الوصيّة من الأحكام الفطريّة والعقليّة
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج2/ص204-206
2025-11-23
40
تمثّل الوصيّة حكماً من أحكام الشريعة المتقنة المرتكزة على الفطرة، والوصيّة تعني أنّ الإنسان يوصي بشأن امور دينه ودنياه كي لا تُترك سدى، وكما تكون في الحياة بشكل أفضل، فكذلك هي بعد الممات تكون بشكل أفضل أيضاً. والوصيّة حكم عقليّ وقد أقرّها الشارع المقدّس أيضاً. وهذا الحكم له ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: حكم الفطرة، وهذا يعني أنّ كلّ إنسان مجبول فطريّاً على الرغبة في القيام بأعماله والإشراف على جميع شئونه مباشرة ووفقاً لرأيه وهواه. فهذا حكم فطري وغريزة إلهيّة فالإنسان لا يريد أبداً أن يُفِلتَ زمام اموره من يده فيكون بِيَدِ شخص آخر غريب عنه. وإلى جانب رغبته في أعماله وشئونه المتنوّعة، فإنّ له رغبة في أن يكون صاحب القرار فيها من حيث التصرّف والتغيير والتبديل والمحافظة عليها وغير ذلك. وهذه الرغبة لا تنتهي عند ساعة الاحتضار بل تمتدّ إلى ما شاء الله من عمر الزمن ما دام الإنسان يشاهد آثاره شاخصة بعد الموت على تعاقب السنين وتصرّم الأيّام والشهور والدهور.
ولذلك نراه في هذه الدنيا قد مدّ بصره بنظرة ثاقبةٍ فاحصة نحو زمن ما بعد الموت حتى افق واسع وشعاع طويل للغاية فيه. وهو يحاول جاهداً أن يفرض إرادته ويعبّر عن رأيه وحرّيّته وعمّا يراه من صالحه، وذلك من أجل المحافظة على آثاره من علم، وكتاب، وصدقة، وبناء، وولد وزوجة ومزرعة، وأمثال ذلك. ويبذل أقصى جهده من أجل تحقيق ذلك بعد الموت. وهذه الغريزة الفطرية ملحوظة حتى عند الحيوانات. إذ أنّ أكثرها عند ما يشعر بقرب موته ويرى علامات الموت، فإنّه يشيّد لأفراخه بيتاً محكماً وعُشّاً رصيناً بعيداً عن كلّ خطر.
المرحلة الثانية: حكم العقل. لا شكّ أنّ العقل يفرض سيطرته على الإنسان من خلال ما يفكّر به الإنسان نفسه من ضرورة الإهتمام بأموره وتنظيمها وعدم إهمالها ويدرك أنّ عليه تعيين وصيّ له بعد لحفظها وحراستها لتنظيم آثاره والإفادة منها. ويوصي بالمحافظة عليها لكي يتسنّى له الإفادة منها بعد موته بنفس المقدار الذي كان يطمح أن يفيد منها في حياته والعقلاء في العالم ينظرون إلى الشخص الذي يموت بلا وصيّة تاركاً وراءه زوجة، وذرّيّة، ومحلّ تجاريّ، أو مزرعة، أو أمر متعلّق بالحكومة أو بالمسائل العلميّة، أو أمثال ذلك بدون تدبير، ينظرون إلى مثل هذا الشخص نظرة امتهان وازدراء، ويرونه إنساناً ناقصاً، ويذمّونه على ترك الوصيّة. على عكس ما لو أوصى وعيّن له وصيّاً كفوءاً خبيراً بصيراً مدبّراً يدير شئونه ويتولّى أمر ذرّيّته من أولاده الصغار وغيرهم. فإنّهم يُثنون عليه ويمجّدونه، وينظرون إلى عمله بوصفه عملًا إنسانياً.
المرحلة الثالثة: حكم الشرع الذي شُرّع على أساس حكم الفطرة وحكم العقل. والوصيّة في ضوئه حكم ممدوح ومستحسن في جميع الشرائع والأديان. وقد جاءت الوصيّة في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة التي هي أكمل الشرائع وأتمّها بحدود ومواصفات معيّنة واضحة لا غبار عليها. قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[1].
[1] الآيتان 180و 181، من السورة 2: البقرة.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة