أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-8-2016
2074
التاريخ: 10-3-2021
2785
التاريخ: 22-8-2020
2887
التاريخ: 7-8-2016
2611
|
تنويه :
إن الحياة الدنيوية مليئة بالمشاكل والمصائب الّتي تستوعب حياة الإنسان في واقعه الفردي والاجتماعي ، ولو انه تصدى لهذه المشكلات وواجه هذه المخاطر والتحديات للواقع العملي بصبرٍ ومقاومة ومثابرة فإنه سوف يتجاوزها وينتصر عليها قطعاً ، وإلّا فإنه لن يصل إلى مقصوده أبداً ، وسيجد نفسه يعيش الخنوع والخضوع للتحديات الصعبة الّتي يفرضها عليه الواقع.
والمراد من الصبر هو الاستقامة أمام المشاكل والحوادث المختلفة ، والصفة المقابلة له هو «الجزع» ويعني افتقاد عنصر المقاومة والاستسلام أمام تحديات الواقع والمشاكل الاجتماعية والنفسية في حركة الحياة على المستوى المادي والمعنوي ، فلو أنّ الإنسان لم يقف أمام أهوائه الطاغية ونوازعه النفسية ولم يقاوم الجوانب الدنيوية ولم يسلك في طريق «معرفة الله» واطاعته ، فإنه لن يصل إلى أي مرتبة من مراتب الكمال المعنوي والإنساني ، ولذلك قسم علماء الأخلاق الصبر إلى ثلاثة أقسام :
1 ـ الصبر على الطاعة ، أي على المشكلات الّتي تواجه الإنسان في خط التقوى والإيمان وطاعة الله تعالى.
2 ـ الصبر على المعصية ، ويعني الصمود أمام النوازع النفسية والأهواء الشيطانية ومقاومتها والتصدّي لها.
3 ـ الصبر على المصيبة ، ويعني الصمود أمام المصائب والحوادث المرة الّتي تصيب الإنسان في حركة الحياة وعدم الانفعال عند حدوثها والخضوع لتحدياتها وترك الجزع والفزع في عملية مواجهتها.
ويعتبر «الصبر» من أهم أركان الإيمان حيث يشبه الإمام علي مكانة الصبر بالنسبة إلى الإيمان كمكانة الرأس بالنسبة إلى الجسد ، وقد لا نجد في القرآن الكريم مورداً اهتم فيه القرآن من موقع التأكيد والمدح مثل ما نجد ذلك بالنسبة إلى الصبر ، فقد وردت سبعون آية تقريباً في هذا الموضوع ، عشرةٌ منها مختصة بتوصيات القرآن للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) نفسه.
ونقرأ في آيات القرآن أنّ الله تعالى وعد الصابرين أجراً عظيماً وبدون حساب (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)([1]).
وأنّ الصبر هو مفتاح الجنّة كما تقول الآية (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)([2]).
وجاء في الحديث النبوي المعروف اشارات إلى هذا المعنى وأنّ الصبر نصف الإيمان ، كما سيأتي تفصيله لاحقاً.
وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم بدراسة هذا الموضوع الأخلاقي المهم من جوانبه وابعاده المختلفة.
آيات الصبر :
1 ـ (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)([3]).
2 ـ (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)([4]).
3 ـ (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ)([5]).
4 ـ (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)([6]).
5 ـ (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)([7]).
6 ـ (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ...)([8]).
7 ـ (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً)([9]).
8 ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)([10]).
9 ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)([11]).
10 ـ (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)([12]).
11 ـ (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)([13]).
12 ـ (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً)([14]).
13 ـ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)([15]).
14 ـ (.. وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)([16]).
تفسير واستنتاج :
اسوة الصبر والمقاومة
«الآية الاولى» تستعرض حياة أحد الأنبياء العظام الّذي صار مثلاً للصبر والاستقامة في مواجهته للبلايا والمصائب في الحياة ، في حياته الفردية والاجتماعية ، ولهذا فإننا نقرأ في حالاته وسيرته المذكورة في سورة «ص» إن القرآن الكريم يضربه مثلاً للمسلمين في أوائل البعثة الّذين كانوا يعيشون التحديات الصعبة والضغوط المستمرة من قِبل المشركين في مكّة ويتعلموا منه درس الصبر والاستقامة والصمود في مواجهة المشاكل والمصاعب المفروضة عليهم.
وصحيح أنّ اسم النبي أيوب (عليه السلام) أو سيرته قد وردت في عدّة سور في القرآن الكريم ، ولكنَّ ما ورد في سورة «ص» يعدو شرحاً وافياً لسيرته الكريمة حيث تقول الآية 44 من هذه السورة : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)([17]).
وهكذا واجه النبي أيوب (عليه السلام) مصائب عظيمة لغرض اختباره وامتحانه لمعرفة درجة شكره وطاعته لله تعالى وليصعد بهذا الطريق إلى مقامات سامية من القرب الإلهي ، فقد كانت له ثروة كبيرة وبساتين وأغنام كثيرة وأبناء صالحون ، ولكن كلّ ذلك فقده بين عشية وضحاها حتّى أبناءه أيضاً ونفس أيوب ابتلي بمرض شديد ومزمن إلى درجة انه كان يتلوى في فراشه من شدّة الالم الّذي أوقعه في الفراش أسيراً ، ولكن أي واحدٍ من هذه الامور لم يستطع أن يقلل من شكره لله تعالى ، ولم يتمكن أن يخدش في صبره واستقامته في خط الإيمان والطاعة.
هذا وقد سمع أيوب الكثير من التعريض به وبشخصيته ، ولعلّ هذه المصيبة كانت عليه من أعظم المصائب ، وأحياناً كان عُبّاد بني إسرائيل ورهبانهم يأتون لرؤيته ويقولون له بصراحة : ما هو الذنب العظيم الّذي ارتكبته حتّى ابتلاك الله بهذا الابتلاء والعذاب الشديد؟ ولكن هذا النبي العظيم لم يفقد صبره بل كان يعيش الانضباط الأخلاقي أمام نوازعه النفسية ويلهج لسانه بشكر الله تعالى ويتعامل مع كلّ هذه المصائب من موقع الشكر لا من موقع كفران النعمة والشكوى والجزع ، وبعد أن مضت عليه سنوات عديدة وهو يتحدى هذه الصعاب العظيمة دعا الله تعالى لأن يكشف عنه هذا البلاء كما تقول الآية : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ).
فعند ما ختم هذا النبي العظيم جميع مراحل هذا الامتحان الإلهي الكبير ووقف أمام البلايا والمصائب المختلفة كجبلٍ من الصبر والاستقامة وأخجل الشيطان الرجيم من أن ينال منه ولو كلمة جزع وشكوى واحدة حتّى يئس منه ، عندها فتح الله تعالى أبواب رحمته عليه ، وعاد عليه كلّ ما فقده من المال والأولاد والمواهب الدنيوية الاخرى بل ضاعفها له أضعافاً مضاعفة ، والأهم من ذلك انه نال من ذلك مقاماً عظيماً في دائرة القرب الإلهي ونال وسام (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
وذكر المفسّر المعروف «ابن مسعود» : إن أيوب (عليه السلام) كان «رَأسُ الصَّابِرينَ الَىَ يَومِ القِيامَةِ» ([18]) وهكذا سجَّل أيوب لنفسه هذا الشرف والافتخار على طول التاريخ البشري.
ولا ينبغي التساهل في المرور على هذا المطلب ، وهو أنّ إنساناً كان يتمتع بجميع الامكانات المادية والدنيوية ، وفجأةً فقد كلّ شيء وجلس صفر اليدين حتّى انه لم يسلم من تعريضات قومه من الأصدقاء والأعداء وكناياتهم الموجعة الّتي كانت تؤلمهُ أكثر من طعنات السيوف والخناجر ومع ذلك لم يصدر منه حتّى كلمة واحدة على خلاف رضى الله تعالى بل كان لسانه لهجاً بذكر الله وشكره ، وفي نهاية أمره قال كلمة واحدة تعبر عن دعاءه وتضرعه إلى الله تعالى لا غير ، وهي العبارة الّتي تصور البعض أنّها من قبيل الشكوى ، ولكنه خطأ فاحش لأنها لا تتضمن أي نوع وأي أثرٍ للشكوى فيها حيث تقول : (إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ).
وتأتي «الآية الثانية» لتستعرض صبر «النبي يعقوب» الّذي يُعد اسطورة في الصبر والاستقامة، فقد فَقَدَ ابنه وأعز ما لديه في الحياة ، وهو «يوسف» الّذي كان يحبّه حبّاً جمّاً ، وعاش سنوات مديدة بعينٍ باكية وصبرٍ عظيم حتّى انه عميت عيناه ، ولكن رغم ذلك فإنه لم تفلت منه كلمة مخالفة لرضى الله تعالى وكان شاكراً وصابراً دائماً وكما تعبر الآية على لسان يعقوب نفسه بكلمة «صبرٌ جميل» حيث تقول (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)([19]).
وهكذا نرى إن الاخوة الكذّابين غفلوا عن تمزيق قميص يوسف عند ما جاءوا به ملطخاً بالدم وقالوا لأبيهم إنّ الذئب قد أكل يوسف في غفلة منا ، ولهذا لم يصدق يعقوب كلامهم هذا وقال : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) ، ولكن بما انه لم يكن يملك أي شيء اتجاه هذه الحادثة المؤلمة فاكتفى بالبكاء على يوسف وقال : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أي الصبر المقترن مع الشكر لله على هذه المحنة دون أن تمتد إلى قلبه حالة الجزع الذميمة.
وبالنسبة لعبارة (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) فللمفسّرين بيانات مختلفة في تفسيرها ، فذهب البعض إلى أنّ الصبر جميل هو الصبر الّذي لا يخالطه الجزع ولا الشكوى للناس من المصيبة ، وذهب البعض الآخر إلى أنّ الصبر الجميل أن يكون بدافع إلهي وطلباً لرضى الله تعالى ، وقد ورد في الروايات انه سُئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الصبر الجميل ما هو؟ وقال هو الذي لا شكوى معه ([20]).
وذهب آخرون إلى أنّ الصبر الجميل هو ما لم يقترن مع الشكوى إلى الناس ، وأجمل منه أن يعرض حاله على الله تعالى ويلتجي إليه في هذه المصيبة ويؤدي حقّ الطاعة والعبودية له.
فعند ما اعترض أبناء يعقوب على أبيهم بسبب كثرة البكاء على يوسف وتذكره الدائم قال لهم إنني لا أشكو حالي إلى الناس وإليكم بل (قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)([21]).
«الآية الثالثة» تتحدّث عن طائفة اخرى من الأنبياء الإلهيين الّذين سلكوا في دعوتهم لأقوامهم وفي مواجهة المشكلات والمصاعب في خطّ الاستقامة والتحمل ، من أجل ذلك فإنّ الله تعالى أغرقهم برحمته وجعلهم في زمرة الصالحين : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ)([22]).
أما صبر إسماعيل فواضح ، وذلك بانه أوّلاً : استعد لأن يضحي بنفسه في طاعة الله وامتثال أمره وامتثل لما أمره به أبوه من ذبحه كما أمر الله ، ولكن الله تعالى شملهما بعنايته وأرسل لإبراهيم خروفاً أو كبشاً ليذبحه بدل إسماعيل.
وثانياً : لبقائه في الصحراء المحرقة في منطقة مكّة وإلى جانب بيت الله الحرام كي ما يقوي ويشتد أمر هذا المركز الإلهي ويشيع أمرهُ بين الناس.
وأمّا بالنسبة إلى صبر إدريس فقيل : أنّه أوّل من بُعث من بين قومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى ولكنه بالرغم من ذلك واجه صعوبات كبيرة في هذا السبيل ولم يستجب له أحدٌ من قومه.
وأمّا «ذي الكفل» فإنما سمي بهذا الاسم وصار في زمرة الصابرين الكبار من الأنبياء الإلهيين فبسبب انه كان يعيش في بني إسرائيل ، وكان يحكمهم نبيّاً من الأنبياء ، وفي يوم من الأيّام جاء الوحي إلى ذلك النبي وأخبره بحلول أجله وأنّ عليه أن يسلم مقاليد الحكم إلى شخص آخر تتوفر فيه هذه الصفات الثلاثة : أن يقوم في كلّ ليلة بالعبادة والصلاة ، وأن يصوم كلّ يوم ، وأن يحكم بين الناس دون أن يغضب ، فقال شابٌ من المؤمنين : أنا أتكفل بكلّ هذه الامور ، قال ذلك واستمر على الوفاء بعهده والاتيان بهذه الثلاثة (مع جميع ما تتضمنها من مشاكل وصعوبات) وبذلك نال مقام النبي أيضاً فسُمي : ذي الكفل.
أجل ، فإنّ هؤلاء العظماء الثلاثة كانوا اسطورة للصبر والاستقامة بحيث إنّ القرآن الكريم جعلهم اسوة لجميع المسلمين في العالم وأشار إليهم بذلك في هذه الآية الكريمة.
وتتعرض «الآية الرابعة» إلى الحديث عن «قصة موسى (عليه السلام) والخضر (عليه السلام)» ونقرأ في هذه القصة دروساً وعبراً مهمة ونافعة حيث جاء موسى (عليه السلام) إلى الخضر (عليه السلام) لطلب العلم وسأله أن يعلمه من العلوم والأسرار الإلهية ، لأن هذه العلوم والأسرار هي غير «علم الشريعة» الّذي تلقاه موسى (عليه السلام) بطريق الوحي وكان على اطلاع عام به ، ولكنَّ تلك العلوم والمعارف متعلقة بأسرار عالم التكوين والحوادث الواقعة في عالم الوجود ، ولكن على أية حال فإنّ الخضر (عليه السلام) كان قلقاً من عدم تحمل موسى (عليه السلام) بهذه العلوم والمعارف وقال له كما تذكر الآية (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً)([23]).
فكان أن وعد موسى (عليه السلام) معلمه بأن يصبر ويتريث ولا يعترض على شيء ، ولكن الحوادث والوقائع الّتي رآها فيما بعد كانت عجيبة وغريبة إلى درجة أنّ موسى (عليه السلام) لم يطق صبراً إلى أن يخبره الخضر (عليه السلام) عن أسرارها ، وفتح فمه بالاعتراض على معلمه ، فما كان من الخضر (عليه السلام) إلّا أن ذكره بوعده بالصبر والتريث ، فاعتذر موسى (عليه السلام) بذلك ولكنه في المرّة الثالثة قرر الانفصال إلى الأبد.
وهذه القصة العجيبة تتضمن دروساً ومعارف كثيرة ، ولكن ما يرتبط ببحثنا هذا هو أنّ موسى (عليه السلام) لو صبر أكثر ولم يعترض على الخضر (عليه السلام) لكان يكتشف أسراراً جديدة ويزداد علماً إلى علمه ، ولكن عدم صبره هذا تسبب بأن لا يتعلم سوى ثلاثة امورٍ فقط ، في حين انه وكما يقول بعض المفسّرين المعروفين أنّ موسى (عليه السلام) لو صبر أكثر لكان يتعلم من الخضر (عليه السلام) آلاف الأسرار والمعارف الموجودة في عالم التكوين والخلقة.
وعلى هذا فإنّ الصبر يعد أحد مفاتيح العلوم والمعارف.
ويمكن أن يتساءل البعض : ألم يكن الأنبياء أعلم الناس في زمانهم؟ فكيف طلب موسى من الله تعالى أن يتعلم بعض العلوم من الخضر وحتّى انه فارقه بعد ذلك ولم يتعلم منه سوى بعض الامور والأسرار القليلة؟
والجواب على هذا السؤال واضح ، وهو أنّ كلّ نبي يجب أن يكون أعلم الناس بالنسبة إلى دائرة مهمته ووظيفته في تحمل مسؤولية الدعوة إلى الله وهداية الناس إلى الحقّ ، وهكذا كان موسى أعلم الناس بنظام الشريعة والدين ، ولكنَّ مسؤولية الخضر ودائرة علومه ترتبط بعالم التكوين وعمله وهو كعمل الملائكة «المدبرات أمراً» المأمورين بتدبير عالم الوجود ، ولهذا فإنّ الأعمال الّتي صدرت من الخضر قد لا تكون مطابقة لموازين الشرع في الظاهر حتّى أنّ موسى (عليه السلام) اعترض عليه في ذلك ، ولكن عند ما شرح الخضر (عليه السلام) الأسرار الكامنة في أعماله قبل موسى (عليه السلام) منه ورضى بذلك.
وأساساً فإنّ القوانين الحاكمة على عالم التكوين رغم أنّها تصب في نتيجة واحدة مع قوانين عالم التشريع إلّا آنها منفصلة عنها في الظاهر ، ولهذا السبب فإنّ صداقة موسى والخضر (عليهما السلام) لم تدم طويلاً.
ومن الممكن أنّ أن يكون لبعض الأنبياء وكذلك الأئمّة إحاطة بأسرار عالم التكوين أيضاً «كما يستفاد ذلك من الروايات بالنسبة إلى نبي الإسلام والأئمّة المعصومين (عليهم السلام)» ولكن هذا الأمر لا لزوم له في توكيد مرتبة النبوة للأنبياء وكذلك مرتبة الإمامة للأئمّة لأن ذلك يعد مجرد فضيلة لا شرطاً للرسالة والإمامة.
«الآية الخامسة» تتحدّث عن أحد أنبياء بني إسرائيل الّذي ورد اسمه في التفاسير والتواريخ انه «اشموئيل» لكي يعين لهم رئيساً وقائداً للجيش ليحاربوا معه جالوت ، فاختار لهم رجلاً يدعى «طالوت» لانه يمتاز ببعض المميزات والصفات الإيجابية الموجودة فيه بتفاصيل قد تخرج عن موضوع هذا البحث.
وعند ما جاء طالوت بذلك الجيش العظيم من بني إسرائيل لحرب جالوت أدرك جيداً بفراسة من الله تعالى أنّ هذا الجيش العظيم غير قابل للاعتماد ، لانه رأى كثيراً من أفراده يعيشون حالة الكسل والخمول وعدم الهمة ، فمضافاً إلى أنّ وجودهم ليس فقط لا يبعث على تقوية الجيش ، بل سيؤدي إلى تضعيف روحية الآخرين أيضاً ، لذا عزم على تصفية جيشه بالعديد من الاختبارات والامتحانات ، وبعد أن نجح في ذلك وأتم اختباره لجيشه لم يبق منه إلّا عدّة قليلة.
وهذه الفئة القليلة كانت تعيش القلق والاضطراب من قلّة الأفراد ، فكان أحدهم يقول للآخر : نحن لا نستطيع مقاومة جيش جالوت العظيم ولا نتمكن من الصمود أمام قوته وجحافله ، ولكنَّ البعض منهم كما يقول القرآن الكريم (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)([24]).
ثمّ إن هذه الفئة القليلة عند ما برزوا لجالوت دعوا الله تعالى أن يرزقهم حسن الصبر كما تقول الآية : (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)([25]).
وعلى هذا فقد اثبتوا أنّ الجماعة الكثيرة للجنود والجيش العظيم إذا كانوا فارغين من الدوافع المعنوية والاستقامة والصبر فإنّهم سينالهم الفشل الذريع في ميدان القتال ، بخلاف الفئة القليلة ، الّتي تعيش الاستقامة والصبر والثبات فإنه يمكنها الانتصار على الجيش العظيم في العدّة والعدد ، وبذلك استطاعت هذه العدّة القليلة مع قائدهم طالوت بالانتصار على جالوت وجنوده الكثيرين ويهزموهم شرَّ هزيمة ، وهناك قتل داود الّذي كان شاباً قوياً في جيش طالوت ، «جالوت» واستطاع بنو إسرائيل العودة إلى ديارهم وأهليهم فتخلصوا من سيطرة عدوهم جالوت وتحرروا من أسره ، وبهذا فقد خلفوا للتاريخ البشري درساً آخر عن أهمية الصبر والاستقامة في سلوكهم العملي.
ويستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ التوكل على الله بالإيمان بالآخرة والثواب الإلهي يشكل دعامة قوية للصبر والاستقامة في واقع النفس ، ونقرأ في بعض الروايات أنّ عدد جيش جالوت 313 نفراً كما كان أصحاب بدر كذلك في العدد ، واللطيف أنّ داود مع صغر سنه ولكنّه كان مسلحاً بقوّة الإيمان ، وكان قد أخذ معه مقلاعاً وعدّة أحجار ورمى بأحدها باتجاه جالوت فأصابته بجبينه وخرَّ جالوت صريعاً بسبب ذلك ، فلمّا رأى جيشه ذلك أسرعوا بالفرار يحدوهم خوف عظيم وتلاشى ذلك الجيش الكبير الّذي يبلغ عدده كما ورد في بعض الروايات «منه ألف نفر» مسلحين بأنواع الأسلحة.
وتستعرض «الآية السادسة» خطاب الله تعالى للنبي الكريم (صلى الله عليه وآله) موصيةً له بالاستقامة وأن يقتدي بذلك بسيرة الأنبياء اولي العزم من قبله وتقول : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ...)([26]).
ورغم أنّ هذه الآية الشريفة تتحدّث عن الصبر والتأني في مقابل طلب نزول العذاب الإلهي على المخالفين والأعداء إلى أن تتم الحجّة عليهم فلعلّه يوجد من بينهم من له رغبة في سلوك طريق الحقّ ويهتدي بالتالي إلى الإيمان ويكون في زمرة السعداء ، ولكن هذا الأمر الإلهي بمثابة دستور عام ودليل واضح على فضيلة الصبر بعنوان منهج عام لجميع الأنبياء من اولي العزم.
أجل فإنّ جميع الأنبياء العظام وأصحاب الشرائع السماوية عند ما كانوا يواجهون أعدائهم المعاندين والأشخاص الّذين يعيشون الجهل والسفه والعناد كانوا يتسلحون بالصبر والاستقامة أكثر ليتمكوا من هداية الامّة إلى ساحل النجاة بصورة أفضل.
النبي نوح (عليه السلام) دعا قومه إلى طاعة الله «950 سنة» ليل نهار في الخفاء والاجهار ووعظهم وحذرهم طيلة هذه المدّة المديدة ولكنه لم يؤمن له سوى بضع أفراد معدودين.
