أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-3-2016
3307
التاريخ: 2024-05-16
769
التاريخ: 2023-05-26
1601
التاريخ: 24-1-2023
2581
|
هناك ظواهر كثيرة من ظاهرات الحرّية الفنيّة ( الأدبيّة ) تُوجد في القرآن عند سرد أحداث التأريخ ممّا جَعلته مُمتازاً عن مِثل التوراة التي هي أشبه بكتاب تأريخ منه بكتاب
هداية ، ونستطيع أنْ نعرض عليك منها الظواهر التالية : (1)
1 ـ إهمال القرآن ـ حينما يقصّ ـ كثيراً من مقوّمات التأريخ من زمانٍ ومكانٍ ، وأحياناً أبطال المعركة ، فليس في القرآن قصّة واحدة عنى فيها الزمان ، أمّا المكان إهمالاً يكاد يكون تامّاً لولا تلك الأمكنة القليلة المُبعثرة هنا وهناك والتي لم يُلفِت القرآن الذهن إليها ، كما عَمَد إلى إهمال الأشخاص في بعض أقاصيصه إهمالاً تامّاً ، اللهمّ إلاّ إذا كان لمعرفة الأشخاص دَخلاً في العِبرة بها .
وهذا مِن أُصول البلاغة في الكلام ، أنْ لا يَذكر من الحادث إلاّ ما كانت له صِلة بغرض الكلام .
2 ـ اختياره لبعض الأحداث دون بعض ، فلم يَعنِ القرآن بتصوير الأحداث الدائرة حول شخص أو الحاصلة في أُمّة تصويراً تامّاً كاملاً ، وإنّما يَكتفي باختيار ما يُساعده على الوصول إلى أغراضه ، أي ما يُلفِت الذهن إلى مكان العِظة وموطن الهداية ؛ ولعلّه من أجل ذلك كان القرآن يجمع في المُوطن الواحد كثيراً من الأَقاصيص التي تنتهي بالقارئ إلى غاية واحدة .
3 ـ كان لا يَهتمّ بالترتيب الزمني أو الطبيعي في إيراد الأحداث وتصويرها ، وإنّما يُخالف في هذا الترتيب ويَتجاوزه ، الأمر الذي أكثر من الإشارة إليه الأُستاذ الشيخ مُحمّد عَبده ، قال ـ بعد سردِ قَصَصٍ بني إسرائيل ذواتِ عِبَرٍ من سورة البقرة ـ : جاءت هذه الآيات على أُسلوب القرآن الخاصّ الذي لم يُسبَق إليه ولم يُلحَق فيه ، فهو في هذه القَصَص لم يلتزم ترتيب المؤرِّخين ولا طريقة الكُتّاب في تنسيق الكلام وترتيبه على حسب الوقائع ، حتّى في القصّة الواحدة ، وإنّما يُنسِّق الكلام فيه بأُسلوب يأخذ بمجامع القلوب ، ويُحرِّك الفكر إلى النظر تحريكاً ، ويَهز النفس للاعتبار هزّاً .
وقد راعى في قَصَص بني إسرائيل أنواع المِنَن التي منحهم اللّه تعالى إيّاها ، وضروب الكُفران والفُسوق التي قابلوها بها ، وما كان في أثر كلّ ذلك من تأديبهم بالعقوبات ، وابتلائهم بالحسنات
والسيّئات ، وكيف كانوا يُحدِثون في أثر كلّ عقوبة توبةً ، ويُحدِث لهم في أثر كلّ نوبة نعمةً ، ثُمّ يعودون إلى بَطَرهم ، وينقلبون إلى كفرهم ! (2)
وهكذا قصّة لوط جاءت في سورة الحجر : {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ}[الحجر : 61 - 73].
لكنّها لو لُوحظت مع إحدى قَصَص لوط في القرآن كقصّته في سورة هود ( الآيات : 78 ـ 83 ) تختلف عنها في ترتيب سرد أحداثها ، فتبتدئ بمجيء الملائكة ، ثُمّ حاله واضطرابه النفسي ، ثُمّ مجيء القوم ثُمّ موقفه وعرض بناته حتّى لا يَخزى ، ثُمّ ردُّهم عليه وعزمُهم على إتمام عزمهم ، ثُمّ موقف الملائكة وإخبارهم إيّاه بأنّهم رُسُل ربّه ، وإخبارهم بمجيء العذاب وموعده ، ثُمّ نوع العذاب .
فهنا نَلحظ أنّ المحاورة بينه وبين قومه تتمّ قبل أنْ تُخبِرُه الملائكة بأنّهم رُسُل ربّه ، والقصّة تجري بعد ذلك وقد رُتّبت وَقائِعُها الترتيب الذي يُشعر بأنّ الزمن هو المحور الذي يربط هذه الوقائع المختارة أو هذه الأحداث المصوّرة .
أمّا في سورة الحِجر فالملائكة تُعْلِمه كلّ شيء قبل مجيء قومه ، ومع ذلك تمضي المحاورة مع قومه وكأنّه لم يَعلم بأنّ أضيافه من الملائكة .
وليس يَخفى أنّ هذا بعيد عن الوقائع ، ومشاكلته قريب من القَصَص وما فيه مِن حرّيّة تُؤذن للقاصّ بأنْ يُرتِّب أَحداثه الترتيب الذي يصل إلى الغرض ويؤدّي إلى الأهداف .
ولعلّ السبب في هذا الاختلاف : القصد من قصّة لوط في سورة هود هو تثبيت قلب
النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) ومِن أجل ذلك عنى القرآن أَوّلاً بما ينال لوطاً مِن أذىً وقلقٍ نفسي ، كما نال مُحمّداً ( صلّى اللّه عليه وآله ) وهو باخعٌ نفسَه على أنْ لا يكونوا مؤمنينَ وضائِق به صدره الكريم ، أمّا القصد من القصّة في سورة الحِجر فقد كان بيان ما يَنزل بالمَكذِّبينَ مِن عذاب ؛ ومِن ثَمّ بدأ به قبل كلّ شيء .
4 ـ إسناده بعض الأحداث لأُناس بأعيانهم في موطن ، ثُمّ إسناده الأحداث نفسها لغير الأشخاص في موطنٍ آخر ، ومِن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف : {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } [الأعراف : 109] إذ نَراه في سورة الشعراء مَقولاً على لسان فرعون نفسه : {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } [الشعراء : 34] .
ويبدو أنّ هذا كلام تَذاكَرَه فرعون مع بِطانته من رجال الدولة ، فصحّ إسناده إليه تارة وإلى الملأ من قومه تارة أخرى ، ولذلك نجد تعقيب الآية الأُولى بقوله : {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } [الأعراف : 110، 111] ، نفس التعقيب الذي جاء للآية الثانية ، سِوى تبديل ( أرسل ) بقوله ( وابعث ) ، وتبديل ( ساحر ) بقوله ( سحّار ) ، والسحّار ( مِن أَبينة الحِرَف ) هو صاحب السِحر ، ويتّحد مع الساحر في المفهوم .
وهكذا تجد في قصّة إبراهيم من سورة هود (3) أنّ البُشرى بالغُلام كانت لامرأته ، بينما نجد البُشرى لإبراهيم نفسه في سورة الحِجر (4) وفي سورة الذاريات (5) ، ذلك ؛ لأنّ البُشرى بالذرّية لإبراهيم بُشرى لامرأته العجوز ، كما يَبدو ذلك من سرد القصّة في سورة الذاريات .
5 ـ إنطاقه الشخص الواحد في الموقف الواحد بعبارات مُختلفة حين يُكرِّر القصّة ، ومِن ذلك تصويره لموقف الإله مِن موسى حينَ رؤيته النار ، فقد نُودي في سورة النمل بقوله : {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل : 8] وفي سورة القَصَص : {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص : 30] وفي سورة طه : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه : 11، 12] .
وذلك يَشبه تصويره للمُوقف الواحد بعبارات مُختلفة حين صوَّر خوف موسى ، فمرّةً اكتفى بقوله : {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ } [طه : 21] ، ومرّةً أُخرى قال : {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} [النمل : 10] ، وهكذا في غيرهما من المواقف ، كتعبيره بالرَجفة مرّة وبالصيحة أُخرى والطاغية في غيرهما ، وكتعبيره في انشقاق الحَجَر عن الماء في قصّة موسى ، فانفجرت مرّة وانبجست أُخرى .
وهكذا مِن المسائل التي جَعلتهم يعدّون القَصَص القرآني من المُتشابِه ، ولكن ليس مِن شكّ في أنّ الاختلاف كانت نتيجة تغيُّرٍ في القصد أو الموقف ، وأنّ هذا التغيّر جَعل هذه قصّة وتلك قصّة ، وما لا نَرى من اختلافٍ ليس إلاّ الصور الأدبيّة التي تُلائم المقاصد والأغراض .
خُذْ لذلك مَثلاً قصّة موسى وصاحبه وفَعْله العجائب ، فتارة يقول له موسى : {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف : 71] وأُخرى : {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف : 74] ؛ لأنّ الإمْر ـ بكسر الهمز ـ : هو الأمر العَجَب ، وكلّ أَمر خالف المألوف فهو يُثير العَجَب ، سواء أكان خيراً أم شرّاً .
وهذه العبارة جاءت بشأن خَرْق السفينة بما لا يستلزم غَرَق أهلها ، فقد أثار عجب موسى ؛ حيث لم تَعد فيه فائدة ولا حِكمة ظاهرة ، ولعلّ فيه حِكمة خفيّة !
أمّا النُكْر : فهو الأمر المُنكر البادي قبحُه بوضوح ، وهو يَعود إلى قتل الغلام وهو طفل لم يَعقِل شيئاً ولم يرتكب ذنباً .
ومِن ذلك أَيضاً التعبير عن الأَرض اليابسة ، بالهامدة (6) مرّة وبالخاشعة (7) مرّة أُخرى ،
وذلك ؛ لاختلاف المُوقف والغرض :
فالأُولى في سورة الحج : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج : 5].
والثانية في سورة فصّلت : {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [فصلت : 37- 39].
والفارق بين الآيتَين هو السياق ، حيث مَساق الكلام في الآية الأُولى مَساق الحديث عن البَعث والنُشور ، فناسَبَ التعبير بالهُمُود بعده نُشور ، والهُمُود هو الخمود والهدوء يشبه هُمُود الموت .
أمّا الآية الأُخرى فسياقها سياق عبادة وضَرَاعة فناسب التعبير بالخشوع ، خشوع الذُلّ والاستكان ، يُقال : خَشَعت الأرض إذا يَبَست ولم تُمطَر .
والشواهد على ذلك كثيرة ووفيرة في القرآن .
حالات كائنة أَبرزها الترسيم
هناك الكثير من قَصَص قرآنيّة هي ترسيمات لحالات واقعيّة كائنة ، حكايةً عن أمر واقع ، وليست مجرّد فرض أو تخييل ، وهذا كحديث الأمانة وعَرْضِها على السماوات والأرض والجبال فأَبَيْنَ أنْ يَحملنَها وأَشفَقْنَ منها وحَمَلها الإنسان ، إنّه كان ظلوماً جَهولاً (8) .
وهذا تمثيل لعَرض الاستعدادات ، كان الإنسان أكثر استعداداً وأقوى قابليّة لحَمل الأمانة ، وهي ودائع اللّه أَودَعَها الإنسانَ لقابليّته الذاتيّة ، والتي هي عبارة عن العقل وقُدرة الهيمنة والإبداع ، وحتّى يكون خليفةَ اللّه في الأرض ، استحقّ الشموخ إلى هذا المقام الرفيع ، بفضل قابليّته الفائقة ، غير أنّه جَهول بشأن نفسه ظلوم لا يعرف قَدْر نفسه (9) .
فهذا ترسيم رائع للقابليّات واستجلاء أَرقاها وأَقوَمِها ، وهو أمر واقع وليس محض خيال .
وحديث ( أَخْذ الميثاق ) : {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف : 172] حكاية حال واقعة... بياناً لفطرة الإنسان على التوحيد :
الإنسان ، في جبلّته مَفطور على الإقرار بالتوحيد ، كما في الحديث المُستفيض عن النبيّ ( صلّى اللّه عليه وآله ) : ( كلّ مولود يُولد على الفطرة... ) (10) ، وهو المعنى أيضاً بقوله تعالى : {لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم : 30] ، وهكذا قوله تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [يس : 60، 61] ، إشارةً إلى العَهد المُودَع في فِطرة الإنسان ، وكلّ إنسان إذا راجع ضميره وَجَد هذا العَهد جليّاً بأَسطُره الواضحة ؛ ومِن ثَمّ صرّح الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ( أنّ الأنبياء إنّما بُعثوا ليُثيروا دفائِنَ العُقول ) (11) ، فدلائل التوحيد لائحة في عقول بني الإنسان لولا تراكم الغُبار عليه ، وهكذا كانت العُقول حُججَ اللّه الباطنة ، وكان الأنبياء الحُجج الظاهرة جاءوا لدعم العُقول (12) قال الإمام الكاظم ( عليه السلام ) : ( إنّ اللّه تبارك وتعالى أكملَ للنّاس الحُججَ بالعُقولِ ) (13) .
وهذا هو العَهد الذي عاهدَ اللّهُ الإنسان عليه ، مُعنِيَاً به الفِطرة التي فَطَر الناس عليها ، كنايةً عن العقول التي رُكّبت في ذَوات الأَنفُس .
أمّا ما حَسَبه البعض من إرادة ( عالَم الذرّ ) ـ حسبما جاء في بعض التفاسير ـ وأنّ اللّه أخرج ذُرّيّة آدم من صُلبه وأَشهدهم على ربوبيّته... فهذا شيء لا مَساس له بالآية الكريمة ، ولا كانت الآية مُشيرةً إليه ، بل ومنافاته مع ظاهر التعبير ، حيث قوله تعالى : ، وليس من ظهره فحسب .
_______________________
(1) وللأُستاذ مُحمّد أَحمد خلف اللّه هنا تحقيق لطيف ، راجع : الفنّ القَصَصي في القرآن الكريم ، ص80 .
(2) تفسير المنار ، ج1 ، ص346 .
(3) هود 11 : 71 .
(4) الحجر 15 : 53 .
(5) الذاريات 51 : 28 .
(6) الحج 22 : 5 .
(7) فصّلت 41 : 39 .
(8) من الآية 72 من سورة الأحزاب 33 .
(9) راجع : تفسير الصافي للمُحقّق الفيض الكاشاني ، ج2 ، ص369 ـ 371 ، والميزان في تفسير القرآن ، ج16 ، ص371 ـ 372 ، وللعلاّمة جار اللّه الزمخشري تحقيق أنيق في هذا المجال ، راجع الكشّاف ، ج3 ، ص565 .
(10) بحار الأنوار ، ج3 ، ص281 ، رقم 22 ، عن عوالي اللآلئ ، ج1 ، ص35 ، رقم 18 .
(11) في أُولى خطبة من نهج البلاغة .
(12) راجع : الكافي ، ج1 ، ص16 حديث هشام .
(13) المصدر : ص13 .
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|