أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-8-2022
1177
التاريخ: 2023-06-26
1346
التاريخ: 2024-09-04
259
التاريخ: 2023-02-07
1383
|
(ان الاشياء القابلة للتسويق شملت أكبر من المنتجات والخدمات، اذ يمكن أن يسوق الانسان، الناس والافكار والتجارب والمنشآت)، الى هنا تنتهي عبارة الاب الروحي للتسويق الحديث فيليب كوتلر في كتابه الشهير (كوتلر يتحدث عن التسويق)(1)، وليست هذه الرؤية بمنعى من المعاني الا تجسيداً لما يجري في العالم، ولا سيما بعد ان صاغت الفلسفة المعاصرة شكل الحياة بالمال ونمطتها تنميطاً اقتصادياً هائلاً من كل جوانبها واتجاهاتها، وسادت النظرية المادية في كل ارجاء الدنيا، وبها تفسر كل حوادث الحياة ولا شيء غير المادة، فهي الجوهر والمضمون والمستقبل وانعكس ذلك على تفكير الانسان بصورة خاصة، حدد الانسان على ان يرى الأشياء المعنوية بمنظار مادي ايضاً، ومن ذلك فرحه وحزنه وسعادته، ويعبر تيم كاسر عن ذلك قائلاً: العناوين الرئيسية للصحف تكرم رابح اليانصيب المحلي والكتب التي تحمل عنوان، (كيف تصبح غنياً بسرعة)، تتصدر لائحة الكتب الاكثر مبيعاً والاعلانات المتعددة الالوان تزين صفاح الانترنيت ويراقب المشاهير على التلفزيون كل شيء من عربات ادوات الرياضية الى مستحضرات التجميل، ورغم اختلاف هذه الرسائل في الشكل، فان كل واحدة منها تعلن في جوهرها أن السعادة يمكن ان توجد في مركز التسوق وعلى الانترنيت(2)، وحاكمية هذه الفلسفة تقتضي ان كل المعايير بدت مادية بحتة، فهي قابلة للتسويق والعرض والنشر، ولكن هل فكرة تسويق كل شيء سلبية بالمطلق؟
بات تصدير الفكرة والشخص وتسويقهما من القضايا الحاضرة في الاعلام وصناع الدعاية والقضايا المشهورة، ولا شك ان تصدير الفكرة عبر التسويق يفقدها الكثير من قيمها ومضمونها الصحيح، فهي تفقد من دقتها الكثير، فليست الافكار بتلك المرونة التي من الممكن ان تصل الى الناس سالمة كما هي، والمتابع الحاذق يرى ان في افق المتابعات قد سوقت افكاراً كثيرة وشخصيات متعددة، وصعدت نجوم وهبطت اخرى، وكل نجم يصعد يسوق لأفكار معينة، تحمل اهمية بقدر نجومية وشهرة المسوق لها، دون ان يلتفت المشاهد على القيمة الذاتية للفكرة، وحين يملى الافق العام للمشاهد بمجموع الافكار المسوقة ستشكل فيما بعد الذهنية العامة التي لا يمكن كسرها، فالفكاهة المسوقة اليوم على انها فكرة تساهم في بناء الوعي هي ممارسة مقصودة لتأطير الذهنية العامة وتحديدها واثقالها بان الفكاهة القالب الحامل للفكر الذي يتناسب والطرح المعاصر لأفكار هذا العصر، فسوقت الفكاهة كثيراً وروج لها على انها الحل وهي ليست متعة فحسب بل هي عملية نقل للأفكار الكثيرة المتعددة والمتنوعة القادرة على تفكيك قضايا كثيرة في جسد الثقافة، ومثلها سوقت المغالطات العاطفية التي تعتمد على استدرار العواطف، فمثلاً، حين تريد ان تنتقص من شخصية معينة مؤثرة عليك ان تهيج الناس ضدها من خلال ربطها بقضية سلبية تثير عواطف الناس، وبُرمج المجتمع على ان يكون متفاعلاً مع كل القضايا العاطفية التي ترتبط بشخصية معروفة او مسؤولة من اجل الاطاحة بها، او تحميل شخص مسؤولية غيره، او مسؤولية اكبر من امكاناته، وسوقت مثلها فكرة النيل من الفاسد والتعدي على كل ما يتصل به من اولاد واهل واقارب والممتلكات الاخرى، وقد يصار الامر بالانتقاص من رفاقه وربما الملابس التي يلبسها، كما سوقت فكرت ان الدين يضد الحرية تماماً، وان الدين لا يصلح لقيادة المجتمع نحو الطموح الدولي وغيرها، باعتبار فشل بعض الانظمة او الحركات في هذا المضمار، وتجد مثل هذه الافكار المسوقة في ميدان وفضاء الاعلام والتواصل الاجتماعي كثيراً، ويحسن بنا هنا ان نقف على حقيقة تسويق الفكرة الهجينة.
ان تسويق الفكرة يعتمد على طرح مكثف ومستمر بالإضافة الى اختصار وتشذيب تتعرض له الفكرة وتصاغ بعناية وتكرر دوماً الى ان تستقر في الفضاء الذهني وترتكز فيه وتصبح لغة الفئة المؤثرة او البارزة في المجتمع، فاذا سوقت فكرة سيئة كانت اول انطلاقها من تنظيرات خاصة ومن ثم الى المتبني لها سواء كان في الاعلام او المواقع التواصلية ثم جمعيات ومؤسسات وتوجهات خاصة، فتصعد الفكرة في جو هذه الفضاءات الخاصة ومن ينتمي لها، فتأخذ حيز فطري وآخر عقلاني او عاطفي، وترسل كذلك كمادة خطاب او خيار ثقافي او اطروحة سياسية او اقتصادية او ثقافية او اشكالية محورية، كما هي اشكالات الليبراليين على الدين او اشكال بعض علماء التجريب على الاعتقاد الغيبي وتصورات أخرى قيد الانتشار، فصيغت الذهنية العامة عبر تسويق الفكرة والحدث والنص، حتى ان الناس يفكرون اليوم وفق ما هو مسوق ومعروف ومنتشر.