النبي إبراهيم (عليه السلام) أُلقي في النار الملتهبة ، والنبي موسى (عليه السلام) تعرض هو والمؤمنين من قومه إلى أشد العذاب من قبل فرعون وأتباعه ، وكذلك ما واجهه عيسى (عليه السلام) من بني إسرائيل من الأذى والاتهام والطرد إلى أن أرادوا صلبه وقتله ولكن الله تعالى انقذه في اللحظة الأخيرة ، والخلاصة أنّ الحياة الدنيا هي دائماً محل التضاد بين الحقّ والباطل حيث لا يمكن التغلب على المشكلات والمصاعب الّتي يواجهها الإنسان في حركة الحياة إلّا بقوّة الصبر والاستقامة.
امّا المراد من الأنبياء اولي العزم من هم؟ فقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد به هم الأنبياء الّذين يأتون بشريعة جديدة وعددهم مع نبي الإسلام خمسة أشخاص ، وامّا اختيار هذا الأسم والعنوان لهم فهو من أجل ارادتهم القوية وعزمهم القاطع في الدعوة إلى الحقّ وهداية الناس إلى الله تعالى ، ولا شكّ أنّ هذه الفئة من الأنبياء كانوا يواجهون من المشاكل والمصاعب في حركة التغيير بالرسالة الإلهية أكثر من غيرهم ، لأن عرض شريعة جديدة تتقاطع مع كلّ ما يألفه الناس من الشرائع والقوانين السائدة لديهم يتضمّن مشكلات كثيرة وصعوبات يقوم بها المتعصبون من هذه الأقوام البشرية.
وذهب بعضٌ آخر إلى أنّ عددهم «18 نفر» حيث ورد اسمهم في الآيات 83 إلى 90 من سورة الأنعام ، وذهب البعض الآخر إلى أنّهم تسعة أشخاص ، وآخرون إلى سبعة أشخاص ، بينما ذهب البعض إلى ستة أشخاص ، وبعض قال بأنّهم خمسة أشخاص ، وذكر آخرون أنّ جميع الأنبياء الإلهيين هم «اولي العزم» ، لأنهم يرون أنّ جميعهم يتمتعون بالعزم الراسخ في أداء المسؤولية الإلهية الملقاة على عاتقهم ، ولكنَّ القول الأخير بعيد حسب الظاهر ، وسائر الأقوال لا دليل عليها سوى ما ورد من الروايات الشريفة عن المعصومين (عليهم السلام) في تفسير هذه الآية وأنّ عددهم مع نبي الإسلام هو خمسة أشخاص.
وأما «الآية السابعة» فتعود لتخاطب نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) من موقع الأمر بالصبر مقابل استهزاء وتكذيب المشركين واذاهم وتقول : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً)([27]).
وقد ذكر المفسّرون في تفسير (صَبْراً جَمِيلاً) تفاسير مختلفة وقد تقدّم البحث عنها في تفسير الآية الثانية في هذا البحث وسنتابع الكلام فيها في حديثٍ آخر لاحقاً ، ويقول الإمام الباقر (عليه السلام) في الجواب عن معنى الصبر الجميل في هذه الآية ، «صَبْرٌ لَيْسَ فِيهِ شَكْوىً الَى النّاسِ» ([28]).
وفي «الآية الثامنة» يخاطب الله تعالى جميع المؤمنين ويأمرهم بالصبر والمثابرة وأنّ ذلك هو مفتاح السعادة والنجاة ويقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)([29]).
فنقرأ في هذه الآية أربع أوامر تمثل مفتاح السعادة ومصدر الخيرات والبركات على الإنسان في حياته المادية والمعنوية.
الأوّل : الصبر والاستقامة والصمود أمام الحوادث والمشكلات والمصائب والموانع الّتي يجدها الإنسان في حركته الدنيوية لتحديات الواقع وصعوبة الظروف.
الثاني : المصابرة ، وهي من باب «مفاعلة» وتأتي بمعنى الصبر والاستقامة مقابل صبر واستقامة الآخرين ، وفي الحقيقة فإنّ الدستور الأوّل ناظرٌ إلى الصبر والاستقامة أمام أنواع المشكلات والحوادث الّتي يفرضها الواقع على الإنسان ، أما الدستور الثاني فناظرٌ إلى الصبر والاستقامة أمام الأعداء ، وعليه فكلّما بذل الأعداء جهداً في سبيل المقاومة في ميدان القتال ، فعلى المؤمنين أن يبذلوا جهداً أكبر من ذلك ويعيشوا الصبر بأقوى ممّا لدى العدو كي ينالوا النصر والغلبة عليه.
«رابطوا» من مادّة «مرابطة» وهي في الأصل من «رباط» بمعنى شد الشيء إلى مكان معين ، وتستعمل هذه المفردة «مرابطة» عادّةً بمعنى مراقبة الحدود والثغور لأن جنود الإسلام يضعون مراكبهم وأدوات حربهم وامتعتهم في ذلك المكان.
وآخر دستور إلهي في هذه الآية هو الأمر بتقوى الله الّذي هو من قبيل الخيمة الّتي تستوعب بظلّها جميع الأوامر والدساتير السابقة ، فعند ما يكون الصبر والمصابرة والمرابطة من أجل الله وبعيداً عن أي أشكال الرياء والأمراض الشخصية وتكون مقترنة بالتقوى فإنّ ذلك سيتسبب في الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة.
بعض المفسّرين ذكر في تفسير «المصابرة» أنّها الصمود ومقاومة العادات والأهواء النفسانية ، لانها تقف في المقابل أمام الإنسان لتمنعه من سلوك طريق الهدى والصلاح والسير في خطّ التقوى والإيمان ، فيجب على الإنسان أن يقف في مقابلها بالمثل ، وقالوا في تفسير «المرابطة» أنّ المراد منها هو ربط النفس بطاعة الله أو ربط القلب بالله تعالى.
وقد نقل عن أحد العرفاء انه كان يتجه إلى الحجّ مشياً على الأقدام ، فالتقى بأعرابي راكباً جمله فقال له الأعرابي : أين تذهب يا شيخ؟ فقال له : إلى بيت الله الحرام. فقال : لماذا أنت راجل؟ فقال : بل لدي مراكب كثيرة ، فتعجب الأعرابي من ذلك فسألة : وما هي هذه المراكب؟ فقال العابد : عند ما تنزل عليّ مصيبة فسأركب مركب الصبر ، وعند ما تنزل عليّ نعمة أركب مركب الشكر ، وعند ما يداهمني القضاء والقدر أركب مركب الرضا ، وعند ما تطغى نفسي وتطلب مني شيئاً فأعلم أنّه لم يبق من عمري شيء وما مضى منه أكثر ممّا بقي.
فقال الأعرابي : في الواقع أنت الراكب وأنا الراجل والسلام عليكم ، فودعه وانصرف.
«الآية التاسعة» تخاطب جميع المؤمنين بتعبيرٍ جديد وتتحرك ضمن توصيتهم بأن يلتزموا الصبر ويستعينوا بالاستقامة والتحمل في مقابل تحديات الواقع الصعبة والمشكلات المفروضة عليهم وتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)([30]).
وهذه الآية لها مفهوم واسع بحيث تشمل كلّ أشكال الصبر والاستقامة ، سواءٌ الصبر على الطاعة أو الصبر على المعصية أو الصبر على المصيبة ، فتوجب على الإنسان أن يستعين بكلّ عمل مهم بالصبر سواءً كان ذلك العمل هو الجهاد في سبيل الله أو غير ذلك ، فلا بدّ من الاستعانة بأحد أقسام الصبر بما يتناسب مع المشكلة الّتي تواجه الإنسان.
ولا بدّ من القول في من فسّر الصبر بالصوم أنّ الصوم أحد المصاديق البارزة للصبر لا أنّه يستوعب جميع مفهوم الصبر في هذه الآية الشريفة.
وهنا يثار سؤال ، وهو أنّه ما هي الرابطة بين الصبر بمعناه الواسع ، وبين الصلاة؟
ذكر بعض المفسّرين في مقام الجواب أنّ الرابطة بينهما هو أنّ الإنسان قد يفقد صبره أحياناً أو يتضعضع أمام المشكلات وضغط الواقع الصعب فتأتي الصلاة لتمنحه قوّة القلب الإرادة والعزم والتوكل على الله تعالى ، وبذلك فإنّ الصلاة تزيد الإنسان قوّة في عملية الصبر والمقاومة.
وبتعبير آخر : عند ما يتجه الإنسان إلى الباري تعالى من خلال الصلاة فإنه يجد نفسه مرتبطاً بالقدرة اللامتناهية والحقّ الأزلي ، وهذا العمل يزيد من مقاومة الإنسان في مقابل المشكلات بحيث يبلغ به مرتبة أن يتغلب على جميع ما يواجهه من صعوبات ومشاكل ويستمر في خط الاستقامة والتحمل والمثابرة ، ولهذا ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، وأحياناً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، وكلا الحديثين صحيحان من حيث السند : «اذَا أَهَالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ ، قَامَ الى الصَّلَوةِ ثُمَّ تَلى هَذِهِ الآيَةِ (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)([31])» ([32]).
وعلى أية حال فإنّ هذه الآية من أوضح الآيات القرآنية الّتي تبيّن أهمية الصبر وكونه عاملاً مهماً في نجاح الإنسان في حركة الحياة الفردية والاجتماعية.
«الآية العاشرة» تخاطب نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) «من جانب الله تعالى» بأن يقول لجميع عباده المؤمنين : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ)([33]).
وهذه الآية الشريفة تدلّ من جهة على أنّ الإنسان يجب عليه أن يستعين بقوّة الصبر والاستقامة في مقابل الصعوبات الّتي يفرضها الواقع وتفرضها عليه عملية الصراع مع الظالمين والجبابرة ، لأنّه بدون ذلك فلا يوجد منفذ أمام الإنسان سوى الاستسلام للظالمين وقوى الإنحراف والخضوع لهم.
ومن جهة اخرى فإنّها تشير إلى ثواب الصابرين عند الله وأنّه لا يقبل العد والحساب.
عبارة «بغير حساب» تشير إلى أنّ الله تعالى سوف يجازي هؤلاء الصابرين بالثواب العظيم إلى درجة أنّ أحداً لا يقدر على عدّه واحصائه إلّا الله تعالى ، ولهذا نقرأ في الحديث الشريف عن رسول الله أنّه قال : «إذا نشرت الدواوين ونُصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان ، ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ»)([34]).
وهذه العبارة «بغير حساب» وردت في آيات متعددة اغلبها يتعلق بالرزق الدنيوي الكثير الّذي يهبه الله تعالى لبعض الناس ، ولكن فقط في هذه «الآية 40 من سورة المؤمن» فتتحدّث عن الثواب الإلهي للمؤمن والصابر يوم القيامة ، ومن المعلوم انه إذا كان الرزق الدنيوي بدون حساب فإنّ ذلك لا يعني انه يتناسب مع كمية العمل أو كيفيته ، بل يتناسب مع لطف الله تعالى وعنايته لعبده ، وبالتالي تكون ثمرته سامية جداً في مقام القرب الإلهي والكمال المعنوي.
