أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-8-2016
![]()
التاريخ: 29-8-2016
![]()
التاريخ: 8-8-2016
![]()
التاريخ: 9-8-2016
![]() |
إنّ المخصّص قد يكون مبيّن المفهوم وقد يكون غير مبيّنة ، وعلى الثاني تارة يكون دائراً بين الأقلّ والأكثر واُخرى بين المتباينين . وعلى جميع التقادير فهو إمّا متّصل أو منفصل . ثمّ إنّه إمّا لبّي أو غير لبّي ، وأيضاً الشبهة إمّا مفهومية أو مصداقية .
فهذه صور المسألة ، ولنقدّم البحث عن المفهومية على البحث عن المصداقية :
التمسّك بالعامّ في الشبهة المفهومية:
فنقول : يقع البحث في الشبهة المفهومية في مقامين :
المقام الأوّل : فـي المخصّص المتّصل المجمل مـن حيث المفهوم ، وهـو على قسمين :
الأوّل : ما كان أمره دائراً بين الأقلّ والأكثر ، كما إذا شكّ في أنّ الفاسق هو خصوص مرتكب الكبيرة أو الأعمّ منها والصغيرة .
فالحقّ : سريان إجماله إلى العامّ ، ولا يكون العامّ المخصّص حجّة في موارد
الشكّ ; لأنّ اتصال المخصّص المجمل يوجب عدم انعقاد ظهوره من أوّل إلقائه إلاّ في العالم غير الفاسق أو العالم العادل ، وليس لكلّ من الموصوف والصفة ظهور مستقلّ حتّى يتشبّث بظهور العامّ في الموارد المشكوكة ، فيشبه المقام بباب المقيّد إذا شكّ في حصول قيده ; أعني العدالة أو عدم الفسق فيمن كان مرتكباً للصغيرة .
وبعبارة ثانية : أنّ الحكم في العامّ الذي استثني منه أو اتّصف بصفة مجملة متعلّق بموضوع وحداني عرفاً ، فكما أنّ الموضوع في قولنا : «أكرم العالم العادل» هو الموصوف بما هو كذلك فهكذا قولنا : «أكرم العلماء إلاّ الفسّاق منهم» ; ولذا لا ينقدح التعارض حتّى التعارض البدوي بين العامّ والمخصّص ، كما ينقدح بينه وبين منفصله .
فحينئذ : كما لا يجوز التمسّك بالعامّ ، كقولنا : «لا تكرم الفسّاق» إذا كان مجمل الصدق بالنسبة إلى مورد ، كذلك لا يجوز في العامّ المتّصف أو المستثنى منه بشيء مجمل بلا فرق بينهما .
الثاني : ما إذا دار مفهومه بين المتباينين مع كونه متّصلاً ، كما إذا استثنى منه زيداً ، واحتمل أن يكون المراد هو زيد بن عمرو وأن يكون هو زيد بن بكر .
والحقّ : سريان إجماله أيضاً بالبيان المتقدّم في الأقلّ والأكثر ; لأنّ الموضوع يصير بعد الاستثناء العالم الذي هو غير زيد ، وهو أمر وحداني لا يكون حجّة إلاّ فيما ينطبق عليه يقيناً ، والمفروض أ نّه مجمل من حيث المفهوم ، فكيف يمكن الاحتجاج بشيء يشكّ في انطباقه على المشكوك ؟
وأمّا المقام الثاني ـ أعني المخصّص المنفصل المجمل من حيث المفهوم ـ فهو أيضاً على قسمين:
الأوّل : ما إذا دار بين الأقلّ والأكثر ، فلا يسري أصلاً ، ويتمسّك به في موارد الشكّ ; لأنّ الخاصّ المجمل ليس بحجّة في موارد الإجمال ، فلا ترفع اليد عن الحجّة بما ليس بحجّة ، ولا يصير العامّ معنوناً بعنوان خاصّ في المنفصلات .
وبعبارة أوضح : أنّ الحكم قد تعلّق بعنوان الكلّ والجميع ، فلا محالة يتعلّق الحكم على الأفراد المتصوّرة إجمالاً ، والأصل العقلائي حاكم على التطابق بين الإرادتين في عامّة الأفراد ، فلا يرفع اليد عن هذا الظهور المنعقد إلاّ بمقدار قامت عليه الحجّة ، والمفروض أنّ الحجّة لم تقم إلاّ على مرتكب الكبائر ، وغيرها مشكوك فيه .
ولا يقاس ذلك بالمتّصل المردّد بين الأقلّ والأكثر ; إذ لم ينعقد للعامّ هناك ظهور قطّ ، إلاّ في المعنون بالعنوان المجمل ، والمرتكب للصغائر مشكوك الدخول في العامّ هناك من أوّل الأمر ، بخلافه هنا ; فإنّ ظهور العامّ يشمله قطعاً .
كيف ، فلو كان المخصّص المجمل حكماً ابتدائياً من دون أن يسبقه العامّ لما كان حجّة إلاّ في مقدار المتيقّن دون المشكوك ، فكيف مع ظهور العامّ في إكرام المشكوك ؟
وأمّا ما أفاده شيخنا العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ من أ نّه يمكن أن يقال : إنّه بعد ما صارت عادة المتكلّم على ذكر المخصّص منفصلاً فحال المنفصل في كلامه حال المتّصل في كلام غيره(1)، لا يخلو عن نظر ; فإنّ وجوب الفحص عن المخصّص باب ، وسراية إجمال المخصّص إليه باب آخر . ومقتضى ما ذكره عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص ، لا سراية الإجمال ; لأنّ ظهور العامّ لا ينثلم لأجل جريان تلك العادة ، كما أنّ الأصل العقلائي بتطابق الاستعمال والجدّ حجّة بعد الفحص عن المخصّص وعدم العثور إلاّ على المجمل منه ، لكنّه ـ قدس سره ـ رجع في الدورة الأخيرة عمّا أفاده في متن كتابه(2) .
نعم ، لو كان الخاصّ المجمل المردّد بين الأقلّ والأكثر وارداً بلسان الحكومة على نحو التفسير والشرع ـ كما في بعض أنحاء الحكومات ـ فسراية إجماله وصيرورة العامّ معنوناً غير بعيدة ، كما إذا قال المراد من العلماء هو غير الفسّاق ، أو أنّ الوجوب لم يجعل على الفاسق منهم . ومع ذلك فالمسألة بعد محلّ إشكال .
القسم الثاني : ما إذا دار المخصّص المنفصل بين المتباينين :
فالحقّ : أنّه يسري الإجمال إليه حكماً ; بمعنى عدم جواز التمسّك به في واحـد منهما ; وإن كان العامّ حجّـة في واحـد معيّن واقعاً ، ولازمـه إعمال قواعـد العلم الإجمالي .
وإن شئت قلت : إنّ العلم الإجمالي بخـروج واحـد منهما يوجب تساوي العامّ في الشمول لكلّ واحد منهما ، ولا يتمسّك به في إثبات واحد منهما إلاّ بمرجّح ، وهو منتف بالفرض .
وبتعبير آخـر : أ نّه بعد الاطّلاع بالمخصّص لا متيقّن في البين حتّى يؤخـذ به ويترك المشكوك، كما في الأقلّ والأكثر ، بل كلاهما في الاحتمال متساويان ، فلا محيص عـن إجراء قواعـد العلم الإجمالي .
فلو كان المخصّص رافعاً لكُلفة الوجـوب عـن مـورد التخصيص وكان مقتضى العامّ هـو الوجـوب فلازمـه إكرام كـلا الرجلين حتّى يستيقن بالبراءة .
ولو كان المخصّص ظاهـراً في حرمـة مورده فيكون المقام مـن قبيل دوران الأمـر بين المحذورين ، ولكلّ حكمه .
التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص المنفصل اللفظي:
محطّ البحث في الاشتباه المصداقي لأجل الشبهة الخارجية إنّما هو فيما إذا اُحرز كون فرد مصداقاً لعنوان العامّ ; أعني العالم قطعاً ، ولكن شكّ في انطباق عنوان المخصّص ; أعني الفاسق عليه .
وبعبارة اُخـرى : البحث فيما إذا خصّ العامّ ولم يتعنون ظهور العامّ بقيد زائـد سوى نفسه ، لا في تقييد المطلق الـذي يوجب تقييده بقيد زائـد ، سوى ما اُخـذ في لسان الدليل .
وبما ذكرنا يظهر الخلط فيما أفاده بعض الأعاظم ; حيث قال : إنّ تمام الموضوع في العامّ قبل التخصيص هو طبيعة العالم ، وإذا ورد المخصّص يكشف عن أنّ العالم بعض الموضوع وبعضه الآخر هو العادل ، فيكون الموضوع واقعاً هو العالم العادل . فالتمسّك في الشبهة المصداقية للخاصّ يرجع إلى التمسّك فيها لنفس العامّ ، من غير فرق بين القضايا الحقيقية وغيرها(3) .
وجه الخلط : أنّ ما أفاده صحيح في المطلق والمقيّد ، وأ مّا العامّ فالحكم فيه متعلّق بأفراد مدخول أداته ، لا على عنوان الطبيعة ، والمخصّص يخرج طائفة من أفراد العامّ ، كأفراد الفسّاق منهم .
وما ربّما يتكرّر في كلامه من أنّ الحكم في القضايا الحقيقية على العنوان بما أ نّه مرآة لما ينطبق(4) عليه غير تامّ ; لأنّ العنوان لا يمكن أن يكون مرآة للخصوصيات الفردية .
مع أنّ لازم ما ذكره أن يكون الأفراد موضوعاً للحكم ; لأنّ المحكوم عليه هو المرئي دون المرآة ، فلا يصحّ قوله : إنّ تمام الموضوع في العامّ قبل التخصيص هو طبيعة العالم . . . إلى آخره . بل التحقيق كما تقدّم(5) : أنّ العنوان لم يكن مرآة إلاّ لنفس الطبيعة الموضوع لها ، وأداة العموم تفيد أفرادها ، والقضية الحقيقية متعرّضة للأفراد .
فتحصّل : أنّ الكلام إنّما هو في العامّ المخصّص ، لا المطلق المقيّد .
وكيف كان : فقد استدلّ لجواز التمسّك بأنّ العامّ بعمومه شامل لكلّ فرد من الطبيعة وحجّة فيه ، والفرد المشكوك فيه لا يكون الخاصّ حجّة بالنسبة إليه ; للشكّ في فرديته ، فمع القطع بفرديته للعامّ والشكّ في فرديته للخاصّ يكون رفع اليد عن العامّ رفع اليد عن الحجّة بغير حجّة(6) .
والجواب : أنّ مجرّد ظهور اللفظ وجريان أصالة الحقيقة لا يوجب تمامية الاحتجاج ما لم تحرز أصالة الجدّ .
توضيحه : أنّ صحّة الاحتجاج لا تتمّ إلاّ بعد أن يسلّم اُمور : من إحراز ظهوره ، وعدم إجماله مفهوماً ، وعدم قيام قرينة على خلافه ; حتّى يختتم الأمر بإحراز أنّ المراد استعمالاً هو المراد جدّاً . ولذلك لا يمكن الاحتجاج بكلام من دأبه وعادته الدعابة ; وإن اُحرز ظهوره وجرت أصالة الحقيقة ; لعدم جريان أصالة الجدّ مع أنّ ديدنه على خلافه .
فعليه : ما مرّ مـن أصالـة التطابق بين الإرادتين إنّما هـو فيما إذا شكّ في أصل التخصيص ، وأنّ هذا الفرد بخصوصه أو بعنوان آخر هل خـرج عن حكم العامّ أو لا ؟ وأمّا إذا علم خروج عـدّة أفراد بعنوان معيّن ، وشكّ في أنّ هـذا العنوان هل هـو مصداق جدّي لهذا العنوان أو ذاك العنوان فلا يجري أصلاً ، ولا يرتفع به الشكّ عندهم .
وبالجملة : إذا ورد المخصّص نستكشف عن أنّ إنشائه في مورد التخصيص لم يكن بنحو الجدّ ، ويدور أمر المشتبه بين كونه مصداقاً للمخصّص حتّى يكون تحت الإرادة الجدّية لحكم المخصّص ، وبين عدم كونه مصداقاً له حتّى يكون تحت الإرادة الجدّية لحكم العامّ المخصّص . ومع هذه الشبهة لا أصل لإحراز أحد الطرفين ; فإنّها كالشبهة المصداقية لأصالة الجدّ بالنسبة إلى العامّ والخاصّ كليهما .
ولعلّه إلى ما ذكرنا يرجع ما أفاده الشيخ الأعظم(7) والمحقّق الخراساني(8) ، قدّس الله روحهما .
نعم ، بعض أهل التحقيق فسّر كلام الشيخ بما لا يخلو عن إشكال ، قال في «مقالاته» : الذي ينبغي أن يقال : إنّ الحجّية بعدما كانت منحصرة في الظهور التصديقي المبني على كون المتكلّم في مقام الإفادة والاستفادة فإنّما يتحقّق هذا المعنى في فرض تعلّق قصد المتكلّم بإبراز مرامه باللفظ ، وهو فرع التفات المتكلّم بما تعلّق به مرامـه ، وإلاّ فمع جهله به واحتمال خروجه عن مرامه كيف يتعلّق قصده بلفظـه على كشفه وإبرازه ؟ ومن المعلوم : أنّ الشبهات الموضوعية طرّاً من هذا القبيل .
ولقد أجاد شيخنا الأعظم فيما أفاد في وجه المنع بمثل هذا البيان ، ومرجع هذا الوجه إلى منع كون المولى في مقام إفادة المراد بالنسبة إلى ما كان هو بنفسه مشتبهاً فيـه ، فلا يكون الظهور حينئذ تصديقياً ; كي يكون واجداً لشرائط الحجّية(9) ، انتهى .
ولا يخفى : أنّـه لا يلزم على المتكلّم في الإخبار عـن موضوع واقعي الفحص عن كلّ فرد فرد حتّى يعلم مقطوعه ومشكوكه ، بل ما يلزم عليه في جعل الحكم على عنوان كلّياً إحراز أنّ كلّ فرد واقعي منه محكوم بهذا الحكم ، كما في قولك : «النار حارّة» ، وأمّا تشخيص كـون شيء ناراً فليس متعلّقاً بمرامـه ولا مربوطاً بمقامه .
وببيان أوضح : أنّ الحجّية وإن كانت منحصرة في الظاهر الذي صدر من المتكلّم لأجل الإفادة، ولابدّ له أن يكون على تيقّن فيما تعلّق به مرامه ، لكن ذلك في مقام جعل الكبريات لا في تشخيص الصغريات .
فلو قال المولى «أكرم كلّ عالم» فالذي لابدّ له إنّما هو تشخيص أنّ كلّ فرد من العلماء فيه ملاك الوجوب ; وإن اشتبه عليه الأفراد .
ولو قال بعد ذلك «لا تكرم الفسّاق من العلماء» لابدّ له من تشخيص كون ملاك الوجوب في عدولهم . وأمّا كون فرد عادلاً في الخارج أو لا فليس داخلاً في مرامه ; حتّى يكون بصدد بيانه.
ويرشدك إليه : أنّـه لو صحّ ما أفاده : مـن أنّ المولى لم يكن بصدد إفادة المراد بالنسبة إلى ما كان بنفسه مشتبهاً فيه ، لابدّ مـن التزامه بعدم وجـوب إكرام من اشتبه عند المولى أ نّه عادل أو لا ولكن العبد أحرز كونه عالماً عادلاً ، مع أنّ العبد لا يعدّ معذوراً في ترك إكرامه ; وإن اعتذر بأنّ المولى لم يكن في مقام البيان بالنسبة إلى المشكوك .
وأمّا نسبة ما أفاده إلى الشيخ الأعظم ففي غير محلّه ; فإنّ كلامه في تقريراته آب عن ذلك ، وملخّصه : أنّ العامّ الواقع في كلام المتكلّم غير صالح لرفع الشبهة الموضوعية التي هو بنفسه أيضاً قد يكون مثل العبد فيها ، فالعامّ مرجع لرفع الشبهة الحكمية لا الموضوعية(10) .
وأنت ترى : أنّ كلامه آب عمّا نسب إليه ، بل يرجع إلى ما فصّلناه وأوضحناه ، ولولا تشويش عبائر القائل وإغلاقها لجاز حملها على ما أفاده الشيخ الأعظم ـ قدس سره ـ ، كما قد يظهر من ذيل كلامه .
ثمّ إنّ شيخنا العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ نقل تقريباً لجواز التمسّك عن المحقّق النهاوندي ـ طيّب الله رمسه(11) ـ وهو : أنّ قول القائل «أكرم العلماء» يدلّ بعمومه الأفرادي على وجوب إكرام كلّ واحد من العلماء ، ويدلّ بإطلاقه على سراية الحكم إلى كلّ حالة من الحالات ، ومن جملة حالات الموضوع كونه مشكوك الفسق والعدالة ، وقد علم من قوله «لا تكرم الفسّاق من العلماء» خروج معلوم الفسق منهم ، فمقتضى أصالة العموم والإطلاق بقاء المشكوك تحته(12)، انتهى .
والجواب أوّلاً : أنّ ما فسّر به الإطلاق غير صحيح ; لأنّ الإطلاق ليس إلاّ كون الشيء تمام الموضوع كما تقدّم(13) ، لا أخذ جميع الحالات والعناوين في الموضوع ، فإنّ ذلك معنى العموم . فما اصطلح به من الإطلاق الأحوالي باطل من رأس .
وثانياً : أنّ البحث إنّما هو في العامّ المتضمّن لبيان الحكم الواقعي ، والمفروض أنّ الموضوع له إنّما هو العالم بقيد كونه غير الفاسق لبّاً ، فكيف يحكم بوجوب إكرام المشتبه مع كونه فاسقاً واقعياً ؟
وما ذكره مـن أنّ العامّ وإن كان غير شامل له بإطلاقـه الأفرادي إلاّ أ نّـه شامل له بإطلاقه الأحوالي ـ بمعنى أنّ العالم واجب الإكرام في جميع الحالات ; ومنها كونه مشكوك الفسق ـ يستلزم اجتماع حكمين في موضوع واحد بعنوان واحد ; لأنّ ما ذكره من الإطلاق الأحوالي موجـود في الخاصّ أيضاً ; فإنّ قولـه «لا تكرم الفسّاق» شامل لمشتبه الفسق ومعلومـه إذا كان فاسقاً واقعياً ، فهذا الفرد بما أ نّه مشتبه الفسق واجب الإكرام ومحرّمه ، ولو التجأ ـ قدس سره ـ إلى أنّ العامّ متكفّل للحكم الواقعي والظاهري يلزمه أخذ الشكّ في الحكم في جانب موضوع نفس ذلك الحكم .
وفيه ـ مضافاً إلى أن أخذ الشكّ في الموضوع لا يصحّح الحكم الظاهري ـ أنّ مجرّد أخذه فيه لا يرفع الإشكال ; إذ كيف يمكن تكفّل العامّ بجعل واحد للحكم الواقعي على الموضوع الواقعي ، وللحكم الظاهري على مشتبه الحكم ، مع ترتّبهما ؟ وهل هذا إلاّ الجمع بين عدم لحاظ الشكّ موضوعاً ولحاظه كذلك ؟ !
القول في الشبهة المصداقية للمخصّص اللبّي:
ما ذكرناه في المخصّص اللفظي جار في اللبّي ، لكن بعد تمحيض المقام في الشبهة المصداقية للمخصّص اللبّي ، كما إذا خرج عنوان عن تحت العامّ بالإجماع أو العقل ، وشكّ في مصداقه ، فلا محالة يكون الحكم الجدّي في العامّ على أفراد المخصّص دون المخصِّص ـ بالكسر ـ ومعه لا مجال للتمسّك بالعامّ لرفع الشبهة الموضوعية ; لما مرّ(14) .
ومنه يظهر النظر في كلام المحقّق الخراساني ـ رحمه الله ـ ; حيث فصّل بين اللبّي الذي يكون كالمخصّص المتّصـل وغيره(15) ، مع أنّ الفارق بين اللفظي واللبّي من هذه الجهة بلا وجه . ودعوى بناء العقلاء على التمسّك في اللبّيات(16) عهدتها عليه .
كما يظهر النظر فيما يظهر من الشيخ الأعظم من التفصيل بين ما يوجب تنويع الموضوعين ، كالعالم الفاسق والعالم غير الفاسق فلا يجوز ، وغيره كما إذا لم يعتبر المتكلّم صفة في موضوع الحكم غير ما أخذه عنواناً في العامّ ـ وإن علمنا بأنّه لو فرض في أفراد العامّ من هو فاسق لا يريد إكرامه ـ فيجوز التمسّك بالعامّ وإحراز حال الفرد أيضاً . ثمّ فصّل في بيانه بما لا مزيد عليه(17) .
ولكن يظهر من مجموعه خروجه عن محطّ البحث ووروده في واد الشكّ في أصل التخصيص، مع أنّ الكلام في الشكّ في مصداق المخصّص ، فراجع كلامه .
وأمّا توجيه كلامه بأنّ المخصّص ربّما لا يكون معنوناً بعنوان ، بل يكون مخرجاً لذوات الأفراد، لكن بحيثية تعليلية وعلّة سارية فإذا شكّ في مصداق أنّه محيّث بالحيثية التعليلية يتمسّك بالعامّ(18) فغير صحيح ; لما تقرّر في محلّه من أنّ الحيثيات التعليلية جهات تقييدية في الأحكام العقلية ; بحيث تصير تلك الجهات موضوعاً لها .
وعليه : فالخارج إنّما هو العنوان مع حكمه عن تحته لا نفس الأفراد ; لأنّ الفرض أنّ المخصّص لبّي عقلي . ولو سلّمنا أنّ الخارج هو نفس الأفراد وذواتها دون عنوانها يخرج الكلام عن الشبهة المصداقية للمخصّص والنزاع هنا فيها .
وأوضح حالاً ممّا ذكـراه : ما عـن بعض أعاظم العصر مـن الفرق بين ما إذا كان المخصّص صالحاً لأن يؤخـذ قيداً للموضوع ولم يكن إحراز انطباق ذلك العنوان على مصاديقه من وظيفة الآمر ، كقيام الإجماع على اعتبار العدالـة في المجتهد ، وبين ما إذا لم يكن كذلك ، كما في قوله ـ عليه السلام ـ : «اللهمّ العن بني اُمية قاطبة» ; حيث يعلم أنّ الحكم لا يعمّ مـن كان مؤمناً منهم ، ولكن إحـراز أن لا مؤمن في بني اُمية مـن وظيفة المتكلّم ; حيث لا يصحّ له إلقاء مثل هـذا العموم إلاّ بعد إحرازه .
ولو فرض أنّا علمنا من الخارج أنّ خالد بن سعيد كان مؤمناً كان ذلك موجباً لعدم اندراجه تحت العموم ، فلو شككنا في إيمان أحد فاللازم جواز لعنه ; استكشافاً من العموم ، وأنّ المتكلّم أحرز ذلك ; حيث إنّه وظيفته(19) ، انتهى .
وفيه : أنّ خروج ابن سعيد إن كان لخصوصية قائمة بشخصه ـ لا لأجل انطباق عنوان عليه ـ فالشكّ في غيره يرجع إلى الشكّ في تخصيص زائد ، فيخرج عن محلّ البحث ; لأنّ البحث في الشبهة المصداقية للمخصّص ، وإن كان لأجل انطباق عنوان المؤمن عليه فالكلام فيه هو الكلام في غيره ; من سقوط أصالة الجدّ في المؤمن لأجل تردّد الفرد بين كونه مصداقاً جدّياً للعامّ أو لغيره .
تنبيهات:
التنبيه الأوّل : التمسّك بالعامّ مع كون الخاصّ معلّلا:
لو قال المولى «أكرم كلّ عالم» ، ثمّ قال منفصلاً عنه «لا تكرم زيداً وعمراً وبكراً ; لأ نّهم فسّاق» فهل يجوز التمسّك هنا بالعامّ في الفرد المشكوك أو لا ؟
الظاهر ، بل التحقيق : هو الثاني ; لأنّ تعليله بكونهم فسّاقاً يعطي أنّ المخرج هو العنوان دون الأشخاص مستقلّة ، ويأتي فيه ما قدّمناه .
وما ربّما يقال : من جواز التمسّك بالعامّ فيه ; لأنّه من قبيل التخصيص الزائد لا الشبهة المصداقية(20) غير تامّ ، كما مرّ وجهه .
التنبيه الثاني : في العامّين من وجه المتنافيي الحكم : إذا تعلّق الحكم على عنوانين بينهما عموم من وجه :
فتارة : يكون أحدهما حاكماً على الآخر ; فلا شبهة في كونه من قبيل المخصّص ، فلا يجوز التمسّك بالعامّ المحكوم في الشبهة المصداقية في دليل الحاكم ; لعين ما مرّ .
ومع عدم الحكومة : فإن قلنا بأنّ العامّين من وجه يشملهما أدلّة التعارض وقواعد الترجيح وقدّمنا أحدهما مع الترجيح ، أو قلنا : إنّهما من قبيل المتزاحمين ، وقلنا : إنّ المولى ناظر إلى مقام التزاحم ، وكان حكمـه إنشائياً بالنسبـة إلى المرجوح يكون حاله أيضاً حال المخصّص في عدم جواز التمسّك مع الشبهة المصداقية في الراجح .
وأمّا إن قلنا : بأنّ الحكمين في المتزاحمين فعليان على موضوعهما ، والتزاحم الخارجي وعدم قدرة العبد على إطاعتهما لا يوجب شأنية الحكم في المرجوح ، بل العقل يحكم بكونه معذوراً في امتثال كليهما ، من غير تغيير في ناحية الحكم فالظاهر جواز التمسّك في مورد الشكّ في انطباق الدليل المزاحم الذي هو أقوى ملاكاً ; لأنّ الحكم الفعلي على موضوعه حجّة على المكلّف ما لم يحرز العذر القاطع ، ولا يجوز عقلاً رفع اليد عن الحكم الفعلي بلا حجّة ، نظير الشكّ في القدرة ; حيث لا يجوز التقاعد عن التكليف الفعلي مع احتمال العجز .
التنبيه الثالث : في إحراز المشتبه بالأصل الموضوعي :
بعد البناء على عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية يقع الكلام في أ نّه هل يمكن إحراز المصداق بالأصل وإجراء حكم العامّ عليه مطلقاً ، أو لا مطلقاً ، أو تفصيل بين المقامات ؟ أقوال :
حجّة النافي : أنّ شأن المخصّص هو إخراج الفرد الخاصّ مع بقاء العامّ على تمامية موضوعه بالنسبة إلى الباقي ، من دون انقلاب الموضوع عمّا هو عليه ; إذ إخراج الفرد نظير موته . فحينئذ لا يبقى مجال لجريان الأصل ; إذ الأصل السلبي ليس شأنه إلاّ نفي حكم الخاصّ عنه لا إثبات حكم العامّ له ، ونفي أحد الحكمين لا يثبت الآخر . نعم ، في مثل الشكّ في مخالفة الشرط أو الصلح للكتاب أمكن دعوى أ نّه من الشبهة المصداقية الناشئة عن الجهل بالمخالفة ، الذي كان أمر رفعه بيد المولى ، وفي مثله لا بأس بالتمسّك بالعامّ ، من غير احتياج إلى الأصل(21)، انتهى .
وفيه : أ نّه إن أراد من قوله إنّ التخصيص لا يعطي عنواناً زائداً على الموجود في نفس العامّ ، عدم حدوث انقلاب في موضوع العامّ بحسب الظهور فهو حقّ لا غبار عليه ; إذ هذا هو الفرق بين التخصيص بالمنفصل وبين المتّصل منها والتقييد ; فإنّ شأن الأخيرين إعطاء قيد زائد على الموجود في الدليل الأوّل ، ولكن ذلك لا يمنع عن جريان الأصل .
وإن أراد أنّ الموضوع باق على سعته بحسب الواقع والإرادة الجدّية أيضاً فهو ممنوع جدّاً ; إذ التخصيص يكشف عن أنّ الحكم الجدّي تعلّق بالعالم غير الفاسق أو العادل . وقياس المقام بموت الفرد غريب ; لعدم كون الدليل ناظراً إلى حالات الأفراد الخارجية . واخترام المنية لبعض الأفراد لا يوجب تقييداً أو تخصيصاً في الأدلّة ، بخلاف إخراج بعض الأفراد
وأغرب منه : ما ذكره في ذيل كلامه من جواز التمسّك في الشبهة المصداقية لمخالفة الكتاب ; مستدلاًّ بأنّ رفعها بيد المولى ; إذ لو كان الشكّ راجعاً إلى الشبهة المصداقية فليس رفعها بيد المولى ; لأنّ الشبهة عرضت من الاُمور الخارجية .
أضف إليـه : أنّ المثالين من باب المخصّـص المتّصـل ; لاتّصال المخصّص في قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «المؤمنون عند شروطهم إلاّ ما حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً»(22) ، وفي قوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «الصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً»(23) ولا يجوز التمسّك فيه بالعامّ بلا إشكال .
حجّة القائل بجريانه مطلقاً : أنّ القرشية والنبطية من أوصاف الشيء في الوجود الخارجي ; لأنّها التولّد من ماء من هو منتسب إليهم ، فلك أن تشير إلى ماهية المرأة وتقول : إنّ هذه المرأة لم تكن قرشية قبل وجودها ، فيستصحب عدمها ويترتّب عليه حكم العامّ ; لأنّ الخارج من العامّ المرأة التي من قريش ، والتي لم تكن منه بقيت تحته ، فيحرز موضوع حكم العامّ بالأصل(24)، انتهى .
وعن بعض آخر في تقريبه أيضاً : أنّ العامّ شامل لجميع العناوين ، وما خرج منـه هو عنوان خاصّ وبقي سائرها تحته ، فمع استصحاب عدم انتساب المرأة إلى قريش أو عدم قرشيتها ينقّح موضوع العامّ(25) ، انتهى .
وربّما يقال في تقريبه أيضاً ما هذا ملخّصه : إن أخذ عرض في موضوع الحكم بنحو النعتية ومفاد كان الناقصـة لا يقتضي أخـذ عدمـه نعتاً في موضوع عـدم ذلك الحكم ; ضرورة أنّ ارتفاع الموضوع المقيّد بما هـو مفاد كان الناقصـة إنّما يكون بعدم اتّصاف الذات بذلك القيد على نحو السالبة المحصّلة لا على نحو ليس الناقص .
فمفاد قضية «المرأة تحيض إلى خمسين إلاّ القرشية» هو أنّ المرأة التي لا تكون متّصفة بكونها من قريش تحيض إلى خمسين ، لا المرأة المتّصفة بأن لا تكون من قريش .
والفرق بينهما : أنّ القضية الاُولى سالبة محصّلة والثانية مفاد ليس الناقص ، فلا مانع من جريان الأصل لإحراز موضوع العامّ(26) .
هذا ، ولكن التعرّض لكلّ ما قيل في المقام أو جلّه يوجب السأمة والملال ، والأولى صرف عنان الكلام إلى ما هو المختار على وجه يظهر الخلل في كثير من التقريبات التي أفادها الأعلام الكبار ، وسيوافيك تفصيل القول في مباحث البراءة والاشتغال ، بإذنه وتوفيقه سبحانه .
مقتضى التحقيق في المقام:
فنقول : تمحيص الحقّ يتوقّف على بيان مقدّمات نافعة في استنتاجه :
الاُولى : في أقسام القضايا بلحاظ النسبة:
تقدّم القول في أنّ القوم قد أرسلوا اشتمال القضايا على النسبة في الموجبات والسوالب بأقسامها إرسال المسلّمات ، وبنوا عليه ما بنوا ، ولكن التحقيق ـ كما مرّ ـ خلافه ; إذ الحملية ـ كما سلف ـ على قسمين : حملية حقيقية غير مأوّلة ; وهي ما يحمل فيها المحمول على موضوعه بلا أداة تتوسّط بينهما ، نحو «الإنسان حيوان ناطق» وقولك «زيد قائم» ، وحملية مأوّلة ; وهي على خلاف الاُولى تتوسّط بينهما الأداة ، نحو «زيد في الدار» .
والقسم الأوّل : لا يشتمل على النسبة مطلقاً ; لا على الكلامية ولا على الخارجية . ولا فرق بين أن يكون الحمل أوّلياً أو شائعاً صناعياً ، أو يكون الحمل على المصداق بالذات أو بالعرض ، كما لا فرق بين الموجبات والسوالب . غير أنّ الهيئة تدلّ في الموجبة على الهوهوية التصديقية وفي السالبة على سلب الهوهوية كذلك ، وقد تقدّم براهين ذلك كلّه عند البحث عن الهيئات(27).
وأمّا القسم الثاني : فلا محالة يشتمل على النسبة ; خارجية وكلامية وذهنية ، لكن في الموجبات تدلّ على تحقّق النسبة خارجاً ، نحو قولك «زيد على السطح» أو «زيد في الدار» ; فإنّهما من الحمليات المأوّلة ، كما أنّ السوالب منها باعتبار تخلّل أداة النسبة وورود حرف السلب عليها تدلّ على سلب النسبة ، وتحكي عن عدم تحقّقها واقعاً .
فظهر : أنّ الكون الرابط أو النسبة يختصّ من بين القضايا بموجبات هذا القسم ـ أعني الحملية المأوّلة ـ وأمّا السوالب من هذا القسم والقسم الأوّل بكلا نوعيه فلا تشتمل عليها ; لما تقدّم في محلّه(28) من امتناع تحقّق النسبة بين الشيء ونفسه والشيء وذاتياته كما في الأوّليات ، والشيء وما يتّحد معه كما في الصناعيات . وأمّا السوالب فهي لسلب النسبة أو نفي الهوهوية ـ بناءً على التحقيق ـ فلا محالة تكون خالية عنها ، كما لا يخفى .
الثانية : في بيان ما يوجب كون الكلام محتملا للصدق والكذب ومناطهما وفيها نتعرّض لأمرين:
الأوّل : بيان ما هـو مناط احتمال الصدق والكذب ، ومـا يوجب كـون الكلام محتملاً لهما :
فنقول : إنّ المناط في ذلك هو الحكاية التصديقية لا التصوّرية ; سواء تعلّقت بالهوهوية إثباتاً ونفياً أم بالكون الرابط كذلك .
توضيحه : أنّ الحكاية التصديقية التي تفيد فائدة تامّة :
تارة : تتعلّق بالهوهوية وأنّ هذا ذاك تصديقاً ، أو سلب الهوهوية ونفي أنّ هـذا ذاك بنحو التصديق .
واُخرى : تتعلّق بالكون الرابط بنحو الإثبات ، نحو «زيد له البياض» ، أو «زيد في الدار» ، أو بنحو النفي ، نحو «ليس زيد في الدار» ، فالمناط في احتمال الصدق والكذب هذه الحكاية . وأمّا إذا خلى الكلام عن تلك الحكاية التصديقية فينتفي مناط الاحتمال ; سواء دلّ على الاتّحاد التصوّري نحو زيد العالم ، أو على النسبة التصوّرية كما في الإضافات .
الثاني من الأمرين : بيان مناط صدق القضايا وكذبها :
فنقول : ليس مناطه ما دارج بينهم من تطابق النسبة الكلامية مع النسبة الواقعية ; ضرورة عدم إمكان اشتمال الحمليات غير المأوّلة على النسبة مطلقاً ، وكذا السوالب من المأوّلة مع وجود الصدق والكذب فيهما ، بل مناطه هو مطابقة الحكاية لنفس الأمر وعدمها .
فلابدّ أن يلاحظ الواقع بمراتبه وعرضه العريض ; فإن طابق المحكي فهو صادق وإلاّ فهو كاذب . فقولنا : «الله تعالى موجود» صادق وقولنا : «الله تعالى له الوجود» كاذب ; فإنّ الأوّل يحكي حكاية تصديقية عن الهوهوية بينهما ، والمحكي أيضاً كذلك ، والثاني يحكي تصديقاً عن عروض الوجود ونفس الأمر على خلافه .
وأمّا السوالب : فبما أ نّها ليس للأعدام مصداق واقعي فمناط الصدق والكذب مطابقة الحكاية التصديقية لنفس الأمر ; بمعنى لزوم كون الحكاية عن سلب الهوهوية أو سلب الكون الرابط مطابقاً للواقع ، لا بمعنى أنّ لمحكيها نحو واقعية بحسب نفس الأمر ; ضرورة عدم واقعية للأعدام ، بل بمعنى خلوّ صحيفة الوجود عن الهوهوية والنسبة وعدم وجود لواحد منهما في مراتب نفس الأمر .
فعدم مصداق واقعي للهوهوية والنسبة مناط لصدقها ، واشتمال الوجود على واحد منها مناط كذب ما يدلّ على نفيه .
فلو قلت : «ليس شريك البارئ بموجود» لكان صادقاً ; لخلوّ صحيفة الوجود عنه ، والمفروض أنّ الحكاية عن خلوّه عنه . فالحكاية مطابقة لنفس الأمر . ولو قلت «شريك البارئ غير موجود» أو «لا موجود» بنحو الإيجاب العدولي لصار كاذباً ; لأنّ الموجبة ـ محصّلة كانت أو معدولة ـ تحتاج في صدقها إلى وجود موضوع في ظرف الإخبار ، وهو هنا مفقود ، إلاّ أن يؤوّل بالسالبة المحصّلة . كما أنّه لا محيص عن التأويل في قولنا «شريك البارئ معدوم» أو «ممتنع» .
وأمّا مناط الصدق والكذب في لوازم الماهية فليس معناه أنّ لكلّ من اللازم والملزوم محصّلاً مع قطع النظر عن الوجود ، بل معناه أنّ الإنسان عند تصوّر الأربعة يجد معه في تلك المرتبة زوجيتها ، مع الغفلة عن وجود الأربعة في الذهن ، ويرى بينهما التلازم مع الغفلة عن التحصّل الذهني ، فيستكشف من ذلك أنّ الوجود الذهني دخيل في ظهور الملازمة ، لا في لزومها حتّى يكون من قبيل لازم الوجودين .
الثالثة : في القضايا المفتقرة إلى وجود الموضوع:
وهي من أهمّ المقدّمات ، ثمّ أنّ القضية تنقسم إلى الموجبة والسالبة وكلّ واحدة منهما إلى البسيطة والمركّبة ، والكلّ إلى المحصّلة والمعدولة . وحينئذ فبما أنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له فلا محيص في الموجبة من وجود موضوع في ظرف ثبوت الحكم حتّى يصحّ الحكم ويحكم بالصدق .
وما ذكرنا من القاعدة الفرعية حكم بتّي لا يقبل التخصيص ، فلا فرق بين أن يكون الثابت أمراً وجودياً كما في الموجبة المحصّلة ، أو أمراً غير وجودي كما في الموجبة المعدولة ، نحو «زيد لا قائم» والموجبة السالبة المحمول ـ وهو ما يجعل فيه السالبة المحصّلة نعتاً للموضوع ـ نحو زيد هو الذي ليس بقائم .
وجه عدم الفرق هو أ نّه كما اعتبر الاتّحاد والهوهوية بين زيد وقائم في الموجبة المحصّلة كذلك اعتبرت الهوهوية بين زيد وعنوان اللاقيام ; إذ لابدّ من نحو تحقّق للمتّحدين في ظرف الاتّحاد.
ولهذا قلنا في محلّه : أنّ القضية المعدولة لا تعتبر إلاّ إذا كانت الأعدام فيها من قبيل أعدام الملكات ; حتّى يكون لملكاتها نحو تحقّق ، فيقال : «زيد لا بصير» أو «أعمى» ، ولا يقال : «الجدار لا بصير» أو «أعمى» ; لتحقّق ما به الاتّحاد في الأوّل دون الثاني .
وقس عليه الموجبة السالبة المحمول ; إذ هي ترجع إلى نحو اتّحاد أو توصيف وله نحو ثبوت ، فلابدّ من نحو وجود حتّى يصحّ ذلك .
فظهر : أنّ الموجبات تفتقر في صدقها إلى وجود الموضوع في جميع أقسامها ، وهو واضح .
الرابعة : ضرورة كون الموضوع في الجملة الخبرية والإنشائية مفرداً:
إنّ موضوع الحكم في الجملة الخبرية والإنشائية لابدّ أن يكون مفرداً أو في حكم المفرد ; حتّى أنّ الشرطية التي تتألّف من قضيتين تخرجان بذلك عن التمامية وتصيران كالجمل الناقصة .
والسرّ في ذلك : أنّ الحكاية عن موضوع الحكم فقط أو محموله كذلك لابدّ أن تكون حكاية تصوّرية ، كما أنّ الحكاية عن اتّحادهما أو حصول أحدهما في الآخر لابدّ أن تكون حكاية تصديقية ، وهي الملاك لكون الجملة قضية تامّة . والحكاية التصوّرية متقدّمة على التصديقية ; أعني جعل الحكم على الموضوع .
وعليه : لا محيص عن كون الموضوع أمراً مفرداً أو مأوّلاً به ; إذ لا تجتمع الحكاية التصوّرية مع التصديقية ، ولا يجتمع النقص والتمام في جملة واحدة وفي حال واحد ; ولو بتكرّر الاعتبار.
فلو قلت : «زيد قائم غير عمرو قاعد» لا تكون الحكاية التصديقية فيه إلاّ عن مغايرة جملتين لا عن قيام زيد وقعود عمرو ، فلو قال المتكلّم «ليس زيد بقائم غير ليس عمرو بقاعد» فكلّ من الموضوع والمحمول جملة ناقصة بالفعل ، وإذا انحلّت القضية خرج كلّ واحدة منهما من النقص ، وصار قضية تامّة موجبة محصّلة أو سالبة محصّلة ، كما في المثالين .
وربّما صار سالبة معدولة أو موجبة سالبة المحمول ، مثل «المرأة غير القرشية حكمها كذا» أو «المرأة التي ليست بقرشية حكمها كذا» .
الخامسة : في اعتبارات موضوع العامّ المخصّص:
إنّه قد مرّ سابقاً(29) أنّ التخصيص ـ سواء كان متّصلاً أم منفصلاً ـ يكشف عن تضيّق ما هو موضوع للعامّ بحسب الإرادة الجدّية ، ولا يمكن تعلّق الحكم الجدّي على جميع الأفراد ، مع أ نّه خصّصه بالإرادة الجدّية على أفراد مقيّدة بالعدالة . وليس ذلك الامتناع لأجل تضادّ الحكمين حتّى يقال : إنّ الغائلة ترتفع بتكثّر العنوان ، بل لأجل أنّ الإرادة الجدّية إذا تعلّقت بحرمة إكرام كلّ واحد من الفسّاق منهم يمتنع تعلّق إرادة اُخرى على إكرام كلّ واحد من العلماء جدّاً بلا تخصيص ، مع العلم بأنّ بعض العلماء فاسق ، ويؤول ذلك الامتناع إلى امتناع نفس التكليف .
وإن شئت قلت : إنّ المولى الملتفت بموضوع حكمه لا تتعلّق إرادته الجدّية على الحكم به إلاّ بعد تحقّق المقتضي وعدم المانع ، فإذا رأى أنّ في إكرام عدول العلماء مصلحة بلا مفسدة ، وفي إكرام فسّاق العلماء مفسدة ملزمة أو ليست فيه مصلحة فلا محالة تتضيّق إرادته وتتعلّق بإكرام عدولهم أو ما عدا فسّاقهم .
ولا يقاس المقام بباب التزاحم ; إذ المولى لم يحرز في الأفراد المخصّصة مصلحة ، بل ربّما أحرز مفسدة في إكرامهم ، فلا يعقل ـ حينئذ ـ فعلية الحكم في حقّهم ، بخلاف باب المتزاحمين . وحينئذ يسقط ما ربّما يقال من أنّ المزاحمة في مقام العمل لا توجب رفع فعلية الحكم عن موضوعه .
وكيف كان : أنّ موضوع العامّ بحسب الإرادة الجدّية بعد التخصيص يتصوّر على وجوه ثلاثة :
الأوّل : أن يكون على نحو العدم النعتي على حذو لفظ العدول ، كالعلماء غير الفسّاق ، وكالمرأة غير القرشية .
والثاني : أن يكون العدم النعتي على حذو السالبة المحمول ، كـ «العلماء الذين لا يكونون فسّاقاً أكرمهم» و«المرأة التي لا تكون قرشية ترى الدم إلى خمسين» .
والثالث : أن يكون موضوع العامّ على حذو السالبة المحصّلة التي تصدق مع عدم موضوعها ، كما إذا قلت : «إذا لم يكن العالم فاسقاً فأكرمه» .
فالموضوع ـ أعني السالبة المحصّلة ـ مع قطع النظر عن حكمه الإيجابي ـ أي أكرم ـ يصدق فيما إذا لم يكن للعالم وجود أصلاً ، كما إذا قلت : «إذا لم تكن المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين» ، فيصدق موضوعه مع قطع النظر عن حكمه ـ أعني ترى ـ فيما إذا لم تكن المرأة موجودة رأساً .
هذه هي الوجوه المتصوّرة ، ولكن لا سبيل إلى الثالث ; إذ جعل الحكم الإيجابي على المعدوم بما هو معدوم غير معقول ، والحكاية بالإيجاب عن موضوع معدوم حكاية عن أمر محال .
فالسالبة المحصّلة بما أ نّها تصدق بانتفاء الموضوع أيضاً يمتنع أن يقع موضوعاً لحكم إيجابي ; إذ قولنا : «إذا لم تكن المرأة قرشية ترى الدم إلى خمسين» لو كان بنحو السلب التحصيلي الصادق مع سلب موضوعه يرجع مغزاه إلى أنّ المرأة التي لم توجد أيضاً ترى الدم ، فلا محيص عن فرض وجود الموضوع ، فيكون الحكم متعلّقاً بالمرأة الموجودة إذا لم تكن من قريش .
فالاعتبارات التي يمكن أخذها قيداً لموضوع العامّ المخصّص أحد هذه الاُمور : العدم النعتي العدولي ، والسالبة المحمول ، والسالبة المحصّلة ، بشرط أمرين : اعتبار وجود الموضوع وإلاّ يلزم جعل الحكم على المعدوم ، وعدم إرجاعه إلى التقييد والنعت وإلاّ يرجع إلى السالبة المحمول .
إذا عرفت ما مهّدناه فاعلم : أنّه إذا كان الفرد الموجود متّصفاً بعنوان العامّ وغير متّصف بعنوان الخاصّ سابقاً ; بحيث كان عالماً غير فاسق ، فشكّ بعد برهة من الزمن في انقلاب أحد القيدين إلى ضدّه فلا إشكال في أ نّه يجري الأصل ويحرز به عنوان العامّ بما هو حجّة ; أعني «العالم العادل» أو «العالم غير الفاسق» . وهذا فيما إذا كان العلم بعدالته مقارناً للعلم بأ نّه عالم، بأن نعلم أ نّه كان قبل سنة عالماً وعادلاً .
وأمّا لو علمنا أنّ زيداً كان غير فاسق ، وشككنا في بقاء عدمه النعتي ، ولكن لم يكن علمه في حال عدم فسقه متيقّناً حتّى يكون المعلوم عندنا كونه العالم غير الفاسق ، بل علم أ نّه عالم في الحال فلا يمكن حينئذ إحراز موضوع العامّ بالأصل والوجدان ، إلاّ على القول بحجّية الاُصول المثبتة ; لأنّ استصحاب عدم كون زيد فاسقاً أو كونه غير فاسق ، مع العلم بأنّه عالم في الحال يلزمه عقلاً أنّ زيداً العالم غير فاسق على نحو النعت والتقييد .
وبعبارة اُخرى : أنّ موضوعه هو العالم المتّصف بعدم كونه فاسقاً ، فجزؤه عدم نعتي للعالم بما هو عالم ، وهو غير مسبوق باليقين ، وما هو مسبوق به هو زيد المتّصف بعدم الفسق لا العالم، وهو ليس جزءه .
واستصحاب العدم النعتي لعنوان لا يثبت العدم النعتي لعنوان متّحد معه إلاّ بحكم العقل ، وهو أصل مثبت . وتعلّق العلم بأنّ زيداً العالم في الحال لم يكن فاسقاً بنحو السلب التحصيلي لا يفيد ; لعدم كونه بهذا الاعتبار موضوعاً للحكم .
ومن هذا ظهر : عدم إمكان إحراز جزئي الموضوع بالأصل إذا شكّ في علمه وعدالته مع العلم باتّصافه بهما سابقاً في الجملة ، لو لم يعلم اتّصافه بهما في زمان واحد ; حتّى يكون العالم غير الفاسق مسبوقاً باليقين . فالمناط في صحّة الإحراز هو مسبوقية العدم النعتي لعنوان العالم ، لا العدم النعتي مطلقاً ، فتدبّر .
هذا كلّه في الأوصاف العرضية المفارقة ، وقد عرفت مناط جريانه .
وأمّا إذا كان الاتّصاف واللااتّصاف من العناوين التي تلزم وجود المعنون ـ كالقابلية واللاقابلية للذبح في الحيوان ، والقرشية واللاقرشية في المرأة ، والمخالفة وعدمها للكتاب في الشرط ـ فهل يجري فيه الأصل لإحراز مصداق العامّ أو لا ؟
الحقّ : امتناع جريانه على جميع الوجوه المتصوّرة .
بيان ذلك : أ مّا إذا كان الوصف من قبيل العدم النعتي بنحو العدول أو بنحو الموجبة السالبة المحمول فواضح ; لأنّ كلاًّ منهما يعدّ من أوصاف الموضوع وقيوده ; بحيث تتّصف الموضوع بهذه الصفة . والاتّصاف والصفة فرع كون الموضوع موجوداً في الخارج ; لما مرّ من القاعدة الفرعية ; حتّى يتقيّد بأمر وجودي .
