأجل صون فعل الحكيم عن اللغوية ، واللغوية كما تندفع بترتّب الأثر الفعلي كذلك تندفع بالأثر التعليقي ; أي لو انضمّ إليه جزئه الآخر يكون ذا أثر فعلي .
والحاصل : ما هـو اللازم في خـروج الجعل عـن اللغويـة هـو كـون التنزيل ذا أثر ; بحيث لا يكون التنزيل بلا أثر أصلاً ، والمفروض أنّ المؤدّى لمّا نزّل منزلـة الواقع فقد اُحـرز جـزء مـن الموضوع ، وأنّ هـذا التنزيل يستلزم عرفاً في الرتبة المتأخّـرة تنزيل الظنّ منزلـة العلم بالملازمـة العرفية ، وبه يتمّ مـا هـو تمام الموضوع للأثر .
بل يمكن أن يقال : إنّ هاهنا أثـراً فعلياً لكـن بنفس الجعل ، ولا يلزم أن يكون الأثر سابقاً على الجعل . ففيما نحن فيه لمّا كان نفس الجعل متمّماً للموضوع يكون الجعل بلحاظ الأثر الفعلي المتحقّق في ظرفه ، فلا يكون الجعل متوقّفاً على الأثر السابق . فاللغوية مندفعة : إمّا لأجل الأثر التعليقي ، أو بلحاظ الأثر المتحقّق بنفس الجعل .
هذا ، ويمكن أن يقرّر الدور بوجه آخر ، وهو أقرب ممّا قرّره بعض الأعاظم ، وحاصله : أنّ تنزيل المؤدّى منزل الواقع يتوقّف على تنزيل الظنّ منزلة العلم في عرضه ; لأنّ الأثر مترتّب على الجزئين ، وتنزيل الظنّ متوقّف على تنزيل المؤدّى حسب الفرض ; أي دعوى الملازمة العرفية .
وإن شئت قلت : إنّ تنزيل جزء من المركّب يتوقّف على كون الجزء الآخر غير المنزّل ذا أثر وجداناً أو تنزيلاً ، والأوّل مفقود قطعاً .
وعليه : تنزيل المؤدّى يتوقّف على ثبوت الأثر لجزئه الآخر ـ أعني الظنّ ـ والمفروض أنّ الظنّ لا يصير ذا أثر إلاّ بالملازمة العرفية ، وهي لا تتحقّق إلاّ بعد تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فيلزم الدور .
ويظهر جواب هذا التقرير من الدور مما ذكرناه جواباً عن التقرير الأوّل .
قيام الأمارات والاُصول مقام القطع إثباتاً:
قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه:
أمّا المقام الثاني : أعني مقام الإثبات والدلالة ، فلابدّ في توضيح الحال من التنبيه على ما سيجيء منّا تفصيله عند البحث عن حجّية الخبر الواحد(26) ، وملخّصه : أنّ الأمارات المتداولة في أيدينا ممّا استقرّ عليها العمل عند العقلاء ، بلا غمض أحد منهم في واحد منها ; ضرورة توقّف حياة المجتمع على العمل بها . والإنسان المدني يرى أنّ البناء على تحصيل العلم في الحوادث والوقائع اليومية يوجب اختلال نظام المدنية ، وركود رحاها ، فلم ير بدّاً منذ عرف يمينه عن شماله ، ووقف على مصالح الاُمور ومفاسدها عن العمل بقول الثقة وبظواهر الكلام الملقى للتفهيم وغيرها .
جاء نبي الإسلام ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وأظهر أحكاماً وأوضح اُموراً ، ولكن مع ذلك كلّه عمل بالأمارات من باب أنّه أحد العقلاء الذين يديرون حياة المجتمع ، من دون أن يأسّس أصلاً ويقيم عماداً أو يحدث أمارة أو يزيد شرطاً أو يتمّم كشف أمارة أو يجعل طريقية لواحد من الأمارات ، إلى غير ذلك من العبارات التي تراها متظافرة في كلمات القوم .
وبالجملة : لم يكن عمل النبي والخلفاء من بعده على الأمارات إلاّ جرياً على المسلك المستقرّ عند العقلاء ، بلا تأسيس أمارة أو تتميم كشف لها أو جعل حجّية وطريقية لواحدة منها ، بل في نفس روايات خبر الثقة شواهد واضحة على تسلّم العمل بخبر الثقة ، ولم يكن الغرض من السؤال إلاّ العلم بالصغرى ، وأنّ فلاناً هل هو ثقة أو لا ؟ فراجع مظانّها تجد شواهد على ما ادّعيناه(27) .
ومن ذلك يعلم : أنّ قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه ممّا لا معنى له :
أمّا القطع الطريقي : فإنّ عمل العقلاء بالطرق المتداولة حال عدم العلم ليس من باب قيامها مقام العلم ، بل من باب أنّها إحدى الطرق الموصلة غالباً إلى الواقع ، من دون التفات إلى التنزيل والقيام مقامه .
نعم ، القطع طريق عقلي مقدّم على الطرق العقلائية ، والعقلاء إنّما يعملون بها عند فقد القطع ، وذلك لا يستلزم كون عملهم من باب قيامها مقامه حتّى يكون الطريق منحصراً بالقطع عندهم ، ويكون العمل بغيره بعناية التنزيل والقيام مقامه .
وإن شئت قلت : إنّ عمل العقلاء بالطرق ليس من باب أنّها منزّلة مقام العلم ، بل لو فرضنا عدم وجود العلم في العالم كانوا عاملين بها ، من غير التفات إلى جعل وتنزيل أصلاً .
فما ترى في كلمات المشائخ من القول بأنّ الشارع جعل المؤدّى منزلة الواقع تارة أو تمّم كشفه أو جعل الظنّ علماً في مقام الشارعية أو أعطاه مقام الطريقية وغيرها ، لا تخلو عن مسامحة ; فإنّها أشبه شيء بالخطابة .
فتلخّص : أنّ العمل بالأمارات عند فقد القطع الطريقي ليس إلاّ لكونها إحدى الأفراد التي يتوصّل بها إلى إحراز الواقع ، من دون أن يكون نائباً أو فرعاً لشيء أو قائماً مقامه .
وأمّا القطع الموضوعي : فملخّص الكلام أنّ القطع تارة يؤخذ بما أنّه أحد الكواشف ، واُخرى بما أنّه كاشف تامّ ، وثالثة بما أنّه من الأوصاف النفسانية .
فلو كان مأخوذاً في الموضوع تماماً أو جزءً على النحو الأوّل فلا شكّ في أنّه يعمل بها عند فقد القطع ، لا لأجل قيامها مقامه بل لأجل أنّ الأمارات ـ حينئذ ـ أحد مصاديق الموضوع مصداقاً حقيقياً ، وإذا اُخذ بما أنّه كاشف تامّ أو صفة مخصوصة فلا شكّ في عدم جواز ترتيب الأثر لفقدان ما هو الموضوع عند الشارع ; لأنّ الظنّ ليس كشفاً تامّاً ، وأنّ عمل العقلاء على الأمارات ليس إلاّ لأجل كونها كـواشف عـن الواقع ، من دون أن يلاحظ صفـة اُخـرى ، بلا فرق بين تمام الموضوع وجزئه .
وبذلك يظهر النظر فيما أفاده بعض أعاظم العصر ; فإنّه ـ قدس سره ـ مع أنّه قد اعترف بأنّه ليس للشارع في تلك الطرق العقلائية تأسيس أصلاً(28) قد أتى بما لا يناسبه .
وحاصله : أنّ في القطع يجتمع جهات ثلاث : جهة كونه قائمة بنفس العالم ; من حيث إنشاء النفس في صقعها الداخلي صورة على طبق ذي الصورة ، وجهة كشفه عن المعلوم ، وإراءته للواقع ، وجهة البناء والجري العملي على وفق العلم .
والمجعول في باب الطرق هي الجهة الثانية ; فإنّ المجعول فيها نفس الطريقية والمحرزية والكاشفية ، وفي الاُصول هي الجهة الثالثة .
ثمّ قال : إنّ حكومة الطرق على الأحكام الواقعية ليست الحكومة الواقعية ، مثل قوله : «الطواف بالبيت صلاة» أو «لا شكّ لكثير الشكّ» بل الحكومة ظاهرية . والفرق : أنّ الواقعية توجب التوسعة والتضييق في الموضوع الواقعي ; بحيث يتحقّق هناك موضوع آخر واقعي في عرض الموضوع الأوّلي ، وهذا بخلاف الظاهرية ; إذ ليس فيها توسعة وتضييق إلاّ بناءً على جعل المؤدّى الذي يرجع إلى التصويب .
وأمّا بناءً على المختار من جعل الطريقية فليس هناك توسعة وتضييق واقعي . وحكومتها إنّما يكون باعتبار وقوعها في طريق إحراز الواقع في رتبة الجهل به ، فيكون المجعول في طول الواقع لا في عرضه .
ثمّ أفاد : إنّ ممّا ذكرنا يظهر قيام الأمارات مقام القطع الطريقي مطلقاً ; ولو كان مأخوذاً في الموضوع وعدم قيامها مقام القطع الوصفي(29) ، انتهى كلامه .
أقول : وفيه مواقع للأنظار :
منها : أنّك قد عرفت وسيمرّ تفصيله عند البحث عن حجّية الأخبار : أنّه ليس عن جعل الحجّية والطريقية وتتميم الكشف في الأخبار والآيات خبر ولا أثر ، وأنّ العمل بالأخبار كان أمراً مسلّماً منذ قرون قبل الإسلام ، منذ قام للإنسانية عمود التمدّن ، وأنّ الشارع الصادع بالحقّ ترك أتباعه على ما كانوا عليه ، قبل أن ينسلكوا في سلك الإسلام ، بلا جعل ولا تأسيس ولا إمضاء لفظي ، وأنّ كلّما ورد من الروايات من التصريحات إنّما هو لتشخيص الصغرى وما هو موضوع لهذه الكبرى الكلّية. والعجب : أنّه ـ قدس سره ـ قد اعترف كراراً على أنّه ليس للشارع في تلك الطرق العقلائية تأسيس أصلاً ، ولكنّه قد أسّس في تقريراته هذا البنيان الرفيع الذي لا يخرج عن حيطة التصوّر إلى مقام آخر إلاّ بأدلّة محكمة ، وليست منها في الأخبار عين ولا أثر .
ومنها : أنّ تقسيم الحكومة إلى ظاهرية وواقعية تقسيم لها باعتبار متعلّقها ، وهو ليس من التقسيمات المعتبرة ، وإلاّ لكثرت الأقسام حسب كثرة التعلّق ، فإنّ المتّصف بالظاهرية والواقعية إنّما هي الأحكام دون الحكومة ; فإنّ الحكومة قد تكون متعلّقها الأدلّة الواقعية ، مثل قوله ـ عليه السلام ـ «الطواف بالبيت صلاة» ، وقد تكون متعلّقها غير الأحكام الواقعية ، كما في الأمثلة التي ذكره ـ قدس سره ـ .
قيام الاُصول مقام القطع بأقسامه:
أمّا غير المحرزة منها ـ أعني ما يظهر من أدلّتها أنّها وظائف مقرّرة للجاهل عند تحيّره وجهله بالواقع ، كأصالتي الطهارة والحلّية وأشباههما ـ فلا معنى لقيامها مقام القطع مطلقاً ; لعدم وجه التنزيل بينهما أصلاً .
وأمّا المحرزة والاُصول التنزيلية ـ أعني الاستصحاب وقاعدة التجاوز واليد وغيرهما ـ فلا بأس لنا أن نتعرّض حالها حسب اقتضاء المقام :
مفاد الاستصحاب وقاعدة التجاوز:
أمّا الاستصحاب : فيتوقّف كونه أمارة شرعية على إثبات اُمور ثلاثة :
الأوّل : أن يكون له جهة كشف وطريقية ، فإنّ ما لا يكون له جهة كشف أصلاً لا يصلح للأمارية والكاشفية .
الثاني : أن لا يكون بنفسه أمارة عقلية أو عقلائية ، فإنّ الواجد للأمارية لا معنى لجعله أمارة ; فإنّه من قبيل تحصيل الحاصل .
الثالث : أن يكون العناية في جعله إلى الكاشفية والطريقية(30) .
ولا شكّ أنّ الاستصحاب فيه جهة كشف عن الواقع ، فإنّ اليقين بالحالة السابقة له جهة كشف عن البقاء . وإلى ذلك يرجع ما يقال : ما ثبت يدوم ، وهو في الآن اللاحق ليس كالشكّ المحض غير القابل للأمارية.
كما أنّ الجهة الثانية أيضاً موجودة ، فإنّ بناء العقلاء ليس على كون الاستصحاب كاشفاً عن متعلّقه ; وإن ادّعي أنّه لأجل كون شيء له حالة مقطوعة في السابق(31) إلاّ أنّه مجرّد ادّعاء . بل من القريب جدّاً أن يكون ذلك بواسطة احتفافه باُمور اُخر ممّا توجب الاطمئنان والوثوق ، لا لمجرّد القطع بالحالة السابقة .
وبالجملة : لم يعلم أنّ عمل العقلاء بالاستصحاب في معاملاتهم وسياساتهم لأجـل كونـه ذات كشف عـن الواقـع ; كشفاً ضعيفاً بلا ملاحظـة قرائن محفوفـة توجب الوثوق حتّى يكون أمارة عقلائيـة كخبر الثقـة ، ويكون ذاك مانعاً عـن تعلّق الجعل الشرعي .
وأمّا الجهة الثالثة : فلو ثبت تلك الجهة لانسلك الاستصحاب في عداد الأمارات الشرعية مقابل الأمارات العقلائية ، ويمكن استظهاره من الكبريات الموجودة في الاستصحاب . فترى أنّ العناية فيها بإبقاء اليقين و أنّه في عالم التشريع والتعبّد موجود ، و أنّه لا ينبغي أن ينقض بالشكّ.
والحاصل : أنّ الروايات تعطي بظاهرها أنّ الغرض إطالة عمر اليقين السابق ، وإعطاء صفـة اليقين على كلّ مـن كان على يقين ، كما ينادي به قوله ـ عليه السلام ـ في مضمرة زرارة : «وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ أبداً»(32) لا إعطاء صفة اليقين على الشاكّ بعنوان أنّه شاكّ ، ولا جعل الشكّ يقيناً حتّى يقال : لا معنى لإعطاء صفة الكاشفية والطريقية على الشكّ ، ولا إعطاء اليقين على الشاكّ ; لأنّ الشكّ ليس له جهة الكشف .
وبالجملة : الاستصحاب إطالة عمر اليقين تعبّداً في عالم التشريع ، وقد عرفت أمارية اليقين السابق بالنسبة إلى اللاحق .
ثمّ إنّا قد أطلنا الكلام سابقاً في النقض والإبرام بذكر إشكالات وتفصّيات في المقام(33) ، لكن التحقيق أنّه ليس أمارة شرعية ، بل هو أصل تعبّدي كما عليه المشائخ(34) ; لأنّ الجهة الاُولى من الجهات اللازمة في أمارية الشيء مفقودة في الاستصحاب ; لأنّ كون اليقين السابق كاشفاً عن الواقع ـ كشفاً ناقصاً ـ لا يرجع إلى شيء ; لأنّ اليقين لا يعقل أن يكون كاشفاً عن شيء في زمان زواله ، والمفروض كون المكلّف حين الاستصحاب شاكّاً ليس إلاّ .
نعم ، يمكن أن يكون وجود المستصحب فيما له اقتضاء بقاء كاشفاً ناقصاً عـن بقائـه ; بمعنى حصول الظنّ منه بالنسبة إلى بقائه ، لكنّه أجنبي عن أمارية اليقين السابق .
والجهة الثالثة أيضاً منتفية : فلأنّ العناية في الروايات ليست إلى جهة الكشف والطريقية ; أي إلى أنّ الكون السابق كاشف عن البقاء حتّى يصحّ جعله أمارة ; لما عرفت أنّ الكون السابق يحصل منه مرتبة من الظنّ ، بل العناية إلى أنّ اليقين لكونه أمراً مبرماً لا ينبغي أن ينقض بالشكّ الذي ليس له إبرام ، وقد عرفت أنّ اليقين السابق ليس له أدنى أمارية بالنسبة إلى حالة الشكّ .
فما تعرّض له الأخبار وكان مورد العناية فيها ليس له جهة كشف مطلقاً ، وما له جهة كشف موجب للظنّ يكون أجنبياً عن مفادها ، فلا محيص عن الذهاب إلى ما عليه الأساتذة من أنّه أصل تعبّدي .
وأمّا الاستصحاب العقلائي الذي ينظر إليه كلام الأقدمين(35) فهو غير مفاد الروايات ، بل هو عبارة عن الكون السابق الكاشف عن البقاء في زمن اللاحق ، وقد عرفت أنّ بناء العقلاء ليس على ترتيب الآثار بمجرّد الكون السابق ما لم يحصل الوثوق .
بل الظاهر : أنّ بناء العقلاء على العمل ليس لأجل الاستصحاب ـ أي جرّ الحالة السابقة ـ بل لأجل عدم الاعتناء بالاحتمال الضعيف المقابل للوثوق ، كما في سائر الطرق العقلائية .
وأمّا قاعدة التجاوز : فالكبرى المجعولة فيها بعد إرجاع الأخبار بعضها إلى بعض وجوب المضيّ العملي وعدم الاعتناء بالشكّ والبناء على الإتيان.
وما في بعض الأخبار من «أنّ الشكّ ليس بشيء» وإن كان يوهم أنّها بصدد إسقاط الشكّ اللازم منه إعطاء الكاشفية لكنّه إشعار ضعيف لا ينبغي الاعتداد به ، والظاهر من مجموع الأخبار ليس إلاّ ما تقدّم .
كما يكشف عنه رواية حمّاد بن عثمان قال : قلت لأبي عبدالله ـ عليه السلام ـ أشكّ وأنا ساجد ، فلا أدري ركعت أم لا . فقال : «قد ركعت» .
والحاصل : أنّ العناية في الجعل في القاعدة هي عدم الاعتناء عملاً والمضي العملي والبناء على الإتيان ، وهو المراد بالأصل .
هذا مفاد الاستصحاب وقاعدة التجاوز .
قيام الاستصحاب وقاعدة التجاوز مقام القطع بأقسامه:
وأمّا قيام القاعدتين مقام القطع وعدمه فنقول : قد وافاك أنّ القطع قد يؤخذ على نحو الطريقية التامّة ، وقد يؤخذ على نحو الوصفية ، وقد يؤخذ على الطريقية المشتركة . وعلى التقادير قد يكون المأخوذ تمام الموضوع ، وقد يكون بعضه .
لا كلام في عدم قيام الطرق العقلائية مقام القطع المأخوذ على نحو الكاشفية التامّة ولا على نحو الوصفية ، وأمّا المأخوذ على نحو الكاشف المطلق فالأمارات تقوم مقامه ، لا من جهة النيابة ، بل لأنّها مصداق واقعي للموضوع في عرض القطع ، كما تقدّم بيانه(36) .
وأمّا الاستصحاب : فعلى القول بأماريته فلا وجه لقيامه مقام القطع الوصفي ; إذ لا جامع بين الوسطية في الإثبات والقطع المأخوذ على وجه الوصفية ، وأدلّة حجّية الاستصحاب قاصرة عن هذا التنزيل ، بل يمكن دعوى استحالة قيامه مقام القطع الوصفي ; لاستلزامه الجمع بين اللحاظين المتباينين على ما مرّ بيانه ، على إشكال منّا(37) .
وأمّا القطع الطريقي المأخوذ بنحو كمال الطريقية أو المشتركة فيقوم الاستصحاب بنفس أدلّته مقام القطع فيما إذا كان القطع تمام الموضوع فيما إذا كان للمقطوع أثر آخر يكون التعبّد بلحاظه; فإنّ مفاد أدلّة الاستصحاب ـ على الفرض ـ إعطاء صفة اليقين وإطالة عمره ، فالمستصحب ـ بالكسر ـ في حالة الاستصحاب ذو يقين تشريعاً .
وهكذا الكلام إذا كان مأخوذاً بنحو الجزئية ; فإنّ نفس الأدلّة يكفي لإثبات الجزئين ، من غير احتياج إلى دليل آخر ; فإنّ إطالة عمر اليقين هو الكشف عن الواقع وإحرازه ، فالواقع محرز بنفس الجعل .
وإن شئت قلت : إنّ المجعول بالذات هو إطالة عمر اليقين ، ولازمه العرفي إحراز الواقع ، لكن إطلاق القيام مقام القطع ـ حينئذ ـ لا يخلو من تسامح ، بل يكون الاستصحاب مصداقاً حقيقياً للموضوع .
وأمّا على القول بكونه أصلاً : فقيامه مقام القطع الطريقي مطلقاً غير بعيد ; لأنّ الكبرى المجعولة فيه إمّا يكون مفادها التعبّد ببقاء اليقين عملاً وأثراً ، وإمّا التعبّد بلزوم ترتيب آثاره .
فعلى الأوّل تكون حاكمة على ما اُخذ فيه القطع الطريقي موضوعاً ، لا لما ذكره بعض أعاظم العصر(38) ، بل لأنّ مفاده لو كان هو التعبّد ببقاء اليقين يصير حاكماً عليه ، كحكومة قوله ـ عليه السلام ـ : «كلّ شيء طاهر»(39) على قوله : «لا صلاة إلاّ بطهور»(40) .
وعلى الثاني يقوم مقامه بنتيجة التحكيم ، كما لا يخفى .
وأمّا قيامها مقام القطع الوصفي : فالظاهر قصور أدلّتها عن إثبات قيامه مقامه ; لأنّ الظاهر منها اليقين الطريقي ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى الوصفي ; وإن كان لا يمتنع الجمع بينهما ، كما تقدّم .
وأمّا قاعدة التجاوز : فلا شكّ أنّ دليل تلك القاعدة قاصر عن إقامتها مقام القطع الموضوعي بأقسامه ; لأنّ مفاده ـ كما عرفت ـ ليس إلاّ المضيّ تعبّداً ، والبناء على الوجود كذلك ، وهذا أجنبي عن القيام مقامه . نعم فيما إذا كان القطع طريقاً محضاً ويكون نفس الواقع بما هو هو موضوع الحكم لا يبعد إحرازه بالقاعدة ، لا بقيامها مقام القطع الطريقي ، بل بنتيجة القيام .
وقد يقال : إنّ للقطع جهات ، والجهة الثالثة منها جهة البناء والجري العملي على وفق العلم ; حيث إنّ العلم بوجود الأسد يقتضي الفرار عنه ، والمجعول في الاُصول المحرزة هي هذه الجهة ، فهي قائمة مقام القطع الطريقي بأقسامه(41) .
وفيه : أنّ مجرّد البناء على الوجود لا يقتضي القيام مقام القطع ، وليس في الأدلّة ما يستشمّ منها أنّ الجعل بعناية التنزيل مقام القطع في هذا الأثر . واشتراك القاعدة والقطع في الأثر ـ لو فرض تسليمه ـ لا يوجب التنزيل والقيام مقامه.
وبالجملة : إن كان المراد من قيام القاعدة مقام القطع كونها محرزة للواقع كالقطع ـ غاية الأمر أنّها محرزة تعبّداً وهو محرز وجداناً ـ فهو صحيح ، لكنّه لا يوجب قيامها مقام القطع الموضوعي بأقسامه ، بل إطلاق القيام مقامه في الطريقي المحض أيضاً خلاف الواقع ، وإن كان المراد هو القيام بمعناه المنظور ففيها منع ، منشؤه قصور الأدلّة ، فراجعها.
______________
1 ـ راجع الحكمة المتعالية 1: 264 ـ 309، شرح المنظومة، قسم الحكمة: 28.
2 ـ راجع شرح الإشارات 2 : 308 ـ 322 ، كشف المراد : 226 ـ 229 ، شرح المواقف 1 : 77 .
3 ـ راجع شرح المواقف 2 : 169 ـ 184 ، الحكمة المتعالية 1 : 263 ـ 326 ، شرح المنظومة ، قسم الحكمة : 27 ـ 38 .
4 ـ المطالب العالية 3 : 103 ، المباحث المشرقية 1 : 331 .
5 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 16 .
6 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 11 .
7 ـ تقدّم في الصفحة 51 .
8 ـ تقدّم في الصفحة 39 .
9 ـ تقدّم في الصفحة 37 .
10 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 31 ـ 35 .
11 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 11 ـ 13 .
12 ـ اُنظر المحصول في علم اُصول الفقه 4 : 1380 .
13 ـ نهاية الدراية 6 : 376 .
14 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 208 .
15 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 217 .
16 ـ تقدّم في الصفحة 260 و 262 و 271 .
17 ـ نهاية الأفكار 3 : 15 .
18 ـ تقدّم في الصفحة 321 .
19 ـ كفاية الاُصول : 304 ، درر الفوائد، المحقّق الخراساني : 29 ـ 30 .
20 ـ تقدّم في الصفحة 312 .
21 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 21 .
22 ـ يأتي في الصفحة 383 .
23 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 31 .
24 ـ كفاية الاُصول : 306 .
25 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 28 .
26 ـ يأتي في الصفحة 472 .
27 ـ راجع وسائل الشيعة 27 : 136 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 11 .
28 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 30 و 91 و 194 ـ 195 .
29 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 16 ـ 21 .
30 ـ لا يخفى : أنّ ما حرّرناه في المقام ممّا استفدناه عن سيّدنا الاُستاذ في الدورة السابقة في مبحث الاستصحاب ، وعند البحث عن الإجزاء في الاجتهاد والتقليد . [المؤ لّف]
31 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4 : 331 ـ 332 .
32 ـ تهذيب الأحكام 1 : 8 / 11 ، وسائل الشيعة 1 : 245 ، كتاب الطهارة ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 1 .
33 ـ راجع أنوار الهداية 1 : 115 .
34 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26 : 13 ، كفاية الاُصول : 435 ، أجود التقريرات 2 : 343 .
35 ـ راجع الذريعة إلى اُصول الشريعة 2 : 829 ـ 830 ، غنية النزوع 2 : 420 ، المعتبر 1 : 32 .
36 ـ تقدّم في الصفحة 334 .
37 ـ تقدّم في الصفحة 328 ـ 329 .
38 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 24 ـ 25 .
39 ـ المقنع : 15 ، مستدرك الوسائل 2 : 583 ، كتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 30 ، الحديث 4 .
40 ـ تهذيب الأحكام 1 : 49 / 144 ، وسائل الشيعة 1 : 365 ، كتاب الطهارة ، أبواب الوضوء ، الباب 1 ، الحديث 1 .
41 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3 : 16 ـ 17.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ندوات وأنشطة قرآنية مختلفة يقيمها المجمَع العلمي في محافظتي النجف وكربلاء
|
|
|