تاريخ الفيزياء
علماء الفيزياء
الفيزياء الكلاسيكية
الميكانيك
الديناميكا الحرارية
الكهربائية والمغناطيسية
الكهربائية
المغناطيسية
الكهرومغناطيسية
علم البصريات
تاريخ علم البصريات
الضوء
مواضيع عامة في علم البصريات
الصوت
الفيزياء الحديثة
النظرية النسبية
النظرية النسبية الخاصة
النظرية النسبية العامة
مواضيع عامة في النظرية النسبية
ميكانيكا الكم
الفيزياء الذرية
الفيزياء الجزيئية
الفيزياء النووية
مواضيع عامة في الفيزياء النووية
النشاط الاشعاعي
فيزياء الحالة الصلبة
الموصلات
أشباه الموصلات
العوازل
مواضيع عامة في الفيزياء الصلبة
فيزياء الجوامد
الليزر
أنواع الليزر
بعض تطبيقات الليزر
مواضيع عامة في الليزر
علم الفلك
تاريخ وعلماء علم الفلك
الثقوب السوداء
المجموعة الشمسية
الشمس
كوكب عطارد
كوكب الزهرة
كوكب الأرض
كوكب المريخ
كوكب المشتري
كوكب زحل
كوكب أورانوس
كوكب نبتون
كوكب بلوتو
القمر
كواكب ومواضيع اخرى
مواضيع عامة في علم الفلك
النجوم
البلازما
الألكترونيات
خواص المادة
الطاقة البديلة
الطاقة الشمسية
مواضيع عامة في الطاقة البديلة
المد والجزر
فيزياء الجسيمات
الفيزياء والعلوم الأخرى
الفيزياء الكيميائية
الفيزياء الرياضية
الفيزياء الحيوية
الفيزياء العامة
مواضيع عامة في الفيزياء
تجارب فيزيائية
مصطلحات وتعاريف فيزيائية
وحدات القياس الفيزيائية
طرائف الفيزياء
مواضيع اخرى
سيادة القانون
المؤلف:
ستيفن هوكينج و ليونارد ملودينوو
المصدر:
التصميم العظيم - إجابات جديدة على أسئلة الكون الكبرى
الجزء والصفحة:
ص23
2025-10-16
33
في ميثولوجيا الفايكنج ، يُطارد الذئبان "سكول" و"هاتي" القمر والشمس. وعندما يقبض أحد الذئبين على الآخر يحدث الكسوف، وعندئذ يهرع البشر على الأرض لإنقاذ الشمس أو القمر بإصدار أقصى ما يستطيعون من ضوضاء على أمل إخافة الذئبين. هناك أساطير مشابهة في الثقافات الأخرى. لكن بمرور الوقت، لا بد وأن لاحظ الناس أنَّ الشمس والقمر سرعان ما يبزغان بعد الكسوف، بغض النظر عن الجري والصراخ وقرع الأشياء. ولا بد أنهم قد لاحظوا بمرور الوقت أن الكسوف لا يحدث بشكل عشوائي، بل يحدث وفقًا لترتيب منتظم ومتكرر. وكان هذا الترتيب أكثر وضوحًا بالنسبة لخسوف القمر، مما مكن البابليين القدماء من التنبؤ بخسوف القمر بشكل دقيق تماما، على الرغم من عدم إدراكهم أن سبب ذلك هو اعتراض الأرض للضوء القادم من الشمس. لقد كان كسوف الشمس أكثر صعوبة في التنبؤ، لأنَّه كان يُرَى فقط في نطاق جزء من الأرض باتساع ثلاثير ميلا. وبمجرَّد إدراك ذلك، فإنَّ تلك الأشكال قد بينت أنَّ الكسوف لا يعتمد على الأهواء الاعتباطية للكائنات فوق الطبيعية، لكنه كان بدلاً من ذلك محكوما بالقوانين.
الكسوف لم يعرف القدماء سبب الكسوف، لكنهم لاحظوا أنماط حدوثه
بالرغم من النجاحات الأولى للتنبؤ بحركة الأجرام الشمسية، إلا ان معظم أحداث الطبيعة قد بدا من المستحيل لأسلافنا أن يتنبؤوا بها. فالبراكين والزلازل والعواصف ووباء الطاعون وانغراس الظفر في إصبع القدم، كان يبدو أنها جميعًا تحدث بلا سبب أو دون ترتيب واضح. ففي العصور القديمة كان من الطبيعي إرجاع أفعال الطبيعة العنيفة إلى عبث الآلهة، أو سخطها الشديد. وكانت الكوارث تؤخذ على أنها علامة على إغضابنا للآلهة بشكل ما. فمنذ حوالي (5600 عام ق. م) مثلا ثار بركان جبل مازاما Mount Mazama الموجود بأوريجون) Oregon. وقد لفظ هذا البركان الصخور والرماد البركاني لسنوات، مما أدى إلى سقوط الأمطار لعدة سنوات، حيث امتلات فعلا فُوَّهة البركان، وصارت تُعرف حتى اليوم باسم "بحيرة
الفوهة" Crater Lake. . ويوجد لدى هنود الكلاماث clims Klamath In-في أوريجون أسطورة تتوافق بالضبط مع تفاصيل هذا الحدث الجيولوجي، لكنَّها تضيف بعض الدراما بإظهار الإنسان على أنه سبب هذه الكارثة. إنّ استعداد الإنسان لحمل الذَّنْب يتمثل دائما في مقدرته على إيجاد طريقة للوم نفسه. وكما تذهب الأسطورة فإن "لاو" Llao سيد العالم السفلي، قد شغف حُبًّا بفتاة جميلة من بني البشر، وهي ابنة زعيم كلامات التي رفضته بازدراء، فقرر "لاو" الانتقام، وحاول تدمير كلامات بالنار. لكن لحسن الحظ وبحسب ما تروي الأسطورة، فإنَّ سكل Skell سيد العالم العلوي، قد وقف إلى جانب البشر ودخل في معركة مع غريمه من العالم السفلي. وفعلا، سقط "لاو" جريحًا ليعود إلى داخل جبل مازاما، مخلفا وراءه حفرة هائلة، وهي الفُوَّهة التي امتلأت فعليا بالماء.
إنَّ الجهل بطرق الطبيعة قاد الناس في العصور القديمة لابتكار الآلهة التي تتحكم في كل مناحي الحياة البشرية. فكانت هناك آلهة للحب وللحرب وللشمس وللسماء وللمحيطات، وللأنهار، وللأمطار، وللأعاصير، وحتّى للزلازل وللبراكين. وعندما ترضى لآلهة، كان الإنسان يتمتع بصفاء الجو وبالسلام ويتخلص الأمراض والكوارث الطبيعية وعندما تغضب، كان يأتي الجفاف والحرب والطاعون والأوبئة. ولما كانت الصلة بين العلة والأثر في الطبيعة غير واضحة، فقد بدت تلك الآلهة غامضةً، وكان البشر تحت رحمتها، لكن بمجيء طاليس من مدينة ميليتوس (624 - 546 ق م) Thales of Mi letus منذ حوالي 2600 عام، بدأت تلك في الفكرة، التبدل، ونشأت فكرة أنَّ الطبيعة تتبع قواعد متماسكة يمكن حل شفرتها. وبدأت بالتالي عملية طويلة لإحلال فكرة سيطرة الآلهة بمفهوم الكون المحكوم بقوانين الطبيعة، وأنَّ . هذا الكون قد خُلق وفقًا لمخطط يمكننا تعلم قراءته ذات يوم.
وبإلقاء نظرة على التسلسل الزمني للتاريخ البشري، سنرى أنَّ التساؤل العلمي يُعدُّ محاولة حديثة جدا. فقد نشأ نوعنا "الهوموسابينس" Homo sapiens في إفريقيا جنوب الصحراء حوالي (200.000 سنة ق.م). ويعود تاريخ اللغات المكتوبة إلى حوالي 7000 سنة فقط، كمنتج للمجتمعات التي تركزت حول زراعة المحاصيل. (بعض أقدم النقوش المكتوبة تتعلق بحصة البيرة التي كان يُسمح بها يوميًا لكل فرد). ويعود تاريخ أول سجلات مكتوبة إلى الحضارة اليونانية القديمة العظيمة في القرن التاسع قبل الميلاد. لكن أوج هذه الحضارة وهي الفترة "الكلاسيكية كان بعد ذلك بعدة مئات من السنوات، إذ بدأت قبل 500 عام من الميلاد بقليل. وطبقا لأرسطو Aristotle (384) - 322 ق م ) فقد طور طاليس بحدود هذا الوقت لأوّل مرة فكرة أن العالم يمكن فهمه، وأن الأحداث المعقدة التي تجري حولنا يمكن اختزالها إلى مبادئ أبسط، ويمكن شرحها دون اللجوء لى التفسيرات الخرافية والأسطورية.
ويُنسب إلى طاليس قيامه بأوّل تنبؤ بالكسوف الشمسي في عام 585 ق م)، مع أنَّ دقة تنبؤه الكبيرة كانت في الغالب تخمينا سعيد لحظ. لقد كان طاليس شخصية طيفية، فلم يترك وراءه أية كتابات خصه، وكان بيته موجودا في المركز الثقافي بمنطقة أيونيا Ionia التي كان يحتلها اليونانيون، وقد امتدَّ أثرها ليصل من تركيا حتى إيطاليا في قصى الغرب. كان العلم الأيوني محاولة تميزت بالاهتمام الشديد إماطة اللثام عن القوانين الأساسية التي تحكم الظواهر الطبيعية، كما شكلت معلما هاما ورائعا في تاريخ الفكر البشري. لقد كانت قارباتهم ذهنية، وأدت في عدة حالات إلى استخلاصات تشبه
أيونيا كان الباحثون في أيونيا القديمة ضمن أوائل من فسر الظواهر الطبيعية من خلال قوانين الطبيعة بدلا من الأسطورة واللاهوت
اكتشف العلاقة الرقمية بين طول الأوتار المستخدمة في الآلات الموسيقية والخليط الهارموني للأصوات الناتجة عنها. وبلغة اليوم يمكننا وصف تلك العلاقة بالقول: إن تردُّد الوتر "أي عدد الاهتزازات في الثانية الواحدة" الذي يهتز بقوة شد ثابتة يتناسب عكسيا مع طوله ومن وجهة النظر العملية، فإنَّ هذا يفسر لماذا ينبغي أن يكون للجيتار الجهير أوتار أطول من الجيتار العادي. ربما لم يكتشف فيثاغورث ذلك فعليا - وهو أيضًا لم يكتشف النظرية الرياضية المسماة باسمه - لكنَّ هناك دليلا على وجود علاقة ما كانت معروفة في تلك الأيام بين طول الوتر، وبين النغمة التي تصدر عنه. فإذا كان الأمر كذلك، يمكن للمرء أن يُسمي تلك الصيغة الرياضية البسيطة أول نموذج لما نعرفه الآن بالفيزياء النظرية.
بعيدا عن قانون الأوتار لفيثاغورث، فإنَّ القوانين الفيزيائية الوحيدة التي عرفها القدماء بشكل صحيح كانت ثلاثة قوانين، وقد ذكرها بالتفصيل أرشميدس Archimedes 28 - 212 ق.م) الذي يُعد إلى حد بعيد أبرز علماء الفيزياء في العصر القديم. وبمصطلحات اليوم، فإنَّ قانون الروافع يشرح كيف يمكن للقوة الصغيرة أن ترفع أوزانًا كبيرة، لأن الرافعة تعمل على تكبير القوَّة حسب نسبة المسافة من محور ارتكاز الرافعة. وينصُّ قانون الطَّفو على أنَّ أي جسم مغمور في سائل سيلاقي قوَّةً مضادَّةً تعمل لأعلى وتساوي وزن السائل المزاح. كما أكد قانون الانعكاس على أنَّ الزاوية الواقعة بين شعاع الضوء، وبين المرآة تكون مساوية للزاوية الواقعة بين المرأة والشعاع المنعكس. لكن أرشميدس لم يُسم كل هذا بالقوانين، كما لم يقم بشرحها مدعومة بمرجعية من الملاحظة والقياس، وبدلا من ذلك تعامل معها نما لو أنها كانت نظريات ياضية صرفة، في نظام بدهي يشبه كثيرًا ذلك الذي ابتكره إقليدس Euclid في الهندسة.
