العارفون بالله يعبدون ذاته
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج5/ص35-37
2025-12-17
21
العارفون بالله والمقرّبون إلى حريمه المقدّس فإنّهم لا يعبدون الله بالمفهوم الفكريّ والصورة الخيالية الذهنيّة أبداً، ولا يعبدون المعادل الخارجيّ لذلك المفهوم أبداً، بل أنّ عبادتهم تختصّ بالذات الحقيقيّة لربّهم جَلَّتْ عظمتُه؛ فهم يدعون الله حضوريّاً وشهوديّاً {سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}. وسبيل الوصول إلى هذا الهدف هو تمكّن ذكر الله في القلب. قال تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً}.[1]
وهذا الشهود والعرفان له درجات ومراتب متنوّعة؛ وكلّما تحقّقت منه درجة، توفّرت المعرفة بقدرها؛ فالدرجة الأولى مشاهدة التوحيد الأفعالىّ، والفناء فيه؛ والدرجة الثانية مشاهدة التوحيد الاسميّ، والفناء فيه؛ والدرجة الثالثة مشاهدة التوحيد الذاتيّ، والفناء في الذات المقدّسة للحقّ تعالى.
ولا يتحقّق الكمال لأحد إلّا إذا تحقّقت الدرجات الثلاث من الفناء فيه؛ وبكلام آخر، إذا فنى في فعل الحقّ واسمه وذاته؛ ولا بدّ للإنسان في سيره إلى الحقّ تعالى أن يجتاز هذه المراحل الثلاث ليظفر بمقام التوحيد المطلق.
بَيدَ أنّ الموضوع اللافت للنظر هنا أنّ الإنسان لا يصل إلى أيّ مرقاة من مراقيه الكمالية هذه إلّا بفنائه وببقاء ذلك الكمال في محلّه؛ لأنّ الفناء هو عبارة عن اجتياز الحدود العدميّة، لا اجتياز أصل الوجود.
لذلك فإنّ أصل الوجود باق في السير إلى الله، وفي تحقّق هذه الدرجات من الفناء؛ ويتحقّق اجتياز الدرجات والمراتب حتى تخترق الحدود كلّها، فلا يبقى شيء إلّا الذات المقدّسة لوجود الحقّ المطلق تعالى شأنُهُ.
ولهذا نجد الإنسان في كلّ مرحلة من هذه المراحل يطلّع على جميع أنواع الفيوضات المترشّحة عن تلك المرتبة إلى مراتبها الأوطأ والأدنى؛ ويتحقّق بتلك الآثار وخواصّها، حتى يصل إلى التوحيد الذاتيّ؛ فلا يبقى منه أيّ اسم ورسم {وَ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ}. وفي ضوء ذلك، فإنّ أوليآء الله في كلّ منزل من المنازل، وفي كلّ مرحلة من المراحل يتحقّقون بفيوضات ذلك المنزل، وتلك المرحلة، غاية الأمر أنّ ذلك ليس منهم، وإنّما هو من الله.
وعند ما يصلون إلى الغاية المنشودة، أي: العبوديّة المطلقة والخالصة، ومقام الولاية، وارتفاع الحجب النفسانيّة والروحيّة كلّها؛ فلا يبقى بينهم وبين المعبود حجاب، وهذا هو مقام الولاية، فإنّهم عندئذٍ يسمّون ويتّصفون بجميع أسماء الحقّ وصفاته. وهذا هو مقام أوليآء الحقّ سبحانه وتعالى.
وقد ذكر الكبار من أهل الحكمة في كتبهم فصلًا في مقامات الأولياء؛ بينهم الشيخ الرئيس ابن سينا الذي بسط الكلام حول ذلك عموماً في النمط التاسع من إشاراته. ولمّا كان قصدنا في هذا الكتاب «معرفة الإمام» الحديث عن ولاية الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين على وجه الخصوص، لذلك نكتفي بمقدار قليل من الآيات والروايات حول آثار الوليّ وصفاته المطلقة، حتى تستبين حالات اولئك العِظام وصفاتهم؛ وحيثما عثرنا في ما بعد على آية أو حديث في فضائلهم ومناقبهم وكراماتهم ومعجزاتهم الباهرة، فلا ننظر إليها بعين التأمّل، لأنّ حالهم حاصل مقامهم؛ وحالنا حاصل مقامنا.
گر چه باشد در نوشتن شير شير
ولمّا كانت أسماء أوليآء الله ورسومهم قد فنيت في ذات الحقّ، فمسك الحقّ زمام امورهم بيده، فالله هو المتجلّى في الحقيقة، إذ تجلّى في مرآة وجودهم، وولاية أمرهم مع الحقّ، ولن يتسنّى لأحد أبداً أن يطلّع على كمالهم النهائيّ والغائيّ، لأنه قال عزّ من قائل: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}.[2]
[1] الآيتان 159 و160، من السورة 37: الصافّات.
[2] الآية 110، من السورة 20: طه.
الاكثر قراءة في التوحيد
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة