أقرأ أيضاً
التاريخ: 30-8-2016
![]()
التاريخ: 11-6-2020
![]()
التاريخ: 16-10-2016
![]()
التاريخ: 26-8-2016
![]() |
تعريف المطلق والمقيّد :
عرّف المطلق بأنّه ما دلّ على معنى شائع في جنسه والمقيّد بخلافه ، وهذا التعريف وإن اشتهر بين الأعلام(1) إلاّ أ نّه يرد عليه اُمور :
منها : أنّ الظاهر من هذا التعريف أنّ الإطلاق والتقييد من أوصاف اللفظ ، مع أنّهما من صفات المعنى ; ضرورة أنّ نفس الطبيعة التي جعلت موضوع الحكم قد تكون مطلقة وقد تكون متقيّدة.
وإن شئت قلت : إنّ الداعي لتعلّق الأحكام بعناوينها هو اشتمالها على مصالح ومفاسد ملزمة أو غير ملزمة ، وهي قد تترتّب على نفس الطبيعة وقد تترتّب على المقيّد بشيء ، فيصير الموضوع مع قطع النظر عن اللفظ تارة مطلقاً واُخرى مقيّداً .
بل مع قطع النظر عن الملاك يمكن تصوير الإطلاق والتقييد ; إذ الإنسان الأبيض مقيّد والإنسان مطلق ، مع قصر النظر على المعنى بلا رعاية لفظ أو ملاك .
ومنها : أنّ الشيوع في جنسه الذي جعل صفة المعنى يحتمل وجهين :
الأوّل : أن يكون نفس الشيوع جزء مدلول اللفظ ، كما أنّ الذات جزء آخر ، فالمطلق يدلّ على المعنى والشيوع .
ولكنّه بعيد غايته ، بل غير صحيح ; إذ لا يدلّ أسماء الأجناس على ذات الطبيعة ومفهوم الشيوع . كيف ، والمطلق ما لا قيد فيه بالإضافة إلى كلّ قيد يمكن تقييده به ، من غير دلالة على الخصوصيات والحالات وغير ذلك .
الثاني : أن يراد من الشيوع كونه لازماً لمعنىً بحسب الواقع ، لا جزء مدلول منه ; فالمطلق دالّ على معنى لكن المعنى في حدّ ذاته شائع في جنسه ; أي مجانسـه وأفراده .
وعليه : يصير المراد مـن الشيوع في الجنس هـو سريانه في أفـراده الذاتية ; حتّى يصدق بوجـه أ نّـه شائـع في مجانسـه ، وإلاّ فالجنس بالمعنى المصطلح لا وجه له .
ولكنّه يوجب خروج بعض المطلقات عن التعريف المزبور ، مثل إطلاق أفراد العموم في قوله سبحانه : {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وكذا الإطلاق في الأعلام الشخصية ، كما في قوله تعالى : {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وكذا الإطلاق في المعاني الحرفية ، على أ نّه غير مطّرد لدخول بعض المقيّدات فيه ، كالرقبة المؤمنة ; فإنّه أيضاً شائع في جنسه .
وما عن بعض أهل التحقيق في إدراج الأعلام تحت التعريف المشهور مـن أنّ المـراد سنخ الشيء المحفوظ في ضمن قيود طارئـة ، سواء تحقّق بين وجـودات متعدّدة أو في وجـود محفوظ في ضمن الحالات المتبادلـة(2) ، لا يخلو عن تعسّف بيّن .
فقد ظهر من هذا البيان عدّة اُمور :
الأوّل : أنّ مصبّ الإطلاق أعمّ مـن الطبائع والأعلام الشخصية ، وتجـد الثاني فـي أبواب الحـجّ كثيراً في الطواف على البيت واستلام الحجر والوقـوف بمنى والمشعر .
فما ربّما يقال : من أنّ المطلق هو اللابشرط المقسمي أو القسمي ، ليس بشيء ، وهناك قسم ثالث ; وهو الإطلاق الموجود في ناحية نفس الحكم ، كما تقدّم في باب الواجب المشروط ، وتقدّم أنّ القيود بحسب نفس الأمر تختلف بالذات ، بعضها يرجع إلى الحكم ولا يعقل إرجاعها إلى المتعلّق ، وبعض آخر على العكس(3) ، وعرفت أنّ معاني الحروف قابلة للإطلاق والتقييد(4) ; فمصبّ الإطلاق قد يكون في الطبائع وقد يكون في الأعلام وقد يكون في الأحكام وقد يكون في الأشخاص والأفراد .
الثاني : أنّ الإطلاق والتقييد من الاُمور الإضافية ، فيمكن أن يكون شيء مطلقاً ومقيّداً باعتبارين .
الثالث : أنّ بين الإطلاق والتقييد شبه تقابل العدم والملكة ، فالمطلق ما لا قيد فيه ممّا شأنه أن يتقيّد بذلك ، وما ليس من شأنه التقييد لا يكون مطلقاً ، كما لا يكون مقيّداً . والتعبير بشبه العدم والملكة لأجل أنّ التقابل الحقيقي منه ما إذا كان للشيء قوّة واستعداد يمكن له الخروج عن القوّة إلى مرتبة الفعلية بحصول ما يستعدّ له ، والأمر هنا ليس كذلك .
الرابع : أنّ مفاد الإطلاق غير مفاد العموم ، وأنّه لا يستفاد منه السريان والشيوع ـ ولو بعد جريان مقدّمات الحكمة ـ بل الإطلاق ليس إلاّ الإرسال عن القيد وعدم دخالته وهو غير السريان والشيوع .
بعض الألفاظ التي يطلق عليها المطلق :
اسم الجنس وعلمه وغيرهما:
غير خفي على الوفي : أنّ البحث عنهما وعن توضيح الحال في الماهية اللابشرط وأقسامها ومقسمها والفرق بين القسمي والمقسمي أجنبي عن مباحث الإطلاق والتقييد ; خصوصاً على ما عرفت من أنّ الإطلاق دائماً هو الإرسال عن القيد ، وليس المطلق هو الماهية اللابشرط القسمي أو المقسمي ، غير أنّا نقتفي أثر القوم في هذه المباحث ، فنقول :
وأمّا أسماء الأجناس كالإنسان والسواد وأمثالهما ، فالتحقيق : أ نّها موضوعة لنفس الماهيات العارية عن قيد الوجود والعدم وغيرهما ; حتّى التقييد بكونها عارية عن كلّ قيد حقيقي أو اعتباري ; لأنّ الذات في حدّ ذاتها مجرّدة عن كافّة القيود وزوائد الحدود .
نعم ، الماهية بما هي وإن كان لا يمكن تصوّرها وتعقّلها مجرّدة عن كافّة الموجودات لكن يمكن تصوّرها مع الغفلة عن كافّة الوجودات واللواحق ، واللاحظ في بدو لحاظه غافل عن لحاظه ، غير متوجّه إلاّ إلى مراده ومعقوله ; إذ لحاظ هذا اللحاظ البدوي يحتاج إلى لحاظ آخر ، ولا يمكن أن يكون ملحوظاً بهذا اللحاظ . فلا محالة تصير لحاظ الماهية مغفولاً عنه ، وبما أنّ غرض الواضع وهدفه إفادة نفس المعاني يكون الموضوع له نفس الماهية ، لا بما هي موجودة في الذهن .
هذا ، واللفظ موضوع لنفس الماهية بلا لحاظ السريان والشمول ; وإن كانت بنفسها سارية في المصاديق ومتّحدة معها ، لا بمعنى انطباق الماهية الذهنية على الخارج ، بل بمعنى كون نفس الماهية متكثّرة الوجود ، توجد في الخارج بعين وجود الأفراد .
وممّا يقضى منه العجب : ما أفاده بعض الأعيان من المحقّقين في «تعليقته» وملخّص كلامه : إنّه لا منافاة بين كون الماهية في مرحلة الوضع ملحوظة بنحو اللابشرط القسمي وكون الموضوع له هو ذات المعنى فقط ، فالموضوع له نفس المعنى ، لا المعنى المطلق بما هو مطلق ; وإن وجب لحاظه مطلقاً تسرية للوضع . ومثله قوله : اعتق رقبة ; فإنّ الرقبة وإن لوحظت مرسلة لتسرية الحكم إلى جميع أفراد موضوعه إلاّ أنّ الذات المحكوم بالوجوب عتق طبيعة الرقبة ، لا عتق أيّة رقبة(5) .
وفيه : أنّ الموضوع له إذا كان نفس المعنى لا يعقل سراية الوضع إلى الأفراد ، ويكون لحاظ الواضع لغواً بلا أثر ، إلاّ أن يجعل اللفظ بإزاء الأفراد ، وكذا إذا كان موضوع الحكم نفس الطبيعة لا يعقل سرايته إلى خصوصيات الأفراد ; سواء لاحظ الحاكم أفرادها أم لا . فما أفاده في كلا المقامين منظور فيه .
تقسيم الماهية إلى أقسام ثلاثة إنّ من التقسيم الدائر بينهم انقسام الماهية إلى لا بشرط وبشرط شيء وبشرط لا .
ثمّ إنّه اختلف كلمات الأعاظم في تعيين المقسم ، وأنّ الفرق بين اللابشرط المقسمي والقسمي ما هو ؟
ويظهر من بعضهم : أنّ المقسم هو نفس الماهية ، وهذه الاعتبارات واردة عليها ، كما يفصح عنه قول الحكيم السبزواري ـ قدس سره ـ (6) ، ومحصّل هذا الوجه : أنّ انقسام النوع والجنس والفصل إلى الثلاثة بالاعتبار ، وكذا افتراق الثلاثة باللحاظ أيضاً ، وأنّ الماهية إذا لوحظت مجرّدة عمّا يلحق بها تكون بشرط لا ، وإذا لوحظت مقترنة بشيء تكون بشرط شيء ، وإذا لوحظت بذاتها لا مقترنة ولا غير مقترنة تكون لا بشرط شيء .
والفرق بين اللابشرط المقسمي والقسمي هـو كون اللابشرطيـة قيداً في الثاني دون الأوّل ، كما هـو الفرق بين الجنس والمادّة والنوع ، فإن لوحـظ الحيوان لا بشرط يكون جنساً ، وإن لوحظ بشرط لا تكون مادّة ، وإن لوحظ بشرط شيء يكون نوعاً .
وقـد اغترّ بظاهـر كلماتهم أعاظم فـنّ الاُصـول ، ووقعوا في حيص وبيص في أقسام الماهيـة ، والفرق بين المقسمي والقسمي ; حتّى ذهب بعضهم إلى أنّ التقسيم للحاظ الماهية لا لنفسها(7) .
هذا ، لكن حسن ظنّي بأهل الفنّ في هذه المباحث يمنعني أن أقول : إنّ ظاهـر هـذه الكلمات مرادة لهم ، وأنّهم اقترحـوا هـذا التقسيم ومـا شابهه في مباحث الجنس والفصل ، من غير نظر إلى عالم الخـارج ونظام الكون ، وكأنّ غرضهم هو التلاعب بالمفاهيم والاعتبارات الذهنية ، من دون أن يكون لهذه الأقسام محكيات في الخارج .
أضف إلى ذلك : أنّ ملاك صحّة الحمل وعدم صحّتها عندهم هو كون الشيء المحمول لا بشرط وبشرط لا ، ولو كان هذا الملاك أمراً اعتبارياً لزم كون اعتبار شيء لا بشرط مؤثّراً في الواقع، ويجعل الشيء أمراً قابلاً للاتّحاد والحمل ، ولزم من اعتباره دفعة اُخرى بشرط لا انقلاب الواقع عمّا هو عليه .
والحاصل : أ نّه يلزم من اعتبار شخص واحد شيئاً واحداً على نحوين اختلاف نفس الواقع ، كما يلزم من اعتبار أشخاص مختلفة صيرورة الواقع مختلفاً بحسب اختلاف اعتبارهم ، فتكون ماهية واحدة متّحدة مع شيء ولا متّحدة معه بعينه .
هذا ، مع أنّ الغرض من هذه التقسيمات وكذا الحمل هو حكاية الواقع ونفس الأمر لا التلاعب بالمفاهيم واختراع اُمور ذهنية .
ومن ذلك يظهر : ضعف ما ربّما يقال من أنّ المقسم ليس هو نفس الماهية ، بل لحاظ الماهية أو الماهية الملحوظة(8) . ويقرب عنه ما أفاده بعض الأعيان في تعليقته الشريفة ، فراجع(9) .
وليت شعري أيّ فائدة في تقسيم لحاظ اللاحظ ، ثمّ أيّ ربط بين تقسيمه وصيرورة الماهية باعتباره قابلة للحمل وعدمها .
والذي يقتضيه النظر الدقيق ـ ولعلّه مراد القوم ـ هو أنّ كلّ المباحث المعنونـة في أبواب الماهية من المعقولات الثانية إنّما هي بلحاظ نفس الأمر ، وأنّ الماهية بحسب واقعها ـ الأعمّ من حدّ الذات أو مرتبة وجودها ـ لها حالات ثلاثـة ، لا تتخلّف عن واقعها ولا يرجع قسم منها إلى قسم آخر ; وإن لوحظ على خلاف واقعه ألف مرّات ; حتّى أنّ الاختلاف الواقع بين المادّة والجنس والنوع واقعي ، لا اعتباري .
أمّا انقسام الماهية بحسب نفس الأمر إلى أقسام ثلاثـة : فلأنّها إذا قيست إلى أيّ شيء :
فإمّا أن يكون ذلك الشيء لازم الالتحاق بها بحسب وجودها أو ذاتها ، كالتحيّز بالنسبة إلى الجسمية والزوجية بالنسبة إلى الأربعة ، وهذه هي الماهية بشرط شيء .
وإمّا أن يكون ممتنع الالتحاق بحسب وجودها أو ذاتها ، كالتجرّد عـن المكان والزمـان بالنسبة إلى الجسم ، والفرديـة إلى الأربعـة ، وهـذه هي الماهية بشرط لا .
وإمّا أن يكون ممكن الالتحاق ، كالوجود بالنسبة إلى الماهية ، والبياض إلى الجسم الخارجي ، فهذه هي الماهية اللابشرط .
فالماهية بحسب نفس الأمر لا تخلو عن أحد هذه الأقسام ، ولا يتخلّف عمّا هو عليه بورود الاعتبار على خلافه . وبهذا يخرج الأقسام عن التداخل ; إذ لكلّ واحد حدّ معيّن لا ينقلب عنه إلى الآخر . ويتّضح الفرق بين اللابشرط المقسمي والقسمي ; لأنّ المقسم نفس ذات الماهية ، وهي موجودة في جميع الأقسام ، واللابشرط القسمي مقابل للقسمين بحسب نفس الأمر ومضادّ لهما .
والحاصل : أنّ مناط صحّـة التقسيم هي الواقع لا اعتبار المعتبر ; فالماهية إن امتنع تخلّفها عن مقارنها في واحد من مراتب الواقع فهي بالنسبة إليه بشرط شيء ، وإن امتنع لها الاتّصاف به فهي بالنسبة إليه بشرط لا ، وإن كان له قابلية الاتّصاف واستعداده من غير لزوم ولا امتناع فهي بالنسبة إليه لا بشرط ، كالأمثلة المتقدّمة .
وما ذكرنا وإن لم أر التصريح به ، بل مخالف لظواهر كلماتهم ، إلاّ أ نّه تقسيم صحيح دائر في العلوم ، لا يرد عليه ما أوردناه على ظواهر أقوالهم .
نعم ، هذا التقسيم إنّما هو للماهية بحسب نفسها ، ولكن يمكن أن يجري في الماهية الموجودة ، بل يمكن إجراؤه في نفس وجودها ، وقد أجراه بعض أهل الذوق في بعض العلوم في حقيقة الوجود(10) ، ولا يقف على مغزاه إلاّ من له قدم راسخ في المعارف الإلهية .
وأمّا كون الاختلاف بين المادّة والجنس والنوع أمراً واقعياً : فتفصيله وإن كان موكولاً إلى محلّه وأهله إلاّ أنّ مجمله ما يلي ; وهو أنّ تقسيم الماهية إلى الأجناس والفصول بلحاظ الواقع ونفس الأمر ، وأنّ الاختلاف بين المادّة والجنس والنوع واقعي ، والمادّة متّحدة مع الصورة التي تبدّلت إليها ، والتركيب بينهما اتّحادي ، وتكون المادّة المتّحدة بالصورة ، والصورة المتّحدة معها نوعاً من الأنواع ، والمادّة التي قابلة لصورة اُخرى تكون منضمّة إلى الصورة الموجودة ، والتركيب بينهما انضمامي لا اتّحادي .
وتكون تلك المادّة بالنسبة إلى الصورة المتحقّقة بشرط لا ; لعدم إمكان اتّحادها بها ، وبالنسبة إلى الصورة التي تستعدّ لتبدّلها إليها لا بشرط شيء ; لإمكان تبدّلها بها .
مثلاً : المادّة التي تبدّلت بصورة النواة وصارت فعليتها متّحدة معها تركيبهما اتّحادي ، بل إطلاق الاتّحاد أيضاً باعتبار ظرف التحليل والتكثّر ، وإلاّ فبعد صيرورة القوّة النواتية فعلية لا تكون في الخارج إلاّ فعليتها ، والقوّة ليست بحدّها موجودة فيها ، وإن كانت الفعلية واجدة لها وجدان كلّ كمال للضعيف .
والمادّة المستعدّة في النواة لقبول صورة الشجر تكون منضمّة إلى الصورة النواتية وتركيبهما انضمامي لا اتّحادي ، وتكون لا بشرط بالنسبة إلى الصورة الشجرية ; لإمكان اتّحادها بهما ، وبشرط لا بالنسبة إلى تلك الصورة الشخصية النواتية المتحقّقة ; لعدم إمكان اتّحادها معها .
فتحصّل : أنّ في النواة مادّة متّحدة ومادّة منضمّة ، ومأخذ الجنس والفصل والنوع هو الواقع المختلف بحسب نفس الأمر ، فلا يكون شيء من اعتبارات الماهية لا في باب الأجناس والفصول والموادّ والصور ، ولا في باب الأقسام الثلاثة لها ; اعتباراً جزافاً وتلاعباً محضاً .
هذا، ولكن تفصيل هذه المباحث يطلب من مقارّه وعند أهله . وقد مرّ ما ينفعك في المقام في بحث المشتقّ(11) .
البحث في علم الجنس وهو كـ «اُسامة» و«ثعالة» ، فلا إشكال في أ نّه يعامل معه معاملة المعرفة ، فيقع مبتدأ وذا حال ويوصف بالمعرفة .
والمنقول هنا في إجراء أحكام المعرفة عليه وجهان :
الأوّل : أنّ تعريفه تعريف لفظي ، كالتأنيث اللفظي ، ومفاده عين مفاد اسم الجنس بلا فرق بينهما .
الثاني : أنّه موضوع للطبيعة لا بما هي هي ، بل بما هي متصوّرة ومتعيّنة بالتعيّن الذهني .
وأورد عليه المحقّق الخراساني : من أ نّه يمتنع حينئذ أن ينطبق على الخارج ويحتاج إلى التجريد عند الاستعمال ويصير الوضع لغواً(12) .
وأجاب عنه شيخنا العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ بأنّ اللحاظ حرفي لا اسمي ، وهو لا يوجب امتناع انطباقه على الخارج(13) .
وفيه : أنّ كون اللحاظ حرفياً لا يخرجه عن كون موطنه هو الذهن ، فلا محالة يتقيّد الطبيعة بأمر ذهني وإن كان مرآة للخارج ، ولكن ما ينطبق على الخارج هو نفس الطبيعة لا المتقيّدة بأمر ذهني .
وكون اللحاظ مرآتياً ليس معناه عدم تقيّدها به أو كون وجوده كعدمه ; إذ بأيّ معنى فسّر هذا اللحاظ فلا محالة يكون علم الجنس متقوّماً به حتّى يفترق عن اسمه ، والمتقوّم بأمر ذهني لا ينطبق على الخارج .
ويمكن أن يقال : إنّ الماهية في حدّ ذاتها لا معرفة ولا نكرة ، لا متميّزة ولا غير متميّزة ، بل تعدّ هـذه مـن عوارضها كالوجـود والعدم ; لأنّ التعريف في مقابل التنكير عبارة عن التعيّن الواقعي المناسب لوعائه ، والتنكير عبارة عن اللاتعيّن كذلك .
على أنّ واحداً من التعريف والتنكير لو كان عين الطبيعة أو جزئها يمتنع عروض الآخر عليها. فحينئذ لا بأس بأن يقال : إنّ اسم الجنس موضوعة لنفس الماهية التي ليست معرفة ولا نكرة ، وعلم الجنس موضوع للماهية المتعيّنة بالتعيّن العارض لها ; متأخّراً عن ذاتها في غير حال عروض التنكير عليها .
وبالجملة : اسم الجنس موضوع لنفس الماهية ، وعلم الجنس موضوع للطبيعة بما هي متميّزة من عند نفسها بين المفاهيم ، وليس هذا التميّز والتعيّن متقوّماً باللحاظ ، بل بعض المعاني بحسب الواقع معروف معيّن ، وبعضها منكور غير معيّن .
وليس المراد من التعيّن هو التشخّص الذي يساوق الوجود ; حتّى يصير كالأعلام الشخصية ، بل المراد منه التعيّن المقابل للنكارة . فنفس طبيعة الرجل لا تكون نكرة ولا معرفة ، فكما أنّ النكارة واللاتعيّن تعرضها ، كذلك التعريف والتعيّن ; فالتعريف المقابل للتنكير غير التشخّص .
فظهر : أنّ الماهية بذاتها لا معروف ولا منكور ، وبما أ نّها معنى معيّن بين سائر المعاني وطبيعة معلومة في مقابل غير المعيّن معرفة .
فـ «اُسامة» موضوعة لهذه المرتبة ، واسم الجنس لمرتبة ذاتها ، وتنوين التنكير يفيد نكارتها ، واللاتعيّن ملحق بها كالتعيّن .
ثمّ الظاهر : أنّ اللام وضعت مطلقاً للتعريف ، وأنّ إفادة العهد وغيره بدالّ آخر ، فإذا دخلت على الجنس وعلى الجمع تفيد تعريفهما وأفادت الاستغراق ; لأنّ غير الاستغراق من سائر المراتب لم يكن معيّناً ، والتعريف هو التعيين ، وهو حاصل مع استغراق الأفراد لا غير .
وما ذكرنا في عَلم الجنس غير بعيد عـن الصواب ; وإن لم يقم دليل على كونـه كذلك ، لكن مع هذا الاحتمال لا داعي للذهاب إلى التعريف اللفظي البعيد عـن الأذهان .
الكلام في النكرة :
فالظاهر : أنّها دالّة بحكم التبادر على الطبيعة اللامعيّنة ـ أي المتقيّدة بالوحدة بالحمل الشائع ـ لكن بتعدّد الدالّ ; فالمدخول دالّ على الطبيعة والتنوين على الوحدة . وعليه فهي كلّي قابل للصدق على الكثيرين ; سواء وقع في مورد الإخبار ، نحو «جاءني رجل» أم في مورد الإنشاء ، نحو «جئني برجل» .
وما يقال : من أنّ الأوّل جزئي ; لأنّ نسبة المجيء إليه قرينة على تعيّنه في الواقع ; ضرورة امتناع صدور المجيء عن الرجل الكلّي(14) ، غير تامّ ; لأنّ المتعيّن الذي يستفاد عن القرينة الخارجية ـ كما في المقام ـ لا يخرج النكرة عن الكلّية .
ومن هنا يظهر النظر في كلمات شيخنا العلاّمة ، أعلى الله مقامه(15) .
مقدّمات الحكمة:
قد عرفت : أنّ الإطلاق في مقام الإثبات عبارة عن كون الشيء تمام الموضوع للحكم إذا كان مصبّ الإطلاق نفس المتعلّق أو الموضوع ، أو كون الحكم مرسلاً عن القيد إذا كان مصبّه نفس الحكم .
وعلى أيّ حال : لا يحتاج إلى لحاظ السريان والشياع ; إذ فيه ـ مضافاً إلى أ نّه أمر غير مفيد في حكاية الطبيعة عن الأفراد كما مرّ(16) ـ أ نّه لا وجه لهذا اللحاظ ، بل الإطلاق ينعقد بدونه، ويتمّ الحجّة ; وإن لم يكن المقنّن لاحظاً سريانه .
فلا مجـال لما أفاده المحقّق الخـراساني مـن أنّ مقـدّمات الحكمـة تثبت الشياع والسريان(17) .
وما ربّما يتوهّم : من لزوم لحاظ حالات الطبيعة بمعنى ثبوت الحكم عند كلّ حالة وحالة ; لامتناع الإهمال الثبوتي ، مدفوع بما حقّقناه في مبحث الترتّب ، فراجع .
والأولى : صرف عنان البحث إلى مقدّمات الحكمة المعروفة ; وهي ثلاثة نبحث عن كلّ واحدة مستقلاًّ .
الاُولى : إحراز كون المتكلّم في مقام بيان تمام المراد ، والظاهر لزوم وجود هذه المقدّمة في الإطلاق ; ضرورة أنّ الدواعي لإلقاء الحكم مختلفة ; فربّما يكون الداعي هو الإعلان بأصل وجوده مع إهمال وإجمال ، فهو حينئذ بصدد بيان بعض المراد ، ومعه كيف يحتجّ به على المراد ؟ وربّما يكون بصدد بيان حكم آخر .
وعليه : لابدّ من ملاحظة خصوصيات الكلام المحفوف بها ومحطّ وروده وأنّه في صدد بيان أيّ خصوصية منها ; فربّما يساق الكلام لبيان إحدى الخصوصيات دون الجهات الاُخر ، فلابدّ من الاقتصار في أخذ الإطلاق على المورد الذي أحرزنا وروده مورد البيان ، ولذلك يجب إعمال الدقّة في تشخيص مورد البيان .
هذا ، وقد خالف في لزوم هذه المقدّمة شيخنا العلاّمة ـ قدس سره ـ ; حيث ذهب إلى عدم لزوم إحراز كونه في مقام بيان مراده ; مستدلاًّ بأنّه لو كان المراد هو المقيّد تكون الإرادة متعلّقة به بالأصالة ، وإنّما ينسب إلى الطبيعة بالتبع . وظاهر قول القائل «جئني برجل» هو أنّ الإرادة متعلّقة بالطبيعة أوّلاً وبالذات ، وليس المراد هو المقيّد(18) ، انتهى .
وفيه : أنّه غير تامّ ; لأنّ ما ذكره من ظهور الإرادة في الأصلية لا التبعية مستفاد من هذه المقدّمة ; إذ لولاها فما الدليل على أنّ المقيّد غير مراد ، وأنّ المراد بالأصالة الطبيعة ; إذ يحتمل لولا هذه المقدّمة أنّ هنا قيداً لم يذكره المولى . فإحراز كون الطبيعة وارداً مورد الإرادة بالأصالة فرع إحراز كونه في مقام البيان دون الإهمال والإجمال ; لأنّ هذا ليس ظهوراً لفظياً مستنداً إلى الوضع ، بل هو حكم عقلائي بأنّ ما جعل موضوع الحكم هو تمام مراده لا بعضه ، ولا يحكم العقلاء به ولا يتمّ الحجّة إلاّ بعد تمامية هذه المقدّمة ; فيحتجّ العقلاء عليه بأنّ المتكلّم كان في مقام البيان ، فلو كان شيء دخيلاً في موضوعيته له كان عليه البيان . فجعل هذا موضوعاً فقط يكشف عن تماميته .
المقدّمة الثانية : وهي عدم وجود قرينة معيّنة للمراد ، ولا يخفى أ نّها محقّقة لمحلّ البحث ; لأنّ التمسّك بالإطلاق عند طريان الشكّ ، وهو مع وجود ما يوجب التعيين مرتفع ، فلو كان في المقام انصراف أو قرينة لفظية أو غيرها فالإطلاق معدوم فيه بموضوعه .
وبالجملة : فهي محقّقة لموضوع الإطلاق ، لا من شرائطه ومقدّماته .
المقدّمة الثالثة : عدم وجود قدر متيقّن في البين حتّى يصحّ اتّكال المولى عليه .
والظاهر : أنّ هذه المقدّمة غير محتاجة ; سواء فسّرنا الإطلاق بما تقدّم ذكره أو بما عليه المشهور من جعل الطبيعة مرآة لجميع أفرادها :
أمّا على المختار : لأنّ القدر المتيقّن إنّما يضرّ في مورد يتردّد الأمـر بين الأقلّ والأكثر ; بأن يتردّد بين تعلّق الحكم ببعض الأفراد أو جميعها ، مع أنّ الأمر في باب الإطلاق ليس كذلك ، بل هو دائر بين تعلّق الحكم بنفس الموضوع مـن غير دخالة شيء آخر فيه ، أو بالمقيّد . فيدور الأمر بين كون الطبيعة تمام الموضوع أو المقيّد تمامه .
فإذا كانت الطبيعة تمام الموضوع لم يكن القيد دخيلاً ، ومع دخالته يكون الموضوع هو المقيّد بما هو مقيّد ، ولا يكون ذات الموضوع محكوماً والقيد محكوماً آخر حتّى يكون من قبيل الأقلّ والأكثر ، وكذا لو جعل المتقيّد موضوعاً وشكّ في دخالة قيد آخر لا يكون من قبيلهما . فلا يدور الأمر بين الأقلّ والأكثر في شيء من الموارد حتّى يعتبر انتفاء القدر المتيقّن .
هذا كلّه على المختار في باب الإطلاق ; من عدم كون الطبيعة مرآة للأفراد ، ولا وسيلة إلى لحاظ الخصوصيات وحالاتها وعوارضها .
وأمّا إذا قلنا بمقالة المشهور ; من جعلها مرسلة ومرآة لجميع الأفراد ، والمقيّد عبارة عن جعلها مرآة لبعضها فلاعتبار انتفائه من المقدّمات وجه .
ولكنّه أيضاً لا يخلو من إشكال ، وتوضيحه : أنّ مبنى الإطلاق ـ لو كان ـ هو لحاظها مرآة للكثرات ، فلا معنى لجعلها مرآة لبعض دون بعض مع كون جميع الأفراد متساوية الأقدام في الفردية ، وعدم قيام دليل صالح لقصر المرآتية على المتيقّن غير الانصراف القطعي . فلو فرضنا سبق السؤال عن المعاطاة قبل الجواب : بأنّ الله أحلّ البيع لما يضرّ هذا المتيقّن بالإطلاق .
وبالجملة : كونها مرآة لبعضها لا يصحّ إلاّ مع القيد ، وإلاّ فيحكم العقلاء بأنّ موضوع حكمه هو الطبيعة السارية في جميع المصاديق لا المتقيّدة ; ولهذا ترى أنّ العرف والعقلاء لا يعتنون بالقدر المتيقّن في مقام التخاطب وغيره ما لم يصل إلى حدّ الانصراف ، فتدبّر .
إشكال ودفع :
ربّما يتوهّم : أنّ ورود القيد على المطلق بعد برهة من الزمن يكشف عن عدم كون المتكلّم في مقام البيان ، وانخرام هذه المقدّمة ـ التي قد عرفت أ نّها روح الإطلاق ـ يوجب عدم جواز التمسّك به في سائر القيود المشكوك فيهما .
والجواب : أنّ المطلق كالعامّ مستعمل في معناه الموضوع له لأجل ضرب القانون وإعطاء الحجّة ، والأصل هو التطابق بين الإرادتين .
فكما أنّ خروج فرد من حكم العامّ بحسب الجدّ لا يوجب بطلان حجّية العامّ في البواقي فهكذا باب المطلق بحسب القيود ; لأنّ جعل الطبيعة في مقام البيان موضوعاً لحكمه إعطاء حجّة على العبد عند العقلاء على عدم دخالة قيد فيه ، لأجل أصالة التطابق بين الإرادتين .
فحينئذ : لو عثرنا على قيد لا يوجب ذلك سقوطه عن الحجّية ، وكون الكلام وارداً مورد الإجمال والإهمال بالنسبة إلى سائر القيود ; ولذلك ترى العقلاء يتمسّكون بالإطلاق ; وإن ظفروا على قيد بعد برهة من الزمن ، وإنّما العثور على القيد يوجب انتهاء أمد حجّية الإطلاق بالنسبة إلى نفي القيد المعثور عليه ، لا جميع القيود المشكوك فيها .
حلّ عقدة :
ربّما يقال : إنّ التمسّك بالإطلاق في نفي دخالة القيود إنّما يصحّ إذا وقع المطلق في كلام من عادتـه إلحاق قيود الكلام بأصوله ، كمـا هو الحـال في الموالي العرفية ، وأمّا المطلقات الواردة في محاورات من استقرّت عادته على تفريق اللواحق عن الاُصول وتفكيك المطلق عن مقيّده فساقطة عن مظانّ الاطمئنان ; لأنّا علمنا أنّ دأب قائله جار على حذف ما له دخالة في موضوع الحكم عن مقام البيان .
والجواب : أنّ ما ذكره لا يوجب إلاّ عدم جواز التمسّك بالإطلاق قبل الفحص عن مقيّده ، وأمّا التمسّك به بعد الفحص بمقدار لازم فلا يمنع عنه هذا الدليل .
تتميم : في الأصل عند الشكّ في مقام البيان:
لا شكّ : أنّ الأصل في الكلام كون المتكلّم في مقام بيان كلّ ما له دخل في حكمه بعد إحراز كونه في مقام بيان الحكم ، وعليه جرت سيرة العقلاء في المحاجّات . نعم لو شكّ أ نّه في مقام بيان هذا الحكم أو حكم آخر فلا أصل هنا لإحراز كونه في مقام بيان هذا الحكم .
والحاصل : أنّ الأصل بعد إحراز كونه بصدد بيان الحكم هو أ نّه بصدد بيان كلّ ما له دخالة في موضوع حكمه ، في مقابل الإجمال والإهمال ، وأمّا كونه بصدد بيان هذا الحكم أو غيره فلا أصل فيه ، بل لابدّ أن يحرز وجداناً أو بدليل آخر ، كشواهد الحال وكيفية الجواب والسؤال .
حمل المطلق على المقيّد : الصور المتصوّرة في ورود المطلق والمقيّد :
إذا ورد مطلق ومقيّد : فإمّا أن يكونا متكفّلين للحكم التكليفي أو الوضعي .
وعلى التقديـرين : فإمّـا أن يكونا مثبتين أو نافيين أو مختلفين .
وعلى التقادير : فإمّـا أن يعلم وحـدة التكليف أو لا .
وعلى الأوّل : فإمّا أن يعلم وحدتـه مـن الخارج أو مـن نفس الـدليلين .
وعلى التقادير : فإمّـا أن يـذكر السبب فيهما أو في واحـد منهما أو لا يـذكر .
وعلى الأوّل : فإمّـا أن يكون السبب واحـداً أو لا .
ثمّ الحكم التكليفي إمّا إلزامي في الـدليلين أو غير إلـزامي فيهما أو مختلف .
وعلى التقادير : قـد يكون الإطلاق والتقييد في الحكم ومتعلّقـه وموضوعـه وقد يكونان في اثنين منها وقـد يكونان في واحد منها .
فهذه جملـة الصور المتصوّرة في المقام .
تحرير محطّ البحث :
وقبل الشروع في أحكام الصور نشير إلى نكتة : وهو أنّ محطّ البحث في الإطلاق والتقييد وحمل أحدهما على الآخر إنّما هو فيما إذا ورد المقيّد منفصلاً عن مطلقه ، وأمّا المتّصلين فلا مجال للبحث فيهما ; لأنّ القيد المتّصل يمنع عن انعقاد الإطلاق حتّى يكون من باب تعارض المطلق والمقيّد ; لما عرفت أنّ عدم القرينة من محقّقات موضوع الإطلاق(19) .
وبما ذكرنا : يظهر الخلط في كلام بعض الأعاظم ; حيث عمّم البحث إلى الوصف والحال ، وقال : إنّ ملحقات الكلام كلّها قرينة حاكمة على أصالة الظهور في المطلق ، وقاس المتّصلين بالقرينة وذي القرينة في أنّ ظهور القرينة حاكمة على ذي القرينة ، ثمّ قاس المقيّد المنفصل بالمتّصل(20) .
قلت وفيه أ مّا أوّلاً : فلأنّ باب الإطلاق ليس باب الظهور اللفظي حتّى يقع التعارض بين الظهورين أو يقدّم ظهور المقيّد على ظهور المطلق بالحكومة ، بل الإطلاق دلالة عقلية ، والحكومة ـ كما سيوافيك بإذنه تعالى ـ من حالات لسان الدليل بأن يتعرّض لحال دلالة الدليل الآخر(21) .
وثانياً : فإنّ حكومـة ظهور القرينة على ذي القرينـة ممّا لا أساس لها ; ضرورة أنّ الشكّ في ذي القرينة لا يكون ناشئاً من الشكّ في القرينة ; إذ في قوله :
«رأيت أسداً يرمي» لا يكون الشكّ في المراد من الأسد ناشئاً من الشكّ في المراد من يرمي ، كما ادّعى القائل ، بل الشكّان متلازمان ، فلا حكومة بينهما .
وثالثاً : فإنّ قياس المقيّد المنفصل بالمتّصل ممّا لا وجه له ; إذ القياس مع الفارق ; لأنّ الإطلاق ينعقد مع انفصال القيد إذا اُحرز كونه في مقام البيان ، وأمّا القيد المتّصل فهو رافع لموضوع الإطلاق ، فلا يقاس متّصله بمنفصله .
وأمّا وجه التقديم في المنفصلين فليس لأجل الحكومة ، بل المطلق إنّما يكون حجّة إن لم يرد من المتكلّم بيان ، وبعد ورود البيان ينتهي أمد الحجّية لدى العقلاء .
وإن شئت قلت : ظهور القيد في الدخالة أقوى من المطلق في الإطلاق ، وهذه الأظهرية ليست لفظية بل أمراً يرجع إلى فعل المتكلّم إذا جعل شيئاً موضوعاً ثمّ أتى بقيد منفصل ، كما أنّ تقديم ظهور القرينة على ذي القرينة للأظهرية أو مناسبات المقام لا للحكومة ، وسيوافيك حقيقة القول في هذه المباحث في التعادل والترجيح(22) ، فتربّص حتّى حين .
إذا عـرفت ذلك : فنشرع في بيان مهمّات الصور وأحكـامها حتّى يتّضـح حال غيرها :
أحكام الصور المهمّة في المسألة :
الصورة الاُولى : ما إذا كانا مختلفين بالنفي والإثبات وكان الحكم تكليفياً ، وهي على قسمين :
الأوّل : ما إذا كان المطلق نافياً والمقيّد مثبتاً ، نحو قولك : «لا تعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة» بناءً على أنّ قولـه : «لا تعتق رقبـة» مـن قبيل المطلق لا العامّ ،كما هو المختار . فلا ريب في حمله على المقيّد ; لتحقّق التنافي بينهما عرفاً ; وذلك لما عرفت أنّ ترك الطبيعة إنّما يحصل عند العرف بترك جميع أفرادها ; وإن كان النظر الدقيق الفلسفي يقتضي خلافه ، كما مرّ(23).
وعليه : فالتنافي بين حرمة مطلق الرقبة أو كراهتها ، وبين وجوب المؤمنة منها أو استحبابها ظاهر جدّاً ، والجمع العقلائي إنّما هو حمل مطلقها على مقيّدها .
الثاني : عكس القسم الأوّل ; أي يكون المطلق مثبتاً ومتعلّقاً للأمر والمقيّد نافياً ومتعلّقاً للنهي .
فحينئذ : تارة نعلم أنّ النهي تحريمي أو نعلم أ نّه تنزيهي ، واُخرى لا نعلم . فلو علمنا كون النهي تحريمياً فلا ريب في حمله على المقيّد ; لكونه طريقاً وحيداً إلى الجمع في نظر العرف . ولو علمنا أنّ النهي تنزيهي فهل يحمل على المقيّد أو لا ؟ وجهان : أقواهما عدمه ; لأنّ الموجب للحمل هو تحقّق التنافي في أنظار العرف حتّى نحتال في علاجهما ، ومع إحراز كون النهي تنزيهياً ـ أي مرخّصاً في إتيان متعلّقه ـ فلا وجه لتوهّم التنافي ، بل غاية الأمر يكون النهي إرشاداً إلى أرجحية الغير أو مرجوحية متعلّقه بالإضافة إلى فرد آخر .
فلو قال : «صلّ ولا تصلّ في الحمّام» وفرضنا أنّ النهي تنزيهي فلا شكّ أنّ مفاد الثاني هو ترخيص إتيانها فيه ، وأ نّه راجح ذاتاً وصحيح لمكان الترخيص ، لكنّه مرجوح بالإضافة إلى سائر الأفراد ، ولا يلزم من ذلك اجتماع الراجحية والمرجوحية في مورد واحد ; لما عرفت أنّ المرجوحية لأجل قياسها إلى سائر الأفراد وفي المكان الخاصّ ، لا في حدّ ذاته .
وبذلك يظهر النظر فيما أفاده شيخنا العلاّمة ، أعلى الله مقامه ، فراجع(24) .
وأمّا إذا كان كيفية دلالته مجهولة ولم نعلم أ نّه للتنزيه أو للتحريم فللتوقّف فيه مجال ; فإنّ كلّ واحد يصلح أن يقع بياناً للآخر ; إذ النهي كما يمكن أن يكون بياناً لإطلاق المطلق ويقيّد متعلّق الأمر بمقتضى النهي ، كذلك يصلح أن يكون المطلق بياناً للمراد من النهي ، وأنّه تنزيهي .
والحاصل : أنّ الأمر دائر بين حمل النهي على الكراهة وحفظ الإطلاق ، وبين رفع اليد عن الإطلاق وحمله على المقيّد .
هذا ، ولكن الأظهر هو حمل المطلق على المقيّد وإبقاء النهي على ظهوره ; لأنّ التنافي كما هو عرفي كذلك الجمع عرفي أيضاً ، ولا شكّ أنّ لحاظ محيط التشريع يوجب الاستئناس والانتقال إلى كونهما من باب المطلق والمقيّد ; لشيوع ذلك الجمع وتعارفه بينهم .
وأمّا جعل المطلق بياناً للنهي وأنّ المراد منه هو الكراهة فهو جمع عقلي لا يختلج بباله ; لعدم معهودية هذا التصرّف .
ويمكن أن يقال : إنّ الهيئات بما هي معان حرفية لا يلتفت إليها الذهن حين التفاته إلى المطلق والمقيّد والجمع بينهما . وكيف كان فلا ينبغي الإشكال في حمل المطلق على المقيّد في هذه الصورة .
وأمّا ما ربّما يقال في ترجيح ما اخترناه : من أنّ ظهور النهي في التحريم وضعي مقدّم على الظهور الإطلاقي ، غير تامّ ; لما عرفت(25) أنّ الوجوب والتحريم خارجان عن الموضوع له ، وأنّ الهيئة لم توضع فيهما إلاّ للبعث والزجر ، فأين الظهور اللفظي ؟ !
فإن قلت : إنّ هنا وجهاً آخر للجمع بينهما ، وقد أشار إليه بعض الأعاظم ، وجعل المقام من باب اجتماع الأمر والنهي(26) ـ على القول بكون المطلق والمقيّد داخلين في ذاك الباب ـ فلو قلنا بالجواز هناك يرفع التعارض بين المطلق والمقيّد .
قلت : الفرق بين المقامين واضح ; فإنّ التعارض هنا عرفي كجمعه ، والتعارض هناك عقلي ، وجمعه أيضاً كذلك .
والحاصل : أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي عقلية غير مربوطة بالجمع بين الأدلّة ; لأنّ مناط الجمع بينها هو فهم العرف ، ولا شبهة في وقوع التعارض بين المطلق والمقيّد عرفاً ، وطريق الجمع عرفي لا عقلي ، فلا يكون أحد وجوه الجمع بين الأدلّة الجمع العقلي ، وهذا واضح .
الصورة الثانية : ما إذا كان الدليلان مثبتين إلزاميين ، نحو قولك : «اعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة» فحينئذ إذا اُحرزت وحدة الحكم فلا محيص عن الحمل ; لإحراز التنافي بإحراز وحدة الحكم ، ووجود الجمع العرفي .
نعم ، إذا كانت وحدة الحكم غير محـرزة : فتارة يحـرز كـون الحكم في المطلق على نفس الطبيعة ، ولا نحتمل دخالـة قيد آخـر في الموضوع ، غير القيد الذي في دليل المقيّد ، واُخرى : نحتمل دخالة قيد آخر .
فعلى الأوّل : يحمل المطلق على المقيّد ، لا لما ربّما يتراءى في بعض الكلمات من أنّ إحراز التنافي لأجل أنّ الحكم في المقيّد إذا كان إلزامياً متعلّقاً بصرف الوجود فمفاده عدم الرضا بعتق المطلق ، ومفاد دليل المطلق هو الترخيص بعتقه . وبعبارة اُخرى : أنّ مفاد دليل المقيّد دخالة القيد في الحكم ومفاد دليل المطلق عدم دخالته ، فيقع التنافي بينهما(27) ، انتهى .
لأنّ التنافي بين الترخيص واللاترخيص ودخالة القيد ولا دخالته فرع كون الحكم في المقام واحداً ، فلو توقّف إحراز وحدته عليه لدار .
بل وجه التقديم هو أنّ ملاحظة محيط التشريع وورود الدليلين في طريق التقنين توجب الاطمئنان بكونهما من هذا القبيل ; خصوصاً مع تكرّر تقييد المطلقات من الشارع . نعم ، الأمر في المستحبّات على العكس ; فإنّ الغالب فيها كون المطلوب متعدّداً وذا مراتب .
وهناك وجه آخر ; وهو أنّ إحراز عدم دخالة قيد آخر غير هذا القيد عين إحراز الوحدة عقلاً ; لامتناع تعلّق الإرادتين على المطلق والمقيّد ; لأنّ المقيّد هو نفس الطبيعة مع قيد عينية اللابشرط مع بشرط شيء ، فاجتماع الحكمين المتماثلين فيهما ممتنع ، فيقع التنافي بينهما ، فيحمل المطلق على المقيّد ، ولا ينافي ذلك ما مرّ من أنّ ميزان الجمع بين الأدلّة هو العرف ; لأنّ إحراز وحدة الحكم إنّما هو بالعقل لا الجمع بين الدليلين ، والفرق بينهما ظاهر .
وأمّا على الثاني ـ أي ما لم نحـرز عـدم دخالـة قيد آخـر ـ فيدور الأمر بين حمل المطلق على المقيّد ورفع اليد عن ظهور الأمر في استقلال البعث ، وبين حفظ ظهور الأمر وكشف قيد آخـر في المطلق ; حتّى يجعلـه قابلاً لتعلّق حكم مستقلّ به .
هذا ، ولكن الصحيح هو الأوّل لضعف ظهور الأمر في الاستقلال ، ولا يمكن الاعتماد عليه لكشف قيد آخر .
نعم ، لو اُحرز تعدّد الحكم واستقلال البعثين لا محيص عن كشف قيد آخر ; لامتناع تعلّق الإرادتين بالمطلق والمقيّد ، وقد تقدّم شرحه في مبحث النواهي .
الصورة الثالثة : ما إذا كان الدليلان نافيين ، كقوله : «لا تشرب الخمر ولا تشرب المسكر» ، ولا ريب في عدم حمل مطلقه على المقيّد ; لعدم التنافي بينهما عرفاً ـ على القول بعدم المفهوم ـ والحجّة لا يرفع اليد عنها إلاّ بحجّة مثلها ، ولكن يمكن أن يقال بأ نّه يأتي فيها ما ذكرناه في الصورة السابقة ، فتدبّر .
هذه الصور تشترك في أنّ الوارد إلينا ذات المطلق والمقيّد بلا ذكر سبب .
وأمّا إذا كان السبب مذكوراً فلا يخلو :
إمّا أن يذكر في واحد منهما أو كليهما ، وعلى الثاني : إمّا أن يتّحد السببان ماهية أو يختلفا كذلك، وعلى جميع التقادير فالحكم فيهما : إمّا إيجابي أو غير إيجابي أو مختلف .
فهنا صور نشير إلى مهمّاتها :
منها : ما إذا كان السبب مذكوراً في كلا الدليلين ، وكان سبب كلّ غير سبب الآخر ماهية ، نحو قوله : «إن ظاهرت أعتق رقبة» ، و«إن أفطرت فاعتق رقبة مؤمنة» ، فلا شكّ أ نّه لا يحمل; لعدم التنافي بينهما ; لإمكان وجوب عتق مطلق الرقبة لأجل سبب ووجوب مقيّدها لأجل سبب آخر .
نعم لو أعتق رقبة مؤمنة ففي كفايتها عنهما أو عدم كفايتها كلام مرّ تحقيقه في مباحث تداخل المسبّبات والأسباب .
ومنها : ما إذا ذكر السبب في كلّ واحد أيضاً ، ولكن سبب المطلق عين سبب المقيّد ماهية فيحمل ; لاستكشاف العرف من وحدة السبب وحدة مسبّبه .
ومنها : ما إذا كان السبب مذكوراً في واحد منهما ، فالتحقيق عدم الحمل . وعلّله بعض الأعاظم بأنّ الحمل يستلزم الدور ; لأنّ حمل المطلق على المقيّد يتوقّف على وحدة الحكم ، ففي المثال تقييد الوجوب يتوقّف على وحدة المتعلّق ; إذ مع تعدّدهما لا موجب للتقييد ، ووحدة المتعلّق تتوقّف على حمل أحد التكليفين على الآخر ; إذ مع عدم وحدة التكليف لم تتحقّق وحدة المتعلّق ; لأنّ أحد المتعلّقين عتق الرقبة المطلقة ، والآخر عتق الرقبة المؤمنة(28) ، انتهى .
وفيه : أنّ وحدة الحكم وإن كانت تتوقّف على وحدة المتعلّق لكن وحدة المتعلّق لا تتوقّف على وحدة الحكم ; لا ثبوتاً ولا إثباتاً :
أ مّا الأوّل : فلأنّ وحدة الشيء وكثرته أمر واقعي في حدّ نفسه ; تعلّق به الحكم أو لا ، وبما أنّ المقيّد في المقام هو المطلق مع قيد فلا محالة لا يمكن أن يقع متعلّقاً للإرادتين وموضوعاً للحكمين .
وأمّا الثاني : فلأنّ تعلّق الحكم في المطلق بنفس الطبيعة يكشف عن كونها تمام الموضوع للحكم، فإذا تعلّق حكم بالمقيّد ـ والفرض أ نّه نفس الطبيعة مع قيد ـ يكشف ذلك عن كون النسبة بين الموضوعين بالإطلاق والتقييد ، من غير أن يتوقّف على إحراز وحدة الحكم .
بل التحقيق : أنّ عدم الحمل إنّما هو لأجل أنّ المطلق حجّة في موارد عدم تحقّق سبب المقيّد ، فقوله : «اعتق رقبة» حجّة على العبد على إيجاد العتق مطلقاً ، ولا يجوز رفع اليد عنها بفعلية حكم قوله : «إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة» عند تحقّق سببه .
وبعبارة اُخرى : أنّ العرف يرى أنّ هنا واجباً لأجل الظهار ، وواجباً آخر من غير سبب ولا شرط ; حصل الظهار أم لا .
هذا كلّه راجع إلى الحكم التكليفي .
وأمّا الوضعي : فيظهر حاله من التدبّر فيه ; فربّما يحمل مطلقه على مقيّده ، نحو قوله : «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه» ، ثمّ قال : «صلّ في وبر السباع ممّا لا يؤكل» ، وقوله : «اغسل ثوبك من البول» ، وقوله : «اغسله من البول مرّتين» .
وقد لا يحمل ، كما إذا قال : «لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه» ، ثمّ قال منفصلاً : «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل لحمه» ; لعدم المنافاة بين مانعية مطلق أجزائه ومانعية خصوص وبره بعد القول بعدم المفهوم في القيد المأخوذ فيه حتّى يجيء التنافي من قِبَله ، وعليك بالتأمّل في الصور الاُخرى واستخراج حكمها ممّا ذكر .
هذا كلّه في الإلزاميين ، وأمّا غيرهما فيختلف بحسب الموارد ، ولا يهمّنا تفصيله .
_____________
1 ـ معالم الدين : 150 ، قوانين الاُصول 1 : 321 / السطر16 ، الفصول الغروية : 217 / السطر 36 .
2 ـ نهاية الأفكار 1 : 559 .
3 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 313 .
4 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 317 ـ 318 .
5 ـ نهاية الدراية 2 : 493 ـ 494 .
6 ـ مخلوطة ، مطلقة ، مجرّدة عند اعتبارات عليها واردة
شرح المنظومة ، قسم الحكمة : 95 .
7 ـ لمحات الاُصول : 337 .
8 ـ نفس المصدر .
9 ـ نهاية الدراية 2 : 492 ـ 494 .
10 ـ شرح فصوص الحكم ، القيصري : 22 .
11 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 166 .
12 ـ كفاية الاُصول : 283 ـ 284 .
13 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 232 .
14 ـ كفاية الاُصول : 285 .
15 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 233 .
16 ـ تقدّم في الصفحة 262 .
17 ـ كفاية الاُصول : 287 .
18 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 234 .
19ـ تقدّم في الصفحة 273 .
20 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 579 .
21 ـ راجع الاستصحاب ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 234 .
22 ـ التعادل والترجيح ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 73 ـ 78 .
23 ـ تقدّم في الصفحة 11 .
24 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 236 .
25 ـ تقدّم في الصفحة 10 .1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 582 .
26 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 581 ـ 584 .
27 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 580 ـ 581 .
|
|
دخلت غرفة فنسيت ماذا تريد من داخلها.. خبير يفسر الحالة
|
|
|
|
|
ثورة طبية.. ابتكار أصغر جهاز لتنظيم ضربات القلب في العالم
|
|
|
|
|
سماحة السيد الصافي يؤكد ضرورة تعريف المجتمعات بأهمية مبادئ أهل البيت (عليهم السلام) في إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية
|
|
|