و بينما كان ينتشر النفوذ الأيوني، ظهر آخرون يرون أنَّ الكونَ لديه نظام داخلي نظام يمكن فهمه من خلال الملاحظة والتفسير. وقد جادل آناکسیماندر Anaximander (610) ق. م صديق طاليس وربما تلميذه، بأن طفل الإنسان يكون ضعيفًا ولا حول له أو قوَّةَ عند لحظة ولادته، فإذا ظهر أوّل إنسان على الأرض كطفل بطريقة ما، فلن يكتب له البقاء على قيد الحياة، فيما يمكن اعتباره أوّل معرفة محدودة للإنسان . بموضوع التطور. لذلك فإنَّ البشر، كما علل آناكسيماندر، لا بد وأن يكونوا قد تطوَّروا من حيوانات كانت صغارها أقوى. وفي صقلية، لاحظ إمبيدو قليس Empedocles (490 - 430 ق.م) الطريقة التي تستعمل بها آلة الكليبسيدرا clepsydra والتي كانت تُستخدم كمغرفة أحيانًا، فكانت تتكون من كرة ذات عنق زجاجي مفتوح وثقوب صغيرة في قاعها، وتمتلئ آلة الكليبسيدرا عند غمرها في الماء، لكن إذا تمَّ تغطية عنقها الزجاجيّ، فستبقى آلة الكليبسيدرا من دون أن يتساقط الماء من الثقوب كما لاحظ إمبيد وقليس أنها لا تمتلئ بالماء لو تم تغطية عنقها الزجاجي قبيل عمرها في الماء. وقد فشر ذلك بوجود شيء غير مرئي، يوجب الحيلولة دون دخول الماء للكرة من خلال الثقوب، لقد اكتشف المادة الأساسية التي نسميها "الهواء".
في غضون هذا الوقت قام ديموقريطس Democritus (460 - 370 ق م) من المستعمرة الأيونية بشمال اليونان، بالتفكير مليا في ما يحدث عند تكسير أو تقطيع شيء ما إلى قطع. وجادل بأنه لا يمكنك الاستمرار في هذه العملية إلى ما لانهاية، وافترض بدلا من ذلك أن كل شيء، بما في ذلك . جميع الكائنات الحية، مصنوع من جسيمات أساسية لا يمكن تقطيعها أو تكسيرها إلى أجزاء. وقد سمى تلك الجسيمات المتناهية بالذرات وهي صفة باللغة اليونانية معناها (غير قابل للتقطيع). وقد اعتقد ديموقريطس أن كل ظاهرة مادية هي نتاج لتصادم الذرات. ووفقًا لرؤيته التي يطلق عليها المذهب الذري at omism، فإنَّ كلَّ الذرات تتحرك حول نفسها في الفراغ، وإذا لم يتم إزعاجها، فإنَّها ستظل تتحرك لأجل غير مسمى. وتُسمى هذه الفكرة اليوم بقانون القصور الذاتي.
إنَّ الفكرة الثورية القائلة بأننا مجرَّدُ سكان عاديين في هذا الكون، ولسنا كائنات خاصَّةً تتميز بوجودها في مركزه، قد أيدها لأول مرة أريسطر خوس Aristarchus 10 230) -ق. م) وهو أحد العلماء الأيونيين المتأخرين. لقد بقيت فقط إحدى معادلاته كتحليل هندسي معقد للملاحظات الدقيقة التي قام بها لحجم ظل الأرض على القمر في لحظة خسوفه. فقد استخلص من بياناته أن الشمس يجب أن تكون أكبر بكثير من الأرض. وربَّما بإلهام فكرة أن الأشياء الصغيرة ينبغي أن تدور حول الأشياء العملاقة، وليس العكس، أصبح هو أول شخص يطرح الحجة القائلة بأن الأرض ليست في مركز نظامنا الكوكبي، ولكنها تدور بدلا من ذلك مع الكواكب الأخرى حول الشمس ذات الحجم الأكبر. إنها خطوة صغيرة نحو إدراك أن الأرض ما هي إلا كوكب وحسب ثم فكرة أنَّ شمسنا ليست شيئًا مُميَّزًا أيضًا. لقد توقع أريسطر خوس أنَّ الحال هكذا، كما اعتقد أنَّ النجوم التي نراها ليلًا في السماء ليست في الحقيقة أكثر من شموس بعيدة.
لم يكن الأيونيون سوى إحدى مدارس الفلسفة اليونانية القديمة المتعددة. وكان لكلِّ مدرسة تقاليد مختلفة ومتعارضةٌ في أغلب الأحيان، لكن لسوء الحظ، فإنَّ نظرة الأيونيين للطبيعة ـ التي يمكن شرحها من خلال قوانين عامة واختزالها لمجموعة بسيطة من المبادئ كان لها أثر قوي لمدة قرون قليلة فقط. وأحد أسباب ذلك أن نظريات الأيونيين بدت كما لو أن ليس بها مكان لفكرة الإرادة الحرة أو الغاية أو لمفهوم تدخل الآلهة في أحداث العالم. كان هذا الإغفال مفزعا ومثيرا لقلق عميق لدى عدد من المفكرين اليونانيين، كما هو لدى كثير من الناس الآن. فالفيلسوف أبيقور Epicurus (341 ـ 270 ق، م) على سبيل المثال، قد عارض المذهب الذري على أرضية أنه "من الأفضل اتباع خرافات الآلهة، على أن نصبح عبيدا للمصير الذي يقول به الفلاسفة الطبيعيون". وقد رفض أرسطو أيضًا مفهوم الذرات، لأنَّه لم يستطع تقبل أنَّ البشر مكونون من أجسام جامدة بلا روح. كانت الفكرة الأيونية بأنَّ الإنسان ليس مركزا للكون، حدثًا مهما في فهمنا لهذا الكون، لكنها كانت فكرةً تم تجاهلها ولم يتم استدعاؤها مرة أخرى، ولن يتم قبولها بشكل عام حتّى مجيء جاليليو Galileo، بعد عشرين قرنا تقريبا.
وكما تميزت بعض تخميناتهم عن الطبيعة بالتبصر، فإنَّ معظم أفكار اليونانيين القدامى لا يمكن اعتبارها مرضية، كما هو الحال مع العلم الصحيح في العصور الحديثة. وذلك لسبب واحد وهو أنَّ اليونانيين لم يبتكروا الطريقة العلمية، ولم تتطور نظرياتهم عن طريق التحقق التجريبي. لذلك فلو زعم أحد العلماء أنَّ الذرة تتحرك في خط مستقيم حتى تصطدم بذرة أخرى، وزعم عالم آخرُ أنَّها تتحرك في خط مستقيم حتّى تصطدم بعملاق، فلن تكون هناك طريقة موضوعية لإنهاء هذا الجدل وأيضًا لم يُوجد تمييز واضح بين القوانين التي تتحكم بالإنسان وبين القوانين الطبيعية. ففي القرن الخامس قبل الميلاد على سبيل المثال كتب آناکسیماندر أن كل الأشياء تنشأ من مواد أولية وتعود إليها، خشية دفع غرامة أو عقوبة ثمنًا لمروقها". ووفقًا للفيلسوف الأيوني هرقليطس Heraclitus (535 - 475 ق.م) فإن الشمس تتصرّفُ بتلك الطريقة التي تتصرف بها لكي لا تقوم آلهة العدل بملاحقتها. وبعد . عدة مئات من السنين، فإنَّ الرواقيين Stoics وهم مدرسة في الفلسفة اليونانية نشأت حوالي القرن الثالث قبل الميلاد قاموا بالتمييز بين التشريعات البشرية وبين القوانين الطبيعية. لكنهم قاموا بوضع القواعد التي تحكم تصرُّفات الإنسان والتي اعتبروها كونية - كتبجيل الآلهة وطاعة الوالدين - ضمن فئة القوانين الطبيعية. وفي المقابل، قاموا غالبًا بوصف العمليات الفيزيائية بمصطلحات قانونية واعتقدوا بضرورة فرضها بالقوة، حتى لو كانت الأشياء التي يتطلب "خضوعها" للقوانين أشياء جمادية، فإذا فكرت في صعوبة إجبار البشر على اتِّباع قوانين المرور، عليك تخيل إقناع كويكب صغير بالتحرُّك في مسار قطع ناقص بعد ذلك استمر هذا التراث في التأثير لعدة قرون على المفكرين الذين جاؤا بعد اليونانيين. ففي القرن الثالث عشر تبنّى توما الأكويني (1225 - 1274) Thomas Aquinas أحد أوائل الفلاسفة المسيحيين تلك الرؤية واستخدمها كحُجّة على وجود الله، فقد كتب "من الواضح أنَّ [الأجسام الجامدة] تبلغ نهايتها ليس بمحض المصادفة لكن بالإرادة... ولهذا فهناك وجود لشخصية عاقلة، يؤتمر بأمرها كلَّ شيء في الطبيعة حتّى يصل إلى نهايته"، مع أنه، وبنهاية القرن السادس عشر اعتقد عالم الفلك الألماني العظيم يوهانز كيبلر -Johannes Ke pler (1571 - 1630 ) بأنَّ الكواكب لديها عقل مدرك، وأنها تتبع بشكل واع قوانين الحركة التي تُدركها "بعقولها".
وتعكس فكرة أنه لابد من اتباع قوانين الطبيعة عمدا، تركيز القدماء على سبب تصرف الطبيعة على النحو الذي تتصرف به أكثر من الكيفية التي تتصرف بها. وكان أرسطو أحد المناصرين لهذا، حيث رفض فكرة أنَّ العلم يقوم بالأساس على الملاحظة. وعلى أية حال، كانت المعادلات الرياضية وإجراء القياسات الدقيقة أمورًا صعبة في العصور القديمة. فقاعدة الترقيم العشري التي وُجد أنَّها تتوافق بشكل تام مع علم الحساب يعود تاريخها إلى حوالي 700 سنة بعد الميلاد، عندما أخذ الهنود أول خطوات عظيمة لجعل الحساب وسيلة قوية. ولم تظهر الاختصارات مثل علامتي الناقص (-)، والزائد (+) حتّى القرن الخامس عشر. ولم توجد علامة يساوي (=) ولا الساعات التي يمكنها قياس الوقت بالثواني، قبل القرن السادس عشر.
إلَّا أنَّ أرسطو لم يَرَ في الحساب وفي مشاكل القباس عوائق أمام تطوير تلك الفيزياء التي يمكنها إنتاج تنبؤات كمومية. وبالأحرى فقد رأى أنه لا حاجة لإجرائها وبدلا من ذلك، بني أرسطو فيزياءه على مبادئ بدت له ذات جاذبية فكرية. لقد تغاضى عن الحقائق التي رأى أنها غير جذابة، وركز. جهوده على تعليل حدوث الأشياء، وكرس قليلا من جهده ليشرح بالتفصيل ما الذي يحدث بالضبط. كما قام بتعديل استخلاصاته، عندما كان غير ممكن تجاهل التناقض الصارخ مع الملاحظة. لكن تلك التعديلات التي خُصصت للتفسير غالبا، لم تقدم سوى القليل لتجاوز تلك التناقضات، وبهذا لم يكن مهما الطريقة التي تنحرف بها نظريته عن الواقع بشدة، فقد كان بمقدوره تغييرها دوما لتبدو كأنها قد أزالت التناقض بشكل كاف. على سبيل المثال، تحدد نظريته عن الحركة أن الأجسام الثقيلة تسقط . ثابتة تتناسب طرديا مع وزنها. ولتفسير حقيقة أن الأجسام تكتسب السرعة بشكل واضح أثناء سقوطها، قام باختراع مبدأ جديد مفاده أن الأجسام تستمر متحركة في سعادة وبهجة، وبالتالي تتسارع عند اقترابها من حالة السكون الطبيعية، وهو المبدأ الذي يبدو اليوم مناسبا أكثر لوصف بعض الناس وليس الأجسام الجامدة. ومع أن نظريات أرسطو كان لها مقدرة قليلة على التنبؤ، إلا أنَّ مقاربته للعلم قد سادت في الغرب طيلة ألفي سنة تقريبا.
لقد رفض المسيحيون اليونانيون فيما بعد فكرة أن الكون محكوم بقانون طبيعي محايد. كما رفضوا أيضًا فكرة أنَّ البشر لا يتمتعون بمكانة مميَّزة ضمن هذا الكون. ومع أن فترة القرون الوسطى لم يكن فيها نظام فلسفي مترابط منطقيا، إلا أنَّ الفكرة الأساسية كانت أن الكون هو بيت دمية الله God's dollhouse، وأن دراسة الدين ذات قيمة أكبر من دراسة الظاهرة الطبيعة وفعليا، في عام 1277، وامتثالا لتعاليم البابا جون الحادي والعشرين Pope Jola XXI، قام تمبير Temy أسقف كنيسة باريس بإصدار قائمة بـ21 من الآثام أو الهرطقات التي كان يتوجب إدانتها وكان من ضمن تلك الهرطقات الفة القائلة بأن الطبيعة تتبع القوانين، لأن ذلك كان يتعارض مع قدرة الله الكلية والمثير أن البابا جون قد قتل بعد ذلك بعدة أشهر بتأثير قانون الجاذبية حيث سقط سقف القصر عليه.
لقد بزغ المفهوم الحديث لقوانين الطبيعة في القرن السابع عشر، ويبدو أن كيبلر هو أوّل عالم فهم المصطلح بمعنى العلم الحديث، مع أنه وكما ذكرنا، قد احتفظ برؤية روحانية animistic للأجسام المادية. ولم يستخدم جاليليو Galileo 1564 - 1642م) مصطلح "قانون" في أغلب أعماله العلمية (مع أنه يظهر في بعض ترجمات أعماله). إلَّا أنَّه سواء استخدم الكلمة أم لا، فإنّه قد اكتشف عددًا كبيرًا من القوانين ودافع عن المبدأ الأساسي بأنَّ الملاحظة هي أساس العلم وأنَّ غاية العلم هي البحث عن العلاقات الكمومية الموجودة في الظواهر المادية. لكن رينيه ديكارت René Descartes (1596 - 1650) كان هو الشخص الذي صاغ بشكل صريح وصارم مفهوم قوانين الطبيعة كما نعرفه اليوم.
لقد اعتقد ديكارت أنه يجب تفسير كل الظواهر المادية وفقًا المصطلحات تصادم الكتل المتحركة التي تحكمها ثلاثة قوانين كانت سابقة على قوانين نيوتن الشهيرة للحركة. كما أكد على أنَّ قوانين الطبيعة تلك يجب أن تكون صالحة لكل زمان ومكان، وقال بشكل واضح أن الامتثال لهذه القوانين لا يشير إلى أ أن تلك الأجسام المتحركة لديها عقل كما فهم ديكارت أيضًا أهمية ما نسميه اليوم "الشروط الأولية" التي تصف حالة النظام في بداية آية فترة زمنية ينطلق منها المرء للقيام بالتنبؤ. فبمجموعة معطاة من الشروط الأولية، ستحدد قوانين الطبيعة الكيفية التي يتطوَّر بها النظام بمرور الوقت، لكن دون مجموعة معينة من الشروط الأولية، لا يمكن تحديد هذا التطور. فمثلا لو كانت هناك حمامة فوقك مباشرة في اللحظة صفر، ثم تبرزت على رأسك، فإن مسار هذا البراز يمكن تحديده وفقا لقوانين نيوتن لكن النتيجة ستختلف تماما في اللحظة صفر، وستعتمد على اذا كانت الحمامة واقفة على سلك هاتف أو كانت تطير بسرعة 20 ك في الساعة. فلكي يتم تطبيق قوانين الفيزياء يجب على المرء معرفة الكيفية التي انطلق بها النظام، أو على الأقل حالته في وقت محدد (يستطيع المرء أيضا استخدام القوانين لتتبع النظام بالعودة إلى الماضي).
بهذا الاعتقاد المُتجدد بوجود قوانين للطبيعة، جاءت محاولات جديدة للتوفيق بين تلك القوانين ومفهوم الإله. فحسب ديكارت يستطيع الإله وفقا لرغبته، أن يبدل الحقيقة أو يلفق الفروض الأخلاقية أن النظريات الرياضية، لكن الطبيعة لا، كما اعتقد أنَّ الإله قد رتب انين الطبيعة لكنه لم يكن لديه الخيار في ذلك، أو بالأحرى أنه قد اختارها لأنَّ تلك القوانين التي نعرفها هي القوانين الوحيدة الممكنة. قا، يبدو هذا تعديا على سلطة الإله، لكن ديكارت تحايل على ذلك بافتراض أن القوانين لا تقبل التعديل لأنها انعكاس لطبيعة الإله الداخلية الخاصة. وإذا كان هذا صحيحًا، فقد يفكرُ المرء في أنَّ الإله لا يزال لديه الخيار الخلق تنوع من العوالم المختلفة، يتوافق كل منها مع مجموعة من الشروط الابتدائية المختلفة، لكن ديكارت أنكر ذلك أيضا، فلا يهم ماهو ترتيب المادة عند بداية الكون، كما كان يجادل. إذ أنه بمرور الوقت سوف يتطور هذا العالم ليصبح مماثلا لعالمنا. و الأكثر من ذلك، أنَّ ديكارت أحس أنه بمجرد أن خلق الله العالم فقد تركه وشأنه تماما.
لقد تبنى إسحق نيوتن isaac Newton (1643 - 1727) وضعا مماثلا (مع بعض الاستثناءات). فقد كان نيوتن هو الشخص الذي حظي بقبول واسع النطاق لما قدمه من مفهوم جديد للقانون العلمي مع قوانينه الثلاثة للحركة وقانونه الخاص بالجاذبية الذي فسّر مداراتِ الأرض والقمر والكواكب، كما شرح ظاهرة كظاهرة المد والجزر. ومنذ ذلك الوقت ما زالت تُدرس المعادلات القليلة التي ابتكرها والإطار الرياضي المحكم الذي اشتق منها حتَّى اليوم، ويتم استعمالها عندما يقوم المعماري بتصميم مبنى أو المهندس بتصميم العربة أو الفيزيائي بحساب كيفية توجيه صاروخ للهبوط على سطح المريخ. وكما تقول قصيدة الشاعر ألكسندر بوب: كانت الطبيعة وقوانينها مخفية في الليل،واليوم، يقول معظم العلماء إن قانون الطبيعة، هو القاعدة التي تقوم على الانتظام الملحوظ، وتمدنا بتنبؤات تذهب خلف الأوضاع الراهنة التي تقوم عليها، على سبيل المثال، ربما نلاحظ أن الشمس قد أشرقت من جهة الشرق كل صباح طيلة حياتنا، فنفترض القانون التالي "الشمس تشرق دوما من جهة الشرق". وهو تعميم يذهب أبعد من ملاحظاتنا المحدودة للشمس المشرقة، ويتيح لنا تنبؤات يمكن اختبارها عن المستقبل. من جهة أخرى، فإن جملة مثل "أجهزة الكمبيوتر في هذا المكتب لونها أسود" ليست بقانون طبيعي، لأنها ترتبط فقط بأجهزة الكمبيوتر في المكتب ولا توفر لنا أي تنبؤ مثل "إذا كان المسئول عن مكتبي ينتوي شراء كمبيوتر جديد، فهل سيكون لونه أسود". إِنَّ فهمنا الحديث المصطلح قانون الطبيعة" هو موضع جدل فلسفي طويل، وأكثر دقة مما يعتقد المرء للوهلة الأولى. فمثلا، قام الفيلسوف جون دبليو كارول John W. Carroll بمقارنة مقولة "كل ذرات الذهب التي قطرها أقل من ميل واحد"، مع مقولة "كلّ كرات اليورانيوم - 235 التي قطرها أقل من ميل واحد". ستخبرنا ملاحظاتنا للعالم بأنه لا وجود لكرات ذهبية بعرض ميل واحد، كما أننا نمتلك، من الثقة ما يجعلنا نعتقد بأنَّ هذا لن يحدث، إلَّا أنَّه لا يوجد سبب لدينا للاعتقاد بأنه لا توجد واحدة منها، لذلك لا يمكن اعتبار تلك المقولة قانونا. من ناحية أخرى، فإنَّ مقولة: "إنَّ كرات اليورانيوم - 235 أقل من ميل واحد يمكن اعتبارها أحد قوانين الطبيعة، لأنه وفقًا لما نعرفه من الفيزياء النووية، بمجرد أن تتكون كرة يورانيوم - 235 ويصل قطرها لأكبر من حوالي ست بوصات، فإنَّها ستدمر نفسها في انفجار نووي. ومن ثم، يمكننا التأكيد على عدم وجود تلك الكرات (ستكون فكرة جيدة لو حاولت تصنيع واحدة). هذا التمييز مهم؛ لأنه يوضح أنه لا يمكن اعتبار كل التعميمات التي نلاحظها قوانين للطبيعة، وأن معظم قوانين الطبيعة توجد كجزء من نظام أكبر من القوانين المترابطة.
في العلم الحديث، تتم صياغة قوانين الطبيعة رياضيا. وهي تكون إما مضبوطة أو تقريبية، لكن يجب ملاحظة أنها متماسكة بلا استثناء إن لم يكن كليًّا، أو على الأقل في ظل مجموعة شروط منصوص عليها. فعلى سبيل المثال، نحن نعرف الآن أن قوانين نيوتن يجب تعديلها في حالة تحرك الأجسام بسرعات تقترب من سرعة الضوء، إلا أننا ما زلنا نعتبر أن قوانين نيوتن قوانين لأنها لا تزال سائدة، على الأقل بتقريب جيد، في شروط الحياة اليومية، حيث نقل جدا السرعات التي نقابلها عن سرعة الضوء.
إذا كانت الطبيعة محكومة بالقوانين، فسوف تنشأ ثلاثة أسئلة:
- ما مصدر القوانين؟
- هل هناك أية استثناءات للقانون، كالمعجزات مثلا؟
- هل توجد فقط مجموعة واحدة من القوانين الممكنة؟
لقد طرحت تلك الأسئلة المهمة بطرق مختلفة من قبل العلماء والفلاسفة واللاهوتيين. وتم تقديم إجابات تقليدية عن السؤال الأول وهي إجابات كبلر وجاليليو وديكارت ونيوتن - والتي كان مفادها أنَّ هذه القوانين من صُنع الله إلَّا أنَّ هذا لا يعدو كونه تعريفا للإله على أنه تجسيد لقوانين الطبيعة. وما لم يمنح المرء الإله بعض السمات الأخرى، كأن يكون إلها للعهد القديم، فإن توظيفه في الإجابة عن السؤال الأوّل ستستبدل وحسب اللغز بلغز آخر. لذلك إذا أقحمنا الله في الإجابة عن السؤال الأول، فإنَّ انهيارًا حقيقيا سوف يأتي مع السؤال الثاني: هل هناك معجزات أو استثناءات للقوانين؟
انقسمت الآراء حول الإجابة عن السؤال الثاني بشكل حاد. فأفلاطون وأرسطو، وهما أكثر كُتاب الإغريق القدامى تأثيرًا، قد أفرا بأنه لا يمكن أن تكون هناك استثناءات للقوانين. لكن إذا أخذ المرء الرؤية الإنجيلية، فإنَّ الله لم يخلق القوانين وحسب، بل يمكن أن يطالبه المصلون يصنع استثناءات - لشفاء المرضى ذوي الحالات المستعصية، أو لوضع حد للجفاف قبل الأوان، أو لاستعادة لعبة الكروكيه croquet لتكون ضمن الألعاب الأوليمبية. وفي تناقض مع رؤية ديكارت أبقى أغلب المُفكِّرين المسيحيين على فكرة أنَّ الله يجب أن يكون قادرًا على تعليق العمل بالقانون لكي ينجز المعجزات. حتى نيوتن اعتقد بنوع من المعجزات، حيث اعتقد أن مدار الكوكب لا بد وأن يكون غير مستقر، لأنَّ شدَّ قوة جاذبية كوكب لكوكب آخر ستتسبب في اضطراب المدارات، وهو الاضطراب الذي يتزايد بمرور الوقت مما ينتج عنه إمَّا سقوط الكوكب في الشمس، أو إفلاته خارج النظام الشمسي، لذلك يجب أن يحافظ الله على إعادة ضبط تلك المدارات، كما كان يعتقد نيوتن، أو أن يملأ الساعة السماوية، خشية توقفها عن العمل". إلَّا أنَّ : بيير سيمون مارکیز دو لابلاس Simon marquis de Lapline-Pierre (1749 - 1827) الشهير باسم لابلاس Laplace، قد جادل بأن الاضطرابات لا بد وأن تكون دورية أكثر من كونها تراكمية، كما يتضح من تكرار الدورات. ولذلك لا بد وأن يُعيد النظام الشمسي ضبط نفسه، وبالتالي لا توجد حاجة لتدخُل إلهي التفسير لماذا بقي هذا النظام على حاله إلى يومنا هذا.
إنَّه لابلاس، الذي يُعزى إليه الفضل في أوّل افتراض واضح للحتمية العلمية scientific determinism بمنح حالة الكون في لحظة ما، مجموعة كاملة. من القوانين تحدد كلا من الماضي والمستقبل بشكل تام، وهو ما يتطلب بالضرورة استبعاد إمكانية المعجزات أو أي دور فعال للإله. كانت الحتمية العلمية التي صاغها لابلاس هي إجابة العلماء المعاصرين عن السؤال الثاني، وهي في حقيقة الأمر قاعدة العلم الحديث كله، والمبدأ المهم ضمن كتابنا هذا. فالقانون العلمي لا يُعد قانونا علميًّا إِنَّ كان صموده مرتبطا فقط بعدم تدخل. كائن خارق للطبيعة، ولإدراك ذلك، يُقال إن نابليون قد سأل، لا بلاس كيف يمكن إفساح المجال لله في هذا التصور، وقد رد عليه لابلاس قائلا: "سيدي، أنا لست بحاجة لمثل هذا الفرض".
ولأن الناس يعيشون في الكون ويتفاعلون مع الأشياء الأخرى بداخله، فإنَّ الحتمية العلمية يجب أن تنطبق على الإنسان أيضا. فمه أن العديد يقبلون فكرة أن الحتمية العلمية تحكم العمليات المادية.
فإنهم يقومون ببعض الاستثناء للسلوك البشري لأنهم يعتقدون أننا نمتلك إرادة حرة. ديكارت مثلا، ولكي يحافظ على فكرة الإرادة الحرّة، أكَّد على أنَّ العقل الإنسانيَّ شيء مختلف عن العالم المادي ولا يتبع قوانينه. وبحسب رؤيته فإنَّ الشخص يتكون من عنصرين، جسد وروح. والأجساد لا تعدو شيئًا غير كونها آلات عادية، لكن الروح ليست موضوعًا للقانون العلمي. لقد كان ديكارت مولعًا بالتشريح وبعلم وظائف الأعضاء، واعتقد أنَّ عضوًا صغيرًا في منتصف المُخّ ، يُسمَّى الغدة الصنوبرية، هو المقر الأساسي للروح. كما اعتبر أن تلك الغُدّة، هي المكان الذي تتكون فيه جميع أفكارنا، وأنها منبع إرادتنا الحرة.
هل يمتلك الناس إرادة حرَّة؟ وإن كنا نمتلك إرادة حُرَّة، فأين تطورت هذه الإرادة الحرة على شجرة التطور؟ هل الطحالب الخضراء أو البكتريا تمتلك إرادة حرة، أم أنها تتصرف بشكل آلي ضمن مجال القانون العلمي؟ وهل فقط الكائنات متعددة الخلايا هي التي تمتلك الإرادة الحُرَّة، أم أنها الثديات فقط؟ ربما نعتقد أنَّ الشمبانزي يُمارس الإرادة الحُرَّة عندما يختار التهام الموز، أو القط عندما يقفز فوق أريكتك، لكن ماذا عن الدودة الأسطوانية التي تُسمي (الربداء الرشيقة Caenorhahditis elegans - وهي مخلوق بسيط مكون من 1959 خلية فقط؟ من المحتمل أنَّها لا تقول مثلًا: "إن تلك البكتريا التي يجب عليَّ تناولها طعمها بغيض"، لكنها تمتلك تفضيلا محددًا للطعام، فهي إما أن تكتفي بتلك الوجبة غير الجذابة، أو تبحث عن مؤنةٍ أفضل، معتمدةً على خبرتها الحديثة. فهل هذه ممارسة للإرادة الحرة؟
بالرغم من إحساسنا بالقدرة على اختيار ما نفعله، إلا أن وعينا بالأساس الجزيئي للبيولوجيا قد أوضح أن العمليات البيولوجية تكون محكومة بقوانين الفيزياء والكيمياء، ولذلك فهي محددة تماما مثل مدارات الكواكب. وتدعم تجارب علم الأعصاب الحديثة الرؤية القائلة بأنَّ دماغنا المادي، يخضع لقوانين العلم المعروفة التي تحدد أفعالنا، وليس لبعض القوى الموجودة خارج تلك القوانين. فعلى سبيل المثال عند دراسة المرضى الذين أجريت لهم جراحةٌ في المُخّ أثناء اليقظة، وجد أنه بإثارة بعض الأماكن المُعيَّنة في المح كهربائيا، يمكن للمرء أن يُولد لدى المريض رغبة في تحريك اليد أو الذراع أو القدم أو تحريك الشفاه والتحدث. من الصعب تخيل كيف تعمل الإرادة الحرّة إذا كان سلوكنا يُحدّده القانون المادي، ولذلك يبدو أننا لسنا أكثر من آلات بيولوجية، وأنَّ الإرادة الحُرَّة مُجرَّدُ وَهم.
مع تسليمنا بحقيقة أن السلوك البشري يمكن تحديده وفقًا للقوانين الطبيعية، سيبدو من المعقول أيضًا الإقرار بأن النتيجة التي يمكن تحديثها بتلك الطريقة المعقدة وبتلك التنويعات المتعددة، سيكون من المستحيل التنبؤ بها في الممارسة. ولهذا، فإن المرء سيحتاج المعرفة الحالة الابتدائية لكل ألف ترليون ترليون جزيء في الجسم البشري، وأن يقوم بحل عدد مماثل من المعادلات، وهو ما سيستغرق بعض منيرات السنين، بما يعني التأخر قليلًا عن تفادي لكمة يسددها لك شخص ما.
ولأن استخدام القوانين المادية الأساسية للتنبؤ بالسلوك البشري هم أمر غير عملي تماما، فستتبنى ما يسمى بنظرية التأثيرات -eniec live theory ونظرية التأثيرات في الفيزياء هي إطار تم وضعه لعمل نموذج لبعض الظواهر التي يتم مشاهدتها دون وصف تفصيلي لكل العمليات التي تقوم عليها. فعلى سبيل المثال، لا يمكننا أن نحل بالضبط المعادلات التي تحكم التفاعلات الجاذبية البينية لكل ذرة في جسم الإنسان مع كل ذرة في الأرض. لكن لكافة الأغراض العمنية، فإن قوة الجاذبية بين الشخص وبين الأرض يمكن وصفها بمصطلحات قليلة العدد، مثل كتلة الشخص الكلية. وبشكل مشابه، لا يمكننا حل المعادلات المتحكمة في سلوك مُركَّب من الذرات الجزيئات، لكننا قد طوّرنا نظريةً فعّالة مسماة بالكيمياء chemistry، التعطينا تفسيرا كافيا للكيفية التي تتصرف بها الذرات والجزيئات أثناء التفاعلات الكيميائية، دونما اعتبار لكلّ تفاصيل التفاعل البيني. وفي حالة البشر، ولأننا لا نستطيع حل المعادلات التي تحدد سلوكنا، فإنَّنا استخدم نظرية تأثيرات تقول بأنَّ الناس لديهم إرادة حرة. ودراسة إرادتنا، والتصرفات الناجمة عنها، هو ما يُسمى بعلم النفس -psy choloops. الاقتصاد أيضًا نظرية فعّالة، تقوم على فكرة الإرادة الحرة، مع افتراض أنَّ الناس تقوم بتقييم البدائل عن طرق أفعالهم الممكنة ويختارون الأفضل. تلك النظرية الفعّالة ناجحة فقط على المدى المتوسط في التنبؤ بالسلوك، لأنه وكما نعرف جميعا، فإنَّ قرارات الناس ليست عقلانية أو منطقية غالبا، أو أنها تقوم على نقص في تحلیل تبعات اختيارهم. ولهذا يكون العالم في هذه الفوضى. يتناول السؤال الثالث مسألة إذا ما كانت القوانين المحدّدة لكلِّ من الكون والسلوك البشري هي قوانين فريدة. لو كانت إجابتك عن السؤال الأوّل بأنَّ الله قد خلق القوانين، فإن السؤال الذي سيطرح نفسه بالتالي هو ، هل كان لدى الله أية حرية في اختيار تلك القوانين؟ لقد اعتقد كل من أرسطو وأفلاطون وأيضًا ديكارت وآينشتاين فيما بعد، أن قوانين الطبيعة موجودة بصرف النظر عن الضرورة، بما يعني أنها القواعد الوحيدة التي يكون لها معنى منطقي. ونتيجة لاعتقاده بنشأة قوانين الطبيعة من المنطق، فإنَّ أرسطو وأتباعه قد أحسوا بأنَّ المرء يمكنه أن يشتق تلك القوانين دونما اهتمام كبير بكيفية تصرف الطبيعة في الواقع. كان هذا، مع التركيز على، أتباع الأشياء للقواعد بدلا من تحديد ماهية تلك القواعد، هو ما قاد أرسطو إلى القوانين النوعية الرئيسية، التي كانت خطأ في الغالب ولم يثبت أن لها أيَّةَ فائدة على أي حال، مع أنها أسهمت في سيادة بعض الأفكار العلمية لعدة قرون. وفي وقت متأخر جدا فقط، تجاسر بعض الناس مثل جاليليو على تحدي سلطة أرسطو، وقاموا بملاحظة ما تقوم به الطبيعة فعليًّا، بدلا ممّا يقوله العقل المحض عما ينبغي أن تفعل. إنَّ هذا الكتاب يؤصل لمفهوم الحتمية العلمية، التي تستلزم أنَّ الإجابة عن السؤال الثاني تقتضي عدم وجود معجزات أو استثناءات في قوانين الطبيعة. ومع ذلك، سنعود لطرح السؤالين رقم واحد وثلاثة بشكل أعمق، عن الكيفية التي نشأت بها القوانين، وإذا ما كانت هذه هي القوانين الممكنة فقط أم لا. لكننا سنتناول في بداية الفصل التالي المواضيع التي تصفها قوانين الطبيعة تلك حيث يقول معظم العلماء إنَّها انعكاس رياضي للواقع الخارجي الموجود بشكل مستقل الملاحظ الذي يرى هذا الواقع. لكن عند التفكير مليا في طريقة عن ملاحظاتنا التي تكون بها المفاهيم عما يحيط بنا، فإنَّنا سنقع في فخ السؤال التالي، هل لدينا فعلا سبب يدعونا للاعتقاد بوجود هذا الواقع الموضوعي؟
الاكثر قراءة في تاريخ الفيزياء
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة

الآخبار الصحية