وعليه : فلو قلنا إنّ الموضوع بعد التخصيص عبارة عن المرأة غير القرشية والشرط غير المخالف على نحو الإيجاب العدولي ، أو عبارة عن المرأة التي ليست بالقرشية ، والشرط الذي ليس مخالفاً للكتاب بنحو السالبة المحمول ، فلا محيص عن فرض وجود الموضوع حتّى يصحّ في حقّه هذه الأوصاف .
ولكنّه مع هذا الفرض غير مسبوق باليقين ; إذ الفرد المشكوك كونها قرشية أو لا ، أو مخالفاً للكتاب أو لا لم تتعلّق به اليقين في زمان بأنّه متّصف بغير القرشية ، أو بأنّها ليست بقرشية ; كي يجرّ إلى حالة الشكّ ; لأنّ هذه الأوصاف ملازمة لوجود الفرد من بدو نشوه لا ينفكّ عنه أصلاً ، فهي إمّا تولدت قرشية أو غير قرشية .
والحاصل : أنّك لو تأمّلت في أمرين يسهل لك التصديق للحقّ :
أحدهما : أنّ الإيجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول ـ مع كونهما جملة ناقصة لأجل أخذهما قيداً للموضوع ـ يحتاجان إلى الموضوع ; فإنّه في كلّ منهما يكون الموضوع متّصفاً بوصف . فكما أنّ المرأة غير القرشية تتّصف بهذه الصفة كذلك المرأة التي لم تتّصف بالقرشية أو لم تكن قرشية موصوفة بوصف أ نّها لم تتّصف بذلك أو لم تكن كذلك .
والفرق بالعدول وسلب المحمول غير فارق فيما نحن فيه ; إذ المرأة قبل وجودها كما لا تتّصف بأنّها غير قرشية ـ لأنّ الاتّصاف بشيء فرع وجود الموصوف ـ كذلك لا تتّصف بأنّها هي التي لا تتّصف بها ; لعين ما ذكر .
وتوهّم : أنّ الثاني من قبيل السلب التحصيلي ناش من الخلط بين الموجبة السالبة المحمول وبين السالبة المحصّلة ، والقيد في العامّ بعد التخصيص يتردّد بين التقييد بنحو الإيجاب العدولي والموجبة السالبة المحمول ، ولا يكون من قبيل السلب التحصيلي ; لأنّه لا يوجب تقييداً في الموضوع ، والمفروض ورود تقييد على العامّ بحسب الجدّ .
ثانيهما : عدم حالة سابقة لهذا الموضوع المقيّد بأحد القيدين ; لأنّ هذه المرأة المشكوك فيها لم يتعلّق بها العلم بكونها غير قرشية في زمان بدو وجودها حتّى نشكّ في بقائه ، بل من أوّل وجودها مجهولة الحال عندنا .
وأمّا إذا كان القيد من قبيل السلب التحصيلي الذي لا يوجب تقييداً في الموضوع فهو وإن كان لا يحتاج في صدقه إلى وجود الموضوع ; لعدم التقييد والاتّصاف حتّى يحتاج إلى المقيّد والموصوف إلاّ أ نّه يمتنع أن يقع موضوعاً لحكم إيجابي ; أعني حكم العامّ ـ وهو قوله «ترى» ـ لأنّ السلب التحصيلي يصدق بلا وجود موضوعه ، فلا يعقل جعله موضوعاً لحكم إثباتي .
ولا معنى لتعلّق الحكم الإيجابي على العالم ; مسلوباً عنه الفسق بالسلب التحصيلي الذي يصدق بلا وجود للعالم . فلابدّ من أخذ الموضوع مفروض الوجود ، فيكون العالم الموجود إذا لم يكن فاسقاً موضوعاً .
ويرد عليه : ما ورد على القسمين الأوّلين من انتفاء حالة سابقة .
أضف إلى ذلك : أنّ القول بأنّ هذه المرأة لم تكن قرشية قبل وجودها قول كاذب ; إذ لا ماهية قبل الوجود ، والمعدوم المطلق لا يمكن الإشارة إليه ; لا حسّاً ولا عقلاً ، فلا تكون هذه المرأة قبل وجودها هذه المرأة ، بل تلك الإشارة من مخترعات الخيال وأكاذيبها ، فلا تتّحد القضية المتيقّنة مع القضية المشكوك فيها .
وصحّـة الاستصحاب منوطة بوحدتهما ، وهذا الشرط مفقودة في المقام ; لأنّ المرأة المشار إليها في حال الوجود ليست موضوعة للقضية المتيقّنة الحاكية عن ظرف العدم ; لما عرفت أنّ القضايا السالبة لا تحكي عن النسبة والوجود الرابط ، ولا عن الهوهوية بوجه .
فلا تكون للنسبة السلبية واقعية حتّى تكون القضيـة حاكية عنها .
فانتساب هذه المرأة إلى قريش مسلوب أزلا ، بمعنى مسلوبية كلّ واحد من أجزاء القضية ـ أعني هذه المرأة وقريش والانتساب ـ لا بمعنى مسلوبية الانتساب عن هذه المرأة إلى قريش ، وإلاّ يلزم كون الأعدام متمايزة حال عدمها .
وإن شئت قلت : فالقضية المتيقّنة غير المشكوك فيها ، بل لو سلّم وحدتهما يكون الأصل مثبتاً .
وبالجملة : فالقضيتان مختلفتان ; فما هو المتيقّن قولنا : «لم تكن هذه المرأة قرشية» ولو باعتبار عدم وجودها ، والمشكوك قولنا : «هذه المرأة كانت متّصفة بأنّها لم تكن قرشية» وكم فرق بينهما .
وإن شئت قلت : إنّ المتيقّن هو عدم كون هذه المرأة قرشية باعتبار سلب الموضوع ، أو الأعمّ منه ومن سلب المحمول ، واستصحاب ذلك وإثبات الحكم للقسم المقابل أو للأخصّ مثبت ; لأنّ انطباق العامّ على الخاصّ في ظرف الوجود عقلي ، وهذا كاستصحاب بقاء الحيوان في الدار ، وإثبات حكم قسم منه بواسطة العلم بالانحصار .
فظهر : أنّ السالبة المتقيّدة بالوجود أخصّ من السالبة المحصّلة المطلقة ، واستصحاب السلب المطلق العامّ الذي يلائم مع عدم الوجود لا يثبت الخاصّ المقيّد بالوجود ويعدّ من لوازمه .
وأنت إذا أمعنت النظر في أحكام القضايا الثلاث ـ من المعدولة والسالبة المحمول والسالبة المحصّلة ـ وفي أنّ الأوّلين باعتبار وقوعهما وصفين لموضوع العامّ لابدّ فيهما من وجود الموضوع ، لقاعـدة «ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له» ، وأنّ الثالث باعتبار صدقه بلا وجود موضوعه لا يمكن أخذه موضوعاً لحكم إيجابي ، وهو حكم العامّ .
يسهّل لك التصديق بعدم جريان استصحاب الأعدام الأزلية في أمثال المقام مطلقاً ; لعدم الحالة السابقة لهذا الأصل تارة ، وكونه مثبتاً اُخرى .
وبما ذكـرنا يظهر الإشكال فيما أفاده بعض الأجلّـة في تعاليقـه على تقريراتـه ، فراجع(30) .
التنبيه الرابع: إحراز حال الفرد بالعناوين الثانوية:
لا يجوز التمسّك بعموم وجوب الوفاء بالنذر إذا شكّ في صحّة الوضوء بمائع مضاف ; فضلاً عن دعوى كشف حال الفرد والحكم بصحّته مطلقاً ; لأنّ إطلاقات أدلّة النذر أو عموماتها مقيّدة بأنّه «لا نذر إلاّ في طاعة الله» ، أو «لا نذر في معصية الله» . فحينئذ يصير متعلّق الإرادة الجدّية مقيّدة بعنوان الطاعة أو بكون النذر في غير المعصية .
فالتمسّك بأدلّة النذر مع الشكّ في أنّ التوضّي بمائع مضاف هل هو طاعة أو غيرها تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية . وأغرب منه : كشف حال الموضوع ; أي إطلاق الماء به .
والعجب من المحقّق الخراساني(31) ; حيث أيّد تلك الدعوى بما ورد من صحّة الإحرام قبل الميقات(32) ، والصوم في السفر إذا تعلّق بهما النذر(33) ، وأضاف إليه شيخنا العلاّمة ـ قدس سره ـ نذر النافلة قبل الفريضة(34) .
