أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-7-2016
1638
التاريخ: 19-7-2016
5550
التاريخ: 26-7-2016
1314
التاريخ: 26-7-2016
2181
|
لم يخف على نفر من علمائنا الأقدمين أن "اللغة أصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم"(1)، فلما أفاضوا في دراسة هذه المادة اللغوية الصوتية عرفوا لكلِّ حرف صوته صفة ومخرجًا، مثلما عرفوا له إيحاء دلالة ومعنى.
وقد عقدنا لدراسة أصوات العربية فصلًا خاصًّا ستجده في موضوعه المناسب بعد قليل, ونحن منذ الآن نحيلك عليه، ومنه يتضح لك ما يتلعق بمخارج الحروف وصفاته، وثبات المادة الصوتية في لغتنا، وتعليل بعض ظواهر القلب والإبدال الشائعة فيها, ولك إن شئت أن
ص141
تبدأ بذاك الفصل، لئلّا يخيّل إليك أننا نحيلك على مجهول لديك، وإن أرجأت قراءته كما أرجأنا بحثه فقد قدمت مثلنا لا جوهر على العرض، والروح على الهيكل, والمعنى على المبنى.
أما الذي نريد الآن بيانه فهو ما لاحظه علماؤنا من مناسبة حروف العربية لمعانيها، وما لمحوه في الحرف العربي من القيمة التعبيرية الموحية؛ إذ لم يعنهم من كلِّ حرفٍ أنه صوت، وإنما عناهم من صوت هذا الحرف أنه معبر عن غرض، وأن الكلمة العربية مركبة من هذه المادة الصوتية التي يمكن حلّ أجزائها إلى مجموعة من الأحرف الدوالّ المعبرة، كل حرف منها يستقلّ ببيان معنًى خاصٍّ ما دام يستقل بإحداث صوت معين, وكل حرف له ظل وإشعاع؛ إذ كان لكل حرفٍ صدًى وإيقاع!
وإثبات القيمة التعبيرية للصوت البسيط وهو حرف واحد في كلمة، كإثبات هذه القيمة نفسها للصوت المركب وهو ثنائي لا أكثر، أو ثنائي ألحق به حرف أو كثر، أو ثلاثي مجرد ومزيد، أو رباعي منحوت، أوخماسي أو سداسي على طريقة العرب مشتق أو مقيس.
لكل حالٍ من هذه الأحوال التي تبدو لك أول الأمر ألغازًا مقعدة, أو طلاسم محيرة، ذكر علماء العرب الأمثلة، واحتجوا بالشواهد التي لا يسهل دفعها؛ فقد مالوا إلى الاقتناع بوجود التناسب بين اللفظ ومدلوله، في حالتي البساطة والتركيب، وطَوْرَي النشأة والتوليد، وصورتي الذاتية والاكتساب.
- ففي حال البساطة: رأوا الحرف الواحد -وهو جزء من كلمة- يقع على صوت معين، ثم يوحي بالمعنى المناسب، سواء أكان في أول اللفظ, أم وسطه, أم آخره.
ص142
فمما وقع في أول الكلمة: صَعِدَ وسَعِدَ، فجعلوا الصاد؛ لأنها أقوى لما فيه أثر مشاهد يُرَى، وهو الصعود في الجبل والحائط، ونحو ذلك؛ وجعلوا السين لضعفها، لما لا يظهر ولا يشاهد حسًّا، إلّا أنه مع ذلك فيه صعود الجد، لا صعود الجسم ... فجعلوا الصاد لقوتها فيما يشاهد من الأفعال المعالجة المتجشمة، وجعلوا السين لضعفها فيما تعرفه النفس, وإن لم تره العين(2).
من ذلك قولهم: خَضِمَ وقَضِمَ؛ فالحضم لأكل الرطب؛ كالبطيخ والقثّاء، وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصلب اليابس نحو: قضمت الدابة شعيرها(3).
من ذلك أيضًا: سَدَّ وصَدَّ، فالسد دون الصد؛ لأن السد للباب يسد والمنظرة ونحوها؛ والصد جانب الجبل والوادي والشعب، وهذا أقوى من السد الذي قد يكون لثقب الكوز وراس القارورة ونحو ذلك(4).
ومما وقع في وسط الكلمة: التاء، والطاء، والدال، في تركيب "ق ت ر", و"ق ط ر", و"ق د ر"، فالتاء خافية مُسْتَفِلَةٌ، والطاء سامية متصعِّدة، فاستعملتا لتعاديهما في الطرفين، كقولهم: قتر الشيء وقطره, والدال بينهما، ليس لها صعود الطاء ولا نزول التاء، فكانت لذلك واسطة بينهما، فعبّر بها عن معظم الأمر ومقابلته، فقيل: قَدْر الشيء لجماعه ومُحْرَنْجِمِهِ(5).
ص143
ومن ذلك قولهم: الوسيلة والوصيلة، والصاد أقوى صوتًا من السين، لما فيها من الاستعلاء؛ والوصيلة أقوى معنًى من الوسيلة، وذلك أن التوسل ليس له عصمة الوصل، والصلة، بل الصلة أصلها من اتصال الشيء بالشيء، ومماسَّته له، وكونه أكثر الأحوال بعضًا له، كاتصال أعضاء الإنسان وهي أبعاضه, ونحو ذلك، والتوسل معنى يضعف ويصغر أن يكون المتوسِّل جزءًا أو كالجزء من المتوسَّل إليه، وهذا واضح؛ فجلعوا الصاد، لقوتها، للمعنى الأقوى، والسين لضعفها، للمعنى الأضعف(6).
ومما وقع آخر الكلمة: النضج والنضخ، فالنضخ للماء ونحوه، والنضخ أقوى من النضح؛ قال الله سبحانه: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} ، فجعلوا الحاء لرقتها للماء الضعيف، والخاء لغلظها لما هو أقوى منه ...
ومن ذلك قولهم: "قَرَتَ الدم، وقَرِدَ الشيء، وتَقَرَّدَ، وقَرَطَ، يَقْرُطُ، فالتاء أخفت الثلاثة، فاستعملوها في الدم إذا جفَّ؛ لأنه قصدٌ ومستخفٌّ في الحس عن القَرْدَدِ، الذي هو النّباك في الأرض ونحوها، وجعلوا الطاء وهي أعلى الثلاثة صوتًا "للقَرْطِ" الذي يسمع(7).
ومن ذلك قولهم: الخذا في الأذن، والخذاء والاستخذاء في الذل، فجعلوا الواو في الخذا؛ لأنها دون الهمزة صوتًا، للمعنى الأضعف، وذلك أن استرخاء الأذن من العيوب التي يسبّ بها، ولا يُتَنَاهى في استقباحها، وأما الذل فهو من أقبح العيوب، وأذهبها في المَزْراة والسبّ، فعبروا عنه بالهمزة لقوتها، وعن عيب الأذن المحتمل، بالواو لضعفها:
ص144
فجعلوا أقوى الحرفين لأقوى العيبين، وأضعفهما لأضعفهما(8).
وإذا كان علماء العرب قد استشهدوا بالأمثلة السابقة على القيمة التعبيرية للحرف الواحد، وهو صوت بسيط يقع في أول الكلمة تارةً، وفي وسطها تارةً أخرى، وفي آخرها أحيانًا، فما جاءوا بشواهدهم تلك سدًى، ولا ألقوا بها جزافًا, بل اعتقدوا أن في تقديم ما قُدِّمَ منها، وتأخير ما أُخِّرَ، وترتيبها على نحوٍ معين، أسرارًا مدهشة يعجب الباحث اليوم كيف تنتبهوا إليها واستنبطوها، ويكاد يسلّم لها ولو استشعر فيها الكثير من التكليف.
فهذا ابن جني يؤكد "أن في تقديم ما يضاهي أول الحدث، وتأخير ما يضاهي آخره، وتوسط ما يضاهي أوسطه، سوقًا للحروف على سمت المعنى المقصود، والغرض المطلوب"(9). ويمثل لذلك بالمواد "بَحَثَ" و"صَدَّ" و"جَرَّ" ونكتفي باللفظة الأولى "بحث"، فالباء فيها لغلظها تشبه بصوته خفقة الكف على الأرض، والحاء فيها تشبه مخالب الأسد وبراثن الذئب، ونحوهما إذا غارت في الأرض، والثاء للنفث، والنبث للتراب، وهذا أمر تراه محصلًا، فأي شبهة تبقى بعده؟ أم أيّ شكٍّ يعرض على مثله؟
والآن، فَلْتَخْتَلِطْ هذه الأحرف ولتمتزج، ولتقلَّبْ في تركيب ثلاثي تقالليبها العقيلة الستة المحتملة، ولينظر في النهاية إلى الحرف الواحد من أحرفها، حيثما كان موضعه منها، على أنه صوت ما يزال بسيطًا له دلالته التعبيرية الخاصة، وليستطرف الباحثون ما استنتجه علماؤنا من أمر هذه اللغة التي لا يكاد يعلم بعدها، ولا يحاط
ص145
بقاصيها، فما برح هذا الحرف البسيط -كما يتصورون- يوحي بمعناه الذاتي من خلال صوته وإيقاعه!
ومن أوضح الأمثلة على هذه الظاهرة اللغوية العجيبة ما ذكره ابن جني من "ازدحام الدال، والتاء، والطاء، والراء، واللام، والنون, إذا مازجتهن الفاء على التقديم والتأخير، فأكثر أحوالها ومجموع معانيها أنها للوهن والضعف ونحوهما"(10). أما شواهده على ذلك ففيها ما نرضاه ولا يسعنا رَدَّه، كالشي التالف، والشيخ الدالف "الضعيف"، والدنف المريض، والفتور للضعيف، والطَّفْل للرخص، وهو ضد الشين.
وسائرها بعد ذلك إلى التكلف أقرب، وذلك في الألفاظ التي تطورت معانيها بطريقة من طرق المجاز، كالطيف "المجَّان" وليست له عصمة الثمين، والطُّنُف، لما أشرف خارجًا عن البناء وهو إلى الضعف، لأنه ليست له قوة الأساس والأصل، والنَّطَف "العيب" وهو إلى الضعف، والتنوفة, وذلك لأن الفلاة إلى الهلاك، ألا تراهم يقولون لها مهلكة؟ والطرف لأن طرف الشيء، أضعف من قلبه وأوسطه، والفرد لأن المنفرد إلى الضعف والهلاك، والفارط "المتقدم"، وإذا تقدم انفرد، وإذا انفرد هلك، ومنه الفرات؛ لأنه ليس له تمكن الأول، والتَّفْلُ للريح المكروهة، فهي منبوذة مطروحة، والفلتة لضعف الرأي؛ وفتل المغزل؛ لأنه تَثَنٍّ واستدارة، وذاك إلى وَهْيٍ وضَعْفةٍ، والفَطُر الشقّ، وهو إلى الوهن(11).
ص146
وواضح أن ابن جني يعوّل في هذه الأمثلة، طبيعها ومتكلفها، على حرف الفاء، فهو الذي أفاد بقيمته التعبيرية الخاصة معنى الوهن والضعف لدى ممازجته الدال والتاء والطاء والراء واللام والنون, ولئن جاءت صورة هذه الممازجة أنماطًا من التقاليب الستة المعروفة في "الاشتقاق الكبير"، فإنه مصادفة محض, لم يقصد إليها ابن جني، وإلّا لسلك هذا المثال في باب "الاشتقاق الأكبر" الذي يعني هو به القلب اللغوي الشائع في "الاشتقاق الكبير"، ولكننا نجده إنما سلك هذا في باب "إمساس الألفاظ أشباه المعاني", كأنه يومئ إلى أنه شاهد على وجود العلاقة الذاتية الطبيعية بين اللفظ ومدلوله، أو بعبارة أدق: بين صوت الحرف البسيط وقيمته البيانية.
- وفي حال التركيب، لاحظ العلماء كذلك القيمة التعبيرية للحرف مع أخيه في لفظ ثنائي، على القول بثنائية اللفظ العربي، ولا سيما في نشأته الأولى.
وهذه الثنائية قد اتخذت في أذهان القائلين بها صورًا مختلفة, وأشكالًا متنوعة، فكانت الثنائية التاريخية ذات المقطع الواحد، والثنائية المعجمية التي ضعف حرفها الثاني فأصبحت ثلاثية بوساطة الشدة، والثنائية التي كرر مقطعها بكلا حرفيه فأضحت رباعية بطريق المضاعفة والتكرار.
ونحسب أنه لا يغيب عن أحد "إذا وقفنا من هذه النظرية موقف الشارح لها، الموضح لما غمض منها" أن الثلاثي المضعف، والرباعي المضاعف، إنما يرتدان حيئنذ إلى الأصل الثنائي للفظ العربي، وأن هذا الأصل الثنائي يرتدّ إلى الصوتين البسيطين اللذين ركَّبَا مقطعه؛ وأن كلًّا من هذين الصوتين ما يفتأ يوحي عند التركيب والامتزاج بما كان يوحي به في حال البساطة والإفراد.
ص147
__________
(1) الخصائص 1/ 31.
(2) الخصائص 1/ 553.
(3) نفسه 1/ 549.
(4) نفسه 1/ 553.
(5) نفسه 1/ 554.
(6) نفسه 1/ 552.
(7) نفسه 1/ 550.
(8) نفسه 1/ 552.
(9) نفسه 1/ 555.
(10) نفسه 1/557-558.
(11) نفسه 1/558-559.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|