أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-7-2016
3071
التاريخ: 26-7-2016
1314
التاريخ: 19-7-2016
5550
التاريخ: 26-7-2016
2180
|
... ومع هذا الورع الشديد، هذا التواضع العلمي النادر، لم يسلم لغويو العرب من التكلف فيما عرضوه من مناسبة حروف العربية لمعانيها، فقد أحصى بعضهم مفردات اللغة ابتداءً من الحروف ذوات القيمة التعبيرية الحاصة، فكان إحصاؤهم "رياضيًّا" بحتًا، استوى فيه مجموع تلك المفردات هو ومجموع الاحتمالات الممكنة، "فما يمكن أن يتألف من حروفنا الهجائية يجاوز 12 مليونًا من الكلمات، قرَّرَ هذا الخليل من قبل، وتقرر صنعه الآن العمليات الحسابية الحديثة, ولكن المستعمل من الألفاظ لا يكاد يجاوز ثمانين ألفًا(1)، فيها يشبع حرف أكثر من حرف"(2).
والحق أن اللغة الإنسانية لا يمكن أن تحصى مفرداتها إحصاء "رياضيًّا"،
ص168
إذ لا قيمة للفظ لم يجر به الاستعمال، ولا مدلول للفظٍ شاع باستعمالٍ معين إذا قسر على إيحاء غير معناه الشائع الجاري، إنما اللفظ الذي تلتمس دلالته، ويستشعر ما بينه وبين دلالته من التناسب الطبيعي، هو اللفظ الذي جرى به الاستعمال حتى شاع فيه، وأطلق عليه، وعرف به. وإن علينا -حين نفهم دلالة الألفاظ على هذه الصورة- أن نفرق بوضوح بين القيمة التعبيرية الذاتية من نحو، والمكْتَسَبَة من نحو آخر، في كل من الحرف البسيط، والأصل الثنائي، والبناء الثلاثي، والصيغ المزيدة عل الأصول في استعمالها الوضعي الأول.
وأفضل طريقة لمعرفة الفرق بين القيمة الذاتية والقيمة المتكسبة للفظ ما، تتمثل في تقصي الخطوات المَنْسِيَّة التي مر بها هذا اللفظ حتى تداولته الألسنة بمعنًى خاصٍّ ودلالة معبرة.
وهذه الخطوات المنسية -على صعوبة الجزم بنوع المراحل التي مرت بها، طولًا وقصرًا، واتساعًا وضيقًا؛ وتصريحًا ورمزًا- لا تلقي على اللفظ من الأضواء ما يكفي لتحديد اللحظة التي وُلِدَ فيها، ولا لتعيين المدلول الذاتي الذي يناسبه بعد أن تَمَّ ميلاده، ولا لتبيان القرائن التي حملت الناطقين به على نقله من مفهوم إلى آخر، أو على توليد معنًى جديد من معناه الأصلي القديم(3).
وذلك يعني أنَّ لكل لفظٍ نشأة وميلادًا، وأن في كل لفظ اشتقاقًا وتوليدًا، وأن المناسبة الذاتية لا تلتمس إلّا في اللفظ عند نشأته الأولى، وأن هذه المناسبة فيما جدده الاستعمال من مدلولات ذاك اللفظ إنما تُحْتَمَلُ حملًا على المعنى الآصل الأقدم, ولا يخفى حينئذ على الباحث اللغوي أن المناسبة الأخيرة لم تنشأ مع اللفظ ولم تحضر ميلاده، بل اكتسبت إيحاءها ودلالتها من كثرة الاستعمال.
ص169
ومن الأمثلة الصريحة في ذلك ما رأيناه عند ابن جني خاصة من القيمة التعبيرية لحرف الفاء إذا مازج الدال والتاء والطاء والراء واللام والنون، فأكثر أحوالها -كما قال- أنها للوهن والضعف، لكنا وقعنا من معانيها على الطبيعي والمتكلف، ولا تجد الصلة بين اللفظ ومدلوله إلّا "مكتسبة" في كل ما وصمناه بالتكلف(4). ولتجدنَّها ذاتية لا مجالة في واحد من تلك المعاني الطبيعية، وهو الذي يمكن عده أصل الاشتقاق في تقاليب هذه المادة وصورها التي جرى بها الاستعمال.
وإما تَهُولنَّ الباحث كثرة الصور المتكلفة ذات الدلالة المكتسبة, فليعرض عنها حتى يجد في العربية مثلما يجد في غيرها من اللغات "نماذج" صريحة -وإن تَكُ قليلة- لألفاظ إنسانية اتضحت دلالتها التعبيرية الذاتية، وبلغت من الوضوح أن كانت لأصوات الطبيعة أشبه برجع الصدى أو ترداد النغم.
هذا الضرب من الألفاظ التي تحكي الطبيعة اصطُلِحَ على تسميته Onomatopoeia"، وقد اعترف بوجوده في اللغات الإنسانية المختلفة كل باحثٍ محقق يدرس اللغة على أنها ظاهرة اجتماعية؛ حتى الذين عارضوا مذهب الصلة بين اللفظ ومدلوله في إطاره العام لم يستنكفوا أن يعترفوا بوجود هذا الحد الأدنى من "النماذج" اللفظية ذات الدلالة الطبيعية الصريحة(5).
فلنرض النتائج العلمية الباهرة التي انتهى إليها عباقرة سلفنا، ولنسلك سبيلهم في التزام الحيطة وأخذ الحذر قبل القطع في الصورة التي نشأت عليها لغة الإنسان، ولنلاحظ أنهم لم يدلوا برأي لا رجعة فيه حول النشاة الأولى للغات البشر، وأنّ ابن جني مثلًا -وهو من
ص170
أثقبهم فهمًا؛ وأرسخهم علمًا، وأوسعهم أفقًا- يبدو كالمتردد الحائر الذي "يقف في الحالتين حسيرًا ويكاثرهما فينكفئ مكثورًا(6)، فلم يجهر بإعلان ما نُسِبَ إليه وإلى أستاذه أبي عليّ الفارسي، وإلى الخليل وسيبويه من قبل من أنّ أصل اللغات كلها إنما هو من الأصوات المسوموعات، بل رأيناه لدى عرض هذا الرأي يعزوه في مستهلّ عبارته إلى بعضهم؛ كأنمما يمهد لما إليه من تقبله والأخذ به، ثم يجد مقنعًا في استحسانه بقوله: "وهو عندي وجه صالح ومذهب مُتَقَبَّلُ"(7)؛ فهو بين المذاهب الصالة أحدها, لكنه ليس المذهب الصالح الوحيد, وما هو لديه بالجدير أن يدافع عنه جهرة بإصرار وعناد.
وإن هذه العبارة لتشي باحتمال استحسانه مذهبًا آخر, أو قل: مذاهب أخرى، ولا نلبث أن نجد هذا الاحتمال قد تردد في صدره, ثم تحقق فيما كتبه بنفسه مستحسنًا القول بأنَّ هذه اللغة العربية توقيف ووحي. قال ابن جني: "واعلم فيما بعد، أنني على تقادم الوقت، دائم التنقير والبحث عن هذ الموضع، فأجد الدواعي والخوالج قوية التجاذب لي، مختلفة جهات التعول على فكري، وذلك أنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة، والإرهاف والرقة، ما يملك عليّ جانب الفكر، حتى يطمح به أمام غَلْوَةِ السحر!
فمن ذلك ما نبَّه عليه أصحابنا -رحمهم الله، ومنه ما حذوته على أمثلتهم فعرفت بتتباعه وانقياده، وبعد مراميه وآماده، صحة ما وُفِّقُوا لتقدمه منه، ولطف ما أسعدوا به وفُرِقَ لهم عنه، وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة، بأنها من الله جلَّ وعَزَّ، فقوي في
ص171
نفسي اعتقاد كونها توفيقًا من الله سبحانه، وأنها وحي!(8).
ولقد يظهر لنا هنا أن ابن جني لا يناقض نفسه، ولا يهدم ما كان تقبله من أن اللغة اصطلاحية؛ لأنه -وهو المسحور بالعربية، المأخوذ بأسرارها العجيبة المعجزة- وَدَّ لو يخصها بمزية في نشأتها، تجعلها آية البيان بين لغات الإنسان, فلم يعارض المذهب القائل "باصطلاحية" اللغات, وإنما أحاط نشأة العربية خاصة بشيء يسمو على الفكر، ويعلو عن السحر، ويكاد يلحقها بالمعجزات!!
وإنه -في هذا كله- لكالباحث الذي يحرص الحرص كله على التجرد من عواطفه، فتأبى عليه عواطفه نفسها أن يتجرد، فيستسلم إلى وحي مشاعره استسلامًا لذيذًا يرى خلاله العربية لغة العبقرية او يرى في العربية عبقرية اللغات.
ص172
__________
(1) وهو عدد مواد لسان العرب لابن منظور.
(2) دلالة الألفاظ 73.
(3) قارن بما ذكره بللي في هذا الصدر: Bally, precis de Stylistique, 21 -47.
(4) راجع ما ذكرناه سابقًا.
(5) قارن بدلالة الألفاظ 66- 67.
(6) الخصائص 1/ 46.
(7) الخصائص 1/ 44-45.
(8) الخصائص 1/ 45.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|