المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8186 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19



التجرّي‏  
  
1188   08:33 صباحاً   التاريخ: 11-6-2020
المؤلف : الشيخ محمد علي الأراكي
الكتاب أو المصدر : أصول الفقه
الجزء والصفحة : ج‏1، ص: 371
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / المباحث اللفظية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 31-8-2016 2046
التاريخ: 26-8-2016 1575
التاريخ: 29-8-2016 1665
التاريخ: 5-8-2016 1191

...إنّ القطع حجّة في نفسه، فلو علم بأنّ المائع خمر وأنّ الخمر حرام وشربه، فصادف كونه خمرا في الواقع، فلا إشكال في استحقاقه العقاب؛ لأنّه شرب الخمر عن حجّة، وإنّما الكلام في ما لو شرب المائع الذي علم‏ خمريّته مع العلم بحرمة الخمر ولم يكن في الواقع خمرا، وهذا هو المسمّى عندهم بالتجرّي وقد وقع محلا للتشاجر والنقض والإبرام بين الأعلام.

 

وما يمكن أن يكون محلا للكلام في المقام ثلاث مقامات:

الأوّل: أنّ المتجرّي أعني الفاعل لما اعتقده حراما ولم يكن حراما في الواقع هل يستحقّ العقوبة ويحسن عقابه من المولى الحكيم أولا؟ والبحث من هذه الجهة يناسب علم الكلام؛ إذ مرجعه إلى أنّ الآمر الحكيم لو عاقب المتجرّي فهذا العقاب منه قبيح أولا؟ فالبحث إنّما هو عن فعل الآمر.

الثاني: أن يكون البحث عن فعل المتجرّي وحسنه وقبحه عقلا، فيقال:

ارتكاب الفعل الذي قطع بحرمته مع عدم حرمته واقعا قبيح عقلا أولا؟ فيكون البحث على هذا اصوليّا، لوقوع نتيجته في طريق استنباط الحكم الفرعي؛ إذ يستكشف من حكم العقل بالقبح حكم الشرع بالحرمة، ومن عدم القبح العقلي عدم الحرمة الشرعيّة بقاعدة الملازمة العقليّة بين حكم العقل وحكم الشرع.

الثالث: أن يكون البحث في فعل المتجرّي من حيث الحرمة الشرعيّة وعدمها، فيكون البحث فقهيّا، ويظهر من بعض كلمات شيخنا المرتضى أنّ النزاع في الحرمة الشرعيّة، ومن بعضها الآخر أنّه في القبح العقلي.

وكيف كان فنحن نحرّر الكلام مع تحقيق ما هو الحقّ في كلّ مقام بعون الملك العلّام فنقول: البحث عن كون فعل المتجرّي حراما شرعا الذي هو المقام الثالث، فالعناوين المجتمعة في هذا الفعل أعمّ من الأوّليّة والثانوية التي يدّعى تعلّق الحرمة بأحدها امور:

الأوّل: شرب الماء، الثاني: شرب المائع، والثالث: شرب مقطوع الخمريّة، الرابع: التجرّي بالمعنى المصطلح وهو الإقدام على فعل ما قطع حرمته مع عدم إصابة قطعه الواقع، الخامس: ارتكاب مقطوع الحرمة، وهذه العناوين بين ما ليس بحرام قطعا، وما لا يمكن أن يقع متعلّقا للتحريم لخروجه عن الاختيار، وما لا يمكن تعلّق النهي به مولويّا مع كونه اختياريّا.

فالأوّل هو الأوّلان، والثاني هو الرابع، فإنّ التجرّي الاصطلاحي مأخوذ فيه عدم إصابة القطع للواقع وهو خارج عن اختيار المكلّف وقصده؛ فإنّ المتجرّي قاطع بخلاف هذا العنوان أعني ارتكاب ما قطع خمريّته ولم يكن واقعا خمرا ولا يحتمل ذلك، فكيف يكون قاصدا له.

وأمّا الثالث فهو الاثنان الآخران؛ فإنّ ارتكاب مقطوع الحرمة أو شرب مقطوع الخمريّة أو الحرمة- بحيث كان القطع جزء الموضوع- مقدور ويصح توجّه القصد إليه بأن كان القاطع ملتفتا إلى قطعه وناظرا إليه استقلالا وموضوعا ثمّ انقدح في نفسه القصد إلى الفعل بعنوان أنّه شرب مقطوع الخمريّة لا بعنوان أنّه شرب الخمر، لكن لا يمكن النهي المولوي عنه؛ لما مرّ في الأمر الأوّل من عدم إمكان تعلّق النهي المولوي بعنوان المخالفة والأمر المولوي بعنوان الإطاعة؛ فإنّ القاطع بكون المائع خمرا يتحقّق في حقّه عنوان المخالفة، فالنهي عن ارتكاب مقطوع الحرمة راجع إلى النهي عن مخالفة خطاب لا تشرب الخمر، وقد عرفت أنّ الردع المولوي لا يمكن تعلّقه بهذا المعنى.

وبعبارة اخرى: من يقطع بحرمة الخمر وخمريّة المائع يكون قاطعا بوجود خطاب لا تشرب بالنسبة إليه ومع التفاته إلى هذا النهي، فالنهي الثاني عن ارتكاب مقطوع الخمريّة في حقّه لا يمكن أن يفيد في حقّه فائدة الأمر المولوي ببيان تقدّم في الأمر بالإطاعة. نعم يمكن ذلك لو لم يكن نفس الخمر بواقعه حراما، وهذا خلاف الفرض؛ لعدم تحقّق التجرّي معه، هذا.

وربّما يتوهّم عدم تصوّر فعل اختياري في حقّ المتجرّي بالمرّة وينفى الحرمة الشرعيّة عن فعله من هذه الجهة ببيان أنّ من شرب الماء باعتقاد أنّه خمر فعنوان شرب الماء وإن صدر منه لكن ما قصده، وعنوان شرب الخمر وإن قصده لكن ما صدر منه، وأمّا عنوان شرب المائع الذي هو الجامع بين ما صدر وما قصد فهو أيضا ما قصد؛ لأنّ الفرض تعلّق القصد بخصوص فرد من هذا الجامع وهو شرب الخمر، والقصد إلى خصوص الخاص ليس قصدا للعام.

نعم لو كان القصد حقيقة متعلّقا بالعام وعمد إلى الخاص بتبعه، أو كان له غرضان أحدهما بالجامع والآخر بالخصوصيّة فقصد الخاص بالداعيين كان في الصورتين قاصدا للعام وإن فرض وجود العام في خاص آخر غير هذا الخاص، والحاصل أنّه لا إشكال في صورة تعلّق القصد الأصلي بالعام والتبعي بالخاص، وفي صورة وجود القصدين الأصليين أحدهما بالعام والآخر بالخاص من باب تعدّد المطلوب.

وأمّا لو تعلّق القصد الأصلي الواحد بخصوص الخاص فالعامّ لا يصير مقصودا بمجرّد ذلك، ومن هنا تبيّن أنّ عنوان ارتكاب مقطوع الخمريّة أيضا غير مقصود؛ إذ القصد تعلّق بما يقطع أنّه خمر واقعي، فمجرّد هذا العنوان الطاري الآلي أعني ارتكاب مقطوع الخمريّة أعمّ من أن يكون مصادفا أو لا غير مقصود؛ فإنّ القاطع لا يحتمل عدم المصادفة، بل يعلم خلافها ويشاهد الواقع بلا سترة وحجاب فيقصد مقطوع الخمريّة بما هو عنوان واقعي استقلالي، وبعبارة اخرى يقصد خصوص مقطوع الخمريّة بالقطع المصادف، فالجامع بين هذا وبين مقطوع الخمريّة الذي ليس خمرا واقعا وهو مطلق مقطوع الخمريّة الذي هو عنوان آلي غير مقصود بالقصد إلى خصوص القسم الأوّل، هذا بيان ما توهّمه المتوهم في المقام.

وهو ممنوع بأنّ العنوان الاختياري الذي هو المطلوب في باب التكاليف على قسمين، الأوّل: أن يكون نفس العنوان داعيا للفاعل مثل من يشرب الخمر بداعي شرب الخمر، والثاني: أنّه وإن لم يصر داعيا للفاعل ولم يقصد الفعل بهذا العنوان بل بعنوان آخر، لكن كان الفاعل ملتفتا إلى هذا العنوان لفعله ولم يكن رادعا له عن الفعل مع كونه قابلا لذلك.

وبعبارة اخرى كان المكلّف قادرا على الإيجاد والترك من حيث هذا العنوان الملتفت إليه، كمن يشرب الخمر مع الالتفات بأنّه خمر بداعي شرب المائع البارد ورفع العطش، والوجدان حاكم بأنّه كما يصحّ كون القسم الأوّل موردا للتكليف والمؤاخذة، كذلك يصحّ التكليف والمؤاخذة في القسم الثاني أيضا، فيصحّ في المثال‏ الثاني مؤاخذته على شرب الخمر كما يصحّ في المثال الأوّل.

والحاصل أنّ الفعل إذا كان مجمعا لعناوين متعدّدة وكان جميع تلك العناوين ملتفتا إليها، ولكن كان الداعي إليه أحد تلك العناوين أو عنوانا اعتقاديا غير موجود فيه واقعا في جميع تلك العناوين مقدورة واختياريّة، سواء كانت عرضيّة كما لو ضرب شخصا عالما هاشميّا لكونه ابن عمرو مثلا مع الالتفات إلى علمه وهاشميّته، فيصحّ ذمّه على ضرب العالم والهاشمي وإن لم يكن بهذا العنوان داعيا له، أو كانت حلوليّة كما لو حرّك اليد بقصد الضرب فقتله فيصح ذمّه على مطلق حركة اليد الذي هو الجامع بين الضرب والقتل وإن لم يكن بعنوانها مقصودة، بل بعنوان أنّها ضرب.

