أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-9-2016
5441
التاريخ: 15-9-2016
2662
التاريخ: 28-6-2017
1766
التاريخ: 12-10-2017
1517
|
أبو الربيع الشامي (1):
واسمه خالد ــ كما في رجال الشيخ (2) ــ أو خليد ــ كما في كتاب النجاشي (3) ــ هو ابن أوفى العنزي وكان من أصحاب الصادق (عليه السلام) كما نصّ على ذلك البرقي والنجاشي (4) وتوجد له عشرات الروايات عنه (عليه السلام) (5).
والظاهر انّه أدرك أباه الباقر (عليه السلام) أيضاً، ويشهد لذلك ــ مضافاً إلى أن الشيخ (قدس سره) قد عدّه في أصحابه (6) ــ ورود عدد من الروايات له عنه (عليه السلام)، منها ما رواه الصفار (7) بإسناده عن أبي الربيع الشامي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كنت معه جالساً فرأيت أبا جعفر (عليه السلام) قد قام فرفع رأسه وهو يقول: ((يا أبا الربيع حديث..)). ومنها: ما رواه الكليني (8) بإسناده عن أبي الربيع الشامي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: ((ويحك يا أبا الربيع لا تطلبن الرئاسة..)).
وعلى ذلك فالرجل من رجال الطبقة الرابعة، كما نصّ على ذلك أيضاً السيد العلامة البروجردي (قدس سره) (9).
هذا من حيث طبقته، وأما من حيث وثاقته أو عدمها فالملاحظ أنه لم يذكر بشيء من التوثيق أو التضعيف في كلمات الرجاليين ولكن استدل بعضهم على وثاقته ببعض الوجوه كما استدل آخرون على القدح فيه ببعض الروايات.
أمّا ما استدل به على وثاقته فعمدته وجهان:
الأول: ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) (10) من أنه قد ورد اسمه في تفسير القمي فهو موثق بالتوثيق العام المذكور في أوله.
الثاني: ما ذكره بعض الأعلام (طاب ثراه) (11) من أنه ممن روى عنه البزنطي الذي ثبت أنه ممن لا يروي إلا عن ثقة.
وكلا الوجهين مخدوش:
1 ــ أما الوجه الأول فتوضيح الحال فيه أنه قد ورد في التفسير المعروف بتفسير القمي (12) رواية أبي حمزة الثمالي عن أبي الربيع في قصة حج أبي جعفر (عليه السلام) ومحاججته مع نافع مولى عمر بن الخطاب، وأبو الربيع في هذا السند لم يصرح بكونه هو الشامي، ولكن استظهر السيد الأستاذ (قدس سره) أنه هو لا غيره قائلاً (13): (إنّه لم يذكر في شيء من الروايات الواردة في الكتب الأربعة من يكون معروفاً بهذه الكنية ما عدا الشامي المزبور الذي هو معروف وله روايات كثيرة وله كتاب ذكره النجاشي وغيره، ولم يوجد مكنى بهذه الكنية غيره إلا في رواية واحدة أوردها في الكافي بعنوان أبي الربيع القزاز، فإن كان هو هذا الشخص فلا كلام وإلا فهو رجل مجهول غير معروف، ولا شك في أن اللفظ ينصرف عند الإطلاق إلى المعروف الذي له كتاب وروايات كثيرة).
وناقشه بعض تلامذته (14) قائلاً: إنه لا مجال للقول بأن المطلق ينصرف إلى الفرد المشهور ــ وهو هنا الشامي ــ فإن هذا البيان إنما يجري في مورد يكون الاسم لشخصين كما لو كان لفظ (القاسم بن عروة) اسماً لرجلين أحدهما موثق دون الآخر والمشهور في الروايات هو الموثق فإذا ذكر وتردد الأمر بينهما يحمل على الموثق. وأما مع تغاير اللفظ أو تعدده كما في المقام فلا يصح التقريب المذكور، إذ لا جامع بين الفردين ولا تماثل بين الموردين كي يؤخذ بانصراف المطلق.
وهذا الكلام واضح الضعف، فإن المفروض أنّ أبا الربيع كنية مشتركة بين الشامي والقزاز وأن الأول معروف مشهور دون الثاني، فلو بني على انصراف العنوان المشترك عند الإطلاق إلى من يكون مشهوراً معروفاً فلا محل للمناقشة في انصرافه إلى الشامي.
ونظيره (أبو أحمد) الذي هو مشترك بين أبي أحمد الأزدي وهو ابن أبي عمير وآخرين، فلو أطلق (15) كان منصرفاً إليه، لأنه المعروف والمشهور ممن يكنى بهذه الكنية.
ولكن يلاحظ على ما أفاده السيد الأستاذ (قدس سره) بأن الشامي والقزاز ليسا من طبقة واحدة ليتردد (أبو الربيع) عند الإطلاق بينهما ويحتاج حمله على الأول إلى البيان المذكور وهو كون أبي الربيع الشامي مشهوراً معروفاً دون أبي الربيع القزاز.
فإن هذا الأخير ممن روى عنه ابن أبي عمير الذي هو من الطبقة السادسة، وروى هو عن جابر بن يزيد الجعفي الذي يعدّ من الطبقة الرابعة (16)، فهو إذاً من الطبقة الخامسة، في حين أن أبا الربيع الشامي من الطبقة الرابعة كما تقدم.
وبذلك يتبين أن أبا الربيع الواقع في سند الرواية المتقدمة التي رواها عنه أبو حمزة الثمالي لا يمكن أن يكون هو القزاز بل لا بد أن يكون هو الشامي؛ لأنّ أبا حمزة الثمالي إنما هو من الطبقة الرابعة فكيف يروي عمن هو من الطبقة الخامسة؟!
هذا ولكن الإنصاف أنه يصعب الاطمئنان بكون المراد بأبي الربيع الذي روى عنه أبو حمزة الثمالي هو الشامي وإن لم يتمثل في أسانيد الروايات الواصلة إلينا من يكنى بأبي الربيع في الطبقة الرابعة غيره, فإنه يوجد في كتب الرجال أن سليمان بن خالد كان يكنى بأبي الربيع الأقطع وبأبي الربيع الهلالي (17)، ومجرد عدم العثور على تكنيته به في بعض ما وصل إلينا من الأسانيد لا يدفع احتمال كونه هو المراد بأبي الربيع هنا، ولا سيما أن الوجه في الاقتصار على ذكر الكنية من دون توصيف لا ينحصر في كون صاحبها معروفاً بها بل ربما يكون لغرض الإبهام ونحو ذلك.
ومما يقرّب هذا الاحتمال أن رواية أبي الربيع هذه قد رويت في الكافي (18) وفي سندها (أبو منصور عن أبي الربيع) وأبو منصور هذا لا يعرف من هو، فإنه لا يوجد في هذه الطبقة في سائر الأسانيد من يكنى بذلك، فتأمّل.
وبالجملة: كون أبي الربيع المذكور في سند الرواية المتقدّمة هو أبا الربيع الشامي غير واضح.
وعلى تقدير تسليم أنه هو لا غيره فإنه لا سبيل إلى الحكم بوثاقته من جهة وروده فيما يسمى بتفسير القمي، لما مرّ مراراً من أنه لا وثوق بما في هذه النسخة أصلاً حتى فيما ظاهره أنه مقتبس من تفسير علي بن إبراهيم، لوجود شواهد على أنه لم يسلم من تصرفات المؤلف.
ومع الغض عن ذلك فإنّه لا وثوق بأن الجملة الواردة في مقدمة الكتاب المتضمنة لتوثيق الرواة هي من علي بن إبراهيم لا من مؤلف هذه النسخة. مع أنه لو سلّم كونها من علي بن إبراهيم فإنه لا يراد بها توثيق جميع الرواة. وقد أوضحت هذا كله في موضع سابق (19)، فليراجع.
2 ــ وأما الوجه الثاني فتوضيح الحال فيه أنه قد وردت رواية البزنطي عن أبي الربيع في موضع من كتاب العلل (20)، حيث روى بإسناده عن ابن أبي نصر البزنطي عن أبان بن عثمان وأبي الربيع يرفعانه قال: ((إنّ الله عز وجل خلق ماءً فجعله عباً..))، وبنى بعض الأعلام (طاب ثراه) على كون المراد بأبي الربيع المذكور هو الشامي من جهة الانصراف.
ولكنّه غير تام؛ لأنّ دعوى انصراف الكنية عند الإطلاق إلى من يشتهر بالتكني بها إن تمت في حدّ نفسها فإنما تتم مع مساعدة الطبقة على ذلك. وفي السند المذكور لا يصح أن يكون المراد بأبي الربيع هو الشامي، لأنه من الطبقة الرابعة ــ كما تقدم ــ في حين أن البزنطي إنما يعدّ من الطبقة السادسة، ومثله لا يروي عن مثله بلا واسطة، وقد وردت رواية البزنطي عن أبي الربيع الشامي بواسطة عبد الكريم بن عمرو في بعض الأسانيد (21)، وهو يؤيد ما تقدّم.
هذا ولا يبعد أن يكون المراد بأبي الربيع في سند الرواية المشار إليها هو القزاز الذي روى عنه ابن أبي عمير (22)، فإنه والبزنطي من طبقة واحدة.
وكيف كان فقد اتضح مما تقدم عدم تمامية شيء من الوجهين المستدل بهما على وثاقة أبي الربيع الشامي.
وأما الرواية التي استند إليها بعضهم للقدح فيه فهي ما رواها الكليني (23) بإسناده المعتبر عن أبي الربيع الشامي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: ((ويحك يا أبا الربيع لا تطلبنَّ الرئاسة، ولا تكن ذئباً (24)، ولا تأكل بنا الناس فيفقرك الله. ولا تقل فينا ما لا نقول في أنفسنا فإنك موقوف ومسؤول لا محالة، فإن كنت صادقاً صدقناك وإن كنت كاذباً كذبناك)).
قال السيد الأستاذ (قدس سره) في المعجم (25): إنّ هذه الرواية لا تخلو عن قدح فيه. ولكن حكي عنه في كتاب الإجارة أنه قال (26): إنها لا تنافي الوثاقة بحيث تصلح للمعارضة مع توثيق علي بن إبراهيم في تفسير القمي.
إلا أنّ المحدّث النوري ناقش في أصل دلالتها على القدح قائلاً (27): (إنّه لا يفيد ذماً، ففي التنزيل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} و {لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ}، ولو كان ذمّاً لم يروه ولم ينقله.. فما كلّ ما يوعظ به الرجل وينهى عنه يكون فيه. وقد نهى (عليه السلام) عبد الله بن مسكان وأبا حمزة الثمالي ومحمد بن مسلم وهم أجلّاء هذه الطائفة عن أشياء هي مذكورة في هذا الباب من الكافي قبل الخبر وبعده ولم يستشعر أحد من ذلك قدحاً فيهم فراجع).
ويلاحظ على ما أفاده (قدس سره) بأنّه لا ينبغي الإشكال في أنّ توجيه الخطاب الشخصيّ بالنهي عن فعل ظاهر عرفاً في كون المخاطب في معرض ارتكابه لذلك الفعل لعدم وجود رادعٍ له من نفسه عن ارتكابه.
فلو قيل لشخص: (لا تكذب) أو (لا تشرب الخمر) يكون تعريضاً بكونه ممّن يكذب أو ممّن يشرب الخمر، ولا أقلّ كونه في معرض ذلك. وأمّا من له رادع من نفسه فلا يوجّه إليه مثل هذا الخطاب إلا إذا كان من باب (إيّاك أعني واسمعي يا جارة)، كما هو الحال في الآيتين الكريمتين ــ اللتين ذكرهما (قدس سره) ــ وذلك للقرينة الواضحة المحتفة بهما، وهي كون المخاطب ــ أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ــ ممّن لا يحتمل في حقه أن يدعو مع الله إلهاً آخر أو أن يقفو ما ليس له به علم. وأمّا مع عدم قيام القرينة على ذلك فالمستفاد منه عرفاً هو ما ذكر.
وبذلك يظهر أنّ قوله (عليه السلام) في رواية أبي الربيع: ((فإن كنت صادقاً صدّقناك وإن كنت كاذباً كذّبناك)) يدل على أنّه كان في معرض الكذب والتقوّل على الإمام (عليه السلام) ممّا يعني عدم وثاقته، أي لم يكن له رادع من نفسه يمنعه من الكذب.
وأما ما أفاده (طاب ثراه) من أنّه لو كان ذمّاً لم ينقله أبو الربيع نفسه فيلاحظ عليه:
أولاً: أنّه ربّما لم يفهم منه الذم ــ كما لم يفهمه منه هو (رحمه الله) ــ والعبرة بما يفهم عرفاً من كلام الإمام (عليه السلام) لا بما فهمه الراوي.
وثانياً: أنّه ربّما آثر أن ينقل كلامه (عليه السلام) مع ما فيه من التعريض به، من حيث اشتماله على الموعظة والنصيحة.
هذا مضافاً إلى أنّ هناك موارد لوحظ فيها نقل الراوي لما قيل فيه من الذم، كما في قول علي بن أبي حمزة (28) رئيس الواقفة: قال لي أبو إبراهيم (عليه السلام): ((إنّما أنت وأصحابك يا علي أشباه الحمير)).
وربّما يكون ذلك من باب الإقرار على النفس بالخطيئة، فتأمّل.
وأمّا الروايات التي أشار إليها (قدس سره) فيختلف الحال فيها عمّا ذكر:
ففي رواية عبد الله بن مسكان (29): ((إيّاكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك)) والخطاب فيها ليس موجهاً إلى عبد الله بخصوصه، بل للشيعة بصورة عامة. ولا يدل مثله على كون جميعهم في معرض الابتلاء باتباع بعض من يتصدى للرئاسة من غير استحقاق، فإنه يكفي مصححاً للخطاب العام أن يكون الكثير من المخاطبين في معرض الابتلاء بما ينهى عنه، بخلاف الحال في الخطاب الشخصي فإنه يعتبر فيه أن يكون المخاطب بخصوصه في معرض الابتلاء بالمنهي عنه.
هذا مضافاً إلى أن النهي عن اتباع بعض من يتصدى للرئاسة لا يدل على الذم، بل ربما يكون مسوقاً للتحذير والتنبيه من حيث كون المخاطب من جهة سلامة نفسه في معرض الاعتقاد ببعض من يتصدى للرئاسة ــ ممن ليس أهلاً لها ــ واتباعه والجري خلفه.
وأمّا رواية محمد بن مسلم (30) فقد ورد فيها قوله (عليه السلام): ((أترى لا أعرف خياركم من شراركم؟! بلى والله، وإنّ شراركم من أحب أن يوطأ عقبه، إنّه لا بدّ من كذّاب أو عاجز الرأي)) وهو أيضاً لا يتضمن ذماً لابن مسلم، فإنّ الخطاب فيه موجه لأصحاب الإمام (عليه السلام) بصورة عامة، ومفاده أنّه يعرف شرارهم وهم الذين يرغبون في الرئاسة من غير استحقاق، وأين هذا ممّا ورد في رواية أبي الربيع؟!
وأمّا رواية أبي حمزة الثمالي (31) فقد خاطبه فيها الإمام (عليه السلام) بقوله: ((إياّك والرئاسة، وإيّاك أن تطأ أعقاب الرجال))، ويمكن أن يقال: إنّ النهي عن الرئاسة ليس فيه تعريض بما يكون محرماً؛ لأنّ طلب الرئاسة لمن يكون أهلاً لها سائغ. نعم قد يحذر منه شفقة عليه، لما فيها من المخاطر والمتاعب والمشاكل. وأما النهي عن وطئ أعقاب الرجال فهو كناية عن اتّباع من ليس أهلاً لذلك ــ كما يستفاد من ذيل الرواية ــ فهو أيضاً لا يدل على شيء من الذم كما مرّ.
وبالجملة: الأخبار المذكورة تختلف عن خبر أبي الربيع الشامي في مضامينها فلا ينبغي أن تقاس به في الدلالة على الذم.
هذا ولكن المتتبع للروايات يجد أن توجيه الخطاب الشخصي في مقام الوعظ والإرشاد كان متداولاً على لسان الأئمة (عليهم السلام) فيشكل دلالته على الذم والقدح. ففي رواية إسحاق بن عمار (32) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ((يا إسحاق خِف الله كأنّك تراه، وإن كنت لا تراه فإنّه يراك، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنّه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك)).
وفي رواية أخرى (33) أنه (عليه السلام) قال لمحمد بن النعمان الأحول: ((يا ابن النعمان إيّاك والمراء فإنّه يحبط عملك. وإيّاك والجدال فإنّه يوبقك. وإيّاك وكثرة الخصومات فإنّها تبعدك من الله)).
وفي رواية (34) أخرى أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لنوف البكالي: ((يا نوف إيّاك أن تتزيّن للناس وتبارز الله بالمعاصي فيفضحك الله يوم تلقاه)).. إلى غير ذلك من عشرات الموارد التي هي من هذا القبيل، وعلى ذلك فإن استفادة الذم من توجيه الخطاب الشخصي في مقام الوعظ والإرشاد ونحو ذلك محل إشكال، بل منع.
فالنتيجة: أنّ رواية أبي الربيع المتقدمة لا تصلح مستنداً للقدح فيه من حيث إنّه كان في معرض الكذب على الأئمة (عليهم السلام).
بقي هنا شيء، وهو أنّ من الأساليب التي كان يتّبعها أصحاب الجرح والتعديل من القدماء في التعرف على أحوال الرواة ــ ولو في الجملة ــ هو تتبّع رواياتهم وكتبهم، فالذي يكون سليم الرواية لا تخالف رواياته روايات الثقات يقرب في حقه أن يكون ثقة، بخلاف الذي يروي الغرائب ويكثر من التفرد بالأحاديث وتخالف رواياته روايات الثقات فإنّه يقوى فيه احتمال الضعف وعدم التحرج عن الكذب.
وبعبارة أخرى: إن من يمارس الكذب أو يكثر عنده السهو والغلط يتمثل ذلك في رواياته، وتلاحظ المخالفة كثيراً بين ما يرويه هو وما يرويه الآخرون من الثقات. بخلاف الحال فيمن يكون ثقة ثبتاً في حديثه، فإنه لو تمت المقارنة بين رواياته وبين روايات غيره من الثقات للوحظ عدم التخالف بينها بل كونها على نسق واحد (35).
ولكن إعمال هذه الطريقة غير متيسر في الأعصار المتأخرة إلا بصورة
جزئية، لأنه لم يصلنا من معظم الرواة إلا البعض من رواياتهم، وذلك للأسباب الكثيرة من ضياع الكتب وما جرى من عمليات التنقيح والتقطيع على أيدي أصحاب الجوامع وغير ذلك.
والملاحظ أن روايات أبي الربيع الشامي في معظمها لا تخالف روايات الثقات ولم يعثر له فيما بأيدينا من المصادر على ما هو منكر المضمون، غير ما روي عنه في مخالطة الأكراد ومناكحتهم، حيث ورد فيه أنّ الأكراد حي من الجن كشف الله عنهم الغطاء، فإنّ هذا بظاهره واضح البطلان لا يمكن الالتزام به بوجه. ولذلك قد يشكّك في وثاقة أبي الربيع الشامي من جهة روايته للمضمون المذكور.
ولكن يمكن أن يجاب عنه:
أولاً: بأنّه لا يوجد ما يثبت صحة نقله عنه، فإنّه ممّا روي في الكافي (36) والتهذيب (37) والعلل (38) بأسانيدهم عن علي بن الحكم عمّن حدثه عن أبي الربيع الشامي، وهذا سند مرسل لا يعوّل عليه.
وروى أيضاً في العلل (39) بإسناده عن حفص عمن حدثه عن أبي الربيع الشامي، وهذا السند مرسل أيضاً فلا عبرة به.
وروي في الفقيه (40) أنّه قال الصادق (عليه السلام) لأبي الربيع الشامي: ((.. فإنّ الأكراد حي..))، وهذا بظاهره مرسل أيضاً؛ لأنّ الصدوق لم يروه عن أبي الربيع الشامي بل روي مرسلاً أنّ الإمام (عليه السلام) قال له كذا. ولو غض النظر عن ذلك فإنّ طريق الصدوق إليه في المشيخة غير معتبر، لأنّ فيه الحسن بن ربّاط، وهو غير موثّق كما مرّ قريباً.
هذا بالنسبة إلى روايته الواردة في البيع والمخالطة.
وأما روايته الأخرى الواردة في النكاح فقد رواها الكليني (41) والشيخ (42) بإسنادهما عن الحسين بن خالد عمن ذكره عن أبي الربيع الشامي، فهي مرسلة أيضاً.
وعليه فلا طريق إلى إحراز أن أبا الربيع الشامي هو الراوي للمضمون المتقدم ليثير بعض الشبهة في وثاقته.
وثانياً: أنّه لو ثبتت روايته المضمون المذكور فإنّه ليس متفرّداً في نقله عن الصادق (عليه السلام)، فقد روى ابن حيّان الأصفهاني (المتوفي سنة 396 هـ) (43) بإسناده عن جراح عن أبي ولاد قال: سمعت جعفر بن محمد: ((الأكراد حي من الجن كشف الله عنهم الغطاء))، فلا ينبغي أن يتهم أبو الربيع الشامي بوضعه، فتأمّل.
وثالثاً: أنّ الرواية المذكورة ممّا لا يقين بعدم صدورها من الإمام (عليه السلام)، إذ بالإمكان توجيهها، وقد ذكر في ذلك وجوه (44).
والذي يخطر بالبال هو أن الأكراد في عصر الإمام (عليه السلام) لم يكونوا من المسلمين بل كانوا كفاراً كما ورد ذلك في رواية الحسين بن المنذر (45) من أنهم من (عبدة النيران وأشباه ذلك)، وورد في رواية إسماعيل بن الفضل (46) قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن سبي الأكراد إذا حاربوا ومن حارب من المشركين هل يحل نكاحهم وشراؤهم؟ قال: ((نعم)). وفي مكاتبة أحمد بن أبي عبد الله (47) أو غيره
أنه كتب يسأله عن الأكراد؟ فكتب إليه: ((لا تنبهوهم إلا بحدِّ السيف)).
ويبدو أن الإمام (عليه السلام) في إطار نهيه الشيعة عن مخالطة الأكراد والنكاح منهم (48) ــ لئلا يتأثروا بأخلاقهم وعاداتهم ــ استخدم التعبير المذكور ــ الذي كان مناسباً لحال الأكراد في ذلك العصر، حيث إنهم كانوا يسكنون الجبال مستترين عن غيرهم ــ وذلك لأن الناس بطبيعتهم يخافون من الجن، فلو قيل لهم: لا تخالطوا القوم الفلاني لأنهم من الجن يكون ذلك أدعى لهم في ترك المخالطة من مجرد النهي التنزيهي.
ولعل نظير المقام ما يدل بظاهره على نجاسة أهل الكتاب (49)، فإنّه لا يبعد ألّا يكون المراد به ذلك، بل مجرّد إيجاد حاجز في نفوس الشيعة عن كثرة المخالطة معهم، لوضوح أنّ الأمر بغسل اليد عند مصافحتهم ونحو ذلك أوقع في النفس في تقليل الاختلاط معهم من مجرّد النهي عن ذلك.
وبالجملة: إنّ وظيفة الأئمة (عليهم السلام) لا تنحصر في بيان الأحكام الشرعية والمعارف الإلهية وجملة من الحقائق الكونية، بل إن من أهم مهامهم هو تربية الشيعة وسوقهم إلى الكمال، وكانوا يتخذون لذلك الأساليب المناسبة بحسب اختلاف الظروف والحالات، ولعلّ الإمام (عليه السلام) استخدم التعبير المذكور في رواية أبي الربيع في هذا السياق، لا أنّ المراد ما هو ظاهره المخالف للواقع بالضرورة.
والحاصل: أنّ ما ورد في هذه الرواية قابل للتوجيه، وفي كلّ الأحوال فإنّه لا يقدح في وثاقة أبي الربيع الشامي لو كان ثمة دليل على وثاقته، ولكن قد تقدم أنّه غير متوفّر، فرواياته لا تصلح إلا للتأييد ما لم يحصل الوثوق بها لقرائن أخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|