لزوم اتّباع العامّيّ للأعلم
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج3/ص4-7
2025-11-26
31
يمكننا أن نقتطف ثمرتين من كلّيّة هذا البرهان:
الاولى: رجوع العامّيّ إلى العالِم، ووجوب تقليده في المسائل الشرعيّة الفرعيّة، بل وجوب رجوع العامّيّ إلى الأعلم. هذا مع أنَّي لحدّ الآن لم أجد أحداً من العلماء الكبار قد استدلّ في الكتب الاصوليّة من مسائل الاجتهاد والتقليد على لزوم تقليد الأعلم.
أمّا رجوع العامّيّ إلى العالم فسببه أنَّ العامّيّ لا يعلم والعالم يعلم ولذلك فرض إبراهيم على مربّيه اتّباعه.
وأمّا رجوع العامّيّ إلى الأعلم، فلأنَّ الأعلم أفضل الموجودين اطّلاعاً وتبحّراً، وأكثرهم علماً وقدرة على الاستنباط في جميع المسائل. فالعالم أقلّ من الأعلم علماً واطّلاعاً وقدرة، فهناك جوانب وزوايا في جميع المسائل قد وصل إلىها الأعلم واكتشفها بَيدَ أنَّ العالم لم يصل إلى تلك الدقائق ولم يتمكن منها، فإذا رجع العامّيّ إلى العالم ولم يرجع إلى الأعلم، فإنَّه يكون قد اتّبع غير العالم في تلك الجوانب والمسائل الدقيقة1، وأمّا وفقاً لهذا الفرض فإنَّ الترديد واقع بين المجتهد المطلق والمجتهد المتجزّئ لا بين الأعلم والعالم القائمة له الحجّة الشرعيّة في عامّة الأحكام، وإلّا فإنَّه يجب على المجتهد العالم نفسه أن يرجع إلى المجتهد الأعلم، وهذا الأمر مخالف للبناء القطعيّ للعقلاء. مثلًا لم يحدث في أيّ مدينة أن يرجع المرضى أو الأطبّاء أنفسهم إلى أعلم الأطبّاء في المدينة. وكذلك في سائر الصناعات والحرف، لم يرجع أحد إلى أعلى أستاذ فيها، وحتى لو رجع، فإنَّه يرجع على سبيل الأرجحيّة لأعلى سبيل التعيّن واللزوم. وكذلك المناط في الآية الكريمة هو العلم والجهل لا الأعلمية والعالمية والجاهلية. (هذه التعليقة من إفادات الاستاذ الكريم سماحة العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه)
إذا رجع إلى الأعلم في خصوص هذه المزايا وخواصّها، فإنَّما يكون قد اتّبع العالم الذي هو نفسه الأعلم، وبالتإلى فإنَّه قد رجع إلى العالم في جميع الخصوصيّات التي يجهلها، سواء كانت تلك الخصوصيّات ممّا يعلمها العالم والأعلم كلاهما، أو كانت ممّا يعلمها الأعلم فقط. وقد ألزم إبراهيم آزر أن يتّبعه بوصفه عالماً في جميع الجوانب والخصوصيّات التي لا يعلمها بشكل مطلق.
الثانية: وجوب اتّباع الإمام. وأنَّ الإمام ينبغي أن يكون أعلم الجميع وأفضلهم. ولو تساوى علمه مع البعض، فرضاً أو كان علمه أقلّ منه، فإنَّه سوف لن يعدّ إماماً بالنسبة إلى ذلك البعض. وفي الحالة الاولى سيكون ترجيحاً بلا مرجّح، وفي الحالة الثانية سيكون ترجيحاً لمرجوح. لذلك فإنَّ على جميع أفراد الامّة أن يتّبعوا الإمام؛ لأنَّ لديه علماً لم يتيسّر لأحد منهم وفي ضوء هذا المعيار، أمر إبراهيم مربّيه آزر أن يتّبعه.
فإنَّ مسألة رجوع الجاهل إلى العالم مسألة فطريّة وعقليّة، والناس جميعهم يحتاجون إلىها في شئون الحياة كلّها. فالمريض ينبغي له أن يراجع الطبيب المتخصّص، وإلّا فسوف يدركه الموت. والبنّاء مع عمّاله ينبغي لهم أن يراجعوا المهندس المعماريّ الخبير، وإلّا فالخلل والدمار سيكونان حليفا بنائهم.
جاء في «بحار الأنوار» نقلًا عن كتاب «عيون المعجزات» أنَّه لمّا قُبض الرضا عليه السلام كان سنّ أبي جعفر عليه السلام نحو سبع سنين فاختلفت الكلمة من الناس ببغداد وفي الأمصار [حول إمامته]. واجتمع الريّان بن الصّلت، وصفوان بن يحيى، ومحمّد بن حكيم، وعبد الرحمن بن الحجّاج، ويونس بن عبد الرحمن، وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجّاج في بركة ذلول يبكون ويتوجّعون من المصيبة. فقال لهم يونس بن عبد الرحمن: دعوا البكاء. مَن لهذا الأمر؟ وإلى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا؟ يعني أبا جعفر الجواد عليه السلام؟ فقام إلىه الريّان بن الصّلت، ووضع يده في حلقه، ولم يزل يلطمه، ويقول له: أنت تظهر الإيمان لنا وتبطن الشكّ والشرك. إن كان أمر من الله جلّ وعلا فلو أنَّه كان ابن يوم واحد، لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه. وإن لم يكن من عند الله، فلو عمّر ألف سنة، فهو واحد من الناس. هذا ممّا ينبغي أن يفكّر فأقبلت العصابة عليه تعذله وتوبّخه.
وكان وقت الموسم فاجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلًا فخرجوا إلى الحجّ وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر عليه السلام. فلمّا وافوا أتوا دار جعفر الصادق عليه السلام لأنَّها كانت فارغة ودخلوها وجلسوا على بساط كبير. وخرج إلىهم عبد الله بن موسى، فجلس في صدر المجلس، وقام مناد، وقال: هذا ابن رسول الله، فمن أراد السؤال، فليسأله. فسئل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب، فورد على الشيعة ما حيّرهم وغمّهم، واضطربت الفقهاء، وقاموا وهمّوا بالانصراف، وقالوا في أنفسهم: لو كان أبو جعفر عليه السلام يكمل لجواب المسائل، لما كان من عبد الله ما كان، ومن الجواب بغير الواجب.
ففتح عليهم باب من صدر المجلس ودخل موفّق [الخادم]، وقال: هذا أبو جعفر. فقاموا إلىه بأجمعهم واستقبلوه وسلّموا عليه، فدخل صلوات الله عليه وعليه قميصان وعمامة بذُؤَابتين، وفي رجليه نعلان وجلس. وأمسك الناس كلّهم. فقام صاحب المسألة فسأله عن مسائله فأجاب عنها بالحقّ ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه وقالوا له: إنَّ عمّك عبد الله أفتى بكيت وكيت. فقال: «لَا إلهَ إلَّا اللهُ يَا عَمِّ! عَظِيمٌ عِنْدَ اللهِ أن تَقِفَ غَداً بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولَ لَكَ: لِمَ تُفْتِي عِبَادِي بِمَا لَمْ تَعْلَمْ وفي الامَّةِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ؟!»
وروي عن عمر بن فرج الرخجيّ قال: قلتُ لأبي جعفر: إنَّ شيعتك تدّعي أنَّكَ تعلم كلّ ماءٍ في دجلة ووزنه! وكنّا على شاطئ دجلة، فقال عليه السلام لي: «يقدر الله تعالى أن يفوّض علم ذلك إلى بعوضةٍ من خلقه أم لا؟» قلتُ: نعم، يقدر. فَقالَ: «أنَا أكْرَمُ على اللهِ مِنْ بَعُوضَةٍ ومِنْ أكْثَرِ خَلْقِهِ»[1].
[1] «بحار الأنوار» طبع الكمباني، ج 12، ص 124.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة