رسالة العشق
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج1/ ص124-130
2025-07-05
672
ذَكرَ الشيخ بهاء الدين العامليّ في كشكوله:
«للشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا رسالة في ذكر العشق[1] تحت عنوان «رسالة العشق»، و فيها يتوسّع في مقالته و يقول بأنّ العشق لا يختصّ بالإنسان وحده، بل بجميع الكائنات، من الفلكيّات و العناصر، و المواليد الثلاثة (المعادن و النباتات و الحيوانات) مجبولة عليه بالفطرة، و هي منقوشة في ذاتها و ماهيّتها»[2]. انتهى كلام الشيخ البهائيّ رحمة الله عليه.
و تبدأ الرسالة بالعبارة التالية: بِاسْمِكَ اللهُمَّ وَ بِحَمْدِكَ، سَألْتَ أسْعَدَكَ اللهُ يَا عبد الله الفَقِيهَ المُعْصِرِيّ! أن أجْمَعَ لَكَ رِسَالَةً تَتَضَمَّنُ إيضَاحَ القَوْلِ في العِشْقِ على سَبِيلِ الإيجَازِ فَأجَبْتُكَ- إلى آخرها.
و قد نظّم هذه الرسالة في سبعة فصول و هي:
الأوّل: في ذكر أن العشق يسري في كلّ ذات.
الثاني: في ذكر العشق في الجواهر البسيطة غير الحيّة، على سبيل المثال، الهيولي، و الظواهر، و المعادن، و كلّ جماد.
الثالث: في ذكر العشق في الموجودات و الأشياء التي تمتلك القوّة المغذّية.
الرابع: في ذكر العشق في الموجودات الحيوانيّة، لسبب أنّها تمتلك قوّة حيوانيّة.
الخامس: في ذكر العشق في الظرفاء و الفتيان في قبال حسان الوجوه.
السادس: في ذكر العشق في النفوس المتألّهة.
السابع: و هو فصل يختتم به الكتاب بالمراجعة و الاستنتاج.
و هذه الرسالة استدلاليّة، و مطالعتها من قبل ذوي الرأي لا تخلو من فائدة.
و قد تحدّث مفصّلًا في الفصل الخامس، و هو بعنوان «عِشْقُ الظُّرَفَاءِ وَ الفِتْيَانِ[3] لِلأوْجُهِ الحِسان»، و استدلّ بالحديث الشريف للنبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم: "اطْلُبُوا الحَوَائِجَ عِنْدَ حِسَانِ الوُجُوهِ"[4]، و عدّد أوجه الحلال و الحرام، عقلًا و شرعاً، موضّحاً بأنّ الشريعة الإسلاميّة الغرّاء قد أوصدت باب العشق المذموم، و ذلك بالاستدلال العقليّ، و بالمقابل، قد فتحت باب العشق الممدوح على مصراعيه[5].
بيان العشق في النفوس المتألهة في «رسالة العشق»:
و يستطرد في بحثه عشق النفوس المتألّهة، حتى يصل إلى المقطع الذي يقول فيه: «الآن، أصبح واضحاً، بأنّ العلّة الاولى، هي مصدر كلّ الخيرات، و لا مسبّب لهذه العلّة؛ و عليه، فهذه العلّة (الله) هي الخير المطلق، استناداً لمحض ذاته المقدّسة، و كذلك، بالقياس إلى جميع الموجودات، و ذلك، لأنّه هو حبل بقاء المخلوقات و دوامها.
و هذه المخلوقات، هائمة و مشتاقة إلى كمال العلّة الاولى، و بهذا، يكون هو الخير المطلق، بكلّ الاعتبارات و على جميع الأوجه.
و قد قلنا من قبل أن من أدرك خيراً هام فيه بلا إرادة منه، و لهذا، فالعلّة الاولى، هي المعشوق بالنسبة إلى النفوس المتألهة، و لأنّ كمال هذه النفوس، الإنسيّ منها و الملائكي، هو تصوّر تلك النفوس للمعقولات كلٌّ حسب قدرته (من باب التشبّه بذات الخير المطلقة) حتى تصدر عنها أفعال عادلة من قبيل الفضائل البشريّة، و على مثال تحريك النفوس الملائكيّة للجواهر العُلويّة السائلة. أن بقاء الموجودات في عالم الكون و الفساد (هو من باب التشبُّه بذات الخير المطلقة) و التقرُّب له و الاستفادة من كماله و فضيلته و الانتفاع بها. و على هذا فقد بات واضحاً أن الخير المطلق هو معشوق هذه النفوس، و لذا سُمِّيت تلك النفوس بـ «المتألّهة» لسبب نسبتها و تشبّهها به و حبّها له؛ و هذا العشق و ذلك الحبّ ثابتٌ و متأصّل في تلك النفوس المتصفة بـ التَّألُّه، غير زائل عنها».
حتّى يصل إلى قوله: «أصبح واضحاً بأنّ وجود الحقّ، و هو الخير المطلق، هو المعشوق الحقيقيّ للنفوس الإنسيّة و الملائكيّة».
و يقول في الفصل الختاميّ: «نريد في هذا الفصل، الخروج بعدّة استنتاجات:
أوّلًا: كما ذكرنا سابقاً، أن جميع الموجودات في هذا الكون، هي في الحقيقة، عاشقة و توّاقة إلى الخير المطلق، بفعل العشق[6] الغريزيّ، و هذا
الخير المطلق متجلٍّ لعشّاقه، و لكنّ هذا التجلّي مختلف بحسب درجات هذه الموجودات، حيث إنّهم كلّما ازدادوا تقرّباً من الخير المطلق، عظم تجلّيه لهم، و العكس بالعكس.
ثانياً: أن الخير المطلق و العلّة الاولى، يميل انسجاماً مع كرمه و رحمته الذاتيّتين إلى أن يشمل بلطفه جميع الكائنات.
ثالثاً: وجود كلّ الموجودات هو انعكاس لهذا اللطف من لدن الخير المطلق.
أما و قد تمّ توضيح هذه المسألة بشكل إجماليّ، الآن نقول: بأنّ في تركيب آحاد هذه الموجودات عشق غريزيّ لأجل استحصال كمالها الذاتيّ، و كمالها هو نفسه الخير الذي أشرنا إليه.
إذاً، فسبب وقوع كلّ الخيرات، هو ذلك المعشوق الحقيقيّ لكلّ الموجودات، و الذي عبّرنا عنه بالعلّة الاولى، فهي معشوق كلّ الموجودات، و إذا كان هناك من حُرِم معرفته، و جهل وجوده، فهذا الجهل لا ينفي العشق الغريزيّ في الموجودات، لأنّ كلّا وراء كماله الذاتيّ، و حقيقة الكمال- الذي هو الخير المطلق- تلك العلّة الاولى، و التي تتجلّى لكلّ الموجودات، بحسب ذاتها، إلّا أن يكون محجوباً بذاته عن التجلّي، فيلزم أن يستتر، فلا ينعم أيّ من الموجودات من فيض وجوده.
إذا كان تجلّي الخير الأوّل هو بتأثير الغير، فيجب إذاً أن تكون الذات المتعالية، و المنزّهة عن كل النقائص، واقعة تحت تأثير الغير أيضاً، و هذا محال، بل الخير الأوّل يتجلى بحسب الذات، و حجب تجلّيه عن بعض الذوات، هو لقصور و ضعف في هذه الذوات ليس إلّا.
و بعبارة أخرى: كلّ نقص و عيب، يكون من جانب القابل، و ليس من جانب الفاعل، و إلّا فذاته المقدّسة متجلّية بحسب الذوات».
و يستطرد في قوله حتى يصل إلى الثاني: أن الموجود المتهيّئ لأن ينعم باللطف الإلهيّ، هو موجود ذو نفس إلهيّة، على الرغم من أنّه في البدء، و مصداقاً للآية الكريمة {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى} وجد بتأثير الفعل الفعّال، و من موقع القوّة، و أمدّته من موقع التصوّرات و رتبة التعقّلات، و لكن، ما أن يصل إلى حدود الفعليّة، و ينعم بنعمة القرب من الحقّ تعالى، حتى يعلو و يسمو إلى مراتب أعلى من ذلك. حيث يقول الملك المقرّب من الله في هذا المقام: "لَوْ دَنَوْتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ".
و يتابع قائلًا: «لذا، فقد أصبح واضحاً بأنّ اللطف الإلهيّ و الخير المطلق، هو سبب نشئ كلّ الموجودات، و علّة وجودها، فلو لا هذا اللطف الإلهيّ، ما لبس مخلوق لباس الوجود، و أن الحقّ تعالى بوجوده، عاشق لوجود جميع المعلولات، لأنّ جميع المعلولات كما أسلفنا، انعكاس لنور لطفه، و لأنّ عشق العلّة الاولى، هو أطهر العشق، فيكون مَن فاز بلطفه هو المعشوق الحقيقيّ، و هذا اللطف، هو مراد النفوس المتألهة، و هي نفسها، معشوقات العلّة الاولى، و نستشف من كلمات الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ما يلي: قال الله تعالى: أيّاً من عبادي كانت له الأوصاف الفلانيّة، و عشقني، عشقته أنا أيضاً، لأنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي أن لا يهمل أو يعطّل شيء يحوي جملة فضائل، و هذه الفضائل، متأصّلة في ذاته، و إن لم يصل بفضيلته إلى حدّها الأقصى، و عليه، فالخير المطلق، بمقتضى حكمته الذاتيّة، هو عاشق؛ عاشق لمن لبس الكمال، و إن لم يكن أقصى الكمال... وَإذَا بَلَغْنا هَذَا المَبْلَغَ فَلْنَخْتِمِ الرِّسَالَةَ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ.[7]
[1] العشق، بمعنى الإفراط في الحبّ، و اللفظة مأخوذة من كلمة عَشَقَة، نباتٌ يلتوي على شجرة العنب و يلزمها فيمتصّ عصارتها و تذبل نتيجة ذلك. و هذا النبات الذي يدعى كذلك اللَّبْلَابِ أو السِّريشْلَة لا يمتلك حَبّاً حتى ينبت على الأرض، بل ينمو لوحده تلقائيّاً في مزارع العنب، و يلتصق جذره و ساقه بشجرة العنب. و لو فُصلَ من هذا النبات جزء و تمكّن من الوصول إلى شجرة عنب أخرى التصق بها على الفور و نما سريعاً و يعمل على إتلاف الشجرة فتذبل و تتيبّس. و قيل إنّه يكفي زرع حَبّة واحدة من هذا النبات في مزرعة عنب لإتلافها جميعاً، فهو ينمو بسرعة و يعمل على تيبيس الشجرة. فحقّ إذاً للمزارعين أن يخافوا نموّ هذا النبات و يسارعوا إلى استئصاله فور اكتشافهم له في مزارع العنب، ثمّ يعمدون إلى حرقه لمنع تواجد أيّ أثر له على الأرض تماماً.
[2] قال العرفاء عن الماهيّة بأنّها العين الثابتة، و كذلك سمّوها بالتعيّن؛ و ورد ذكرها في الروايات باسم الطينة.
[3] ظُرَفَاء جَمْعُ ظَرِيف. ظَرُفَ- ظَرْفاً و ظَرافَةً: كَانَ كَيِّساً حَسَنَ الهَيْئة، كَانَ ذَكِيَّاً بَارِعاً، فَهُوَ ظَرِيفٌ؛ ج: ظُرَفَاء وَ ظِرَاف وَ ظُرُف وَ ظُرُوف وَ ظَرِيفُونَ.
و فِتْيَان جَمْعُ فَتَى، وَ هُوَ الشَّابُّ الحَدَث، السَّخِيّ الكَرِيم؛ ج: فِتْيَان وَ فِتْيَة وَ فِتْوَة و فُتُوّ و فُتِى و فِتِيّ.
[4] جاء في «مكاتيب الرسول» ج 2، ص 614، نقلًا عن «كنز العمال»: كِتابُهُ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ إلى عُمَّالِهِ: إذَا أبْرَدْتُمْ إلى بَرِيداً فَأبْرِدُوهُ فَابْعَثوهُ حَسَنَ الوَجْهِ حَسَنَ الاسْمِ.
[5] يقول الملّا الروميّ («المثنوي» ج 1، ص 7، طبعة ميرخاني) عن الحبّ المذموم ما معناه: عشقهائى كز پى رنگى بود *** عشق نبود عاقبت ننگى بود
يقول: «إن يكن حبّاً كثير التلوّن؛ فذاك الحبّ شؤماً ليس حبّا».
و حول الحبّ الممدوح قال:
عشقِ آن زنده گزين كو باقى است *** وز شراب جانفزايت ساقى است
عشق آن بگزين كه جمله انبياء *** يافتند از عشق وى كار و كيا
تو مگو ما را بدان شه بار نيست *** با كريمان كارها دشوار نيست
يقول: «ابحثْ عن عشق ذلك الحيّ الذي هو باقٍ على الدوام، و هو الذي يسقيك شراب الروح.
اطلبْ عشق ذلك الذي نال به جميع الأنبياء مرادهم و مطلبهم.
و لا تقلْ: أين نحن من ذلك السلطان؟ فليس التعامل مع الكرماء صعباً أو مستحيلًا».
[6] ذكر معلّق و مترجم الرسالة في هذا الخصوص: «يصنّف الادباء و أهل الذوق المحبّة إلى مراتب هي:
المرتبة الاولى مرتبة الهَوَى؛ الثانية مرتبة العلاقة؛ ثمّ مرتبة الكَلَف؛ ثمّ مرتبة العِشق؛ ثمّ مرتبة الشَّعَف (بالعين المهملة)؛ ثمّ مرتبة الشَّغَف (بالغين المعجمة)؛ ثمّ مرتبة الجَوَا؛ ثمّ مرتبة التَّيْم؛ ثمّ مرتبة التَّبْل (بفتح التاء و سكون الباء)؛ ثمّ مرتبة التَّدْلِيَة؛ ثمّ مرتبة الهُيوم، و هي آخر المراتب التي يمكن للعاشق الفاني في معشوقه أن يصل إليها، و في هذه المرتبة ينشد الشاعر قائلًا: در هر چه نظر كردم *** سيماى تو مىبينم
يقول: «فما نظرت إلى شيء من حولي؛ إلّا و في ذاك الشيء رسمك».
أو كما قال بايزيد: لَيسَ في جُبَّتِي إلَّا اللهُ.
و قال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: مَا رَأيْتُ شَيْئاً إلَّا وَ قَدْ رَأيْتُ اللهَ فِيهِ أوْ مَعَهُ.
[7] قامت منشورات بيدار بطبع «رسالة عشق» مع اثنتين و عشرين رسالة أخرى في بلدة قم الطيّبة تحت عنوان «رسائل الشيخ الرئيس أبي على الحسين بن عبد الله بن سينا» (ج 1)، و قد احتلّت «رسالة عشق» الصفحات 373 إلى 397. و قام الخطيب الشهير السيّد ضياء الدين الدرّيّ بترجمتها مع ثلاث رسائل أخرى للشيخ باسم «الفوائد الدرّيّة»، و تولّت المكتبة المركزيّة طبعها سنة 1358 هـ، و بلغ مجموع الصفحات التي استوعبتها «رسالة عشق» من هذه الطبعة الثلاثين.
الاكثر قراءة في التوحيد
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة