x
هدف البحث
بحث في العناوين
بحث في اسماء الكتب
بحث في اسماء المؤلفين
اختر القسم
موافق
تأملات قرآنية
مصطلحات قرآنية
هل تعلم
علوم القرآن
أسباب النزول
التفسير والمفسرون
التفسير
مفهوم التفسير
التفسير الموضوعي
التأويل
مناهج التفسير
منهج تفسير القرآن بالقرآن
منهج التفسير الفقهي
منهج التفسير الأثري أو الروائي
منهج التفسير الإجتهادي
منهج التفسير الأدبي
منهج التفسير اللغوي
منهج التفسير العرفاني
منهج التفسير بالرأي
منهج التفسير العلمي
مواضيع عامة في المناهج
التفاسير وتراجم مفسريها
التفاسير
تراجم المفسرين
القراء والقراءات
القرآء
رأي المفسرين في القراءات
تحليل النص القرآني
أحكام التلاوة
تاريخ القرآن
جمع وتدوين القرآن
التحريف ونفيه عن القرآن
نزول القرآن
الناسخ والمنسوخ
المحكم والمتشابه
المكي والمدني
الأمثال في القرآن
فضائل السور
مواضيع عامة في علوم القرآن
فضائل اهل البيت القرآنية
الشفاء في القرآن
رسم وحركات القرآن
القسم في القرآن
اشباه ونظائر
آداب قراءة القرآن
الإعجاز القرآني
الوحي القرآني
الصرفة وموضوعاتها
الإعجاز الغيبي
الإعجاز العلمي والطبيعي
الإعجاز البلاغي والبياني
الإعجاز العددي
مواضيع إعجازية عامة
قصص قرآنية
قصص الأنبياء
قصة النبي ابراهيم وقومه
قصة النبي إدريس وقومه
قصة النبي اسماعيل
قصة النبي ذو الكفل
قصة النبي لوط وقومه
قصة النبي موسى وهارون وقومهم
قصة النبي داوود وقومه
قصة النبي زكريا وابنه يحيى
قصة النبي شعيب وقومه
قصة النبي سليمان وقومه
قصة النبي صالح وقومه
قصة النبي نوح وقومه
قصة النبي هود وقومه
قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف
قصة النبي يونس وقومه
قصة النبي إلياس واليسع
قصة ذي القرنين وقصص أخرى
قصة نبي الله آدم
قصة نبي الله عيسى وقومه
قصة النبي أيوب وقومه
قصة النبي محمد صلى الله عليه وآله
سيرة النبي والائمة
سيرة الإمام المهدي ـ عليه السلام
سيرة الامام علي ـ عليه السلام
سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله
مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
حضارات
مقالات عامة من التاريخ الإسلامي
العصر الجاهلي قبل الإسلام
اليهود
مواضيع عامة في القصص القرآنية
العقائد في القرآن
أصول
التوحيد
النبوة
العدل
الامامة
المعاد
سؤال وجواب
شبهات وردود
فرق واديان ومذاهب
الشفاعة والتوسل
مقالات عقائدية عامة
قضايا أخلاقية في القرآن الكريم
قضايا إجتماعية في القرآن الكريم
مقالات قرآنية
التفسير الجامع
حرف الألف
سورة آل عمران
سورة الأنعام
سورة الأعراف
سورة الأنفال
سورة إبراهيم
سورة الإسراء
سورة الأنبياء
سورة الأحزاب
سورة الأحقاف
سورة الإنسان
سورة الانفطار
سورة الإنشقاق
سورة الأعلى
سورة الإخلاص
حرف الباء
سورة البقرة
سورة البروج
سورة البلد
سورة البينة
حرف التاء
سورة التوبة
سورة التغابن
سورة التحريم
سورة التكوير
سورة التين
سورة التكاثر
حرف الجيم
سورة الجاثية
سورة الجمعة
سورة الجن
حرف الحاء
سورة الحجر
سورة الحج
سورة الحديد
سورة الحشر
سورة الحاقة
الحجرات
حرف الدال
سورة الدخان
حرف الذال
سورة الذاريات
حرف الراء
سورة الرعد
سورة الروم
سورة الرحمن
حرف الزاي
سورة الزمر
سورة الزخرف
سورة الزلزلة
حرف السين
سورة السجدة
سورة سبأ
حرف الشين
سورة الشعراء
سورة الشورى
سورة الشمس
سورة الشرح
حرف الصاد
سورة الصافات
سورة ص
سورة الصف
حرف الضاد
سورة الضحى
حرف الطاء
سورة طه
سورة الطور
سورة الطلاق
سورة الطارق
حرف العين
سورة العنكبوت
سورة عبس
سورة العلق
سورة العاديات
سورة العصر
حرف الغين
سورة غافر
سورة الغاشية
حرف الفاء
سورة الفاتحة
سورة الفرقان
سورة فاطر
سورة فصلت
سورة الفتح
سورة الفجر
سورة الفيل
سورة الفلق
حرف القاف
سورة القصص
سورة ق
سورة القمر
سورة القلم
سورة القيامة
سورة القدر
سورة القارعة
سورة قريش
حرف الكاف
سورة الكهف
سورة الكوثر
سورة الكافرون
حرف اللام
سورة لقمان
سورة الليل
حرف الميم
سورة المائدة
سورة مريم
سورة المؤمنين
سورة محمد
سورة المجادلة
سورة الممتحنة
سورة المنافقين
سورة المُلك
سورة المعارج
سورة المزمل
سورة المدثر
سورة المرسلات
سورة المطففين
سورة الماعون
سورة المسد
حرف النون
سورة النساء
سورة النحل
سورة النور
سورة النمل
سورة النجم
سورة نوح
سورة النبأ
سورة النازعات
سورة النصر
سورة الناس
حرف الهاء
سورة هود
سورة الهمزة
حرف الواو
سورة الواقعة
حرف الياء
سورة يونس
سورة يوسف
سورة يس
آيات الأحكام
العبادات
المعاملات
حكاية صاحب الجنتين
المؤلف: د. محمود البُستانِي
المصدر: دراسات فنية في قصص القران
الجزء والصفحة: ص277-292
2-06-2015
6795
القصة أو الحكاية الثانية ـ في سورة أهل الكهف ـ هي : حكاية صاحب
الجنتين.
وهذه الحكاية تجيء نموذجا ثانيا أو تجسيدا آخر للمقدمة التي استهلت
بها سورة أهل الكهف.
فقد لحظنا ان مقدمة السورة ، طرحت مفهوما هو : زينة الحياة الدنيا :
حيث اوضحت ان هذه (الزينة) ما هي إلا مجرد (اختبار) للكائن الآدمي ، وان مآلها هو
: الزوال : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ
أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } [الكهف : 7 ، 8] .
بعد هذه المقدمة ، جاءت قصة أهل الكهف تجسيدا لمفهوم (النبذ) لزينة
الأرض : حيث يمثل هروب أصحاب الكهف من المدينة الى الكهف نبذا لزينة الحياة.
ثم تجيء قصة صاحب الجنتين نموذجا قصصيا ثانيا حائما على مفهوم
(الزينة) ، وكيفية استجابة الآدميين لها.
واذا كانت قصة أصحاب الكهف ، تمثل موقفا إيجابيا في السلوك من حيث
صلته بمفهوم نبذ الزينة ،... فإن قصة صاحب الجنتين تمثل موقفا سلبيا من حيث صلة
بطلها بمفهوم الزينة.
ومن هنا ، ينبغي ان ننظر الى هذه القصة [من حيث البناء الهندسي] قسما
ثانيا من مجموع اربعة قصص ، يمثل كل منها قسما مستقلا ، ومتداخلا مع الاقسام
الاخرى ، من حيث تجسيدها جميعا لمفهوم واحد طرحته مقدمة السورة ، ونعني بها :
الآيتين المتقدمتين : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ
أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا
صَعِيدًا جُرُزًا } [الكهف : 7 ، 8] الخ. إلا ان كل قصة من هذه القصص الاربع تتناول
نموذجا إنسانيا يختلف الواحد منه عن الآخر ، حتى يشكل المجموع أوجها مختلفة لحقيقة
واحدة ينشطر الناس إزاءها فريقين : فريقا ينبذ زينة الحياة الدنيا ، وفريقا يلهث
وراء الزينة المذكورة.
وأبطال الكهف : يمثلون النموذج الاول : أي ، النموذج الذي ينبذ زينة
الحياة الدنيا. أما صاحب الجنتين ، فانه يمثل النموذج الثاني : أي : النموذج الذي
يلهث وراء زينة الحياة العابرة.
ولنقف ـ عند هذه القصة أو الحكاية ـ :
تبدأ حكاية صاحب الجنتين ، على النحو التالي :
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا
جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا
زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ
شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ..} [الكهف : 32 - 34] .
إلى هنا ، فان الحكاية تتحدث عن رجل يمتلك بستانين كبيرين كثيري
الثمر.
لكن ، بإزاء هذا الرجل ، رجلا آخر لا يمتلك ـ فيما يبدو ـ مثل أموال
صاحب : الأمر الذي جعل صاحب الجنتين أو البستانين يدل ويتباهى على الآخر بملكيته
المذكورة.
ولنقرأ :
{فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا
وَأَعَزُّ نَفَرًا } [الكهف : 34]
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ
تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي
لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } [الكهف : 35 ، 36]
اذن : ثمة بطلان ، أحدهما : كافر ، مشكك ، يمتلك أموالا وأمجادا لا
يمتلك مثلها صاحبه.
أما صاحبه : البطل الآخر ، فعلى العكس من ذلك ،... إنه رجل مؤمن لا
يعنى بالأموال والامجاد الدنيوية. ولذلك ، أجاب صاحبه الكافر ، بهذه الكلمات :
{ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا
أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا } [الكهف : 37 ، 38] .
{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا
قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى
رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا
مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ
تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف : 39 - 41] .
وبعد هذا الحوار بين الرجلين ، تختتم القصة ، راسمة مصيرا أسود للرجل
الكافر ، هو : إبادة بستانيه ،{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ
كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ
يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ
يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا } [الكهف : 42 ، 43] .
إن هذه الخطوط العامة للقصة ، تدلنا على وجود بطلين ، وحدث ، وبيئة ،
ومواقف : تحوم جميعا على (مفهوم) محدد يتصل بطبيعة الاستجابة الادمية للمتاع
الدنيوي العابر ، وطريقة تعامله مع المتاع المذكور.
غير ان ما يهمنا من ذلك كله ، هو : الشكل الفني للقصة ، وكيفية صياغة
(الأفكار) المذكورة فيها ، من حيث صلتها بالهيكل الجمالي للقصة ، ومن حيث صلتها
بالقصص الثلاثة في السورة ، ومن حيث صلتها بمقدمة السورة ،... ثم من حيث عناصرها :
بيئة وحدثا ومواقف ،... ثم من حيث طرائق السرد والحوار اللذين تم من خلالهما صوغ
العناصر المذكورة.
ونبادر الى القول ، بان هذه القصة [شأنها شأن سائر القصص القرآنية]
تحفل بأسرار فنية بالغة الدلالة والإمتاع.
وبالرغم من قصر هذه الحكاية [من حيث الحجم اللغوي لها] ، وبالرغم من
(الموقف) المفرد فيها [من حيث النمط الفكري لها] بالرغم من ذلك : فإن ، الأسرار
الفنية في صياغتها : عناصر وبناء تظل بالغة الإثارة والمتعة ، على نحو ما نبدأ
بتوضيحها مفصلا.
تتضمن قصة [صاحب الجنتين] عنصرا بيئيا هو : جنتان لأحد الأبطال ،
ومجدا إجتماعيا هو : الانتماء العشائري للبطل المذكور : { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا
وَأَعَزُّ نَفَرًا}
كما تتضمن القصة بطلين : مؤمنا وكافرا. والأخير هو الاكثر مالا
والأعز نفرا.
وتتضمن القصة موقفا هو : تباهي الكافر بماله وعشيرته ، ثم : تصوره
الخاطئ بدوام هذا التملك ، وتشكيكه باليوم الآخر.
وعلى العكس من ذلك ، فإن البطل المؤمن ، يمتلك قضية هي : ايمانه
بالله ، ثم : تأدية وظيفته العبادية المتمثلة في إزجاء النصيحة لصاحبه ، ولفت
انتباهه الى أن الملك لله ، والى أن جنتيه من الممكن أن تصبحا صعيدا زلقا : أرضا
جرداء.
وتتضمن القصة حدثا هو : إبادة الجنتين على نحو ما تنبأ به : البطل
المؤمن.
إذن : عناصر القص : من بيئة ، وشخصية ، وحدث ، وموقف هذه العناصر
جميعا قد انتظمت القصة المذكورة وفق بناء يتساوق مع حجم الأقصوصة التي يقوم هيكلها
ـ عادة ـ على موقف مفرد وحدث مفرد وبيئة مفردة ، وأبطال محدودي العدد.
ومن حيث لغة القص ، فإن (الحوار) هو العنصر الغالب فيها. أما (السرد)
فيمثل مساحة صغيرة من اللغة ونقف أولا مع (لغة) الأقصوصة.
الحوار ـ مثلما قلنا ـ يمثل غالبية اللغة في هذه الأقصوصة. وقد انتظم
الحوار شكلان من أشكاله المعروفة ، هما : الحوار الخارجي والحوار الداخلي :
ومن الواضح ، أن تنوع الحوار يضفي عنصرا جماليا على الأقصوصة. فضلا
عن أن السياق القصصي الذي يفرض هذا التنوع في الحوار ،... يضخم من عنصر الجمال
الفني المذكور.
ويتمثل الحوار الخارجي في تلك الحادثة التي جرت بين البطل : المؤمن
والكافر من نحو : (فقال لصاحبه) و(وقال له صاحبه) إلخ.
أما الحوار الداخلي فينحصر في ذلك الحديث الذي وجهه صاحب الجنتين
لنفسه ، مرتين. مرة قبل أن يصبح بستاناه ارضا جرداء. ومرة : عندما اصبحا فعلا أرضا
جرداء.
في المرة الاولى : تحاور مع نفسه قائلا : {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ
أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي
لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف : 35 ، 36]
وفي المرة الثانية ، تحاور مع نفسه ، قائلا : {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا }
والسؤال الآن هو ، ترى : ما هي المرتكزات الفنية للحوار الداخلي في
هذه الأقصوصة؟ مع أن سائر الحوار كان خارجيا طوال القصة ، خلا ما تقدم؟
من حيث المظهر الشكلي للحوار ، يبدو الحوار الداخلي وكانه حوار خارجي
أيضا. والدليل على ذلك ، أن البطل الكافر عندما تحدث مع نفسه من أن جنته لن تبيد ،
ومن ان الساعة لن تقوم إلخ... حينئذ أجابه البطل المؤمن ، بانه لن يشرك بالله ،
وبانه كان من الإفضل ان يقول "ما شاء الله لاقوة الا بالله" بدلا من ذلك
القول البذيء..
وهذا يعني احدى حالتين : إما ان يكون المؤمن قد سمع حوار الكافر مع
نفسه ،... وإما ان يكون قد ألهم بما في اعماق الكافر من افكار.
والقصة لم تشر الى أحدى تينك الحالتين ، وانما حدثتنا فحسب عن أن
الكافر قال : {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا }
هنا ، يواجه المتلقي ذينك الاحتمالين من جديد ، أولهما : ان الكافر
قد تحدث مع نفسه بصوت مسموع : بحضور صاحبه.
والآخر : ان المؤمن قد ألهم المعرفة بما في اعماق صاحبه.
أما الاحتمال الاول ، فيرده : أن الكافر لم يتحدث بمقالته المذكورة
إلا بعد دخول جنته ، وانتهاء محادثته مع صاحبه ولنقرأ المحاورة من جديد : {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ
يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا .. }
وواضح من هذه الفقرات انها تشتمل أولا على حوار خارجي هو : قول
الكافر للمؤمن : انا اكثر منك مالا... ثم انتهى الحوار بينهما. وأعقبه (سرد) أي :
تدخل من النص وتعقيب على قول الكافر : {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} ، فهذه الفقرة هي تعقيب السماء على الموقف المذكور ، أي : ان الحوار
الخارجي قد انتهى بين المؤمن والكافر.
ثم أعقبه هذا الكلام (قال : ما اظن ان تبيد...) الخ ، وهذا يعني ان
الكلام المذكور هو حديث داخلي يوجهه الكافر الى نفسه ، وليس حديثا يوجهه إلى صاحبه
، ما دام الحديث قد انتهى مع دخول صاحب الجنتين إلى جنتيه.
واذن : يتعين ان يكون الحوار داخليا ، وإلى ان المؤمن قد ألهم معرفة
ذلك بشكل أو بآخر.
ثمة احتمال ثالث هو : ان المؤمن قد استخلص افكار الكافر استخلاصا من
خلال تباهيه بالجنتين ،... إذ ان التباهي يفصح عن الغفلة التي تصاحب الفرد عندما
يغيب عن ذهنه ، أن العطاءات من الله جميعا...
غير ان هذا الاحتمال ، بعيد بدوره ،... لان اجابة المؤمن رد مفصل عن
كل مفردات التفكير الذي ألم بالكافر ، وبخاصة أن البطل المؤمن أشارة الى حادثة
دخول الكافر الى بستانه ، وعقب عليها قائلا : { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ } الخ.
واذن : يتعين ـ من جديد ـ أن يكون البطل المؤمن قد ألهم معرفة
الأفكار التي طافت بخيال الكافر.
إلا اننا في الحالات جميعا ، ينبغي ان نلفت الانتباه الى ان صياغة
الحوار بالشكل المتقدم ، وجعله خاضعا لجملة من الاحتمالات ، أو استخلاص واحد محدد
منها ـ كما استخلصنا ـ ذلك ،... هذا النمط من الصياغة له اهميته الفنية الكبيرة ،
دون ادنى
شك... إنه ، يثري اذهاننا بهذه التساؤلات الممتعة ،... ويمدنا بتذوق
حي لأمثله هذه النصوص الفنية العظيمة.
بعد أن أو ضحنا ان الحوار الداخلي الذي تحدث به صاحب الجنتين مع نفسه {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ
أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي
لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا } {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي
أَحَدًا }
هذه الحوارات الداخلية الأربعة... بعد أن اوضحنا أنها قد تسربت ـ
بشكل أو بآخر ـ الى سمع الرجل المؤمن ،... حينئذ يحق لنا ان نتساءل عن السر الفني
لصياغة هذه الحوارات داخليا [بدلا من الحوار الخارجي].
ولقد كان من الممكن ان يخاطب البطل الكافر ، البطل المؤمن بهذه الافكار
، كما خاطبها بأفكاره التي تباهى بها من أمثال قوله { أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا...} إلخ.
طبيعي ، فإن (التباهي) يتطلب كلاما خارجيا موجها إلى (الآخرين) حتى
يحقق دلالته المرضية…
كما ان الرد على التباهي يتطلب كلاما خارجيا موجها إلى (الآخرين) ،
حتى يحقق دلالته العبادية عند البطل المؤمن.
وهذا ما يسوغ لنا صياغة الحوار الخارجي في قصة صاحب الجنتين.
وهناك مسوغات فنية أخرى نقف عليها لاحقا. غير أن ما يهمنا الآن هو :
توضيح المسوغات الفنية للحوار الداخلي ، [وليس الحوار الخارجي].
ومرة ثانية نتساءل :
لماذا لم يخاطب الكافر المؤمن بأفكاره الحائمة على أن جنتيه لن تبيدا
، وان الساعة لن تقوم ، وانه سيجد خيرا من جنتيه في الحالة المضادة لتصوره ، وإلى
تمنيه عدم الشرك في نهاية المطاف...
نقول : لماذا احتفظ البطل الكافر بهذه الافكار في داخله بدلا من
توجيهها الى صاحبه المؤمن؟
ان الاجابة على التساؤل المذكور ، تتحدد بوضوح حينما نضع في الاعتبار
أن بعض المواقف لا يمكن أن يبرزها الفرد الى (الآخرين) : نظرا لبذاءة هذه المواقف
، أو للخجل الذي يغلف الفرد من إظهار أسفه ، أو لغياب (الآخرين) عنه... أو... الخ.
وفيما يتصل بصاحب الجنتين ، نجد أن هناك (حوارات) داخلية أربعة قد
وجهها الى نفسه. وان كلا منها ينطوي ـ من حيث السر الفني لصياغة مثل هذا الحوار ـ
على مسوغ ، نبدأ بتوضيحه على النحو التالي :
1 ـ الحوار الداخلي الاول هو :
{قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا}
ومن الواضح ، أن مثل هذا القول يتطلب أن يحاط بنوع من (السرية) ،
نظرا لعدم انطوائه على يقين ثابت ببقاء الجنتين ، سالمتين مدى العمر. فإن كل ما
تنبته الأرض ، معرض لمختلف الآفات الزراعية التي تأتي على النبت : وهذه حقيقة
مألوفة لا تحتاج الى تأمل.
حينئذ : فإن ابراز ما يضاد هذه الحقيقة ، إلى كلام مسموع ، يعرض
صاحبه إلى السخرية أو التشكيك بقيمة كلامه مادام لم ينطو على حقيقة ثابتة : وهو ما
يجعله محتفظا بمثل هذه الأفكار بداخله ، حتى يجنب نفسه أية إهانة إجتماعية تلحق
به.
مضافا الى ذلك ، فإنه ليس هناك ما يشكل ضرورة لإبراز الأفكار
المذكورة ما دامت غير متصلة بعنصر (التباهي).
فصاحب الجنتين [وهو شخصية مريضة] لا يعنى إلا بإبراز أمجاده الموهومة
التي يتشبث بها : حتى ينتزع تقديرا اجتماعيا زائقا يحقق من خلاله إشباع (ذاته)
المريضة. وقد حقق هذا الإشباع فعلا عندما تباهى بجنتيه ، وبعشيرته (انا اكثر منك
مالا واعز نفرا) ،... وحينئذ لا ضرورة لأن يشفع ذلك بتباه آخر لم يطمئن إليه تمام
الاطمئنان ، ونعني به : بقاء الجنتين سالمتين الى الأبد.
إذن : مجرد كون صاحب الجنتين غير مطمئن الى بقاء ملكه ، يشكل مسوغا
لان يحتفظ بافكاره داخل نفسه.
والمسوغ الثاني هو : ان ابراز افكاره المذكورة ، يعرضه للسخرية.
والمسوغ الثالث هو : أن بقاء الملك لا يتصل مباشرة بقيمة (التباهي) ،
ما دامت القيمة الفعلية منحصرة الآن في (وجود) الملك حاضرا ، وليس في (مستقبل)
وجوده.
اذن : للمرة الجديدة ، نلحظ وجود ثلاث مسوغات فنية ، وراء صياغة
الحوار داخليا [حديث الشخص مع نفسه] في الفقرة القائلة : (ما اظن ان تبيد هذه
أبدا).
وهذا كله فيما يتصل بالحوار الاول.
2 ـ اما الحوار الداخلي الذي اعقب الحوار السابق ، ونعني به : الحوار
التالي : (وما اظن الساعة قائمة)... هذا الحوار ، يظل مسوغه الفني [ من حيث ضرورة
الاحتفاظ بسريته] واضحا كل الوضوح.
فالتشكيك بقيام الساعة ، يجسد فكرة بذيئة ، تفرض على صاحبها أن لا
يجهر بها ، بل يحتفظ بها لنفسه ، ما دامت لم تنطو على يقين ثابت ، وما دامت تقابل
ـ من حيث الاستجابة الاجتماعية ـ بإنكار.
كل ذلك ، يشكل مسوغا لأن يصاغ الحوار المذكور داخليا : كما هو واضح.
3 ـ الحوار الثالث بدوره { وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا
مُنْقَلَبًا} .
هذا الحوار ، يلقي الضوء على الحوار السابق من جانب ،... كما أنه
يحتفظ بنفس المسوغات التي تفرض على صاحب الجنتين ، أن يبقي أفكاره البذيئة داخل
نفسه ، من جانب آخر.
فلقد سبق أن قلنا ، ان إنكار قيام الساعة ، لا ينطوي على يقين ثابت
في ذهن الشخصية المريضة : صاحب الجنتين.
يدلنا على ذلك ، ان الحوار الثالث (ولئن رددت الى ربي) يتضمن تشكيكا
بذلك (الإنكار). فلو كان صاحب الجنتين ، متيقنا بصحة أفكاره المريضة التي أنكرت
قيام الساعة ، لما تردد وقال (لئن رددت...) ، وهذا يعني انه غير متيقن بإنكار
الساعة ، بقدر ما هو مشكك : شأنه شأن سائر المرضى الذين تحتجزهم ظلمة أعماقهم من
رؤية النور.
وما دام الأمر كذلك : فإن الاحتفاظ بمثل هذا التشكيك داخل النفس بدلا
من الجهر به ،... يشكل مسوغا فنيا لابقاء تلكم الأفكار خبيئة في الأعمال ،... ومن
ثم صياغتها ـ من حيث الشكل الفني للغة القصة ـ حوارا داخليا يتحدث به المرء مع
نفسه.
وهكذا ، نجد ان الحوار الثالث تضمن دلالتين فنيتين : احداهما هي : القاء الضوء على الحوار السابق ،... والثانية هي : تبيين السر الكامن وراء صياغته حوارا داخليا بدلا من الحوار
الخارجي.
4 ـ الحوار الأخير الذي وجهه صاحب الجنتين لنفسه هو قوله : {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ
بِرَبِّي أَحَدًا } .
والمسوغ الفني لصياغة هذا الحوار (داخليا) يتضح بجلاء حينما ندرك بان
الندم على موقف خاطئ ، يتطلب عدم الجهر به ، وبخاصة أن صاحب الجنتين في حواره
الداخلي الاول (لن تبيد أبدا) قد أدرك سخافة تصوره... مثلما أدرك ان التشكيك بقيام
الساعة وما وراءها ينطوي على سخف أشد [في حواره الثاني والثالث]... وكل ذلك يدفعه
ـ حين يتكشف له الواقع ـ الى ان يضاعف إحساسه بخطأ تصوره السابق ،... ومن ثم يدفعه
الى ان يحتفظ بسرية أفكاره ، متمثلة في ذلك الحوار المرير {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ
بِرَبِّي أَحَدًا }.
اذن : المسوغات الفنية لصياغة الحوارات الاربعة داخليا ، قد اتضحت
أمامنا تماما ، مما تعمق من تذوقنا لجمالية هذا النص القصصي بما ينطوي عليه من
أسرار فنية وقفنا عليها بالتفصيل.
الوظيفة الفنية للحوار
بعد أن أوضحنا ، طبيعة السرار الفنية وراء صياغة الحوار [في قصة صاحب
الجنتين] بشكليه الخارجي والداخلي ،... يحسن بناء الآن ان نتحدث عن الأسرار الفنية
لعنصر (الحوار) نفسه : من حيث المهمات الجمالية التي انطوى عليها ،... وهي مهمات
تتصل بالتطوير العضوي لمواقف القصة وحدثها.
لقد خيل لصاحب الجنتين أن جنتيه ستبقيان عامرتين مدى العمر ،... وهذا
التصور الخاطئ ، قد استكشفناه من الحوار الداخلي الذي وجهه البطل الكافر لنفسه {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ
أَبَدًا} .
ومما لا شك فيه ، أن هذا الحوار قد ألقى إنارة تامة على خاتمة القصة
من حيث المصير القاتم لجنتيه. كما أنه قد شكل حلقة وصل بين المقدمة القصصية التي قالت
لنا : أن زينة الحياة الدنيا ، زينة عبارة سرعان ما تصبح ارضا جرداء " صعيدا
زلقا " ، وبين الخاتمة القصصية التي انتهت بإبادة الجنتين.
والمهم ، ان الوظيفة الفنية الاولى للحوار المذكور ، قد تجسدت : في
تطوير الحدث من كونه جنة عامرة قد اقترنت بتصور خاطئ في ديموميتها ، الى تصور مضاد
هو إبادة الجنة المذكورة.
وبكلمة أخرى : إن القارئ أو المستمع قد تهيا ذهنيا لأن يستكشف مصير
الجنة التي تباهى بها صاحبها ، وأيقن انها لن تبيد... هذا التهيؤ الذهني قد أثاره
حوار صاحب الجنتين مع نفسه... وحينما جاءت خاتمة القصة بمصيرتلك الجنتين ، يكون
القارئ أو السامع قد تبلور لديه تماما خطأ ذلك التصور ، أي : ان التصور ببقاء
البستانين قد طور الحدث حتى انتهى الى ما يضاده من الموقف والحدث.
أما الحدث فقد انتهى الى ابادة البستان.
وأما الموقف فقد انتهى الى الاعلان عن الندم.
وهذا كله فيما يتصل بالحوار الاول (لن تبيد ابدا).
أما فيما يتصل بالحوار المشكك بقيام الساعة {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً } ، والحوار الخاطئ عن المصير الأخروي {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي
لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا }... فقد تحدد بوضوح مدى اسهامه في
تلوين تلك الخاتمة السوداء لمصير صاحب الجنتين : ذلك ، أن قوله : {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ
بِرَبِّي أَحَدًا } يعد
تطويرا عضويا لذلك التصور الخاطئ الذي اعلنه في بداية القصة ، أي : جوابا حاسما
لكل تصوراته البذيئة.
وحين نتجه الى سائر العناصر المتصلة بـ(الحوار) واسهامها في تطوير
الأحداث ، نجد انها قد احتفظت بنفس المهمة الفنية للتطوير...
ولعل الحوار الخارجي الذي وجهه البطل المؤمن لصاحبه الكافر ، يعد
نموذجا واضحا لعملية التطوير المذكورة.
ولنقرأ هذا الحوار من جديد :
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا
أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا
قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ
خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ
فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } [الكهف : 37 - 40]
إن هذا الحوار الخارجي ، مكتنز بمهمات جمالية شتى : من حيث تواشج
صلاته بأجزاء القصة كلها ، ومن حيث تشكله نموا عضويا لمواقف سابقة ، من حيث
مساهمته في تنمية مواقف جديدة...
فأولا : يعد هذا الحوار صوتا معبرا عن السماء في جوابها لأي تصور
خاطئ يصدر عنه هذا الكائن الآدمي أو ذاك ، فبدلا من أن تعقب السماء [في هذه القصة]
على موقف صاحب الجنتين ،... جعلت التعقيب على لسان البطل المؤمن.
وواضح ، أن صياغة الجواب على لسان أحد المؤمنين ، ـ بدلا من السماء ـ
ينطوي على أكثر من خصيصة فنية ، منها : أن التحاور بين طرفين بشريين ، يخلع حيوية
خاصة على الموقف. ومنها :
ان الجواب من قبل كائن آدمي قد اهتدى الى الحقيقة ، يظل اشد قناعة في
صواب الموقف الذي صدر عنه ، بالقياس إلى خطا الموقف الذي صدر عنه كائن آدمي آخر ،
لم يهتد الى الحقيقة.
ومنها :
أن البيئة القصصية نفسها قد اقترنت بوجود كائنين : احدهما يمتلك مالا
عابرا ، والآخر لا يمتلكه. وما دام الأمر كذلك ، فإن الاجابة مباشرة ـ من قبل
البطل الآخر ـ تظل اشد وقعا في بلورة الموقف.
اذن : قد اتضحت المهمة الجمالية الاولى هذا الحوار ، متمثلة في كونها
صوتا معبرا عن السماء : ولكن من خلال بطل بشري مؤمن ، فرضته طبيعة البيئة القصصية.
وأما من حيث التواشج العضوي بين اجزاء القصة وسائر القصص التي
تضمنتها سورة الكهف من جانب ،... ثم التواشج العضوي بين اجزاء هذه القصة الوحدة من
جانب ثان ،... وصلة اولئك (بالحوار) الذي نتحدث عنه. أقول ، من حيث هذا التلاحم
العضوي ، نجد أولا ان (الحوار) قد تشكل نموا وتطويرا لموقف سابق.
الموقف السابق هو : تلك المقدمة القصصية التي استهلت بها سورة
(الكهف) {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ
أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} .
فهذه المقدمة تشير الى ان الأرض متاع عابر ، وان نهايتها صعيد جرز ،
أي : خراب الأرض وما فيها.
هذا الموقف ، قد تنامي وتطور على لسان البطل المؤمن ، حيث أعاده على
مسامعنا من خلال محاورته مع صاحب الجنتين. حيث ألفت انتباهه الى ان المزرعة التي
تباهى بها صاحبها ، وخيل إليه انها لن تبيد ، من الممكن أن تباد ذات يوم وتصبح
ارضا خرابا {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا
زَلَقًا}.
اذن : الحوار الخارجي الذي وجهه البطل المؤمن الى الكافر قد تضمن
اجابة على ذلك الموقف الذي رسمته القصة في بداية سورة الكهف ،... انها : تجسيد
لذلك الموقف ، وتطبيق عملي له.
هذا التجسيد قد اضطلع عنصر (الحوار) به ، مما يفصح عن بعد آخر من
مهمات هذا الحوار فنيا : من حيث كونه قد أنمى وطور الموقف السابق.
ولكن الامر لا يقف عند كون الحوار قد تشكل تطويرا عن موقف سابق ، بل
قد تشكل تطويرا لموقف لاحق أيضا.
ترى : ما هو هذا الموقف ؟؟
ان مهمة الحوار الفنية (من حيث تطويرها لأحداث القصة) لاحقا ، تتمثل
في أن البطل المؤمن قد أرهص بالنهاية المحتومة لصاحب الجنتين. فالبطل المؤمن حذر
الكافر من ان جنته من الممكن ان تصبح ذات يوم صعيدا زلقا ، أي : أرضا جرداء.
وفعلا : تجسد هذا التحذير في حدث ختمت القصة ، به ، ونعني به : ابادة
الجنة : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ
يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
} .
وهنا ، ينبغي إلا نمر عابرا على هذا الحدث وصلته الفنية بـ(الحوار)
الذي لم يجره البطل المؤمن عابثان بقدر ما أجراه وهو على احاطة بمثل هذا المصير.
فالبطل المؤمن ـ كما سبق القول ـ قد ألهم معرفة الحوار الداخلي الذي اجراه صاحب
الجنتين مع نفسه ، عند ما حاورها قائلا { مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا.. } .
وإلهام مثل هذه المعرفة يتساوق فنيا مع المصير القاتم الذي لحق صاحب
الجنتين.
والملاحظ ، أن كل خطوات التفكير الذى رافق صاحب الجنتين ، قد وجد له
جوابا في حوار البطل المؤمن ،... وهذا مما يضاعف من حجم المهمة الفنية للحوار.
فالأمر لم يقتصر على توقع البوار لبستاني الكافر ، بل واكب كل خطوات التفكير الذى
ألم بصاحب البستان : سواء اكان ذلك من خلال الحوار الخارجي الذي جرى بين المؤمن
والكفر ، أو الحوار الداخلي الذى أجراه الكافر مع نفسه ، أو من خلال الحوار من حيث
صلته بعملية (السرد) ايضا. فالبطل المؤمن خاطب صاحب الجنتين بقوله : {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا
أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} .
وهذا الخطاب قد وجد له جوابا فنيا في خاتمة القصة عندما ندم صاحب
الجنتين على تصوره الخاطئ ، وهتف قائلا {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا} .
هذا الهتاف هو : النمو العضوي الذي بدأ بخطاب المؤمن (لا اشرك بربي
احدا) : حيث يشكل مثل هذا الخطاب بداية ترهص بنهاية مماثلة تلحق صاحب الجنتين حتى
ليهتف بنفس الخطاب الذي وجهه إليه البطل المؤمن في بداية القصة.
والخطوة الثانية من خطوات التفكير الذي رافق صاحب الجنتين ، وصلتها
بالحوار الذي طور الموقف اللاحق ، هي : قول البطل المؤمن : { وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ
قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ }
فهذه الفقرة الحوراية ، وجدت لها جوابا في نهاية القصة ايضا عند ما
عقبت السماء على مصير صاحب الجنتين بقولها : {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا
كَانَ مُنْتَصِرًا } [الكهف : 43] حيث نبه البطل المؤمن صاحبه الى إشاءة الله ، والى انا
هي التي تقف وراء بقاء الجنتين أو عدمهما. وحيث جاء الجواب في نهاية القصة ، ان
القوى التي تخيل صاحب الجنتين بمقدورها ان تسعفه ، لا قيمة لها ما لم ترتبط
بالسماء ، حيث لم تستطع ان تنقذه من بوار الجنتين.
واما الخطوة الثالثة فهي بوار الجنتين فعلا ، على نحو ما توقعه البطل
المؤمن (فتصبح صعيدا زلقا) ثم : تجسيدها عمليا {وَأُحِيطَ ... وَهِيَ
خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} إذن
: قد طور حوار البطل المؤمن ، احداث القصة ومواقفها اللاحقة على النحو الذي لحظناه
الآن. كما شكل هذا الحوار نفسه نتيجة نامية ومتطورة عن مواقف سابقة هي : اشارة
النص الى زينة الحياة الدنيا ومصيرها الى الخراب ، على نحو ما لحظناه سابقا.
فاذا أضفنا الى ذلك صلة هذا الحوار ، بالحوارات السابقة : خارجية
وداخلية ،... امكننا حينئذ ان ندرك مدى الخطورة الفنية لعنصر (الحوار) في قصة صاحب
الجنتين ، وما قدمه من وظائف أخرى وقفنا عليها مفصلا.
وحين نتجاوز (الحوار) الى العناصر القصصية الاخرى : من بيئة ومواقف
وأبطال ، نجد أنها حافلة بما هو مدهش فنيا بذات الخطورة التي لحظناها في عنصر
(الحوار).
وبما أننا ألقينا إنارة عليها من خلال حديثنا عن عنصر (الحوار) ،
فحينئذ لا نجد حاجة الى الحديث عن هذه العناصر. بل نكتفي بلفت الانتباه الى جملة
من الخصائص الجمالية لها.
فمن حيث (البيئة) ، نجد انها قد رسمت وفق مرأى حي موسي بجمال الطبيعة
نفسها. فالجنتان حفتا بالأعناب ، وبالنخل ، وبالزرع ، وبالأثمار.
وحيال هذا المرأى الجمالي الحي ، نجد مرأى مضادا له تماما ألا وهو :
المرأى الموحش ، حيث اصبحت المزرعة {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}
ثم ، يتضاعف حجم المرأى الموحش عندما يقترن بمشاعر موحشة ايضا : تلك
المشاعر الى تجسدها هذه الفقرة : {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا}.
فتقليب الكف ـ فضلا عن انه صورة جمالية لها قيمتها الكبيرة ـ يظل
إفصاحا عن تلكم المشاعر الموحشة التي تراكمت في اعماق صاحب الجنتين وهو يرى مزرعته
قد ابيدت تماما.
ثم : مما يضاعف من دائرة هذه الوحشة ، أن تقترن أيضا بالعنصرين
المادي والبشري الذين سخرهما صاحب الجنتين ، بغية استمرارها : حيث تلاشت كل هذه
الجهود التي بذلها من أجل بقاء المرزعة... ، ولذلك نجده يقلب كفيه ، ليس على ذهاب
المزرعة فيها فحسب ، بل (على ما انفق فيها) أيضا كما يقول النص.
واذن : ما أشد هذه الوحشة التي داهمت صاحب الجنتين : من خلال الرسم
الفني للبيئة وما اكتنفتها من المشاعر : مزرعة جميلة محفوفة بالزرع ، والاعناب ،
والنخل ، والأثمار ، ثم : تباد فجأة ،... وإذ بصاحبها يقلب كفيه ، على ما انفق
فيها ،... ثم لا يجد من ينصره... ثم يتمزق من جديد ، حينما يعلن عن اسفه المرير
بأنه يتمنى لو لم يشرك بربه أحدا... كل ذلك يتم من خلال صورة فنية هي (تقليب الكف)
الذي يفصح عن عمق المرارة والأسف اللذين صاحبا رسم البيئة للبستانين مستمرين ، ثم
: للبستانين وقد اصبحا خاويين موحشين.