تاريخ الفيزياء
علماء الفيزياء
الفيزياء الكلاسيكية
الميكانيك
الديناميكا الحرارية
الكهربائية والمغناطيسية
الكهربائية
المغناطيسية
الكهرومغناطيسية
علم البصريات
تاريخ علم البصريات
الضوء
مواضيع عامة في علم البصريات
الصوت
الفيزياء الحديثة
النظرية النسبية
النظرية النسبية الخاصة
النظرية النسبية العامة
مواضيع عامة في النظرية النسبية
ميكانيكا الكم
الفيزياء الذرية
الفيزياء الجزيئية
الفيزياء النووية
مواضيع عامة في الفيزياء النووية
النشاط الاشعاعي
فيزياء الحالة الصلبة
الموصلات
أشباه الموصلات
العوازل
مواضيع عامة في الفيزياء الصلبة
فيزياء الجوامد
الليزر
أنواع الليزر
بعض تطبيقات الليزر
مواضيع عامة في الليزر
علم الفلك
تاريخ وعلماء علم الفلك
الثقوب السوداء
المجموعة الشمسية
الشمس
كوكب عطارد
كوكب الزهرة
كوكب الأرض
كوكب المريخ
كوكب المشتري
كوكب زحل
كوكب أورانوس
كوكب نبتون
كوكب بلوتو
القمر
كواكب ومواضيع اخرى
مواضيع عامة في علم الفلك
النجوم
البلازما
الألكترونيات
خواص المادة
الطاقة البديلة
الطاقة الشمسية
مواضيع عامة في الطاقة البديلة
المد والجزر
فيزياء الجسيمات
الفيزياء والعلوم الأخرى
الفيزياء الكيميائية
الفيزياء الرياضية
الفيزياء الحيوية
الفيزياء العامة
مواضيع عامة في الفيزياء
تجارب فيزيائية
مصطلحات وتعاريف فيزيائية
وحدات القياس الفيزيائية
طرائف الفيزياء
مواضيع اخرى
رحلة في أصل الكون
المؤلف: نيل ديجراس تايسون ودونالد جولدسميث
المصدر: البدايات
الجزء والصفحة: الجزء الثاني الفصل الثامن (ص110-ص118)
26-1-2023
1184
تعيش النجوم ذات الكتلة العالية حياة سريعة، وكلما عظمت كتلتها انتهت حياتها سريعًا. فهذه النجوم تحول المادة إلى طاقة بمعدلات مذهلة، بينما تكون العناصر الثقيلة ثم تموت في انفجارات مهولة وهي شابة. لا يزيد معدل عمر النجم منها على ملايين قليلة من الأعوام، أي أقل من واحد على الألف من عمر الشمس. إننا لا نتوقع أن نجد أيا من النجوم الهائلة هذه على قيد الحياة اليوم؛ لأنه في ظل شيوع العناصر الثقيلة في أرجاء الكون، لن يصير بمقدور النجوم عالية الكتلة أن تتكون من الأساس. في واقع الأمر لم يحدث أن رصد أي من هذه النجوم عالية الكتلة قط. بيد أننا نعزو لها مسئولية إثراء الكون بكافة العناصر المألوفة تقريبًا، بما فيها الكربون والأكسجين والنيتروجين والسليكون والحديد، التي نأخذ وجودها كأمر مسلم به سَمِّه إثراء إن شئت، أو سمه تلوثا، لكن بذور الحياة بدأت مع الجيل الأول من النجوم عالية الكتلة التي اختفت منذ زمن بعيد.
خلال البضعة مليارات عام الأولى بعد وقت الانفصال، استمر تجمع المادة بفعل الجاذبية إذ قربت الجاذبية المادة بعضها من بعض على جميع المستويات تقريبا. إحدى النتائج الطبيعية لعمل الجاذبية تكون الثقوب السوداء الهائلة، التي تبلغ كتلة الواحد منها عدة ملايين وربما مليارات كتلة الشمس. الثقوب السوداء التي لها هذه الكتلة المهولة تبلغ ما يقارب حجم مدار نبتون حول الشمس، وهي تنشر الدمار في بيئتها الوليدة والسحب الغازية التي تنجذب نحو هذه الثقوب السوداء ترغب في اكتساب السرعة، لكنها تعجز عن ذلك بسبب وجود العديد من الأشياء في طريقها؛ لذا فهي ترتطم وتحتك بكل ما يصادفها أثناء انحدارها نحو الثقب الأسود في دوامة هائلة. وقبيل اختفاء هذه السحب إلى الأبد تتسبب الاصطدامات التي تحدث داخل مادتها ذات الحرارة الفائقة في انبعاث كميات مهولة من الطاقة مليارات المرات قدر سطوع الشمس، وكل هذا في حجم لا يتجاوز حجم المجموعة الشمسية تندفع تيارات هائلة من المادة، والإشعاع وتمتد لمسافة مئات الآلاف من السنوات الضوئية أعلى وأسفل الغازات الدوارة، بينما تشق الطاقة طريقها كي تهرب من هذه الدوامة بكل الطرق الممكنة. وبينما تسقط سحابة، وتدور أخرى ي انتظار السقوط، يتباين سطوع المجموعة، فتصير أكثر سطوعًا ثم أكثر خفوتا على مدار ساعات أو أيام أو أسابيع. إذا تصادف أن اتجه أحد هذه التيارات صوبك مباشرة، فستبدو المجموعة أكثر سطوعًا، وأكثر تباينا في محتوى الطاقة المنتج، عما هو الحال لو كانت التيارات متجهة إلى الجانب. وعند النظر إليها من أي مسافة كافية، فإن كل هذه الثقوب السوداء، إضافة إلى المادة المندفعة نحوها، ستبدو صغيرة وساطعة للغاية مقارنة بالمجرات التي نراها اليوم. إن ما أنتجه الكون. تلك الأجرام التي وصفنا للتو مولدها – يسمى بالنجوم الزائفة أو الكويزرات.
اكتشفت النجوم الزائفة في أوائل الستينيات، حين بدأ الفلكيون في استخدام تلسكوبات مزودة بمستكشفات حساسة للنطاقات غير المرئية من الإشعاع على غرار موجات الراديو والأشعة السينية. صار بالإمكان وقتها عند رسم أشكال المجرات تضمين معلومات عن مظهرها في نطاقات أخرى للطيف الكهرومغناطيسي. وبإضافة ذلك إلى التحسينات في التصوير الفوتوغرافي، العادي، بدأت أنواع جديدة من المجرات في الظهور من أعماق الفضاء. من أكثر هذه المجرات إثارة للدهشة كانت تلك الأجرام التي بدت في الصور الفوتوغرافية وكأنها نجوم عادية، لكنها، على عكس النجوم، كانت تنتج كميات استثنائية من موجات الراديو. التوصيف المستخدم لهذه الأجرام هو مصادر موجات الراديو شبه النجمية»، أو اختصارًا «النجوم الزائفة». والأكثر إثارة للدهشة من موجات الراديو المنبعثة من هذه الأجرام هو مسافاتها؛ إذ اتضح أن هذه الأجرام هي أبعد الأجرام المعروفة في الكون بأسره. لكن لكي تكون النجوم الزائفة بهذا الحجم الصغير، ومع هذا مرئية على مثل هذه المسافات البعيدة، فهذا يعني أنها نوع جديد تمامًا من الأجرام. صغيرة إلى أي درجة؟ ليست أكبر حجمًا من المجموعة الشمسية ساطعة إلى أي درجة؟ حتى أكثرها خفوتًا يزيد سطوعها عن المجرات المتوسطة في الكون.
بحلول أوائل السبعينيات اتفق الفيزيائيون الفاكيون على أن الثقوب السوداء الهائلة هي محركات هذه النجوم الزائفة، وأنها بجاذبيتها الشديدة تلتهم أي شيء يقع في متناولها. يمكن لنموذج الثقوب السوداء أن يفسر الحجم الصغير والسطوع الكبير للنجوم الزائفة، بيد أنه لا يقول شيئًا عن مصدر غذاء الثقوب السوداء. فقط مع حلول الثمانينات بدأ الفيزيائيون الفلكيون في فهم بيئة النجوم الزائفة، وسبب هذا التأخير هو أن السطوع الهائل للمنطقة الوسطى في أي نجم زائف يحجب رؤية أي شيء محيط أقل سطوعًا. لكن في نهاية المطاف، ومع ظهور تقنيات جديدة لحجب الضوء القادم من المركز، تمكن الفيزيائيون الفلكيون من الكشف عن الزغب المحيط ببعض النجوم الزائفة الخافتة.
ومع تقدم أساليب وتقنيات الكشف أكثر، كشف كل نجم زائف عما يحيط به، بل إن بعضها كشف عن بنية حلزونية. وقد اتضح أن النجوم الزائفة ليست نوعًا جديدًا من الأجرام، بل نوعًا جديدًا من الأنوية المجرية.
في أبريل 1990 أطلقت الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا) أحد أعلى المعدات الفلكية تكلفة تلسكوب هابل الفضائي. يستفيد هذا التلسكوب بحجمه الذي يعادل حجم حافلة كبيرة ويدار بأوامر تُرسل إليه من الأرض من الدوران حول الأرض بعيدًا عن تشويش الغلاف الجوي. وفور أن نصب رواد الفضاء بعض العدسات لتصحيح الأخطاء التي شابت مرآته الرئيسية وقت تصنيعها، تمكن التلسكوب من الوصول إلى مناطق لم يسبق رؤيتها من قبل في المجرات العادية، بما في ذلك مراكزها. وعند توجيهه صوب مراكز المجرات تبين أن النجوم تتحرك بسرعة غير مبررة، خاصة في وجود الجاذبية التي تكشف عنها أشعة الضوء المرئي الآتية من النجوم الأخرى في الجوار. حسن، جاذبية قوية، ومساحة صغيرة ... لا بد أن هناك ثقبا أسود. وبالفعل عثرنا في قلب مجرة تلو الأخرى - بل عشرات المجرات تلو الأخرى - على تلك النجوم السريعة المثيرة للريبة. وفي الواقع، كلما أتانا تلسكوب هابل الفضائي بصورة واضحة لقلب إحدى المجرات، وجدنا الأمر عينه.
يبدو من المرجح الآن أن كل مجرة عملاقة تأوي في قلبها ثقبا أسود ضخمًا، ربما خدم كبذرة جذبوية تتجمع حولها المادة الأخرى، أو ربما يكون قد تكون في وقت لاحق من المادة المندفعة نحوه من المناطق الخارجية للمجرة. لكن لم تكن كل المجرات نجومًا زائفة في شبابها.
بدأت القائمة المتزايدة للمجرات العادية التي تحوي في قلوبها ثقوباً سوداء في إثارة دهشة الباحثين: أهو ثقب أسود عملاق وليس نجما زائفا؟ أم نجم زائف محاط بمجرة؟ ليس بوسع المرء سوى التفكير في صورة جديدة تسير عليها الأمور. في هذه الصورة تبدأ بعض المجرات حياتها كنجوم زائفة ولكي تكون نجوما زائفة - وهو ما يعني في حقيقة الأمر وجود قلب مستعر مرئي لمجرة عادية - لا بد ألا يوجد ثقب أسود جائع فقط، بل أيضًا مخزون وفير من الغازات المندفعة نحوه وفور التهام الثقب الأسود لكل الطعام المتاح، تاركا النجوم والغازات التي لم يلتهمها في مداراتها البعيدة الآمنة، ينطفئ النجم الزائف ببساطة. وعندئذ يتبقى لدينا مجرة وديعة يستقر ثقب أسود خامد في قلبها.
وجد الفلكيون أنواعًا أخرى من الأجرام، تحتل منزلة بين النجوم الزائفة والمجرات العادية، وتعتمد خصائصها أيضًا على السلوك السيئ للثقوب السوداء الهائلة. في بعض الأحيان تطفو تيارات المادة الساقطة في الثقب الأسود الموجود بمركز المجرة في بطء وثبات وفي أوقات أخرى يحدث هذا بصور متقطعة. مثل هذه الأنظمة تملأ مختلف المجرات ذات الأنوية النشطة لكن غير المتقدة على مر السنين تراكمت أسماء الأنواع المختلفة من هذه النظم مثل: لاينرز (مناطق خطوط الانبعاث النووية منخفضة التأين)، ومجرات سيفيرت ومجرات N وأجسام لا سيرتا (البلازارات). كل هذه الأجسام يُطلق عليها الاختصار AGNS" الذي يعني المجرات ذات الأنوية «النشطة». تظهر المجرات ذات الأنوية النشطة على مسافات بعيدة وأخرى قريبة نسبيًّا، وذلك على العكس من النجوم الزائفة التي لا تظهر إلا على مسافات بعيدة للغاية فقط. هذا بأن المجرات ذات الأنوية النشطة يوحي تملأ نطاق المجرات التي تسيء التصرف. استهلكت النجوم الزائفة كل طعامها منذ زمن بعيد؛ لذا لا يمكننا رؤيتها إلا إذا نظرنا للوراء عبر الزمن من خلال رصد المناطق البعيدة للغاية في الفضاء. على العكس من ذلك، للمجرات ذات الأنوية النشطة شهية أكثر اعتدالًا؛ لذا لا يزال البعض منها يحتفظ بالطعام ليتناوله، حتى بعد مرور مليارات الأعوام.
إن تصنيف المجرات ذات الأنوية النشطة على أساس المظهر وحسب ليس كافيًا؛ لذا صنف الفيزيائيون الفلكيون المجرات ذات الأنوية النشطة على أساس أطيافها وأيضًا النطاق الكامل لانبعاثاتها الكهرومغناطيسية خلال الفترة من منتصف التسعينيات إلى أواخرها حسن الباحثون نموذج الثقوب السوداء، ووجدوا أن بمقدورهم توصيف كل الوحوش العجيبة التي تحويها حديقة المجرات ذات الأنوية النشطة من خلال قياس عدد قليل من المؤشرات وحسب، وهي: كتلة الثقب الأسود الموجود في الجرم، والمعدل الذي يتغذى به، وزاوية رؤية القرص الخارجي والتيارات الخارجة منه. على سبيل المثال، إذا كنا ننظر في اتجاه خروج أحد التيارات المندفعة من المنطقة المحيطة بالثقب الأسود، فسنرى جسمًا أكثر سطوعًا بكثير عما لو كنا ننظر إليه من زاوية مختلفة من الجانب. يمكن للتنويعات المختلفة لهذه المؤشرات الثلاثة أن تفسر كل صور التنوع التي يرصدها الفيزيائيون الفلكيون، مفسرة لهم كيفية تطور أنواع المجرات ومانحة إياهم فهما أعمق لعملية تكون المجرات وتطورها. إن قدرة هذا العدد القليل من المؤشرات على تفسير العديد من المظاهر اختلافات الشكل والحجم والسطوع واللون - هو انتصار غير مسبوق لفيزيائيي القرن العشرين الفلكيين. ولأن هذا الأمر احتاج لعدد كبير من الباحثين وسنوات عديدة وقدر كبير من وقت التلسكوب، فهو ليس بالأمر الذي يعلن عنه ببساطة في نشرة الأخبار المسائية؛ ومع هذا فهو انتصار حقيقي.
علينا ألا نفترض، مع ذلك، أن الثقوب السوداء العملاقة يمكنها تفسير كل شيء. فمع أن كتلتها تفوق كتلة الشمس بملايين أو مليارات المرات، فإن كتلتها هذه لا تُذكر عند المقارنة بكتل المجرات الموجودة بها؛ إذ تبلغ أقل بكثير من 1 بالمائة من الكتلة الإجمالية لأي مجرة كبيرة. وعندما نسعى لتفسير وجود المادة المظلمة، أو غيرها من مصادر الجاذبية غير المرئية في الكون، لا تكون للثقوب السوداء أهمية كبيرة، بل بالإمكان تجاهلها تماما. لكن عند حساب كمية الطاقة التي تسهم بها الثقوب السوداء - أي حينما نحسب الطاقة التي بعثت بها كجزء من عملية تكونها - سنجد أنها تهيمن على القدر الأعظم من طاقة تكون المجرات. فكل طاقة مدارات النجوم والسحب الغازية التي تتألف منها المجرة في نهاية المطاف تبدو تافهة مقارنة بالطاقة التي بذلت لتكوين الثقوب السوداء. وربما لم تكن المجرات لتتكون على الصورة التي نعرفها لو لم تقبع في قلوبها تلك الثقوب السوداء فائقة الضخامة. إن الثقب الأسود الذي كان فيما مضى ساطعًا لكنه الآن غير مرئي والقابع في قلب كل مجرة يقدم لنا رابطًا خفيًّا؛ تفسيرًا ماديا لتكتل المادة في نظم معقدة تدور فيها مليارات النجوم حول مركز مشترك.
إن التفسير الأشمل لتكون المجرات لا يقوم فقط على الجاذبية الناتجة عن الثقوب السوداء فائقة الضخامة، بل على الجاذبية في الظروف الفلكية التقليدية أيضًا. ما الذي كون مليارات النجوم داخل كل مجرة؟ الجاذبية فعلت هذا أيضًا، مكونة ما يصل إلى مئات الآلاف من النجوم في السحابة الغازية الواحدة إن أغلب نجوم المجرة ولدت داخل «تجمعات» فضفاضة من المادة. ومناطق مولد النجوم الأكثر اكتنازا لا تزال تشكل عناقيد نجمية متماثلة، تدور داخلها النجوم حول مركز العنقود النجمي، وتتحدد مساراتها عبر الفضاء فيما يشبه رقصة الباليه الكونية من خلال قوى الجاذبية التي تمارسها كافة النجوم الأخرى داخل العنقود النجمي، حتى بينما تتحرك هذه العناقيد نفسها في مسارات هائلة حول مركز المجرة، على مسافة آمنة من القوة المدمرة للثقب الأسود الذي يحتل مركز المجرة.
داخل العنقود الواحد تتحرك النجوم بنطاق واسع من السرعات، ويتحرك بعضها بسرعة بالغة لدرجة المخاطرة بالخروج من المجموعة تماما. وفي الواقع يحدث هذا الأمر أحيانًا، وذلك حين تتحرر النجوم السريعة من قبضة جاذبية العنقود النجمي وتهيم حرة في أرجاء المجرة. هذه المجرات الحرة، إلى جانب العناقيد النجمية الكروية التي يحوي الواحد منها مئات الآلاف من النجوم تضيف إلى النجوم التي تشكل الهالات الكروية للمجرات. هذه الهالات المجرية التي كانت في البداية ساطعة لكنها اليوم تفتقد سطوعها ونجومها ذات العمر القصير، هي أقدم الأجسام المرئية في الكون بأسره؛ إذ يرجع تاريخ ميلادها إلى وقت تكون المجرات نفسها.
آخر ما ينهار، ومن ثم آخر ما يتحول إلى نجوم هو الغازات والغبار الذي ينجذب ويُثبت على سطح القرص المجري. في المجرات البيضاوية لا وجود لهذا القرص؛ إذ إن كل ما تحويه من غازات تحول بالفعل إلى نجوم. أما المجرات الحلزونية فبها توزيعات منبسطة من المادة تتسم بوجود سطح مركزي تتكون داخله أصغر النجوم وأكثرها سطوعًا في أنماط حلزونية، وهو ما يبرهن على وجود الموجات العظيمة المتذبذبة ذات الكثافة المتفاوتة والغازات المتخلخلة التي تدور حول مركز المجرة. كل الغازات الموجودة في المجرة الحلزونية ولم تشارك بسلاسة في تكوين العناقيد النجمية تهبط نحو السطح المركزي، وتتجمع كحلوى الخطمي الساخنة التي تلتصق بعضها ببعض عند التلامس، وتكون قرصا من المادة يعمل ببطء على تكوين النجوم على مدار مليارات الأعوام المنصرمة، والمليارات الأعوام القادمة ستستمر النجوم في التكون في المجرات الحلزونية، وكل جيل جديد سيكون أكثر ثراءً بالعناصر الثقيلة عن سابقه. هذه العناصر الثقيلة (التي يقصد بها الفيزيائيون الفلكيون كل العناصر الأثقل من (الهيليوم تدفقت إلى الفضاء النجمي من النجوم المسنة أو من انفجارات النجوم ذات الكتلة الهائلة، كالمستعرات العظمى. إن وجودها يجعل المجرة - ومن ثم الكون - أكثر ملاءمة لكيمياء الحياة كما نعرفها.
أوضحنا باختصار مولد المجرات الحلزونية التقليدية، في سلسلة تطورية تكررت لعشرات المليارات من المرات ونتج عنها مجرات ذات تكوينات متباينة على صورة عناقيد مجرية وعلى صورة خيوط طويلة من المجرات.
وأيضًا على صورة ألواح من المجرات. ولأننا كلما نظرنا أبعد في الفضاء نظرنا إلى الماضي أكثر عبر الزمن، فنحن نملك القدرة على دراسة المجرات ليس فقط بشكلها الحالي، بل أيضًا بالشكل الذي كانت عليه منذ مليارات الأعوام، وكل هذا من خلال النظر عبر الفضاء. مشكلة تحويل هذا المفهوم إلى واقع تجريبي تكمن في حقيقة أن المجرات الواقعة على بعد مليارات السنوات الضوئية تبدو كأجسام صغيرة وخافتة للغاية؛ لذا فحتى أفضل تلسكوباتنا لن يمكنها فك طلاسمها. ومع ذلك فقد حقق الفيزيائيون الفلكيون تقدمًا عظيمًا في هذا الصدد خلال السنوات القليلة الماضية حدثت الطفرة عام 1995 حين رتب روبرت ويليامز - الذيكان يشغل وقتها منصب مدير معهد علوم تلسكوبات الفضاء في جامعة جونز هوبكنز - من أجل توجيه تلسكوب هابل الفضائي صوب اتجاه وحيد في الفضاء، بالقرب من مجموعة الدب الأكبر لما يساوي عشرة أيام من وقت الرصد يستحق ويليام الفضل كله لأن لجنة تخصيص الوقت الخاصة بالتلسكوب، التي تختار اقتراحات الرصد التي تستحق تخصيص وقت التلسكوب لها، اعتبرت الاقتراح غير جدير بالدعم. فعلى أي حال، المنطقة المطلوب دراستها اختيرت عن قصد؛ لأنه لا يوجد شيء مثير للاهتمام بها، ومن ثم هي لا تزيد عن رقعة كئيبة مملة من السماء. نتيجة لذلك، لم يكن باستطاعة أي مشروع حالي الاستفادة مباشرة من تخصيص كل هذا القدر من وقت التلسكوب الذي عليه طلب كبير بالفعل. كان يحق لويليام، بوصفه مديرًا لمعهد علوم تلسكوبات الفضاء، تخصيص نسبة بسيطة من إجمالي وقت التلسكوب «الوقت الذي يقدره بوصفه المدير»، وبالفعل استثمر هذا الوقت في التقاط ما صار يعرف بـ حقل هابل العميق»، وهي واحدة من أشهر الصور الفلكية الملتقطة على الإطلاق.
أنتجت فترة الرصد التي امتدت عشرة أيام، والتي تزامنت مع فترة الإجازات الحكومية لعام 1995، الصورة التي تعرضت لأكبر قدر من الدراسة في تاريخ علم الفلك. تقدم لنا صورة الحقل العميق المرصعة بالمجرات وأشباه المجرات، طبعة أصلية للكون وضعت الأجرام الموجودة على مسافات متباينة من درب التبانة عليها توقيعاتها الخاطفة في أزمنة متباينة. إننا نرى الأجرام في صورة الحقل العميق كما كانت عليه منذ 1.3 مليار عام مثلا، أو 3.6 مليارات عام، أو 5.7 مليارات عام، أو 8.2 مليارات عام مضت، وتاريخ كل جرم محدد من واقع بعده عنا انكب مئات الفلكيين على كنز البيانات التي تحويها هذه الصورة المنفردة من أجل توليد معلومات جديدة بشأن كيفية تطور المجرات عبر الزمن وكيف كانت المجرات تبدو بعد تكونها بوقت قصير. في عام 1998 التقط التلسكوب صورة أخرى باسم حقل هابل العميق الجنوبي من خلال تكريس عشرة أيام من وقت الرصد لبقعة أخرى من السماء في اتجاه معاكس لاتجاه صورة الحقل العميق الأولى، أعلى نصف الكرة الجنوبي مكنت المقارنة بين الصورتين الفلكيين من التأكد من أن النتائج التي حصلوا عليها من الصورة الأولى لم تمثل شيئًا شاذًا (على سبيل المثال، لو كانت الصورتان متطابقتين في كل التفاصيل، أو مختلفتين إحصائيا من كل وجه، لم نكن لنجد لهذا تفسيرًا علميًّا (مقبولًا، وكذلك تنقيح نتائجهم التي توصلوا إليها بشأن كيفية تكون أنواع المجرات المختلفة. وبعد مهمة صيانة ناجحة جهز فيها تلسكوب هابل بمستكشفات أفضل أعلى حساسية، لم يستطع معهد علم تلسكوبات الفضاء مقاومة الإغراء وأجاز عام 2004 صورة حقل هابل العميق الفائق»، التي تظهر المزيد عن الكون الأبعد.
مع الأسف لم تثمر أفضل جهود التلسكوب هابل في كشف النقاب عن المراحل الأولى لتكون المجرات، التي ستكشف لنا من خلال الأجرام الموجودة على أبعد المسافات، وسبب ذلك هو أن التمدد الكوني أزاح القدر الأعظم من إشعاعها نحو نطاق الأشعة تحت الحمراء على طيف الضوء، وهو ما تعجز أجهزة التلسكوب عن التقاطه لرصد هذه المجرات الأبعد ينتظر الفلكيون التصميم والبناء والإطلاق ثم التشغيل الناجح لخليفة التلسكوب هابل المسمى بتلسكوب جيمس ويب الفضائي والمسمى على اسم رئيس وكالة ناسا إبان فترة إطلاق مركبات أبولو. (يقول المتهكمون إن اختيار هذا الاسم لم يكن بهدف تكريم هذا العالم الشهير بقدر ما كان ضمانا لأن لا يُلغى مشروع التلسكوب؛ نظرًا لأن هذا سيعني حذف تراث رسمي مهم.)
سيحمل تلسكوب جيمس ويب الفضائي مرآة أكبر من مرآة هابل، ومصممة كي تفتح نفسها كزهرة آلية معقدة، بحيث توفر سطحًا عاكسا أكبر بكثير مما يستطيع أي صاروخ حمله. وسيحوي التلسكوب الفضائي الجديد مجموعة من المعدات الأكثر تقدما بكثير عن معدات التلسكوب هابل، التي صُممت في الأساس في الستينيات، وبنيت في السبعينيات، وأُطلقت في عام ،1991، والتي - حتى بعد تحديثها بشكل كبير في التسعينيات - لا تزال تفتقد بعض القدرات الجوهرية مثل القدرة على التقاط الأشعة تحت الحمراء. هذه القدرة موجودة اليوم في تلسكوب سبيتزر للأشعة تحت الحمراء الذي أطلق عام 2003، والذي يدور حول الشمس في مدار أبعد من الأرض عن مدار هابل وبهذا يتفادى أي تداخل تسببه كميات الأشعة تحت الحمراء الغزيرة التي ينتجها كوكبنا. لتحقيق هذه الغاية سيكون على تلسكوب جيمس ويب الفضائي أن يدور حول الأرض في مدار أبعد بكثير عن مدار هابل، وهو ما يعني أنه لن يكون بالإمكان إرسال مهام صيانة كالتي تجري اليوم؛ لذا حري بناسا أن تبنيه بشكل سليم من المرة الأولى. وإذا بدأ التلسكوب الجديد العمل في عام 2014، كما هو مخطط له، فمن المفترض أن يقدم لنا رؤى جديدة رائعة للكون، بما فيها صور للمجرات التي تبعد عنا أكثر من 10 مليارات سنة ضوئية، والتي سنراها في وقت أقرب من وقت نشأتها عما كشفت عنه صور الحقل العميق للتلسكوب هابل ستتعاون المعدات الأرضية الضخمة مع التلسكوب الجديد، مثلما فعلت مع سابقه في الدراسة التفصيلية لكنز الأجرام الذي ستكشف عنه خطوتنا العظيمة التالية في عالم معدات الرصد الفضائية.
المستقبل يبدو غنيًّا، بالاحتمالات، فإن علينا ألا نتجاهل الإنجازات المبهرة التي حققها الفيزيائيون الفلكيون خلال العقود الثلاثة المنصرمة، والتي تنبع من قدرتهم على ابتكار معدات جديدة لرصد الكون. كان كارل ساجان يحب أن يقول إن الجماد وحده هو ما لا ينبهر بما يحدث في الكون. وبفضل مشاهداتنا المحسنة صرنا نعلم الآن أكثر مما عرفه ساجان بشأن تتابع الأحداث المدهش الذي أدى لوجودنا التفاوتات الكمية في توزيع المادة والطاقة على مستوى أصغر من حجم البروتون، التي نتج عنها عناقيد مهولة من المجرات يبلغ عرضها ثلاثين مليون سنة ضوئية. ومن الفوضى إلى الكون اجتازت علاقة السبب والنتيجة هذه تضاعفًا في الحجم قدره 1028 ضعفًا، وتضاعفًا للزمن قدره 1042 ضعفًا. ومثل خيوط الحمض النووي الميكروسكوبية التي تحدد هوية الأنواع الكبيرة والخصائص المتفردة لأفرادها، فإن شكل الكون الحديث وسماته كانت محفورة في نسيج لحظاته المبكرة، واستمرت دون انقطاع على مر الزمان والمكان إننا نشعر بهذا حين ننظر إلى السماء، ونشعر به حين ننظر للأرض، ونشعر به حين ننظر في أنفسنا.