أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-8-2016
603
التاريخ: 3-8-2016
623
التاريخ: 26-8-2016
614
التاريخ: 3-8-2016
742
|
تصدير: لاشك في إن المكلف إذا فعل بما أمر به مولاه على الوجه المطلوب - أي اتى بالمطلوب على طبق ما أمر به جامعا لجميع ما هو معتبر فيه من الأجزاء أو الشرائط شرعية أو عقلية - فإن هذا الفعل منه يعتبر امتثالا لنفس ذلك الأمر، سواء كان الأمر اختياريا واقعيا، أو اضطراريا، أو ظاهريا. وليس في هذا خلاف أو يمكن إن يقع فيه الخلاف. وكذا لا شك ولا خلاف في هذا الامتثال على تلك الصفة يجزئ ويكتفي به عن امتثال آخر، لأن المكلف - حسب الفرض - قد جاء بما عليه من التكليف على الوجه المطلوب. وكفى! وحينئذ يسقط الأمر الموجه إليه، لأنه قد حصل بالفعل ما دعا إليه وأنتهى أمده. ويستحيل إن يبقى بعد حصول غرضه وما كان قد دعا إليه، لانتهاء أمد دعوته بحصول غايته الداعية إليه، الا إذا جوزنا المحال وهو حصول المعلول بلا علة (2). وإنما وقع الخلاف - أو يمكن إن يقع - في مسألة الإجزاء فيما إذا كان هناك أمران: أمر أولي واقعي لم يمتثله المكلف أما لتعذره عليه أو لجهله به، وأمر ثانوي أما اضطراري في صورة تعذر الأول وأما ظاهري في صورة الجهل بالأول. فإنه إذا أمتثل المكلف هذا الأمر الثانوي الاضطراري أو الظاهري ثم زال العذر والاضطرار أو زال الجهل وانكشف الواقع - صح الخلاف في كفاية ما أتى به امتثالا للأمر الثاني عن امتثال الأمر الأول، وأجزائه عنه إعادة في الوقت وقضاء في خارجه. ولأجل هذا عقدت هذه المسألة (مسألة الإجزاء).
وحقيقتها هو البحث عن ثبوت الملازمة - عقلا - بين الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري، وبين الإجزاء والاكتفاء به عن امتثال الأمر الأولى الاختياري الواقعي. وقد عبر بعض علماء الأصول المتأخرين عن هذه المسألة بقوله : (هل الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء أو لا يقتضي).
والمراد من (الاقتضاء) في كلأمه: الاقتضاء بمعنى العلية والتأثير أي إنه هل يلزم - عقلا - من الإتيان بالمأمور به سقوط التكليف شرعا أداء وقضاء. ومن هنا تدخل هذه المسألة في باب الملازمات العقلية، على ما حررنا البحث في صدر هذا المقصد عن المراد بالملازمة العقلية. ولا وجه لجعلها من باب مباحث الألفاظ لأن ذلك ليس من شؤون الدلالة اللفظية. وعلينا إن نعقد البحث في مقامين:
(الأول) في إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري (الثاني) في إجزاء المأمور به بالأمر الظاهري.
المقام الأول - الأمر الاضطراري وردت في الشريعة المطهرة أو أمر لا تحصى تختص بحال الضروريات وتعذر امتثال الأوامر الأولى أو بحال الحرج في امتثالها: مثل التيمم ووضوء الجبيرة وغسلها وصلاة العاجز عن القيام أو القعود، وصلاة الغريق. ولا شك في إن الاضطرار ترتفع به فعلية التكليف، لأن الله تعالى لا يكلف نفسا الا وسعها. وقد ورد في الحديث النبوي المشهور الصحيح (رفع على أمتي ما اضطروا إليه) غير إن الشارع المقدس - حرصا على بعض العبادات لا سيما الصلاة التي لا تترك بحال - أمر عباده بالاستعاضة عما اضطروا إلى تركه بالإتيان ببدل عنه: فأمر - مثلا - بالتيمم بدلا عن الوضوء أو الغسل، وقد جاء في الحديث (يكفيك عشر سنين). وأمر بالمسح على الجبيرة بدلا عن غسل بشرة العضو في الوضوء والغسل. وأمر بالصلاة من جلوس بدلا عن الصلاة من قيام.. وهكذا فيما لا يحصى من الأوامر الواردة في حال اضطرار المكلف وعجزه عن امتثال الأمر الأولى الاختياري أو في حال الحرج في أمثاله. ولا شك في إن هذه الأوامر الاضطرارية هي أوامر واقعية حقيقية ذات مصالح ملزمة كالأوامر الأولية. وقد تسمى (الأوامر الثانوية) تنبيها على إنها واردة الحالات طارئة ثانوية على المكلف وإذا أمتثلها المكلف أدى ما عليه في هذا الحال وسقط عنه التكليف بها. ولكن يقع البحث والتساؤل فيما لو ارتفعت تلك الحالة الاضطرارية الثانوية ورجع المكلف إلى حالته الأولى من التمكن من أداء ما كان عليه واجبا في حالة الاعتبار فهل بجزئه ما كان قد أتى به في حال الاضطرار، أو لا يجزئه، بل لا بد له من إعادة الفعل في الوقت أداء إذا كان ارتفاع الاضطرار قبل انتهاء وقت الفعل وكنا قلنا بجواز البدار (3)، أو أعادته خارج الوقت قضاء إذا كان ارتفاع الاضطرار بعد الوقت. إن هذا أمر يصح فيه الشك والتساؤل، وإن كان المعروف بين الفقهاء في فتاويهم القول بالإجزاء مطلقا أداء وقضاء. غير إن إطباقهم على القول بالإجزاء ليس مستندا إلى دعوى إن البديهية العقلية تقضي به، لأنه هنا يمكن تصور عدم الإجزاء بلا محذور عقلي، أعني يمكننا إن نتصور عدم الملازمة بين الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري وبين الإجزاء به عن الأمر الواقعي الاختياري.
توضيح ذلك: إنه لا إشكال في إن المأتي به في حال الاضطرار أنقص من المأمور به حال الاختيار، والقول بالإجزاء فيه معناه كفاية الناقص عن الكامل مع فرض حصول التمكن من أداء الكامل في الوقت أو خارجه.
ولا شك في إن العقل لا يرق بأسا بالأمر بالفعل ثانيا بعد زوال الضرورة، تحصيلا للكامل الذي قد فات منه. بل قد يلزم العقل بذلك إذا كان في الكامل مصلحة ملزمة لا يفي بها الناقص ولا يسد مسد الكامل في تحصيلها. والمقصود الذي نريد إن نقوله بصريح العبارة: (إن الإتيان بالناقص ليس بالنظرة الأولى مما يقتضي عقلا الإجزاء عن الكامل). فلا بد إن يكون ذهاب الفقهاء إلى الإجزاء لسر هناك: أما لوجود ملازمة بين الإتيان بالناقص وبين الإجزاء عن الكامل، وأما لغير ذلك من الأسباب. فيجب إن نتبين ذلك، فنقول:
هناك وجوه أربعة تصلح إن تكون كلها أو بعضها مستندا للقول بالإجزاء نذكرها كلها.
1 - إنه من المعلوم إن الأحكام الواردة في حال الاضطرار واردة للتخفيف على المكلفين والتوسعة عليهم في تحصيل مصالح التكاليف الأصلية الأولية {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وليس من شأن التخفيف والتوسعة إن يكلفهم ثانيا بالقضاء أو الأداء، وإن كان الناقص لا يسد مسد الكامل في تحصيل مصلحته الملزمة.
2 - إن أكثر الأدلة الواردة في التكاليف الاضطرارية مطلقة مثل قوله تعالى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43]، أي إن ظاهرها بمقتضى الإطلاق الاكتفاء بالتكليف الثاني لحال الضرورة، وإن التكليف منحصر فيه وليس وراءه تكليف آخر.
فلو إن الأداء أو القضاء واجبان أيضا لوجب البيان والتنصيص على ذلك. وإذ لم يبين ذلك علم إن الناقص يجزئ عن أداء الكامل أداة وقضاء، لا سيما مع ورود مثل قوله ((عليه السلام)): (إن التراب يكفيك عشر سنين).
3 - إن القضاء بالخصوص إنما يجب فيما إذا صدق الفوت، ويمكن إن يقال إنه لا يصدق الفوت في المقام، لأن القضاء إنما يفرض فيما إذا كانت الضرورة مستمرة في جميع وقت الأداء. وعلى هذا التقدير لا أمر بالكامل في الوقت، وإذا لم يكن أمر فقد يقال إنه لا يصدق بالنسبة إليه فوت الفريضة، إذ لا فريضة. وأما الأداء فإنما يفرض فيما يجوز البدار به، وقد ابتدر المكلف - حسب الفرض - إلى فعل الناقص في الأزمنة الأولى من الوقت ثم زالت الضرورة قبل انتهاء الوقت. ونفس الرخصة في البدار - لو ثبتت - تشير إلى مسامحة الشارع في تحصيل الكامل عند التمكن، وإلا لفرض عليه الانتظار تحصيلا للكامل.
4 - إذا كنا قد شككنا في وجوب الأداء والقضاء، والمفروض إن وجوبهما لم ننفه بإطلاق ونحوه - فإن هذا شك في أصل التكليف. وفي مثله تجري أصالة البراءة القاضية بعدم وجوبهما فهذه الوجوه الأربعة كلها أو بعضها أو نحوها هي سر حكم الفقهاء بالإجزاء قضاء وأداء. والقول بالإجزاء - على هذا أمر لا مفر منه. ويتأكد ذلك في الصلاة التي هي العمدة في الباب.
المقام الثاني: الأمر الظاهري:
(تمهيد) : للحكم الظاهري اصطلاحان:
(أحدهما) ما تقدم في أول الجزء الأول ص 6، وهو المقابل للحكم الواقعي، وإن كان الواقعي مستفادا من الأدلة الاجتهادية الظنية فيختص الظاهري بما ثبت بالأصول العملية.
و(ثانيهما) كل حكم ثبت ظاهرا عند الجهل بالحكم الواقعي الثابت في علم الله تعالى، فيشمل الحكم الثابت بالأمارات والأصول معا. فيكون الحكم الظاهري بالمعنى الثاني اعم من الأول. وهذا المعنى الثاني العام هو المقصود هنا بالبحث، فالأمر الظاهري: ما تضمنه الأصل أو الأمارة.
ثم إنه لا شك في إن الأمر الواقعي في موردي الأصل والأمارة غير منجز على المكلف، بمعنى إنه لا عقاب على مخالفته بسبب العمل بالأمارة والأصل لو اتفق مخالفتهما له، لأنه - من الواضح - إن كل تكليف غير وأصل إلى المكلف بعد الفحص واليأس غير منجز عليه، ضرورة إن التكليف إنما يتنجز بوصوله بأي نحو من إنحاء الوصول، ولو بالعلم الإجمالي.
هذا كله لا كلأم فيه، وسيأتي في مباحث الحجة تفصيل الحديث عنه. وإنما الذي يحسن إن نبحث عنه هنا في هذا الباب هو إن الأمر الواقعي المجهول لو انكشف فيه بعد ذلك خطأ الأمارة أو الأصل، وقد عمل المكلف- حسب الفرض - على خلافه أتباعا للأمارة الخاطئة أو الأصل المخالف للواقع، فهل يجب على المكلف امتثال الأمر الواقعي في الوقت أداء وفي خارج الوقت قضاء، أو إنه لا يجب شيء عليه بل يجزي ما أتى به على طبق الأمارة أو الأصل ويكتفي به؟ ثم إن العمل على خلاف الواقع - كما سبق - تارة يكون بالأمارة وأخرى بالأصل.
ثم الانكشاف على نحوين: انكشاف على نحو اليقين وانكشاف بمقتضى حجة معتبرة. فهذه أربع صور. ولاختلاف البحث في هذه الصور - مع اتفاق صورتين منها في الحكم وهما صورتا الانكشاف بحجة معتبرة مع العمل على طبق الأمارة ومع العمل بمقتضى الأصل - نعقد البحث في ثلاث مسائل:
1 - الإجزاء في الأمارة مع انكشاف الخطأ يقينا إن قيام الأمارة تارة يكون في الأحكام، كقيام الأمارة على وجوب صلاة الظهر يوم الجمعة حال الغيبة بدلا عن صلاة الجمعة، وأخرى في الموضوعات، كقيام البينة على طهارة ثوب صلى به أو ماء توضأ منه، ثم بانت نجاسته. والمعروف عند الأمامية عدم الإجزاء مطلقا: في الأحكام والموضوعات، أما في (الأحكام) فلأجل اتفاقهم على مذهب التخطئة، أي إن المجتهد يخطئ ويصيب، لأن لله تعالى أحكام ثابتة في الواقع يشترك فيها العالم والجاهل، أي إن الجاهل مكلف بها كالعالم، غاية الأمر إنها غير منجزة بالفعل بالنسبة إلى الجاهل القاصر (4) حين جهله، وإنما يكون معذورا في المخالفة لو اتفقت له بأتباع الأمارة، إذ لا تكون الأمارة عندهم الا طريقا محضا لتحصيل الواقع.