ونقرأ في «الآية الحادية عشر» تعبيراً جميلاً جداً عن أهمية الصبر والاستقامة ، وذلك أنّ الملائكة عند ما تستقبل أهل الجنّة من كلّ باب يردون إليها يقولون لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)([35]).
واللطيف أنّ الملائكة هنا أشاروا من بين جميع الأعمال والطاعات والعبادات الّتي أتى بها أهل الجنّة إلى الصبر والاستقامة لأن ذلك كان سبب دخولهم الجنّة ، ولو دققنا النظر لرأينا أنّ الصبر بحد ذاته له دورٌ مهم في سعادة الإنسان ونجاته في الآخرة ودخوله الجنّة لانه بدون الصبر فلا يستطيع الإنسان أن يتوقى من الذنوب ولا يؤدي العبادات والطاعات ولا جهاد النفس أو جهاد الأعداء ، ولهذا السبب فإنّ الملائكة في أوّل سلامٍ وتبريك لهؤلاء ذكروا مسألة الصبر.
والشاهد على هذا الكلام أنّ جميع الطاعات يأتي بها الإنسان في ظلّ عنصر الصبر ونقرأ في الآية 22 من هذه السورة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ...).
وجاء في تفسير هذه الآية حديثاً جميلاً عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال : «إذا كان يوم القيامة ينادي مناد : ليقم أهل الصبر ، فيقوم جمعي من الناس فيقال لهم : انطلقوا إلى الجنة ، فتتلقاهم الملائكة فيقولون إلى أين؟ فيقولون : إلى الجنة. قالوا : قبل الحساب؟ قالوا : نعم ، فيقولون : من أنتم؟ فيقولون : نحن أهل الصبر ، قالوا : وما كان صبركم؟ قالوا : صبرنا أنفسنا على طاعة الله ، وصبرناها عن معاصي الله ، وصبرناها على البلاء والمحن في الدنيا ، قال علي بن الحسين (عليه السلام) : فتقول لهم الملائكة : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ)([36]).
وذكر بعض رواة هذا الحديث أنّ الملائكة تقول لهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ)([37]).
«الآية الثانية عشر» تكرر هذا المطلب بصورة جذابة ، وهذه الآية هي استمرار للآيات الّتي تحدّثت عن صفات «عباد الرحمن» واستعرضت في سياقها اثنى عشر صفة ايجابية تبين شخصيتهم السامية في جميع الأبعاد (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً)([38]).
«غُرفة» من مادّة «غَرْفَ» على وزن «ظرف» بمعنى حمل الشيء وأخذه باليد ولذلك يقال لمن يتناول الماء من العين بيده انه : اغترف من الماء ، وكذلك تطلق هذه الكلمة على الأقسام العلوية من البناء فيقال لها «غرفة» وفي هذه الآية اطلقت هذه الكلمة على أعلى المنازل في الجنّة وأنّها من نصيب الصابرين.
ويستفاد من تعبير الآية أعلاه أنّ الصبر هو العنصر المشترك الممتد في جميع الصفات الاثنى عشر لهؤلاء العباد المخلصين «عباد الرحمن».
وتأتي «الآية الثالثة عشر» وهي من الآيات المعروفة في مسألة الصبر لتثير في أجواء الصابرين البشارة بالثواب الإلهي الجزيل وتقول : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ* أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)([39]).
وبالرغم من أنّ هذه الآيات تشير إلى غصن واحد من اغصان شجرة الصبر ، وهو الصبر على المصائب والمشكلات ، ولكن تتضح أهمية ذلك من خلال ما يترتب على هذا اللون من الصبر من صلوات الله ورحمته على هؤلاء الصابرين وأنّهم يسيرون في خطّ الهداية والاستقامة والتوجه إلى الله تعالى من خلال حالة الاستقامة والصبر أمام البلايا والمصائب.
فنظراً إلى أنّ الامتحان الإلهي للإنسان في هذا العالم الدنيوي يُعد من السنن الحتمية في عالم التكوين ، وأنّ العبور من هذا النفق والوادي العسير لا يتسنّى ألا بالاستعانة بالصبر، وحينئذٍ يتضح دور الصبر والاستقامة في حركة الحياة الدنيوية والنتائج المترتبة على ذلك ، فما أعظم أن يجد الإنسان نفسه مشمولاً بثلاث عنايات إلهية في مقابل الصبر وهي :
الاولى : الصلوات والتحيات الإلهية من النوع الّذي يصلي فيه الله تعالى على نبيّه الكريم ، ثمّ شمول رحمته الواسعة لهذا الإنسان ودخوله في دائرة اللطف الإلهي ، والأهم من ذلك أنّ الهداية الإلهية ستكون من نصيب هؤلاء والّتي هي مصدر جميع النعم والمواهب وأشكال السعادة الدنيوية والاخروية.
وأما لماذا وردت كلمة «صلوات» بصورة جمع؟ هنا ذكر تفسيران كلّ منهما محتمل في معنى الآية ، الأوّل أنّ ذلك إشارة إلى أنواع الاكرام الإلهي والاحترام الرباني لهؤلاء ، والآخر انه إشارة إلى تكرار هذه العملية وأنّ الله يصلّي عليهم عدّة مرّات ، اما التعبير بالرحمة بصورة نكرة فهو إشارة إلى الأهمية والعظمة لهذه النعمة.
واما الفرق بين الصلوات والرحمة فقد ذكر البعض أنّ الصلوات إشارة إلى مدح الله ولطفه ومغفرته ، في حين أنّ الرحمة إشارة إلى النعم المادية والمعنوية في الدنيا والآخرة.
«الآية الرابعة عشر» والأخيرة من الآيات مورد البحث والّتي وردت في سورة العصر فإنّها ضمن بيان هذه الحقيقة ، وهي أنّ جميع الناس سيكون مصيرهم إلى الخسران حتماً ما عدا الأشخاص الّذين يتمتعون بأربع صفات ، وأحدها : الصبر والاستقامة وتقول (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ)([40]).
جملة (تَواصَوْا) من مادّة «تواصي» وتشير إلى انه ينبغي على المؤمنين بعد الإيمان والمعرفة والعمل الصالح أن يتحركوا من موقع التكاتف والتعاون لاحقاق الحقوق والانصاف والعدالة في التعامل مع الغير والتوصية بذلك فيما بينهم ، لأنّ إحقاق الحقّ واجراء العدالة في المجتمع الإنساني لا يتسنّى إلّا بالاستقامة والصبر أمام تحديات الواقع الصعبة والموانع العسيرة ، ولذلك أوصت الآية الشريفة بالصبر على مستوى العامل الرابع من العوامل المؤدية إلى النجاة ، وفي الحقيقة أنّ هذا العامل هو دعامة وأساس للعوامل الثلاثة الاخرى ، وعليه فإنّ الصبر يعد أحد الأركان الأصلية لسعادة الناس وتحركهم في خطّ الإيمان وتعميق شجرة الأخلاق والصلاح في قلوبهم ، وبدونه سوف لا تثمر القيم الأخلاقية والأعمال الصالحة في واقع الإنسان والمجتمع شيئاً ، ولا يمكن احقاق الحقوق واجراء العدالة في المجتمع البشري ، ولا شكّ أنّ احقاق الحقوق واجراء العدالة يعد من أهم الامور والوظائف ، لأنّه أحياناً يكون الحقّ في الطرف المقابل للإنسان أو لأحد أحبته وأقربائه ، وهنا تكون اجراء العدالة والعمل بالحقّ بحاجة إلى الاستمداد والاسترفاد من عنصر الصبر.
ومن مجموع ما تقدّم من الآيات الشريفة تتضح هذه الحقيقة ، وهي أنّ أهمية الصبر والاستقامة والمثابرة في خطّ العدالة والحقّ إلى درجة من الأهمية أكثر ممّا نتصور ، وكما يقول بعض المفسّرين أنّ الصبر في القرآن الكريم ورد أكثر من سبعين مرّة أو تكرر بما يقرب من مئة مرة ، في حين اننا لا نجد فضيلة من الفضائل الأخلاقية والإنسانية قد وردت بمثل هذا التأكيد في الكتاب العزيز ، وهذا إنما يدلّ على أنّ القرآن الكريم يولي هذه الفضيلة الأخلاقية أهمية كبيرة ويعدها عصارة جميع الفضائل والأساس لجميع أشكال السعادة الدنيوية والاخروية والاداة الحاسمة للوصول إلى أي نوع من أنواع الفلاح والنجاح والموفقية.
الصبر في الأحاديث الإسلامية :
وكما يقول بعض علماء الأخلاق أنّ الروايات الواردة عن المعصومين (عليهم السلام) في فضيلة الصبر والاستقامة أكثر من أن تحصى ، وقد ورد في بعض الكتب الأخلاقية ما يقرب من تسعمائة حديثاً عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) في هذا الموضوع ، ولذلك نختار بعض النماذج من هذه الأحاديث الشريفة لنستوحي منها دورساً في هذه الفضيلة :
1 ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الصبر خير مركب ما رزق الله عبدا خيرا له ولا اوسع من الصبر ([41]).
وعبارة خير مركب الواردة في هذا الحديث الشريف تشير إلى أنّ الصبر هو أفضل وسيلة للوصول إلى السعادة والنجاة وأنّ الإنسان بدونه لا يصل إلى شيء من المقامات الاجتماعية والمعنوية في الدنيا والآخرة.
2 ـ وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «عَلَيْكُم بِالصَّبْرِ فَانَّ الصَّبْرَ مِنَ الْايمَانِ كَالرَّأسِ مِنَ الجَسَدِ» ([42]).
وهذا الحديث يدلّ على أنّ الصبر يعد مفتاحاً لجميع الأبعاد الحيوية في حركة الإنسان المادية والمعنوية ، ولهذا ورد في ذيل الحديث المذكور «لا ايمانَ لِمَنْ لا صَبْرَ لَهُ».
3 ـ وفي حديث آخر عن هذا الإمام (عليه السلام) أيضاً أنّه قال : «لا يَعْدِمُ الصَّبُورُ الظَّفَرَ وانْ طَالَ بِهِ الزَّمانُ» ([43]).
ومع الالتفات إلى أنّ الصبر ذكر هنا بشكل مطلق وكذلك الظفر والنصب ، فهذا يدلّ على أنّ هذه الحكم يستوعب جميع الأبعاد المادية والمعنوية في حياة الإنسان.
4 ـ وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في باب الصبر «الصَّبْرُ نِصْفُ الإيمانِ» ([44]).
وجاء في بعض الروايات الاخرى أنّ نصف الإيمان هو الشكر والنصف الآخر هو الصبر.
أي الصبر والاستقامة للوصول إلى النعم والمواهب الإلهية ثمّ الشكر على هذه النعمة ، أي الاستفادة الصحيحة من المواهب والنعم الإلهية.
ومن الواضح أنّ هذا الحديث لا يتنافى مع الأحاديث السابقة ، لأنّه كما تقدّم أنّ المؤمن إذا لم يتمسك بالصبر فإنّ إيمانه سوف يتعرض للاهتزاز والارتباك بسبب الموانع الكثيرة الّتي يجدها في طريقه ، وكذلك لو لم يكن شكوراً على نعم الله تعالى ، فإنّ هذه النعم ستزول وتهرب من يده كما ورد في الآية : «وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ انَّ عَذَابِي لَشَديد».
5 ـ وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «الصَّبْرُ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» ([45]).
6 ـ ودليل هذا المعنى ما ورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يوضح هذا المعنى ويقول «الصَّبْرُ عَوْنٌ عَلى كُلِّ امْرٍ» ([46]).
لأنّه كما تعلمون أنّ نظام الحياة في الدين والدنيا يضع أمام كلّ عملٍ مهم بعض الموانع الّتي لا يتجاوزها ولا يعبرها إلّا بالاستعانة بالصبر والاستقامة.
7 ـ اما بالنسبة للصبر عند المعصية فورد في الحديث الشريف «وَمَنْ صَبَرَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ فَهُوَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبيلِ اللهِ» ([47]).
أجل فكليهما مجاهد في سبيل الله ، مع فارق أنّ أحدهما يجاهد العدو الخارجي «الجهاد الأصغر» والآخر يجاهد العدو الداخلي «الجهاد الأكبر».
8 ـ وورد في حديثٍ آخر عن أمير المؤمنين قوله : «انْ صَبَرْتَ ادْرَكْتَ بِصَبْرِكَ مَنازِلَ الابْرارِ وَان جَزَعْتَ اوْرَدَكَ جَزَعَكَ عَذابَ النّارِ» ([48]).
9 ـ وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال في الصبر في مقابل البلايا والمصائب «مَن ابْتُلي مِنَ المُؤمِنينَ بِبَلاءٍ فَصَبَرَ عَلَيهِ كَان لَهُ مَثلُ اجرِ الْفِ شَهِيدٍ» ([49]).
ويقول العلّامة المجلسي بعد ذكر هذا الحديث في الجزء 68 من بحار الأنوار انه كيف يعقل أنّ للصبر مثل هذا الثواب في حين أنّ للشهيد بنفسه أحد الصابرين لانه صبر أمام العدو حتّى استشهد؟
ويمكن في مقام الجواب عن هذا السؤال أن نقول : إنّ الشهيد يصبر أمام هجوم الأعداء ، وهؤلاء الصابرون إنما يصبرون في مقابل الصعوبات المرة الّتي تعترضهم في الحياة من قبيل أنواع المرض ، الفشل ، وفقد الأحبّة وأمثال ذلك.
والدليل الآخر على أفضلية الصابر بالنسبة إلى الشهيد هو أنّ الشهادة تحدث مرة واحدة للإنسان ، ولكنَّ صعوبات الحياة تتكرر آلاف المرات.
10 ـ ويقول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالنسبة إلى الثواب المعنوي للصابرين «مَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ وَاعْطِيَ فَشَكَرَ وَظُلِمَ فَغَفَرَ اولَئِكَ لَهُم الْامْنُ وَهُم مُهتَدونَ» ([50]).
11 ـ ويقول الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً : «الصَّبْرُ يُظْهِرُ مَا فِي بَوَاطِنِ العِبادِ مِنَ النُّورِ وَالصَّفاءِ والْجَزَعُ يُظْهِرُ مَا فِي بَوَاطِنِهِم مِنَ الظُّلْمَةِ وَالْوَحْشَةِ» ([51]).
12 ـ ونختم هذا البحث عن أحاديث الصبر بحديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول «الصَّبْرُ مَطَيِّةٌ لا تَكبُوا وَالقَناعَةُ سَيفٌ لا يَنْبُوا» ([52]).
معطيات الصبر ونتائجه :
كما تقدّم في المباحث السابقة فإنّ طبيعة الحياة الدنيا تقترن بالموانع والمشكلات والبلايا ، فلو أنّ الإنسان لم يلتزم بالمقررات والقوانين الّتي تنسجم مع هذه الحياة ويحل بذلك ما يواجهه من مشكلات فإنّه سوف لا يصل إلى مقصده ولا يحقق غايته ، وكذلك فإنّ الآفات والمصائب موجودة في ضمن النعم والمواهب وتتسبب في فقدها أو الاضرار بها من قبيل المصائب الّتي تواجه الإنسان في أولاده وأقربائه وأمثال ذلك.
فالإنسان بدون الاستعانة بالصبر والاستقامة سوف لا يتمكن من سلوك طريق الكمال والسعادة في بعده الإيجابي ، وكذلك لا يتمكن من الصمود أمام عناصر الشَّر في حركة الحياة ، ولهذا السبب فإنّ المفتاح الأصلي للموفقية والنجاح في الحياة هو الاستعانة بالصبر والاستقامة ، وبما أنّ الدين هو عبارة عن مجموعة الواجبات والمحرمات ، أو الطاعات وترك المعاصي ، فإنّ الإيمان والالتزام بالدين لا يكون ولا يتحقق بدون الصبر والاستقامة ، لانه وطبقاً لما تقدّم من البيان فإنّ الصبر بالنسبة للإيمان كالرأس بالنسبة إلى الجسد ، ولذلك ورد في بعض الأحاديث الإسلامية «ومنها الأحاديث الواردة عن أمير المؤمنين (عليه السلام)» أنّ الصبر قرين الظفر «الصَّبْرُ الظَّفَرُ» ([53]).
ونقرأ أيضاً في الآيات القرآنية أنّ الشرط المهم لإنتصار المجاهدين في سبيل الله هو الصبر والاستقامة في هذا الطريق ومن ذلك قوله تعالى (... إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)([54]).
ما هذه القوّة الّتي تمنح رجلاً واحداً القدرة على مقابلة عشرة أشخاص ، وتمنح مئة شخص القدرة على مقابلة ألف شخص؟
إن هذه القوّة هي قوّة الصبر والاستقامة الّتي ورد التصريح بها في الآية الشريفة.
فالأشخاص الّذين يعيشون ضعف الإرادة وقلّة العزيمة سوف يواجهون الحوادث والمشاكل من موقع الاذعان والخنوع أو يديرون ظهورهم لها ويجمحون عن مقاومتها ، ولكنه لا الدنيا تتحقق للإنسان بدون الصبر والاستقامة ولا الآخرة ، ولهذا السبب فان الشعوب الّتي حقّقت تقدماً علمياً وتطوراً حضارياً فإنما تحقق لها ذلك بواسطة الاستقامة والمثابرة والصبر ، ويذكر في حالات العلماء الكبار ، سواءاً الشخصيات الدينية الّتي فتحت أبواب العلوم والمعارف الدينية أمام الناس ، أو علماء العلوم الطبيعية الّذين حققوا للبشرية اكتشافات واختراعات مهمّة ، أنّهم كانوا يعيشون قبل كلّ شيء حالة الصبر والاستقامة والمثابرة في أعمالهم ودراساتهم ، فأحياناً يضطر أحد العلماء للكشف عن قانون علمي إلى اختيار العزلة والانزواء في المكتبة أو المختبر لعدّة سنوات حتّى يوفق أخيراً إلى هدفه واكتشافه.
وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله «مَنْ رَكِبَ مَراكِبَ الصَّبْرِ اهْتُدِىَ الَىَ مَيْدَانِ النَّصْرِ» ([55]).
وكذلك ورد عن هذا الإمام قوله «مِفْتَاحُ الظَّفَرِ لُزُومِ الصَّبْرِ» ([56]).
ومن جهة اخرى نجد أنّ الأشخاص الّذين يشكون ضعف العزم وقلّة الصبر والاستقامة فإنّهم يتلوثون بسرعة بأنواع الذنوب ، لأنّ الذنوب لها جاذبية قوية للنفس الأمارة في الإنسان ، فلو لم تكن في الإنسان قدرة على مقاومتها لأسرع الإنسان الخطى في منزلقات الانحطاط والرذيلة.
وورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله «كَمْ مِنْ صَبْرِ سَاعَةٍ قَدْ اوْرَثَتْ فَرَحَاً طَويلاً وَكَمْ مِنْ لَذَّةِ سَاعَةٍ قَدْ اوْرَثَتْ حُزْناً طَويلاً» ([57]).
ومن الممكن أن يبتلي الإنسان في مسيرة حياته بأنواع الضرر والخسارة المادية والمعنوية والاجتماعية ، مثلاً بالنسبة إلى موت الأحبّة يجب القول : إن هؤلاء الأحبّة من الأصدقاء والاقرباء لم يتولدوا في وقت واحد وسوف لا يرحلون من هذه الدنيا في وقتٍ واحد أيضاً ، فهناك من يرحل قبل الآخر وهناك من يتأخر ، والأشخاص الّذين يرحلون من هذه الدنيا أسرع سوف يخلفون في قلوب أحبتهم حالات الغم والحزن على فراقهم ، فلو أنّ الإنسان لم يتحل بالصبر فسوف يفقد سلامته النفسية وصحّته الجسمية ويعيش اليأس في الحياة ويتأخر عن القافلة.
أجل فإنّ الصبر مع وجود جميع هذه الحوادث والمصاعب يمنح روح الإنسان وقلبه القدرة على الاستمرار في حركة الحياة وإدامة السلوك في خطّ التكامل الإنساني.
وقد رأينا في الأحاديث السابقة أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) يقول إنّ ثواب الصبر لدى الشيعة مقابل المصائب والبلايا يعادل ثواب ألف شهيد ، وهذا المعنى يدلل على ما تقدّم آنفاً من أهمية الصبر.
والخلاصة هي إننا كلّما تحدّثنا عن أهمية الصبر ودوره في الصعود بالإنسان في مدارج الكمال المادي والمعنوي ، الدنيوي والأخروي ، فلا نصل إلى غاية الكلام ولا نحيط بتمام الموضوع ، ولهذا فلا ينبغي أن نتصور أنّ ما ورد في الروايات الشريفة عن ثواب الصابرين هو مبالغة في الكلام ، وبعبارة اخرى : يمكن التمسك بالحديث الشريف الوارد عن الإمام الباقر (عليه السلام) حيث قال «انَّهُ مَنْ صَبَرَ نَالَ بِصَبْرِهِ دَرَجَةَ الصّائِمِ الْقائِمِ ، وَدَرَجَةِ الشَّهيدِ الّذي ضَرَبَ بِسَيفِهِ قُدّامَ مُحمَّدٍ (صلى الله عليه وآله)» ([58]).
أقسام الصبر :
وقد ورد في الكثير من كتب الأخلاق وكلمات علماء الأخلاق أنّ الصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
1 ـ الصبر على الطاعة.
2 ـ الصبر على المعصية.
3 ـ الصبر على المصيبة.
والمراد من «الصبر على الطاعة» هو مقاومة المشكلات الّتي تعترض طريق الطاعة لله تعالى وامتثال أوامره من قبيل أداء الصلاه والصوم والحجّ والجهاد ودفع الحقوق المالية مثل الخمس والزكاة ، وكذلك الصبر والاستقامة مقابل المشكلات الّتي تقع في طريق طاعة الأوامر الاستحبابية والّتي تستوعب دائرة عريضة ، والمقصود من «الصبر على المعصية» هو الوقوف أمام الأهواء والدوافع النفسية والنوازع الدنيوية الّتي تستعر في قلب الإنسان وباطنه ، وقد تستعر نيرانها إلى درجة أن تتحول إلى اعصار يدمر جميع عناصر الخير في الإنسان ، ويتلف ما لديه من الإيمان والتقوى والطهارة والصدق والصفاء وأمثال ذلك.
والمقصود من الصبر على المصيبة هو أن يتحلّى الإنسان بالصبر في حياته مقابل الحوادث المؤلمة من قبيل فقد الأحبّة ، الخسارة المالية الكبيرة ، وقوع شخصيته وسمعته الاجتماعية في الخطر ، وقوع الإنسان في مخالب المرض العسير والمؤلم ، والابتلاء برفاق السوء أو الشريك الخائن أو الحكومة الظالمة وأحياناً الزوج والزوجة الفاسدة وأمثال ذلك.
وقد أورد علماء الأخلاق هذا التقسيم للصبر اقتباساً من الروايات الشريفة كما ورد في الحديث الشريف النبوي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : «الصَّبْرُ ثَلاثَةٌ ، صَبْرٌ عَلَى الْمُصيبَةِ وَصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ وَصَبْرٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى المُصيبَةِ حَتَّى يَرُدَّهَا بِحُسْنِ عَزائِهَا ، كَتَبَ اللهُ لَهُ ثَلاثَ مِائةٍ دَرَجَةٍ مَا بَينَ الدَّرَجَةِ الَىَ الدَّرَجَةِ كَما بَينَ السَّمَاءِ الَى الارضِ ، وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ كَتَبَ اللهُ لَهُ سِتَّ مائةِ دَرَجَةٍ ، مَا بَينَ الدَّرَجَةِ الَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَينَ تُخُومُ الْارضِ الَى الْعَرْشِ وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمَعْصيةِ كَتَبَ اللهُ لَهُ تِسْعَ مِائةِ دَرَجَةٍ مَا بَينَ الدَّرَجَةِ الى الدَّرَجَةِ كَمَا بَينَ تُخُومِ الارْضِ الَىَ مُنْتَهَى الْعَرْشِ» ([59]).
ويستفاد من عبارات هذا الحديث الشريف الصبر على المعصية أهمّ من الجميع ، ثمّ الصبر على الطاعة ، ثمّ الصبر على المصيبة الّذي يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية والثواب.
ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث آخر بعد أن يقسم الإيمان إلى أربع «الصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى ارْبَعِ شُعَبٍ ، عَلَى الشَّوْقِ وَالشَّفَقِ وَالزُّهْدِ وَالتَّرَقُبِ» ([60]).
ومع قليل من التأمل يتضح أنّ هدف الإمام (عليه السلام) من هذا البيان هو شرح دوافع الصبر والاستقامة لا فروعه وأغصانه ، وهو مثل ما تقدّم من الحديث النبوي الشريف.
دوافع الصبر والاستقامة :
إن العوامل والعناصر الّتي تمنح الإنسان القدرة على الصبر مقابل مشكلات الطاعة وترك المعصية أو مقابل المصائب هي كثيرة ، ولكلٍّ واحدٍ منها تأثير خاصّ في تقوية وتعميق هذه الفضيلة الأخلاقية في واقع النفس ، وأهمها :
1 ـ تقوية دعائم الإيمان واليقين في القلب ، وخاصّةً مع ملاحظة هذه النكتة ، وهي أنّ الله تعالى هو أرحم الراحمين وهو المتكفل لرعاية مصالح عباده والعناية بهم ، ومن هذا المنطلق قد يبتلي الإنسان ببعض الحوادث الّتي تكون أسرارها ومنافعها خفية على الإنسان ليقوي به روح الصبر ، وهنا ينبغي الالتفات والتفكر بالثواب العظيم الّذي أعده الله تعالى للمطيعين والورعين عن ارتكاب المعاصي فإنّ ذلك من شأنه أن يرسخ في عزم الإنسان عنصر الصبر والاستقامة.
ومن ذلك ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله : «أَصْلُ الصَّبْرِ حُسْنُ الْيَقِينِ بِاللهِ» ([61]).
وبديهي انه كلّما اشتد إيمان الإنسان وكثرت معرفته بحكمة الله ورحمته فإنّ صبره سيزداد تبعاً لذلك ، وبتعبير آخر : أنّ تحمل الصبر سيكون أسهل وأيسر ، ولهذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال لبعض أصحابه «انَّا صُبَّرٌ وَشِيعَتُنا اصْبَرُ مِنّا» فقال له الراوي : جعلت فداك كيف يكون شيعتكم أصبرُ منكم؟ فأجابه الإمام (عليه السلام) «لَانّا نَصْبِرُ عَلَى مَا نَعْلَمُ وَشيعَتُنا يَصْبِرُونَ عَلَى مَا لا يَعْلَمُونَ» ([62]).
2 ـ إن تحصيل ملكة الصبر واكتساب هذه الفضيلة حاله حال الفضائل الأخلاقية الاخرى لا بدّ فيه من الممارسة والتمرن ومقابلة الحوادث الصعبة ومواجهة التحديات المفروضة على الإنسان ، ولهذا ورد عن أمير المؤمنين قوله «مَنْ تَوالَتْ عَلَيهِ نَكَباتُ الزَّمانِ اكْسَبَتْهُ فَضيلَةُ الصَّبْرِ» ([63]).
وبعبارة اخرى : إن الإنسان في بداية مواجهته للمصيبة قد يصرخ ويحزن بشدّة ، وكذلك عند ما يتحرّك في خط الطاعة والاتيان بالعبادة فإنه قد يواجه مشكلة من ثقل هذه العبادة ويشعر بالتعب ، ولكن تكرار هذه الحوادث وممارسة هذه العبادات سوف تكسبه بالتدريج فضيلة الصبر وتمنحه القوّة في ذاته على الاستمرار في خطّ الاستقامة.
3 ـ ومن العوامل المهمة في تقوية ملكة الصبر في الإنسان أن يلتفت الشخص إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الدنيا دار الحوادث والمشكلات ، ولا يتسنّى له الحصول على أية موهبة من المواهب المادية والمعنوية من دون عبور هذه الموانع المختلفة والتغلب على تلكم المشكلات ، وأيضاً يلتفت إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ الأفراد الّذين يعيشون النزق وقلة الصبر وسرعة الانفلات لا يصلون إلى مرتبة من مراتب الكمال النفسي والاجتماعي ، كلّ ذلك من شأنه أن يقوي في الإنسان العزم والإرادة والصمود أمام المشكلات والحوادث.
وكما تقدّمت الإشارة إليه انه لا بدّ لقطف الوردة من تحمل ألم الوخزة ، ولتناول جرعة من العسل لا بدّ من تحمل لسع النحل ، وأنّ الكنوز موجودة عادّةً في الخرائب ، والجنّة كامنة في أعماق المشاكل والحوادث المؤلمة.
ومن المعلوم أنّ كلّ إنسان يتفكر جيّداً في هذه الامور فإنه سيجد في نفسه القدرة على الصبر أكثر وتتعمق فيه هذه الفضيلة الأخلاقية ، ومن ذلك ورد في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «لِكُلِّ نِعْمَةٍ مِفْتاحٌ وَمِغْلاقٌ وَمِفتاحُهَا الصَّبْرُ وَمِغلاقُها الْكَسَلْ» ([64]).
4 ـ وأحد العوامل والدوافع الاخرى للصبر وسُبل تقويته في وجود الإنسان هو أن يتشبه الإنسان بالصابرين ، وهذا الأمر يصدق على جميع الفضائل الأخلاقية ، فكلّما تحلّى الإنسان في الظاهر بصفة معيّنة فسوف تنفذ وتمتد إلى باطنه بالتدريج ويكتسب بذلك هذه الملكة.
وورد في حديث شريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) «مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرُهُ اللهُ وَمَنْ يَسْتَعْفِف يَعُفَّهُ اللهُ ، وَمَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهُ اللهُ وَمَا اعْطِي عَبْدٌ عَطاءً هُوَ خَيرٌ وَاوسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» ([65]).
5 ـ الصبر له علاقة وثيقة بسعة وجود الإنسان وشخصيته ، فكلّما اتسعت ظرفية الإنسان وقويت شخصيته فإنه يعيش الصبر والاستقامة أكثر وأشد ، ولهذا السبب فإنّ الأطفال وكذلك الكبار الّذين يعيشون حالة الطفولة يجزعون لأقل حادثة ، في حين أنّ الأشخاص الّذين يتمتعون بشخصية قوية وسعة صدر فإنه يهضمون المشكلات ويتغلبون عليها.
إن المسبح الصغير قد يتماوج بأدنى نسيم وأقل ريح بينما البحر الكبير لا يتماوج بهذه السهولة ، وإنما سمّي أكبر المحيطات في الدنيا بالمحيط الهادي لأن هيجان أمواجه هي أقل من هيجان الأمواج في المحيطات الاخرى.
إن مطالعة سيرة الشخصيات المهمة في التاريخ البشري وخاصّة الأنبياء والأولياء الإلهيين الّذين وصلوا إلى مقامات عالية ومراتب سامية في دائرة الكمال المعنوي بسبب الصبر والاستقامة ، يمكنها أن تكون من العوامل المؤثرة في تقوية هذه الملكة الحميدة في الإنسان ويكون دافعاً له على التحلي بهذه الفضيلة أسوةً بهؤلاء العظام.
إن مسألة الصبر والاستقامة مقابل الحوادث المؤلمة والمشكلات الكبيرة الّتي تواجه الإنسان في حركة الحياة لا تقتصر على البعد الأخلاقي والمعنوي فحسب بل هي مؤثرة بالنسبة إلى سلامة البدن وقواه الحيوية ، فالأشخاص الّذين لا يملكون حالة الصبر أمام الحوادث فإنّ حياتهم عادةً تكون مقترنة بأنواع الأمراض وأهمها الأمراض القلبية والعصبية ، في حين أنّ الصابرين يتمتعون بعمرٍ طويل مع سلامة بدنية نسبية ، ولذلك فإنّ علماء النفس يرون أنّ الدين بصورة عامة «والّذي يقوي في الإنسان حالة الصبر أمام المشكلات» يعد أحد شروط سلامة الجسم والصحّة النفسية.
وفي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال : «مَن احَبَّ الْبَقاءَ فَلْيُعِدَّ لِلْمَصائِبِ قَلْباً صَبُوراً» ([66]).
«الجزع» يقع في النقطة المقابلة للصبر ، وهو الحالة النفسية الّتي لا تنضبط فيها النفس أمام الحوادث والمشاكل بحيث يعيش الإنسان الرضوخ والإذعان بالأمر الواقع وتحدياته الصعبة وتتملكه حالة اليأس من الخلاص ، أو تمنعه هذه الحالة من التحرّك والسعي نحو المقصود والهدف.
إن الجزع يعد من اشنع الصفات الأخلاقية وأسوأ الحالات النفسية للإنسان حيث تفضي به إلى الشقاء في الدنيا والآخرة وتمنعه من تحصيل المقامات والمراتب العالية في معراج الكمال ، وتؤدي كذلك إلى فقدان شخصيته وحيثيته في المجتمع وتكون حياته مليئة بالمنغصات والمؤلمات فلا يرى للراحة والسعادة وجهاً.
وقد وصف القرآن الكريم الإنسان في سورة المعارج بأنه موجود حريص وقليل الصبر عند ما يدهمه بلاءٌ وسوء ، وعند ما يحصل على شيء من النعمة والخير فإنه يتحرك فيه عنصر البخل ويمنعه من البذل والعطاء كما تقول الآية : «انَّ الْانْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* اذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَاذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» ([67]).
والمراد من الإنسان في هذه الآية «كما وردت هذه الكلمة في آيات قرآنية اخرى تصف الإنسان بصفات سلبية مشابهة» هو الإنسان الّذي لم يصل بعد إلى مستوى النضج الأخلاقي والعاطفي ولم يسلك في خطّ تهذيب النفس ، ولذلك ورد في ذيل هذه الآيات استثناء الأشخاص الّذين يعيشون الإيمان ويسلكون في خطّ الصلاة ومساعدة المحرومين ومراعاة اصول العفة والأمانة كما تقول الآيات «الَّا الْمُصَلِّينَ ..... والَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِم يُحَافِظُونَ» ([68]).
إنّ تعبير الآيات أعلاه لعلّه إشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الأشخاص الّذين يعيشون الجزع وقلّة الصبر هم عادةً من البخلاء أيضاً ، كما أنّ البخلاء يتسمون بالجزع أيضاً ، وبعبارة اخرى : أنّ هاتين الصفتين يرتبطان برابطة وثيقة ويجتمعان في دائرة مفهوم «هلوع».
وقد ورد في الروايات الإسلامية أيضاً بحوث عميقة وجذابة تتضمن ملاحظات دقيقة في هذا المجال ، وفيما يلي نشير إلى بعض النماذج منها :
1 ـ ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذمّ الجزع قوله «ايَّاكَ وَالْجَزَعَ فَانَّهُ يَقْطَعُ الامَلَ وَيُضَعِّفُ الْعَمَلَ وَيُورِثُ الهَمَّ» ([69]).
2 ـ وقد ورد أيضاً عن هذا الإمام يقول في حديث آخر ضمن الإشارة إلى نكتة لطيفة اخرى : «الْجَزَعُ اتْعَبُ مِنَ الصَّبْرِ» ([70]).
والسبب في ذلك واضح ، وهو أنّ الجزع وقلّة الصبر لا يحل أيَّة مشكلة وليس له أثر سوى أن يحطم عناصر القوّة والاستقامة في روح الإنسان وجسمه ، ولهذا فإنّ الّذي يعيش الجزع يوقع نفسه في التعب أكثر من الصابر ، مثلاً عند ما يفقد الإنسان عزيزاً له يمكن أن يصرخ ويلطم وجهه ويضرب رأسه بالجدار أو ينتحر أخيراً ، ولكن أية واحدة من هذه السلوكيات لا تعيد له عزيزه ، بل من شأنها أن تدمر دعائم الإيمان في قلبه وتحطيم أركان سلامته البدنية والروحية ، مضافاً إلى انه سيتلف ثوابه الأُخروي.
3 ـ ويقول الإمام علي (عليه السلام) أيضاً «الْجَزَعُ لا يَدْفَعُ الْقَدَرَ وَلَكِنْ يُحْبِطُ الاجْرَ» ([71]).
وبالنسبة إلى سبب احباط الأجر فلا بدّ من القول : أنّ الجزع وعدم الصبر علامة على عدم الرضا وعدم التسليم لقضاء الله وقدره ، فهو في الواقع اعتراض على عدل الله وحكمته حتّى لو كان الجازع غافلاً عن هذا المطلب.
4 ـ وورد في حديثٍ آخر عن الإمام الهادي (عليه السلام) وضمن الإشارة إلى نكتة اخرى «الْمُصِيبَةُ لِلصَّابِرِ وَاحِدَةٌ وَلِلْجَازِعِ اثْنانِ» ([72]). وكما تقدّم أنّ الجزع وعدم الصبر من شأنه مضافاً إلى زوال أجره وانعدام ثوابه أن يزيد في مشكلته ، وعليه فإنّ المصيبة على الجازع مضاعفة.
5 ـ ويقول الإمام الكاظم (عليه السلام) في بيانه لأحد وصايا المسيح (عليه السلام) «وَلَا تَجْعَلُوا قُلُوبَكُم مَأْوىً لِلشَّهَواتِ انَّ اجْزَعَكُم عِنْدَ الْبَلاءِ لَاشَدُّكُم حُبّاً لِلدُّنيَا وَانَّ اصْبَرَكُمْ عَلَى الْبَلاءِ لَازْهَدُكُم فِي الدُّنيَا» ([73]).
ويستفاد من هذه الرواية أنّ المصدر الأساس للجزع وعدم الصبر هو الحرص وحبّ الدنيا ، ولأجل أن يخفف الإنسان من شدّة الجزع عليه أن يخفف من حبّه للدنيا وتعلقه بزخارفها.
6 ـ ونقرأ في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «انْ تَحْتَسِبُوا وَتَصْبِرُوا تُوجَرُوا ، وَانْ تَجْزَعُوا تَأْثِمُوا وَتُوزَرُوا» ([74]).
7 ـ وفي حديثٍ مختصر وعميق المعنى عن أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول «مَنْ لَمْ يُنْجِهِ الصَّبْرُ اهْلَكَهُ الْجَزَعُ» ([75]).
ونختم هذا البحث بحديث آخر عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بعنوان «مسك الختام» فقد ورد في هذا الحديث أنّ رسول الله كتب إلى بعض أصحابه يعزّيه بابنه : «أما بعد فعظم الله جلّ اسمه لك الأجر والهمك الصبر ... فلا تجمعن أن يحبط جزعك أجرك وأن تندم غداً على ثواب مصيبتك وانك لو قدمت على ثوابها علمت أنّ المصيبة قد قصرت عنها واعلم أنّ الجزع لا يرد فائتاً ولا يدفع حزن قضاء فليذهب أسفك ما هو نازل بك مكان ابنك والسلام» ([76]).
وينقل المرحوم المحدّث القمّي في «سفينة البحار» قصة جميلة عن «بزرجمهر» وزير كسرى تتعلق بمسألة الصبر هذه ويقول : «حكي عن بعض التواريخ أنّه سخط كسرى على بزرجمهر، فحبسه في بيت مظلم وأمر أن يصفّد بالحديد ، فبقي أياماً على تلك الحال ، فأرسل إليه من يسأله عن حاله ، فإذا هو منشرح الصدر مطمئن النفس ، فقالوا له : أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال. فقال : اصطنعت ستة أخلاط وعجنتها واستعملتها فهي الّتي ابقتني على ما ترون.
قالوا : صف لنا هذه الأخلاط لعلّنا ننتفع بها عند البلوى.
فقال : نعم ، أما الخلط الأوّل فالثقة بالله عزوجل.
وأما الثاني : فكلّ مقدّر كائن.
وأما الثالث : فالصبر خير ما استعمله الممتحن.
وأما الرابع : فإذا لم أصبر فما ذا أصنع ولا أعين على نفسي بالجزع.
وأما الخامس : فقد يكون أشدّ ممّا أنا فيه.
وأما السادس : فمن ساعة إلى ساعة فرج.
فبلغ ما قاله كسرى فأطلقه وأعزّه ([77]).
علاج الجزع وقلّة الصبر :
إن هذا المرض النفسي والأخلاقي مثل بقية الأمراض الاخرى له طرق للعلاج ونشير إليها فيما يلي :
1 ـ تشخيص المرض
عند ما يتوجه المريض إلى الطبيب الروحاني يقوم هذا الطبيب بالفحص عن علامات المرض الأخلاقي والروحي من قبيل : الضرب على الرأس والوجه ، عض الأنامل ، الصراخ والعويل ، سوء الأخلاق والجفاف في التعامل مع الآخرين ، سوء المعاملة مع الزوجة والأطفال وكذلك الشكوى وعندها يدرك هذا الطبيب وجود مرض الجزع في مثل هذا الشخص وبالتالي يقوم بعلاجه بطرق مختلفة.
2 ـ التفكير بالعواقب السلبية للجزع وقلّة الصبر
إن تفكير المريض بعواقب الجزع الوخيمة والآثار السلبية لقلّة الصبر له دورٌ مهم في علاج هذا المرض الروحي ، وقلما يسمع الإنسان بعواقب هذا المرض الوخيم ولا ينزجر لهذه الحالة ويتصدّى لرفعها من نفسه وإزالتها من أخلاقه.
أجل ، فعند ما يعلم الإنسان أنّ الجزع يذهب بأجره وثوابه عند الله تعالى من دون أن يحل له أية مشكلة ، وكذلك يحطم أعصابه وقواه النفسية ويسلب منه سلامته البدنية والروحية ، والأسوأ من ذلك انه يوصد أمامه أبواب حلّ المشكلة ، لأن الإنسان إذا احتفظ ببرودة أعصابة عند بروز المشكلات والمصائب وتسلط على نفسه فإنّ ذلك من شأنه أن يفتح أمام عقله أبواب الحلّ لذلك المشكل أو على الأقل يقلل من شدّة المصيبة ، ولكنَّ الإنسان وبسبب حالة الجزع والاضطراب وعدم التسلط على الأعصاب وبالتالي عدم تمركز الفكر فإنه لا يجد أمامه نافذة مفتوحة للأمل والحلّ ، بل حتّى لو فتحت له الأبواب والنوافذ ليرى حلاً لهذه المشكلة فإنه وبسبب ما يعيشه من حالة الأضطراب والتوتر لا يرى هذه الأبواب والنوافذ ، بخلاف ما إذا هدأ لحظة وضبط نفسه لفترة وجيزة ونظر إلى ما حوله فسيجد طريق النجاة والحلّ أمامه يسيراً.
إن النظر الدقيق إلى هذه الحقائق والتدبر فيها له تأثير مهم في تغير حالة الجزع لدى الإنسان وبالتالي مع تكرارها سينطوي الشخص تحت لواء الصابرين.
3 ـ مطالعة الآيات والروايات الواردة في هذا الباب
إن مطالعة الآيات والروايات الشريفة الّتي تتحدث عن أجر الصابرين وثوابهم ومقامهم عند الله له دور مهم في تقوية عناصر الصبر والاستقامة في روح الإنسان ، ومن ذلك ما ورد في الآية الشريفة الّتي تبشر الصابرين بأعظم بشارة وتقول : «وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ اذَا اصَابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قَالُوا انَّا للهِ وَانَّا الَيهِ رَاجِعُونَ* اولئِكَ عَلَيْهِم صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِم وَرَحْمَةٌ وَاولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» ([78]).
وعبارة «أُولئك هم المهتدون» تتضمن معنىً عميقاً ولها تفاسير مختلفة ، وأحدها هو ما ذكر آنفاً من أنّ الصابرين سيجدون حلاً لمشكلاتهم أسرع من الآخرين وتفتح أمامهم أبواب النجاة والخلاص من الأزمات والبلايا ، لأن أحد العوامل الأصلية للجزع هو «ضعف النفس» فكلّما سعى الإنسان في تقوية معنوياته وتكريس عناصر الشد والقوّة في نفسه فإنّ ذلك من شأنه أن يمنحه التوفيق لإزالة عناصر الجزع وقلّة الصبر من نفسه.
4 ـ مطالعة حالات الأنبياء والأولياء
وأحد الطرق لعلاج حالة الجزع هي مطالعة حالات الأنبياء والأولياء في دائرة صبرهم واستقامتهم أمام المصائب والبلايا الكثيرة وما كانوا يتحملونه من أعدائه وأقوامهم ، وتذكر هذه الحالات ومطالعتها يلهم الإنسان القوّة في الصمود أمام حجم التحديات المفروضة عليه من الواقع الخارجي والداخلي.
5 ـ تلقين الاعتماد على النفس في تحمّل الصعاب
ولا ينبغي أن ننسى هذه الحقيقة ، وهي أنّ التلقين سواءً كان من طرف الشخص نفسه أو من قبل الآخرين فإنه يشكل عاملاً مؤثراً في إزالة الأخلاق السيئة والصفات الذميمة من واقع النفس ، فلو أنّ الشخص الّذي يعيش قلّة الصبر والجزع يلقن نفسه كلّ يوم بضرورة أن يتحلّى بالصبر ، وكذلك يسعى ممن حوله من افراد الاسرة أو الأصدقاء في تعميق هذا التلقين لديه ، فلا شكّ في ظهور آثار الصبر على سلوكياته وحالاته النفسية.
ونختم هذا البحث بدعاء شريف للإمام زين العابدين (عليه السلام) يقول فيه : «اللهُمَّ اجْعَلْ أَوَّلَ يَوْمِي هَذَا صَلاحاً وَاوسَطَهُ فَلاحاً وَآخِرَهُ نَجاحاً واعُوذُ بِكَ مِنْ يَومٍ اوَّلُهُ فَزَعُ وَاوسَطَهُ جَزَعٌ وَآخِرُهُ وَجَعٌ»
ويستفاد من هذا الحديث أنّ الجزع يورث الإنسان الألم والوجع ، فمضافاً إلى انه لا يزيل همه وألمه فإنه من شأنه أن يزيده ألماً وهمّاً.
الفرق بين الجزع والعواطف المعقولة :
إن قلب الإنسان هو مركز العواطف والاحساسات الإنسانية ، وكلّما فقد الإنسان عزيزاً له فإنه يتألم لذلك ويجري دمع عينه من شّدّة التأثر ، ولكن لا ينبغي الخلط بين إظهار التأثر والحزن مع الجزع وقلّة الصبر ، لأن قلب الإنسان يتأثر بالحوادث المؤلمة بطبيعة الحال ، ويمكن أن تعكس عينه حالة التأثر هذه وتبكي بسبب ذلك.
وعليه فإنّ البكاء والحزن على فقد الأحبّة يعد أمراً طبيعياً وإنسانياً.
فالمهم هو أنّ الإنسان لا يسلك في المصيبة في خطّ الجزع والشكوى وعدم الشكر ويتكلّم بكلمات لا تنسجم مع الإيمان والعبودية لله تعالى والرضا بقضائه ، وفي هذا المجال نقرأ حديثاً عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول : «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجُيُوبَ وَدَعا بِدَعْوَىَ الجَاهِليَّةِ» ([79]).
وقد ورد في سيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) انه عند ما توفي ولده إبراهيم (عليه السلام) بكى النبي (صلى الله عليه وآله) عليه بحيث جرت دموعه على خديه وصدره الشريف فقالوا : يا رسول الله أنت تنهانا عن البكاء ولكنك تبكي لوفاة إبراهيم؟ فقال ليس هذا بكاء وان هذه رحمة ومن لم يرحم لا يرحم ([80]).
أي هذا نوع من إظهار المحبة والرحمة الصادرة من العاطفة الإنسانية الّتي يعيشها الإنسان الواقعي.
وقد ورد هذا الموضوع بتفصيلٍ أكثر في كتاب «بحار الأنوار» حيث ذكر المجلسي أنّه عند ما اتَى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فوضعه في حجره فقال له : يا بني أنّي لا أملك لك من الله شيئاً وذرفت عيناه ، فقال له عبد الرحمن : يا رسول الله تبكي أو لم تنه عن البكاء ، قال : إنّما نهيت عن النوح عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعم لعب ولهو ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبةٍ خمش وجوه وشق جيوب ورنّة شيطان إنّما هذه رحمة ، من لا يرحم لا يرحم ، لو لا أنّه أمر حقّ ووعد صدق وسبيل بالله وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزناً أشد من هذا وأنا بك لمحزونون» ، «وَإِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ تَبْكِيَ الْعَينُ وَدْمَعُ الْقَلْبُ وَلا نَقولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ عَزَّوَجَلَّ» ([81]).
وأحياناً يمكن أن يفقد الإنسان انضباطه وإلتزامه ويشق جيبه ويخمش وجهه ولكن كلّ ذلك يكون بالمقدار المعقول والطبيعي لغرض إيجاد الهيجان العام وتعبئة العواطف والاحساسات في مقابل الأعداء فإنّ ذلك قد يكون ضرورياً أيضاً ويستثنى من الأصل ، إذاً فما ورد من بعض الحالات الاستثنائية لبعض العظماء يكون من هذا الباب.
ونختم هذا الحديث بحديث آخر عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يقول : «النِّياحَةُ عَمَلُ الجَاهِلَيَّةِ» ([82]).
والمراد من النياحة هنا ليس إقامة المآتم أو ذكر المصيبة والبكاء على الميت بصورة فردية أو جماعية بل هو إشارة إلى ما كان مرسوماً ومتداولاً في زمان الجاهلية بين العرب عند ما كان يفقدون أحد الأحبّة ، فإنّهم يدعون نسوة لإقامة النياحة والتحدّث بكلمات لزيادة النوح والبكاء على الميّت ، وفي الغالب يصفونه بأوصاف كاذبة ومبالغ فيها وقد يعملن على تمزيق ثيابهنَّ فيلطمن وجوههن ويخدشن خدودهن ، وبذلك يسعين إلى تثوير عواطف أهل العزاء وتفعيل حرارة المجلس.
[1] سورة الزمر ، الآية 10.
[2] سورة الرعد ، الآية 24.
[3] سورة ص ، الآية 44.
[4] سورة يوسف ، الآية 18.
[5] سورة الأنبياء ، الآية 85.
[6] سورة الكهف ، الآية 67.
[7] سورة البقرة ، الآية 249.
[8] سورة الاحقاف ، الآية 35.
[9] سورة المعارج ، الآية 5.
[10] سورة آل عمران ، الآية 200.
[11] سورة البقرة ، الآية 153.
[12] سورة الزمر ، الآية 10.
[13] سورة الرعد ، الآية 24.
[14] سورة الفرقان ، الآية 75.
[15] سورة البقرة ، الآية 155.
[16] سورة العصر ، الآية 3.
[17] سورة ص ، الآية 44.
[18] تفسير روح البيان ، ج 8 ، ص 45 ذيل الآية.
[19] سورة يوسف ، الآية 18.
[20] تفسير القرطبي ، ج 5 ، ص 338.
[21] سورة يوسف ، الآية 86.
[22] سورة الأنبياء ، الآية 85.
[23] سورة الكهف ، الآية 67 و 68.
[24] سورة البقرة ، الآية 249.
[25] سورة البقرة ، الآية 250.
[26] سورة الاحقاف ، الآية 35.
[27] سورة المعارج ، الآية 5.
[28] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 93.
[29] سورة آل عمران ، الآية 200.
[30] سورة البقرة ، الآية 153.
[31] سورة البقرة ، الآية 153.
[32] اصول الكافي ، ج 1 ، ص 154 ، روح البيان ، ج 1 ، ص 257.
[33] سورة الزمر ، الآية 10.
[34] أورد هذا الحديث كلّ من الطبرسي في مجمع البيان ، والقرطبي في تفسيره ، والبرسوئي في روح البيان ، مع تفاوت يسير ذيل هذه الآية.
[35] سورة الرعد ، الآية 24.
[36] القرطبي ، ج 5 ، ص 4532.
[37] تفسير القرطبي ، ج 5 ، ص 4532.
[38] سورة الفرقان ، الآية 75.
[39] سورة البقرة ، الآية 155 ـ 157.
[40] سورة العصر ، الآية 1 ـ 3.
[41] ميزان الحكمة ، ج 2 ، ح 10025.
[42] نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، 82.
[43] نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الحكمة 153.
[44] المحجّة البيضاء ، ج 7 ، ص 106.
[45] المحجّة البيضاء ، ج 7 ، ص 107.
[46] غرر الحكم ، ح 765.
[47] جامع الأحاديث الشيعة ، ج 14 ، ص 253.
[48] شرح غرر الحكم ، ح 3713.
[49] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 92.
[50] بحار الأنوار ، ج 2 ، ص 526 ، ح 830.
[51] بحار الأنوار ، ج 68 ، ص 90 ، ح 44.
[52] بحار الأنوار ، ج 68 ، ص 96.
[53] غرر الحكم ، ح 213.
[54] سورة الأنفال ، الآية 65.
[55] كنز الفوائد ، ص 58.
[56] غرر الحكم ، ح 9809.
[57] بحار الأنوار ، ج 68 ، ص 19 ، ح 45.
[58] وسائل الشيعة ، ج 11 ، كتاب الجهاد ، ص 209 ، ح 5.
[59] بحار الأنوار ، ج 68 ، ص 77 ، في اصول الكافي ، ج 2 ، ص 91 بهذا المعنى.
[60] نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، ح 31.
[61] غرر الحكم ، ح 3084.
[62] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 93 ، ح 25.
[63] غرر الحكم ، ح 9144.
[64] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج 20 ، ص 322.
[65] ميزان الحكمة ، ج 2 ، ح 10128.
[66] بحار الأنوار ، ج 75 ، ص 81 ، ح 71.
[67] سورة المعارج ، الآية 19 ـ 21.
[68] سورة المعارج ، الآية 22 ـ 34.
[69] بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 144.
[70] بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 131 ، ح 16.
[71] غرر الحكم ، ح 1876.
[72] بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 144.
[73] بحار الأنوار ، ج 1 ، ص 106.
[74] بحار الأنوار ، ج 6 ، ص 169.
[75] بحار الأنوار ، ج 68 ، ص 96.
[76] ميزان الحكمة ، ج 2 ، ص 1563 ، ح 10118.
[77] سفينة البحار ، مادّة صبر.
[78] سورة البقرة ، الآية 155 ـ 157.
[79] بحار الأنوار ، ج 85 ، ص 93.
[80] أمالي الطوسي ، ص 388.
[81] بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 90.
[82] بحار الأنوار ، ج 79 ، ص 103.
|
|
لصحة القلب والأمعاء.. 8 أطعمة لا غنى عنها
|
|
|
|
|
حل سحري لخلايا البيروفسكايت الشمسية.. يرفع كفاءتها إلى 26%
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل: شراكتنا مع المؤسّسات الرائدة تفتح آفاقًا جديدة للارتقاء بجودة التعليم الطبّي في العراق
|
|
|