حقق الانكليز خلال القرن السادس عشر نجاحاً اقتصادياً باهرا بفضل سياسة ملوك اسرة تيودور مما ساهم في نشوء طبقة بورجوازية نامية فيها متقدمة على بقية القارة الأوروبية. وكان لهذا النجاح عوامل متعددة اهمها:

أ- ان انكلترا لم تتأثر كثيراً بالمنازعات الداخلية التي حصلت اثناء الاصلاح الديني على غرار بقية دول اوروبا. فقد انتشرت فيها البروتستانتية وعم على أثرها روح التسامح حتى انها استقطبت العديد من المهاجرين المضطهدين من سكان الفلاندر الذين طوروا فيها صناعة المنسوجات الصوفية ومن هيغونوت فرنسا البارعين في الاعمال الصناعية والتجارية. اما الحروب الاوروبية التي أنهكت اقتصاديات الدول وخاصة الحروب الايطالية وحروب الدين فان انكلترا لم تشارك فيها الا مختارة بل انها لم تتدخل في نزاع إلا وكسبت على أثره مزيداً من النفوذ والمستعمرات.

ب ـ ان توفر المواد الخام اللازمة للصناعة وخاصة الصوف قد أدخل انكلترا في ميدان السبق التجاري فازدهرت المنسوجات الصناعية فيها على أثر تشجيع هجرة الفلمنكيين اليها منذ القرن الرابع عشر حتى ان هنري السابع فرض رسوماً باهظة جداً على تصدير مادة الصوف. فارتفعت اسعار المنسوجات التي يحيكها سكان الفلاندر مما ادى الى رواج الصناعة الانكليزية وبالتالي الى ازدياد النشاط التجاري فيها. فنشأت على أثر ذلك في القرن السادس عشر طبقة ثرية اقبلت على شراء الاراضي ووقفت وجهاً لوجه امام طبقة النبلاء التي عبرت عن سخطها بين فترة وأخرى بالثورة ضد اليزابيت عن الكثلكة.

ج - رواج التجارة الانكليزية: لم تكن التجارة الداخلية في انكلترا تتعرض للمصاعب بسبب قوة الملكية التي منعت قيام الحواجز الجمركية بين المقاطعات لأنها معيقة للنشاط التجاري. اما التجارة الخارجية فقد ازدهرت على أثر انتقال مركز التجارة الى الاطلسي بعد ان كانت مدن المتوسط تحتكر التجارة مع الشرق طيلة العصور الوسطى. ومما ساعد على هذا النمو براعة الانكليز في الاعمال البحرية اذ ان موقع انكلترا الجغرافي المقرون بكابوس الغزو الخارجي هيأ لها الاهتمام ببناء الاساطيل التي ساهمت عن طريق اعمال القرصنة التي كثيراً ما كانت تتم برضى الملوك أنفسهم لأن تصبح انكلترا على ابواب القرن التاسع عشر اقوى دولة بحرية في العالم (1).

لقد أدى هذا النمو الاقتصادي اذن الذي عرفته انكلترا، لا الى ضعف طبقة النبلاء وزيادة نفوذ السلطة الملكية فحسب، بل الى تعاظم دور البورجوازية بإعدادها الهائلة من التجار والصناعيين فأخذت تتطلع الى المشاركة في الحكم منذ اواخر القرن السادس عشر. وعندما زال خطر الغزو الاسباني بتحطيم الارمادا اخذت هذه الفئة تضغط على الملكية للتراجع عن الاحتكارات التي فرضتها في السابق لتحديد الاسعار وسلم الاجور الذي صدر سنة 1563. وهكذا احدثت التغيرات الاقتصادية التي عرفتها انكلترا تغيراً جذرياً في مفهوم السلطة السياسية في القرن السابع عشر توطدت حقوقيته في عدم خضوع البرلمان لمشيئة الملك حتى تم له النصر النهائي الذي تمثل في ثورة سنة 1688.

.............................................
1- راجع حسن كامل سليم: تاريخ اوروبا الاقتصادي في القرن التاسع عشر. الفصل الثالث ص77. ملتزم التوزيع مؤسسة المطبوعات الحديثة. الاسكندرية 1958.