تاريخ الفيزياء
علماء الفيزياء
الفيزياء الكلاسيكية
الميكانيك
الديناميكا الحرارية
الكهربائية والمغناطيسية
الكهربائية
المغناطيسية
الكهرومغناطيسية
علم البصريات
تاريخ علم البصريات
الضوء
مواضيع عامة في علم البصريات
الصوت
الفيزياء الحديثة
النظرية النسبية
النظرية النسبية الخاصة
النظرية النسبية العامة
مواضيع عامة في النظرية النسبية
ميكانيكا الكم
الفيزياء الذرية
الفيزياء الجزيئية
الفيزياء النووية
مواضيع عامة في الفيزياء النووية
النشاط الاشعاعي
فيزياء الحالة الصلبة
الموصلات
أشباه الموصلات
العوازل
مواضيع عامة في الفيزياء الصلبة
فيزياء الجوامد
الليزر
أنواع الليزر
بعض تطبيقات الليزر
مواضيع عامة في الليزر
علم الفلك
تاريخ وعلماء علم الفلك
الثقوب السوداء
المجموعة الشمسية
الشمس
كوكب عطارد
كوكب الزهرة
كوكب الأرض
كوكب المريخ
كوكب المشتري
كوكب زحل
كوكب أورانوس
كوكب نبتون
كوكب بلوتو
القمر
كواكب ومواضيع اخرى
مواضيع عامة في علم الفلك
النجوم
البلازما
الألكترونيات
خواص المادة
الطاقة البديلة
الطاقة الشمسية
مواضيع عامة في الطاقة البديلة
المد والجزر
فيزياء الجسيمات
الفيزياء والعلوم الأخرى
الفيزياء الكيميائية
الفيزياء الرياضية
الفيزياء الحيوية
الفيزياء العامة
مواضيع عامة في الفيزياء
تجارب فيزيائية
مصطلحات وتعاريف فيزيائية
وحدات القياس الفيزيائية
طرائف الفيزياء
مواضيع اخرى
الأجسام الصلبة والفضاء الخاوي
المؤلف: جون جريبين
المصدر: سبعة أعمدة للعلم (خفة الثلج المذهلة ومفاجئات علمية اخرى)
الجزء والصفحة: ص25–34
2023-11-19
1536
الأجسام الصلبة فارغة. على الرغم من أنه كثيرًا ما يُستشهد بهذا المثال على الطبيعة غير الاعتيادية للعالم، فلا يزال هذا المثال قادرًا على أن يستوقفك فجأةً إذا فكرت فيه. فأشياء مثل لوحة الكتابة «الصلبة» التي أكتب عليها، والأصابع التي أستخدمها في الكتابة، تتكون من جسيمات متناهية الصغر منتشرة عبر مساحات شاسعة نسبيًّا من الفراغ، تتماسك معا بفعل القوى الكهربائية. ومثل هذه الفكرة مهمة ومذهلة في آن واحد، حتى إن ريتشارد فاينمان قال عنها إنها أهم حقيقة اكتشفها العلم عن العالم. وكما هو الحال مع العديد من الموضوعات، يجدر بنا اقتباس كلماته حرفيا:
لو أن المعرفة العلمية ضاعت كلها، إثر وقوع كارثة ما، ولم تتبق سوى جملة واحدة لتنتقل إلى الجيل التالي من المخلوقات ما الجملة التي تحوي أكبر قدر من المعلومات بأقل عدد من الكلمات؟ أعتقد أنها «الفرضية الذرية» (أو الحقيقة «الذرية»، أو أيا ما كان الاسم الذي ترغب في تسميته بها) بأن «كل الأشياء مكونة من ذرات؛ جسيمات صغيرة تنتقل في حركة دائمة، ويجتذب بعضها بعضًا حين تفصل بينها مسافة صغيرة، ولكنها تأبى أن تنضغط بعضها بداخل بعض». في تلك الجملة الواحدة، سترى كما هائلا من المعلومات عن هذا العالم، فقط إذا استعنا بقليل من الخيال والتفكير. 1
بيد أن عددًا قليلًا من علماء الفيزياء يتمتَّعون بملكة الخيال (أو بالأحرى، الرؤية الفيزيائية)، ولم يُحسم الجدل حول الاعتقاد بأن فاينمان كان يتمتع بهذه الملكة، وما إذا كان العالم يتكون فعلًا من مثل هذه الجُسَيْمات إلا في السنوات الأولى من القرن العشرين، رغم أن فكرة الذرات طرحت قبل ذلك بكثير.
عادةً ما يعود الفضل في التفسيرات الرائجة للنظرية الذرية (أو أيا ما ترغب في تسميتها به) إلى الفيلسوف ديموقريطوس، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، والفيلسوف إبيقور، الذي عاش في الفترة بين عامي 324 و217 قبل الميلاد تقريبا. ولكن لم تكن فكرتهما عن الأجسام الصغيرة، التي تتحرك في «الفراغ» وتتفاعل بعضها مع بعض، سوى رأي لأقلية، سخر منه فلاسفة مثل أرسطو الذي رفض فكرة الفراغ. ولم يُعد إحياء الفكرة إلا في عام 1649 على يد الفيلسوف بيير جاسندي، حين أشار إلى أن الذرات لها أشكال مختلفة ويمكنها أن تتَّحد معًا عبر آلية تشبه آلية الربط بين المشبك والعروة. وأكد على عدم وجود شيء على الإطلاق في الفجوات الموجودة بين الذرات. وكان هذا تمهيدًا لجدال استمر لما يربو على مائتي عام. من ناحية، كان هناك ما يمكننا تسميته بالمدرسة النيوتونية للفكر، تيمنا بإسحاق نيوتن، والتي حبَّذت الفرضية الذرية؛ ومن ناحية أخرى، كانت هناك المدرسة الديكارتية، تيمنا برينيه ديكارت الذي بغض فكرة الفراغ أو الخواء. وتفاقم الخلاف بين المدرستين في القرن التاسع عشر.
بدايةً من خمسينيات القرن التاسع عشر فصاعدًا، واستنادًا إلى الأعمال السابقة لجون دالتون، تزايد قبول علماء الكيمياء لفكرة الذرات، وأن ذرات العناصر المختلفة لها أوزان مختلفة، وتتحد معًا لتُكوِّن الجزيئات، ومن ثم اعتُبر جزيء الماء، مثلًا، مزيجًا من ذرَّتَي هيدروجين متحدتين مع ذرة أكسجين. واستطاعوا قياس أوزان (أو كتل على وجه الدقة) ذرات مختلف العناصر من خلال مقارنتها بعنصر الهيدروجين، الذي يعتبر العنصر الأخف وزنا. بل واستطاعوا أيضًا حساب عدد الجُسَيْمات (سواء أكانت ذرات أم جزيئات) التي ينبغي أن توجد في عينة أي عنصر يتوافر وزنه الذري (أو الجزيئي) بالجرامات؛ أي 1 جرام من الهيدروجين، 12 جرامًا من الكربون، 16 جرامًا من الأكسجين، وهكذا. وكان من شأن كل عينة من هذه العينات أن يكون لها عدد الجسيمات ذاته. وصار هذا العدد يُعرف باسم ثابت أفوجادرو، نسبةً إلى العالم الرائد الذي طور النظرية الكامنة وراءه، وهو عدد ضخم جدا. ولكن قبل أن أتطرق إلى مدى ضخامته، ينبغي أن أوضّح وجه المعارضة لهذه الأفكار، تلك المعارضة التي ظلت قائمة حتى في بداية القرن العشرين، والتي تبرز مدى الروعة الحقيقية لفكرة الذرات هذه.
جاءت المعارضة من جانب علماء الفيزياء والفلاسفة الذين أشاروا إلى ما اعتبروه خطأ فادحا في فكرة الأعداد الكبيرة للجسيمات الدقيقة المتحرّكة في حَيِّز الفراغ، لترتد بعضها عن بعض وتسير في طريقها وفقًا لقوانين الحركة التي وضعها إسحاق نيوتن. والعنصر الجوهري في قوانين نيوتن أنها قابلة للعكس. والطريقة المعتادة لتسليط الضوء على هذا هي تأمل التصادم بين كرتي بلياردو. كرة تتحرك، مثلا من ناحية اليسار، وتصطدم بكرة ثابتة، ثم تتوقف، في حين تتحرك الكرة الأخرى ناحية اليمين. إذا قمت بتصوير هذا الحدث على هيئة فيديو، وقمت بتشغيله عكسيًّا من النهاية إلى البداية، سيبدو جيدًا تمامًا. ستتحرك الكرة ناحية اليمين، وتصطدم بالكرة الثابتة، ثم تتوقف، في حين أن الكرة الأخرى ستتحرك ناحية اليسار. لا تشتمل قوانين نيوتن على خط زمني». ولكن العالم الواقعي يحوي اتجاهًا للزمن يمثل جزءًا لا يتجزأ منه الآن، إذا تخيلنا ضربة البداية لكرة الدفع البيضاء وهي تصطدم بالكرات المتراصة على طاولة البلياردو بحيث تنتشر الكرات في جميع الاتجاهات، فالموقف هنا غير قابل للتراجع والسير في الاتجاه العكسي، رغم أن كل تصادم يحدث بين الكرات يخضع لقوانين نيوتن. إن «تشغيل الفيديو عكسيا» ينتج عنه متوالية لا نراها مطلقًا في عالم الحياة اليومية؛ بمعنى أن نرى حركة تراجع الكرات من جميع الاتجاهات لتتصادم، وتعود في رصتها الأنيقة على هيئة مثلث، بينما تقترب كرة واحدة نحو العصا.
عبر علماء القرن التاسع عشر عن سمة اللارجعة لعالم الحياة اليومية من خلال الحرارة، أو علم الديناميكا الحرارية. فأشاروا إلى أن الحرارة تنتقل دائمًا من جسم ساخن إلى جسم بارد فعند وضع مكعب من الثلج في كوب ماء دافئ، فإنه يكتسب الحرارة من المياه ويذوب، إلا أننا لا نرى مطلقًا ماءً في كوب تزداد حرارته تلقائيا بينما تتكون كتلة من الثلج في منتصف الكوب. ولكن قوانين نيوتن تسمح تمامًا بوقوع هذا السيناريو وسيناريو ضربة كرة البلياردو «المعكوسة». ولذا كان الاستنتاج المبدئي لعلماء الديناميكا الحرارية في القرن التاسع عشر هو أنه لا يمكن أن تتألف الأشياء من جُسَيْمات صغيرة تتحرك وفقًا لتلك القوانين. ولكن حلت المعضلة آنذاك.
توصل ما لا يقل عن ثلاثة من كبار المفكّرين إلى الحل، ولكن كل منهم على حدة. فقد أدركوا أنه يجب وصف سلوك عدد كبير من الجسيمات المتفاعلة وفقًا لقوانين نيوتن من منظور إحصائي، وتوصلوا إلى معادلات لتقدير الطريقة التي يتصرف بها عدد كبير للغاية من الجسيمات، واتخذت شكل قوانين صارت تُعرف باسم الميكانيكا الإحصائية. وهذا يؤكد لنا، بطريقة رياضية صرفة، أنه على الرغم من عدم وجود شيء في قوانين الفيزياء يمنع تكون مُكعبات الثلج في أكواب المياه الدافئة، فإن مثل هذا الحدث مستبعد وقوعه تماما، وسيحدث مرةً واحدةً فقط خلال زمن طويل جدًا جدًّا، وهو وقت يمكن حسابه إذا عرف عدد الجسيمات المشاركة. 2 ويمكن التماس العذر لأول عالمين قاما بتقدير هذا وعملا على وضع قوانين الميكانيكا الإحصائية نظرًا إلى عدم دراية أي منهما بأعمال الآخر. فقد كان لودفيج بولتزمان يعمل في أوروبا، بينما عمل ويلارد جيبس في الولايات المتحدة، وحتى في مطلع القرن التاسع عشر كانت الأفكار العلمية تستغرق بعض الوقت حتى تعبر المحيط الأطلنطي. أما المخترع (أو المكتشف) الثالث للميكانيكا الإحصائية فكان عذره أقل، لا سيما أنه ظهر على الساحة بعد ذلك بفترة قصيرة. ولكنه اشتهر بعدم اهتمامه بمواكبة ما كان يفعله الآخرون، مفضّلا بذلك أن يكتشف كل شيء بنفسه. كان اسمه ألبرت أينشتاين ومما يدل على أن النظرية الذرية للمادة تفتقر إلى الرسوخ أنه انطلق في بداية القرن العشرين يبحث عن أدلة «من شأنها أن تضمَّن بقدر المستطاع وجود ذرات ذات حجم محدد.» 3 وظهر تصوره للميكانيكا الإحصائية في سلسلة من ثلاثة أبحاث استثنائية، نُشرت بين عامي 1902 و1904، كان من شأنها أن تضمن له الشهرة العلمية، لو كان هو أول من ظهر على الساحة. ولكن في عام 1905، ومن بين إنجازات أخرى قام بها، نشر البحث العلمي الذي أثبت أخيرًا حقيقة الذرات والجزيئات للجميع باستثناء بضعة فلاسفة معارضين للتغيير. من السهل على غير الرياضيين أيضًا فهم الفكرة؛ لذا سأطرح الميكانيكا الإحصائية جانبًا وأركز على الجانب الفيزيائي.
يعود الجانب الفيزيائي إلى عمل قديم كان أينشتاين على دراية به على الأقل، ولكن على نحو محدود فحسب ولم تكن هذه نقطة الانطلاق لأبحاثه؛ لأنه مرةً أخرى كان يعمل عليها انطلاقًا من المبادئ الأولى، ولكن هذه المرة حاول أن يُقدِّر كيف لعينة صغيرة من المادة – مثل ذرة من الغبار – مُعلَّقة في سائل – كوب ماء مثلًا – أن تتحرك، بينما تنهال عليها ذرات وجزيئات مصطدمة بها من جميع الجهات. قام بدراسة هذا النوع من الحركة عالم النبات الاسكتلندي روبرت براون في عشرينيات القرن التاسع عشر. كان اهتمامه نابعا من مشاهدات أجراها باستخدام الميكروسكوبات، لحبوب لقاح تتراقص في المياه بحركة مهتاجة، تشبه الركض في المكان. كان التفسير الطبيعي آنذاك. هو أن حبوب اللقاح تنبض بالحياة، وتتحرك تحت تأثير قوتها الدافعة ولكن اختبر براون هذه الفرضية من خلال فحص حبيبات شظايا زجاج وحبيبات جرانيت صلبة في المياه، ووجد أنها تتحرك بالطريقة نفسها. وأثبت هذا أن الحركة لا علاقة لها بالحياة، وصارت تعرف باسم الحركة البراونية.
بدأ أينشتاين عمله بحساب كيف تجعل الذرات والجزيئات حبات الغبار العديمة الحياة تتحرك في سائل، ولكنه بدأ من أسفل لأعلى، لا من أعلى لأسفل. وفي الفقرة الأولى من البحث الذي أجراه عن الموضوع في عام 1905، يقول:
من الممكن أن تتطابق الحركات التي سنناقشها هنا. مع ما يُسمى بالحركة الجزيئية البراونية، ولكن البيانات المتاحة لي عن هذه الحركة الأخيرة ليست دقيقة للغاية، لدرجة أنني لا يمكنني تكوين رأي عن هذه المسألة.
«البيانات المتاحة» لم تكن «دقيقةً للغاية»؛ لأنه لم يستطع أن يكلّف نفسه عناء البحث عنها، وثمة شك قوي في أن هذه العبارة حتمًا أُضيفت بعد أن قرأ صديق له مُسَوَّدة للبحث، ونبهه إلى وجود صلة تربط بين هذا وبين الحركة البراونية. ولكن بغضّ النظر عن دوافعه، فسر أينشتاين الحركة البراونية بواحدة من الرؤى الثاقبة التي تطرأ على ذهن العباقرة، ولكنها تجعلك تتساءل بعد ذلك لماذا لم يفكّر أحد بها، مدعومًا بالتقديرات التي توفّر للمختبرين شيئًا لاختباره.
لقد أدرك أينشتاين أن الجسيمات الكبيرة بما يكفي لفحصها باستخدام ميكروسكوبات حديثة – حبيبات مثل حبوب اللقاح، أو شظايا الزجاج – كانت أصغر وأدق من أن تتحرك على نحو مرئي واضح إثر التصادم مع ذرة واحدة أو جزيء واحد. ولكن تُقصَف هذه الجسيمات في سائل باستمرار من كل الجهات بأعداد كبيرة من الذرات والجزيئات. ولا يمكن أن يكون هذا القصف متساويًا تمامًا. ففي أي لحظة، سيحدث عدد أكبر قليلا من التصادمات على جهة، بينما يحدث عدد أقل من التصادمات على الجهة الأخرى. وسينزاح الجسيم قليلًا في الاتجاه الذي يشهد تصادمات أقل. لكن حينئذ سيتغير التوازن، وسيدفع ببطء في اتجاه مختلف. والنتيجة المجملة لهذا أن الجسيم يهتز، لا أقصد هنا الركض في المكان، وإنما العدو البطيء في مسار متعرج والابتعاد تدريجيًّا عن المكان الذي بدأ من عنده. ويُعرف هذا المسار الآن بالمسار العشوائي، وكانت هذه هي الرؤية الأساسية لأينشتاين.
أوضح أينشتاين أنه أينما يبدأ الجسيم في التحرُّك، فإن المسافة التي يقطعها ليبتعد عن النقطة التي يبدأ منها تُحسب بناءً على الجذر التربيعي للوقت الذي استغرق في ذلك. إذن، إذا تحرك الجسيم مسافةً مُعيَّنة خلال ثانية واحدة، فسيتحرك ضعف هذه المسافة في أربع ثوان (لأن 2 هي الجذر التربيعي للعدد 4)، ويتحرك أربعة أضعاف في ست عشرة ثانية، وهكذا. ولكنه لا يستمر في الاتجاه نفسه. فبعد مرور أربع ثوان، يكون قد ابتعد ضعف المسافة، ولكن في اتجاه عشوائي وغير متوقع، وبعد ست عشرة ثانية، يبتعد أربعة أضعاف المسافة في اتجاه عشوائي آخر. وهذا يُسمَّى بإزاحة «جذر متوسط المربع»، وصار من الممكن للمختبرين أن يختبروا هذا التنبؤ. وبالاستعانة بثابت أفوجادرو من دراسات أخرى، استنتج أينشتاين أن جسيمًا قطره 0.001 مليمتر في مياه بدرجة حرارة 17 درجةً مئوية من شأنه أن يُغيّر موضعه بمقدار ستة أجزاء من المليون من المتر من نقطة بدايته في دقيقة واحدة. والمعادلة الحسابية الحديثة لثابت أفوجادرو؛ أي عدد الجزيئات في الوزن الجزيئي لمادة ما محسوبة بالجرامات، تساوي 1023 × 6.022140857، أو رقم 6 يتبعه 23 صفرًا تقريبًا. وهذا يعطيك فكرةً عن سبب هيمنة السلوك الإحصائي لمادة ما على التفاعلات العكسية الفردية لإفراز تأثيرات مثل ذوبان مكعبات الثلج والحركة البراونية. 4 وكما لخص أينشتاين قائلا:
إذا ثبت خطأ تقدير هذه الحركة؛ فإن هذه الحقيقة ستكون حجةً بعيدة المدى ضد مفهوم الحركة الجزيئية للحرارة.
بالطبع لم يثبت خطؤه، واعتبر هذا دليلا دامعًا على حقيقة الذرات والجزيئات. ولكن هناك ما هو أكثر، أكثر مما أدرك أينشتاين في عام 1905.
توضّح النظرية الحركية الجزيئية للحرارة التي ذكرها أينشتاين أن الأشياء اليومية الدارجة تنقسم إلى ثلاث حالات صلبة أو سائلة أو غازية. يُعد الغاز مثالا نموذجيا للذرات المتحركة في الفراغ، دون وجود أي شيء بينها. أما السائل فيُصور باعتباره مجموعةً من الذرات (أو الجزيئات) تنزلق بعضها أمام بعض بسلاسة وحرية إلى حد ما، ولا يوجد بينها فراغات. وأما في حالة الجسم الصلب، تُصوّر الجسيمات مُرَتَّبةً بإحكام في مجموعة، بحيث يُلامس أحدها الآخر، وأيضًا بلا أي فراغات بين الذرات أو الجزيئات. إذن لماذا وصفتُ لوحة مفاتيحي وأصابعي باعتبارها حيزًا فارغًا عادة؟ كان هذا اكتشافا مثيرًا حقا، وقد توصل إليه الباحثون في مانشستر في نهاية العقد الأول من القرن العشرين؛ أي منذ أكثر من مائة عام بقليل.
كان هانز جايجر وإرنست مارسدن هما من قاما بإجراء التجارب فعليًّا، وكانا يعملان تحت إشراف إرنست رذرفورد كان رذرفورد واحدًا من الأعلام البارزين في مجال تطوير الفيزياء آنذاك. جاء من نيوزيلاندا، وعمل في تسعينيات القرن التاسع عشر بجامعة كمبريدج، في إنجلترا، حيث درس سلوك الأشعة السينية المكتشفة حديثا، وبعد ذلك، انتقل في عام 1898 إلى جامعة ماكجيل في مونتريال، حيث درس الاكتشاف العظيم الآخر في ذلك الوقت، ألا وهو النشاط الإشعاعي. واستقر في مانشستر في عام 1907.
إرنست رذرفورد. «مكتبة الكونجرس / ساينس فوتو لايبراري».
وفي غضون عام، توصل فريقه إلى أن أحد أشكال هذا الإشعاع، وسمي أشعة ألفا، وهو عبارة عن تيار من الجسيمات، كل جسيم منها مماثل لذرة هيليوم فقدت وحدتين من الشحنة الكهربائية السالبة (أو إلكترونين كما نعرف الآن). ونظرًا إلى أن هذا يترك ذرات الهيليوم المنزوعة الإلكترونات، والمعروفة أيضًا باسم جسيمات ألفا بوحدتين من الشحنة الكهربائية الموجبة، يمكن التحكُّم فيها باستخدام المجالات الكهربائية والمغناطيسية، وتوجيهها على هيئة أشعة وتسريعها؛ ومما يدل على سرعة تطور الفيزياء خلال العقد الأول من القرن العشرين أنه بحلول عام 1909، كان فريق مانشستر يستخدم جُسَيْمات ألفا الناتجة عن النشاط الإشعاعي الطبيعي، وعالجها بهذه الطريقة لفحص بنية المادة بدقة. في ذلك الحين ذهب أنصار النظرية الذرية إلى أن الذرات عبارة عن كرات ذات شحنة كهربائية موجبة يتاخمها إلكترونات سالبة الشحنة مغروسة في الكرات، مثل البذور المغروسة داخل ثمرة البطيخ، أو حبات الخوخ الموجودة في حلوى بودينج الخوخ (طور هذا النموذج العالم جيه جيه طومسون، الذي كان معلمًا لرذرفورد في أيامه الأولى بجامعة كمبريدج، ويرجع إليه الفضل في اكتشاف الإلكترون). أطلق رذرفورد وجايجر جسيمات ألفا عبر صفائح رقيقة من رقاقات الذهب، وراقبا مدى انحرافها في طريق رحلتها. اكتشف وجود جسيمات ألفا التي مرَّت عبر الرقاقة على الجانب الآخر باستخدام شاشة ومضية، حيث أصدرت ومضات صغيرةً من الضوء. 5 كان لدى جايجر طالب واعد، يُدعى مارسدن، أراد أن يشجّعه، فأشار رذرفورد إلى أن بإمكانه أن يرى ما إذا كان هناك أي جسيم من جسيمات ألفا قد انعكس عن طريق الرقاقة. ولم يتوقع أحد أنه الكثير، أو سيرى أي شيء على الإطلاق. كانت مهمَّةً من تلك المهام المملة وربما عديمة الفائدة التي يُعهد بها إلى طالب ليكتسب خبرةً في إجراء التجارب. ولكن ما أدهشه أن مارسدن رأى ومضات على شاشة الكاشف بمعدل أكثر من جسيم في الثانية الواحدة. كان عدد كبير من جسيمات ألفا ينعكس بطريقة أو أخرى، إما من خلال الانحراف عبر زاوية كبيرة إلى إحدى الجهات أو الارتداد مرةً أخرى إلى الناحية التي جاءت منها تقريبا. وكما أشار رذرفورد لاحقًا: «كان الأمر يبدو وكأنك أطلقت قذيفة قطرها 15 بوصةً على قطعة من المناديل الورقية وارتدت إليك وأصابتك. ولكن لم تظهر أي رؤى إدراكية مفاجئة لتفسير ما كان يجري.
كانت أول فكرة تبادرت إلى رذرفورد هي احتمالية وجود شحنة كهربائية سالبة مركّزة في أعماق نموذج طومسون للذرة نظرية بودينج الخوخ. وهذا من شأنه أن يجذب الشحنة الموجبة وجسيمات ألفا السريعة الحركة ويرسلها لتتأررجح حول الشحنة السالبة وتعود في الاتجاه الذي جاءت منه، مثل مذنب ينجذب بفعل جاذبية الشمس ويتأرجح حولها قبل أن يعود إلى الفضاء العميق. وبعد سلسلة متواصلة من التجارب الدقيقة لتكوين صورة أوضح لما كان يجري، توصل إلى فكرة أفضل توافقت مع نمط الومضات بمزيد من الدقة. لا بد أن ثمة شحنة كهربائية «موجبةً» مركزةً في مركز الذرة (التي تسمى الآن النواة)، يُحيط بها سحابة أكبر بكثير من الشحنات السالبة ذات الإلكترونات. تنساب أغلب جسيمات ألفا عبر سحابة الإلكترونات وتمضي في طريقها، بيد أن العدد الصغير نسبيًّا الذي وصل إلى النواة مباشرةً انعكس بفعل شحنته الموجبة وارتد عائدًا. وبالاستعانة بإحصائيات التجربة، حيث تأثر جسيم واحد من بضعة آلاف جسيم بهذه الطريقة، استنتج رذرفورد في عام 1911 أن حجم النواة كان أقل من مائة ألف جزء من الذرة. وقد أُعلن عن اكتشاف تركيز الشحنات في قلب الذرة خلال اجتماع علمي في مانشستر، ونُشر في مايو 1911، رغم أن رذرفورد لم يُعلن تأييده القاطع لفكرة النواة «الموجبة الشحنة إلا في عام 1912. وكان لا بد من انتظار تطور نظرية الكم لتفسير السبب وراء عدم وقوع الإلكترونات السالبة الشحنة داخل النواة الموجبة الشحنة، ولكن منذ تلك اللحظة فصاعدًا لم يعد ثمة شك في أن الذرة أغلبها مساحة فارغة، وسرعان ما أصبح واضحًا أن جسيمات ألفا ما هي إلا أنوية هليوم.
أظهرت القياسات الحديثة أن قطر النواة يتراوح ما بين 1.7 فيمتومتر، تقريبًا (15–10 × 1.7566 متر) للهيدروجين (أخف عنصر)، وحوالي 12 فيمتومتر لليورانيوم، أثقل عنصر بطبيعة الحال. وتتراوح أقطار الذرات من 1 إلى 0.5 نانومتر (من 10–10 × 1 متر إلى 10–10 × 5 متر)؛ ومن ثم فإن الأحجام النسبية للذرات والأنوية تتوافق كثيرًا مع التقديرات الأولية لرذرفورد.
بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يألفون مثل هذه الأرقام الصغيرة، يمكن تخيل خواء الذرة على نحو تصويري أكثر. لو كان حجم النواة بحجم حبة الرمال، لكان حجم الذرة في حجم قاعة ألبرت. كذلك يعادل فارق الحجم بين الذرة والنواة تقريبًا فارق الحجم بين جسدك وواحدة من خلاياك. أما بالنسبة إلى جمهور الألعاب الرياضية، فلو كان حجم النواة يضاهي حجم كرة جولف، لوصل قطر الذرة إلى نحو 2,5 كيلومتر. أظنك قد كونت صورة الآن. إن القوى الكهربائية التي تعمل في سحب الفضاء شبه الخاوي المحيط بالنوى الصغيرة هي فقط ما يمكّن الذرات من التماسك معًا لتكوين الأجسام «الصلبة». وسلوك الإلكترونات الموجودة في السحب المحيطة بالنوى أيضًا هو ما يُتيح لنا استكشاف المادة التي تتكون منها النجوم.
_________________________________________________
هوامش
(1) كتاب «ست قطع سهلة»، دار نشر بيزيك بوكس، الطبعة المنقحة الرابعة (7 أبريل 2011).
(2) سيكون عليك الجلوس لمراقبة ذلك الكوب من الماء لوقت أطول من العمر الحالي للكون بأكمله لكي تحظى بفرصة مشاهدة تكون مكعب من الثلج بهذه الطريقة.
(3) من كتابه «ملاحظات من السيرة الذاتية»، تحرير بي إيه شيلب، دار نشر أوبن كورت، إلينوي، 1979.
(4) في حال كنت مهتما بسيناريو كرات البلياردو تلك، لكي تتحرك مجموعة من الكرات الثابتة الراقدة فوق الطاولة معًا في مجموعة متراصة، من شأن مادة الطاولة أن تبرد إثر نقلها الطاقة إلى الكرات، مثلما يفقد الثلج طاقته ويعطيها للماء الموجود في الكوب. هذا ممكن ولكنه بعيد الاحتمال إلى أقصى حد؛ وهذا بسبب العدد الهائل من الجسيمات الموجودة على الطاولة التي سيتعين عليها أن تتعاون معًا، و«ليس» بسبب العدد القليل نسبيًا لكرات البلياردو التي يجب أن تتعاون وتتحرك معا.
(5) ليس لهذا صلة بعداد جايجر الشهير، رغم أنه نفس الجايجر!