ولكنّك خبير : بأنّ الأمثلة غير مربوطة بالدعوى ; لأنّ المدّعى هو التمسّك بالعامّ المخصّص لكشف حال الفرد ، وهي ليست من هذا القبيل ; فإنّ الإحرام قبل الميقات حرام وبعد النذر يصير واجباً ; لدلالة الأدلّة ، وكذا الصوم في السفر . وصيرورة الشيء بالنذر واجباً بدليل خاصّ غير التمسّك بالعامّ لكشف حال الفرد .
التنبيه الخامس: في التمسّك بأصالة العموم لكشف حال الفرد:
إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص فهل يمكن التمسّك بأصالة العموم لكشف حال الفرد ، وأنّ حرمة إكرامه لأجل كونه غير عالم ، لا لخروجه عن حكم العلماء مع كونه داخلاً فيهم موضوعاً ؟
ربّما يقال : بجواز التمسّك ، وهو ظاهر كلام الشيخ الأعظم أيضاً في باب الاستنجاء لإثبات طهارة مائه ; متمسّكاً بأصالة عموم كلّ نجس منجّس ، والمفروض أنّ ماء الاستنجاء ليس بمنجّس ، فهو ليس بنجس ، وإلاّ لزم التخصيص(35) .
وربّما يتمسّك به لإثبات أنّ ألفاظ العبادات موضوعة للصحيح بطريق عكس النقيض ، بدعوى أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وأنّ ما لا تنهى عن الفحشاء ليست بصلاة ; لأصالة عموم الدليل(36) .
ولكن الحقّ : عدم صحّته ; لأنّ المتيقّن من حجّية تلك الاُصول وجريانها إنّما هو إذا جعلت عبرة لتشخيص المراد مع الشكّ فيه لا في مثل المقام ، فلو علمنا مراد المتكلّم وعلمنا أنّ زيداً عنده محرّم الإكرام ، وشككنا في أنّ خروجه من العامّ أهو بنحو التخصّص أو التخصيص فلا أصل عند العقلاء لإثباته ، وهذا نظير أصالة الحقيقة الجارية لكشف المراد لا لكشف الوضع بعد العلم بالمراد .
والسرّ فيه : أنّ هذه الاُصول للاحتجاج بين العبيد والموالي ، لا لكشف حال الوضع والاستعمال مطلقاً .
وأمّـا ما قرّره بعض أهل التحقيق ـ مؤيّداً مقالة اُستاذه المحقّق الخراساني(37) ـ من أنّ أصالة العموم وإن كانت حجّة لكنّها غير قابلة لإثبات اللوازم ، ومثبتات هذا الأصل كسائر الاُصول المثبتـة في عدم الحجّية ، مع كونه أمارة في نفسه ، فلا مجال للتمسّك بعكس نقيض القضية الذي يعدّ من لوازم الموجبة الكلّية عقلاً ; لأنّ ذلك اللازم إنّما يترتّب في فرض حجّية أصالة العموم لإثبات لازم المدلول .
ووجه التفكيك بين اللازم والملزوم عدم نظر العموم إلى تعيين صغرى الحكم ; نفياً وإثباتاً ، وإنّما نظره إلى إثبات الكبرى ، كما هو المبنى في عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وما نحن فيه أيضاً مبني على هذه الجهة(38) ، انتهى بأدنى تصرّف وتوضيح .
قلت : إنّ عكس النقيض لازم لكون الكبرى حكماً كلّياً ، ولا يلزم أن يكون العامّ ناظراً إلى تعيين الصغرى في لزومه له ، فلو سلّم أنّ أصالة العموم جارية وأنّها كالأمارات بالنسبة إلى لوازمها فلا مجال لإنكار حجّيتها بالنسبة إلى لازمها الذي لا ينفكّ عنها .
فلا يصحّ أن يقال : إنّ العقلاء يحكمون بأنّ كلّ فرد محكوم بحكم العامّ واقعاً ، ومعه يحتمل عندهم أن يكون فرد منه غير محكوم بحكمه ، إلاّ أن يلتزم بأ نّها أصل تعبّدي لا أمارة ، وهو خلاف مفروضة .
التنبيه السادس: في التمسّك بالعامّ إذا كان المخصّص مجملا:
لو دلّ الدليل على إكرام العلماء ، ودلّ دليل منفصل على عدم وجوب إكرام زيد ، لكنّه تردّد بين زيد العالم والجاهل فالظاهر جواز التمسّك بأصالة العموم هنا ; للفرق الواضـح بين هذا المقام والمقام السابق ; لأنّ الغرض مـن جريانها هناك لأجـل تشخيص كيفيـة الإرادة دون تعيين المراد ، وهاهنا الأمر على العكس ; إذ هـو لأجل تشخيص المراد وكشف أنّ الإرادة الاستعمالية هل هي في زيد العالم مطابقة للجدّ أو لا ؟
وبتقريب آخر : أنّ المجمل المردّد ليس بحجّة بالنسبة إلى العالم ، ولكن العامّ حجّة بلا دافع ، فحينئذ لو كان الخاصّ حكماً إلزامياً ـ كحرمة الإكرام ـ يمكن حلّ إجماله بأصالة العموم ; لأ نّها حاكمة على أنّ زيداً العالم يجب إكرامه ، ولازمه عدم حرمة إكرامه ، ولازم ذلك اللازم : حرمة إكرام زيد الجاهل ، بناءً على حجّية مثبتات الاُصول اللفظية ، فينحلّ بذلك حكماً ، الحجّة الإجمالية التي لولا العامّ يجب بحكم العقل متابعتها ، وعدم جواز إكرام واحد منهما .
وأمّا الشيخ فقد سوّى بين القسمين ; قائلاً بأنّ ديدن العلماء التمسّك بالعامّ في المباحث الفقهية في مثله(39).
___________
1 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 215 .
2 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 215 ، الهامش 1 .
3 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 525 .
4 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 171 و 186 و 525 .
5 ـ تقدّم في الصفحة 155 .
6 ـ اُنظر كفاية الاُصول : 258 .
7 ـ مطارح الأنظار : 193 / السطر3 .
8 ـ كفاية الاُصول : 259 .
9 ـ مقالات الاُصول 1 : 443 .
10 ـ مطارح الأنظار : 193 / السطر3 .
11 ـ تشريح الاُصول : 261 / السطر7 .
12 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 216 .
13 ـ تقدّم في الصفحة 159 و 160 .
14 ـ تقدّم في الصفحة 181 .
15 ـ كفاية الاُصول : 259 .
16 ـ نفس المصدر .
17 ـ مطارح الأنظار : 194 / السطر24 .
18 ـ لمحات الاُصول : 323 .
19 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 536 ـ 537 .
20 ـ لمحات الاُصول : 324 ـ 325 .
21 ـ مقالات الاُصول 1 : 444 ـ 445 .
22 ـ سنن الترمذي 2 : 403 ، السنن الكبرى ، البيهقي 6 : 79 و7 : 249 .
23 ـ الفقيه 3 : 20 / 52 ، وسائل الشيعة 18 : 443 ، كتاب الصلح ، الباب 3 ، الحديث 2 .
24 ـ أفاده المحقّق الحائري ـ قدس سره ـ في مجلس درسـه . اُنظر معتمد الاُصـول 1 : 290 ،
تنقيح الاُصول : 2 : 361 .
25 ـ كفاية الاُصول : 261 .
26 ـ أجود التقريرات 1 : 468 ، الهامش .
27 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 47 .
28 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 47 .
29 ـ تقدّم في الصفحة 170 .
30 ـ أجود التقريرات 1 : 466 ، الهامش .
31 ـ كفاية الاُصول : 262 .
32 ـ راجع وسائل الشيعة 11 : 326 ، كتاب الحج ، أبواب المواقيت ، الباب 13 .
33 ـ راجع وسائل الشيعة 10 : 198 ، كتاب الصوم ، أبواب من يصحّ منه الصوم ، الباب 10، الحديث 7 .
34 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 220 .
35 ـ الطهارة ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1 : 346 ، مطارح الأنظار : 196 / السطر12 .
36 ـ كفاية الاُصول : 45 .
37 ـ نفس المصدر : 264 .
38 ـ مقالات الاُصول 1 : 450 ـ 451 .
39 ـ مطارح الأنظار : 196 / السطر14 .
|
|
دخلت غرفة فنسيت ماذا تريد من داخلها.. خبير يفسر الحالة
|
|
|
|
|
ثورة طبية.. ابتكار أصغر جهاز لتنظيم ضربات القلب في العالم
|
|
|
|
|
سماحة السيد الصافي يؤكد ضرورة تعريف المجتمعات بأهمية مبادئ أهل البيت (عليهم السلام) في إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية
|
|
|