ومع انكشاف الخطأ لا يبقى مجال للعذر، بل يتنجز الواقع حينئذ في حقه من دون إن يكون قد جاء بشيء يسد مسده ويغني عنه. ولا يصح القول بالإجزاء الا إذا قلنا: إنه بقيام الأمارة على وجوب شيء تحدث فيه مصلحة ملزمة على إن تكون هذه المصلحة وافية بمصلحة الواقع يتدارك بها مصلحة الواجب الواقعي، فتكون الأمارة مأخوذة على نحو الموضوعية للحكم. ضرورة إنه مع هذا الفرض يكون ما أتى به على طبق الأمارة مجزيا عن الواقع لأنه قد أتى بما يسد مسده ويغني عنه في تحصيل مصلحة الواقع. ولكن هذا معناه التصويب المنسوب إلى المعتزلة، أي إن أحكام الله تعالى لآراء المجتهدين وإن كانت له أحكام واقعية ثابتة في نفسها، فإنه يكون - عليه - كل رأي أدى إليه نظر المجتهد قد انشأ الله تعالى طبقه حكما من الأحكام. والتصويب بهذا المعنى قد اجتمعت الأمامية على بطلانه وسيأتي البحث عنه في (مباحث الحجة).
وأما القول بالمصلحة السلوكية - أي إن نفس متابعة الأمارة فيه مصلحة ملزمة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع، وإن لم تحدث مصلحة في نفس الفعل الذي أدت الأمارة إلى وجوبه - فهذا قول لبعض الأمامية لتصحيح جعل الطرق والأمارات في فرض التمكن من تحصيل العلم، على ما سيأتي بيانه في محله إن شاء الله تعالى.
ولكنه - على تقدير صحة هذا القول - لا يقتضي الأجزاء أيضا، لأنه على فرضه تبقي مصلحة الواقع على ما هي عليه عند انكشاف خطأ الأمارة في الوقت أو في خارجه. توضيح ذلك: إن المصلحة السلوكية المدعاة هي مصلحة تدارك الواقع باعتبار إن الشارع لما جعل الأمارة في حال تمكن المكلف من تحصيل العلم بالواقع فإنه قد فوت عليه الواقع فلا بد من فرض تداركه بمصلحة تكون في نفس أتباع الأمارة، واللازم من المصلحة التي يتدارك بها الواقع إن تقدر بقدر ما فات من الواقع من مصلحة لا أكثر. وعند انكشاف الخطأ في الوقت لم يفت من مصلحة الواقع الا مصلحة فضيلة أول الوقت، وعند انكشاف الخطأ في خارج الوقت لم تفت الا مصلحة الوقت، أما مصلحة أصل الفعل فلم تفت من المكلف لا مكان تحصيلها بعد الانكشاف، فما هو الملزم للقول بحصول مصلحة يتدارك بها أصل مصلحة الفعل حتى يلزم الإجزاء؟!
وأما في (الموضوعات) فالظاهر إن المعروف عندهم إن الأمارة فيها قد أخذت على نحو (الطريقة)، كقاعدة اليد والصحة وسوق المسلمين ونحوها فإن أصابت الواقع فذاك وإن أخطأت فالواقع على حاله ولا تحدث بسببها مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع غاية الأمر إن المكلف معها معذور عند الخطأ وشأنها في ذلك شأن الأمارة في الأحكام. والسر في حملها على (الطريقية) هو إن الدليل الذي دل على حجية الأمارة في الأحكام هو نفسه دل على حجيتها في الموضوعات بلسان واحد في الجميع، لا إن القول بالموضوعية هنا يقتضي محذور التصويب المجمع على بطلانه عند الأمامية كالأمارة في الأحكام. وعليه فالأمارة في الموضوعات أيضا لا تقتضي الإجزاء بلا فرق بينها وبين الأمارة في الأحكام.
2 - الإجزاء في الأصول مع انكشاف الخطأ يقينا: لا شك في إن العمل بالأصل إنما يصح إذا فقد المكلف الدليل الاجتهادي على الحكم. فيرجع إليه باعتباره وظيفة للجاهل لا بد منها للخروج من الحيرة. فالأصل - في حقيقته - وظيفة للجاهل الشاك ينتهي إليه في مقام العلم إذ لا سبيل له غير ذلك لرفع الحيرة وعلاج حالة الشك. ثم إن الأصل على قسمين:
1 - أصل عقلي، والمراد منه ما يحكم به العقل ولا يتضمن جعل حكم ظاهري من الشارع، كالاحتياط ، وقاعدة التخيير، والبراءة العقلية التي مرجعها إلى حكم العقل بنفي العقاب بلا بيان، فهي لا مضمون لها الا رفع العقاب، لا جعل حكم بالإباحة من الشارع.
2 - أصل شرعي، وهو المجعول من الشارع في مقام الشك والحيرة فيتضمن جعل حكم ظاهري، كالاستصحاب والبراءة الشرعية التي مرجعها إلى حكم الشارع بالإباحة، ومثلها أصالة الطهارة والحلية.
إذا عرفت ذلك فنقول:
أولا - إن بحث الإجزاء لا يتصور في قاعدة الاحتياط مطلقا سواء كانت عقلية أو شرعية، لأن المفروض في الاحتياط هو العمل بما يحقق امتثال التكليف الواقعي فلا يتصور فيه تفويت المصلحة.
وثانيا - كذلك لا يتصور بحث الإجزاء في الأصول العقلية الأخرى كالبراءة وقاعدة التخيير، لأنها - حسب الفرض لا تتضمن حكما ظاهريا، حتى يتصور فيها الإجزاء والاكتفاء بالمأتي به عن الواقع، بل إن مضمونها هو سقوط العقاب والمعذورية المجردة.
وعليه فينحصر البحث في خصوص الأصول الشرعية عدا الاحتياط ، كالاستصحاب وأصالة البراءة والحلية وأصالة الطهارة. وهي لأول وهلة لا مجال لتوهم الإجزاء فيها لا في الأحكام ولا في الموضوعات، فإنها أولى من الأمارات في عدم الإجزاء، باعتبار إنها - كما ذكرنا في صدر البحث - وظيفة عملية يرجع إليها الجاهل الشاك لرفع الحيرة في مقام العمل والعلاج الوقتي. أما الواقع فهو على واقعيته، فيتنجز حين العلم به وانكشافه، ولا مصلحة في العمل بالأصل غير رفع الحيرة عند الشك.
فلا يتصور فيه مصلحة وافية يتدارك بها مصلحة الواقع حتى يقتضي الإجزاء والاكتفاء به عن الواقع. ولذا أفتى علماؤنا المتقدمون بعدم الإجزاء في الأصول العملية.
ومع هذا، فقد قال قوم من المتأخرين بالإجزاء منهم شيخنا صاحب الكفاية وتبعه تلميذه أستاذنا الشيخ محمد حسين الإصفهاني . ولكن ذلك في خصوص الأصول الجارية لتنقيح موضوع التكليف وتحقيق متعلقه . كقاعدة الطهارة وأصالة الحلية واستصحابها دون الأصول الجارية في نفس الأحكام. ومنشأ هذا الرأي عنده اعتقاده بأن دليل الأصل في موضوعات الأحكام موسع لدائرة الشرط أو الجزء المعتبر في موضوع التكليف ومتعلقه بأن يكون مثل قوله (عليه السلام): (كل شيء نظيف حتى تعلم إنه قذر) يدل على إن كل شيء قبل العلم بنجاسته محكوم بالطهارة. والحكم بالطهارة حكم بترتيب آثارها وإنشاء لأحكامها التكليفية والوضعية التي منها الشرطية فتصح الصلاة بمشكوك الطهارة كما تصح بالطاهر الواقعي. ويلزم من ذلك إن يكون الشرط في الصلاة - حقيقة - أعم من الطهارة الواقعية والطهارة الظاهرية.
وإذا كان الأمر كذلك فإذا انكشف الخلاف لا يكون ذلك موجبا لانكشاف فقدان العمل لشرطه، بل يكون بالنسبة إليه من قبيل ارتفاعه من حين ارتفاع الجهل. فلا يتصور حينئذ معنى لعدم الإجزاء بالنسبة إلى ما أتى به حين الشك. والمفروض إن ما أتى به يكون واجدا لشرطه المعتبر فيه تحقيقا، باعتبار إن الشرط هو الأعم من الطهارة الواقعية والظاهرية حين الجهل، فلا يكون فيه انكشاف للخلاف ولا فقدان للشرط. وقد ناقشه شيخنا الميرزا النائيني بعدة مناقشات يطول ذكرها ولا يسعها هذا المختصر والموضوع من المباحث الدقيقة التي هي فوق مستوى كتابنا.
3 - الإجزاء في الأمارات والأصول مع انكشاف الخطأ بحجة معتبرة: وهذه أهم مسألة في الإجزاء من جهة عموم البلوى بها للمكلفين، فإن المجتهدين كثيرا ما يحصل لهم تبدل في الرأي بما يوجب فساد أعمالهم السابقة ظاهرا. ويتبعهم المقلدون لهم. والمقلدون أيضا قد ينتقلون من تقليد شخص إلى تقليد شخص آخر يخالف الأول في الرأي بما يوجب فساد الأعمال السابقة. فنقول في هذه الأحوال: إنه بعد قيام الحجة المعتبرة اللاحقة بالنسبة إلى المجتهد أو المقلد، لا إشكال في وجوب الأخذ بها في الوقائع اللاحقة غير المرتبطة بالوقائع السابقة. ولا إشكال - أيضا - في مضي الوقائع السابقة التي لا يترتب عليها أثر أصلا في الزمن اللاحق. وإنما الإشكال في الوقائع اللاحقة المرتبطة بالوقائع السابقة، مثل ما لو انكشف الخطأ اجتهادا أو تقليدا في وقت العبادة وقد عمل بمتقضى الحجة السابقة، أو انكشف الخطأ في خارج الوقت وكان عمله مما يقضي كالصلاة. ومثل ما لو تزوج زوجة بعقد غير عربي اجتهادا أو تقليدا ثم قامت الحجة عنده على اعتبار اللفظ العربي والزوجة لا تزال موجودة. فإن المعروف في الموضوعات الخارجية عدم الإجزاء. أما في الأحكام فقد قيل بقيام الإجماع على الإجزاء لا سيما في الأمور العبادية كالمثال الأول المتقدم.
ولكن العمدة في الباب إن نبحث عن القاعدة ماذا تقتضي هنا ؟ هل تقتضي الإجزاء أو لا تقتضيه ؟ والظاهر إنها لا تقتضي الإجزاء. وخلاصة ما ينبغي إن يقال: إن من يدعي الإجزاء لا بد إن يدعي إن المكلف لا يلزمه في الزمان اللاحق الا العمل على طبق الحجة الأخيرة التي قامت عنده. وأما عمله السابق فقد كان على طبق حجة ماضية عليه في حينها. ولكن يقال له، إن التبدل الذي حصل له، أما إن يدعي إنه تبدل في الحكم الواقعي أو تبدل في الحجة عليه. ولا ثالث لهما. أما دعوى التبدل في الحكم الواقعي فلا إشكال في بطلانها، لأنها تستلزم القول بالتصويب. وهو ظاهر. وأما دعوى التبدل في الحجة، فإن أراد إن الحجة الأولى هي حجة بالنسبة إلى الأعمال السابقة وبالنظر إلى وقتها فقط فهذا لا ينفع في الإجزاء بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة وآثار الأعمال السابقة، وإن أراد إن الحجة الأولى هي حجة مطلقا حتى بالنسبة إلى الأعمال اللاحقة وآثار الأعمال السابقة فالدعوى باطلة قطعا. لأنه في تبدل الاجتهاد ينكشف بحجة معتبرة إن المدرك السابق لم يكن حجة مطلقا حتى بالنسبة إلى أعماله اللاحقة، أو إنه تخيله حجة وهو ليس بحجة. لا إن المدرك الأول حجة مطلقا، وهذا الثاني حجة أخرى. وكذلك الكلام في تبدل التقليد، فإن مقتضى التقليد الثاني هو انكشاف بطلان الأعمال الواقعة على طبق التقليد الأول، فلا بد من ترتيب الأثر على طبق الحجة الفعلية فإن الحجة السابقة - أي التقليد الأول - كلا حجة بالنسبة إلى الآثار اللاحقة، وإن كانت حجة عليه في وقته، والمفروض عدم التبدل في الحكم الواقعي فهو باق على حاله. فيجب العمل على طبق الحجة الفعلية وما تقتضيه. فلا إجزاء الا إذا ثبت الإجماع عليه.
وتفصيل الكلام في هذا الموضوع يحتاج إلى سعة من القول فوق مستوى هذا المختصر.
تنبيه في تبدل القطع لو قطع المكلف بأمر خطأ فعمل على طبق قطعه ثم بأن له يقينا خطأه، فإنه لا ينبغي الشك في عدم الإجزاء. والسر واضح، لأنه عند القطع الأول لم يفعل ما استوفي مصلحة الواقع بأي وجه من وجوه الاستيفاء، فكيف يسقط التكليف الواقعي، لأنه في الحقيقة لا أمر موجه إليه إنما كان يتخيل الأمر. وعليه، فيجب امتثال الواقع في الوقت أداء وفي خارجه قضاء. نعم لو إن العمل الذي قطع بوجوبه كان من باب الاتفاق محققا لمصلحة الواقع فإنه لا بد إن يكون مجزيا. ولكن هذا أمر آخر اتفاقي ليس من جهة كونه مقطوع الوجوب.
__________________
(1) الإجزاء: مصدر (أجزأ) أي أغنى عنه وقام مقامه.
(2) وإذا صح إن يقال شيء في هذا الباب فليس في إجزاء المأتى به والاكتفاء بامتثال الأمر، فإن هذا قطعي كما قلنا في المتن - وإنما الذي يصح إن يقال ويبحث عنه ففي جواز الامتثال مرة أخرى بدلا عن الامتثال الأول على وجه يلغي الامتثال الأول ويكتفي بالثاني. وهو خارج عن مسألة الإجزاء، ويعبر عنه في لسان الأصوليين بقولهم: (تبديل الامتثال بالامتثال). وقد يتصور الطالب إن هذا لا مانع منه عقلا، بأن يتصور إن هناك حالة منتظرة بعد الامتثال الأول، بمعنى إن نتصور إن الغرض من الأمر لم يحصل بمجرد الامتثال الأول فلا يسقط عنده الأمر، بل يبقى مجال لامتثاله ثانيا، لا سيما إذا كان الامتثال الثاني أفضل. ويساعد على هذا التصوير إنه قد ورد في الشريعة ما يؤيد ذلك بظاهره مثل ما ورد في باب إعادة من صلى فرأدى عند حضور الجماعة: (إن الله تعالى يختار أحبهما إليه). والحق عدم جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر، لأن الإتيان بالمأمور به بحدوده وقيوده علة تامة لحصول الغرض، فلا تبقى حالة منتظرة بعد الامتثال الأول فيسقط الأمر لانتهاء أمده كما قلنا في المتن. أما ما ورد في جواز ذلك فيحمل على استحباب الإعادة بأمر آخر ندبي، وينبغي إن يحمل قوله (عليه السلام) (يختار أحبهما إليه) على إن المراد يختار ذلك في مقام عطاء الثواب والأجر، لا في مقام امتثال الأمر الوجوبي بالصلاة وإن الامتثال يقع بالثاني.
(3) لأنه إذا لم يجز البدار، فإن ابتدر فعمله باطل فكيف يجزئ، وإن لم يبتدر فلا يبقى مجال لزوال العذر في الوقت حتى يتصور الأداء.
(4) الجاهل القاصر من لم يتمكن من الفحص أو فحص فلم يعثر. ويقابله المقصر، وهو بعكسه. والأحكام منجزة بالنسبة إلى المقصر لحصول العلم الإجمالي بها عنده، والعلم منجز للأحكام وإن كان إجماليا فلا يكون معذورا. بل الاحتمال وحده بالنسبة إليه يكون منجزا ...
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
ندوات وأنشطة قرآنية مختلفة يقيمها المجمَع العلمي في محافظتي النجف وكربلاء
|
|
|