كان امل العديد من الكتّاب او الباحثين او الواعظين هو نشر الفكرة في أوسع نطاق ممكن، وهذا حلم كبير بالنسبة للكثير، فليس من السهل ان تنتشر الأفكار والمعارف وتأخذ حيزها بين الناس، الا ان فكرة الاشتهار والانتشار بدت متأخرة رتبة عن فكرة ما بعد الانتشار، فليس كل الأشياء المنتشرة والمشهورة مؤثرة، انما المؤثر اليوم في دنيا الناس هو المسوق والمنمق والمقدم المحفوف بالتلوين والتزيين والترتيب، الفكرة اليوم بالنسبة للناس كي تقبل تحتاج الى عوامل أخرى مساعدة، مثل الطعام الجيد المعد توفر له كل ما يضبطه حتى يأخذ حيزه عند الذوق، وان كان الطعام اليوم هو من اهم الأشياء التي سوقت أيضا.
اين تكمن المشكلة؟
هل المشكلة في التسويق؟ ام في المادة المسوقة؟ ام في المسوق نفسه؟ فيرجى تحديد المشكلة بالضبط، فان الامر يبدو غير واضح بالنسبة للكثير من الناس لا سيما غير الملتفت لتأثير القضايا المعروفة عند الناس، والحق الذي يقال، المشكلة الجوهرية تكمن في أهلية الأفكار والموضوعات للتسويق، ومن جهة أخرى هو ان التسويق لا يصلح بالضبط لكل الموضوعات. لماذا؟
لان تسويق الفكرة يعني إضفاء أشياء ليست من جوهرها ولا من حقيقتها، ستكون هنالك مبالغات كثيرة او تشذيب يقطع من أجزاء الفكرة او الموضوع ولا تصل كاملة، فمن يريد ان يسوق لفكرة الحرية في الفضاء العام يحتاج الى امثلة تطبيقية وشواهد كثيرة، ولا شك ان الشاهد سيأخذ من حيز فكرة الحرية ويفقدها بعض خصائصها او حدودها، فحين تنزل الفكرة من حيز المفهوم الى التطبيق تقع في مشكلات ومعضلات فكيف بها إذا اخذت الى حيز آخر وهو حيز التسويق والتفهيم الخاص!، فالنظرة السريعة اليوم لكل المفاهيم ستؤطر مفهوم (الحرية)، مثلاً وتجعله ينساق وفق الثقافة العامة المعاصرة، فيركز على جانب من جوانب مفهوم الحرية، ويأخذ هذا المفهوم حيزه في تشكيل الذهنية العامة عنه، ومن ثم سيكون المفهوم مختصراً بهذا الجانب الذي سوق له، ومن ثم حين توجه تساؤل لشاب في يومنا هذا عن الحرية سيجيبك بجواب مسوق له من قبل دون ان يشعر! وهنا تكمن الخطورة.
ان المفاهيم التي سوقت بصورة خاطئة وجعلت مطية لثقافة العصر تحتاج الى جرأة كبيرة لإرجاعها الى حيزها الصحيح دون تفقد قيمتها التي تكتنزها، وهي مهمة شاقة وليست باليسيرة، ولا مشكلة في إعادة محاكمة الأفكار ومنها محاكمة موضوعة حقيقة الدين الذي شرق قوم وغرب آخرين، هذا المفهوم الذي سوق كثيراً بصورة مغلوطة، وكذا مفهوم النبوة والامامة والكثير من هذه المفاهيم على مستويات كثيرة والتي تهم المجتمع الديني او الثقافي كثيراً، لان خطورة تسويق فكرة او اشبه بتشويهها، ولتبسيط ذلك ننظر في المثال الحيوي الآتي: (الدين هو علاقة بين العبد وربه)، هذه من الأفكار المسوقة التي لم تناقش كثيراً، وكان هذا المفهوم جامد لا يحرك ابداً، والحق ان العبارة المسوقة هذه وان كانت في أصلها عبارة صحيحة الا ان يسوق الدين بهذه الجزئية ويراد ان يفهم بهذه الصورة هو تقييد كبير لفاعلية الدين في المجتمع، وهي اطروحة مقيدة للدين وليست معززة له، فحين تطرح فاعلية وتأثير الدين وتخاطب الجمهور الذي سوق له هذه الفكرة بلا شك يسرد عليك اترك الناس، فالدين هو علاقة بينهم وبين الله، هو موضوع خاص جداً، لا تعممه على الحياة وهكذا اقوال وعبارات ستقرأها او تسمعها، ومثل ذلك مقولة: (الغطاء للروح لا للجسد)، حيث يقدم الحجاب ويربط بالعناية للانضباط الداخلي الخاص دون الاهتمام بالمظهر الذي هو تمثل لقيم الايمان الداخلية وغيرها من الأمثلة والنماذج الشائعة أوساط المجتمعات الإنسانية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ كوتلر يتحدث عن التسويق، فيليب كوتلر، ترجمة، فيصل عبد الله، مكتبة جرير، ص3.
2ـ الثمن الباهظ للمادية، تيم كاسر، ترجمة طارق عسيلي، المركز الاسلامي للدراسات الاستراتيجية، ط1، 2017م، ص9.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|