فكذا في ما نحن فيه أيضا؛ فإنّ من يشرب المائع باعتقاد أنّه خمر وليس بخمر يلتفت إلى حيث ما يعيّنه وإن كان الداعي إليه خصوص الخمريّة، فلو كان مطلق شرب المائع ممنوعا صحّ مؤاخذته والقول له: لم شربت المائع مع العلم بحرمته، فالمعيار في صحّة المؤاخذة والتكليف كون العنوان ملتفتا إليه وإن كان الداعي شيئا آخر؛ إذ بمجرّد الالتفات يصير قادرا على الفعل والترك لأجل هذا العنوان، ولا يطلب لصحّة التكاليف إلّا الاختياريّة بمعنى القدرة على طرفي الفعل والترك، فيصحّ النهي بمجرّد صلاحيّة العنوان لأن يصير بسبب النهي رادعا للفاعل عن الفعل، ويصح العقاب على الفعل وإن لم يكن مأتيّا بداعي هذا العنوان؛ لعدم ارتداعه مع الالتفات إلى العنوان المحرّم.

هذا مع أنّ المتوهّم سلّم الاختياريّة لمجرّد الإرادة التبعيّة للخاص والأصلية للعام كالمثال الذي ذكرنا من كون الداعي شرب المائع البارد وشرب الخمر لكونه كذلك مع الالتفات إلى خمريته، وهذا عكس ما نحن فيه؛ فإنّ الداعي هنا شرب الخمر وشرب المائع ملتفت إليه ومراد بالتبع، فإن كان المعتبر هو خصوص العنوان الداعي ولم تكن الإرادة التبعيّة كافية في الاختياريّة لزم عدم الكفاية في عكس ما نحن فيه أيضا كمثالنا، وإن كانت كافية لزم الاكتفاء بها في المقامين، فالفرق لا وجه له.

وبالجملة فتقريب المدّعى من عدم الحرمة الشرعيّة للفعل المتجرّى به بما ذكره المتوهّم من عدم فعل الاختياري هنا في البين غير سديد، فالحقّ في تقريبه هو ما ذكرنا من أنّ العناوين المجتمعة في هذا الفعل إنّما يكون بين ما لا نزاع في عدم حرمته وما لا يمكن حرمته لعدم القدرة عليه وخروجه عن الاختيار وما لا يمكن حرمته لأجل عدم إمكان تعلّق النهي المولوي به مع كونه مقدورا واختياريّا وهو عنوان ارتكاب مقطوع الحرمة مع قطع النظر عن المصادفة وعدمها.

وأمّا إن كان النزاع في التجرّي في القبح العقلي فربّما يقال(1) بأنّ الفعل المتجرّى به أعني شرب المائع مثلا وإن لم يكن بعنوانه الذاتي الواقعي وهو شرب الماء مثلا قبيحا، إلّا أنّه بعنوانه الطاري الثانوي وهو شرب المقطوع الخمريّة قبيح عقلا، ويكون هذا من الوجوه والاعتبارات التي يختلف بها الحسن والقبح؛ فإنّ العناوين الحسنة والقبيحة على ثلاثة أقسام بحسب الحسن والقبح:

أحدها: أن يكون علّة تامّة لأحدهما وهي العناوين الأوّليّة مثل الإحسان والظلم.

والثاني: ما يكون لو خلّي وطبعه حسنا أو قبيحا ولا ينافي الاتّصاف بالضدّ لعارض مثل الكذب؛ فإنّه بحسب ذاته قبيح يعني فيه اقتضاء القبح، ولو كان منجيا للنبي- مثلا- صار حسنا.

والثالث: ما لا يكون فيه اقتضاء شي‏ء منهما كمطلق حركة اليد مثلا؛ فإنّه لا بدّ في اتّصافه من عروض عنوان ضرب اليتيم للإساءة أو عنوان ضرب اليتيم للتأديب مثلا عليه.

وانقسام الأشياء إلى هذه الثلاثة أمر وجداني من الواضحات وليس قابلا للنزاع، وما وقع بينهم من النزاع في أنّ حسن الأشياء وقبحها ذاتي أو يكون بالوجوه والاعتبار لا بدّ من التسالم بين مترافعيه بأنّ مراد الأوّل أنّ ضرب اليتيم للإساءة مثلا يكون ظلما فيكون قبيحا ذاتيا، بعبارة اخرى كلّ شي‏ء اتّصف بأحدهما لا بدّ من انطباق أحد العناوين الذاتيّة الأوّليّة للحسن أو للقبح عليه، فيكون الاتّصاف ذاتيّا؛ فإنّ ما بالعرض لا بدّ من انتهائه إلى ما بالذات وإلّا لتسلسل ولا ينقطع السؤال بلم أبدا.

مثلا يقال: لم صار ضرب اليتيم للإساءة قبيحا؟ فيقال: لأنّه ظلم، ثمّ يقال لم صار الظلم قبيحا؟ فيقال لأنّه إيذاء، ثمّ يقال: لم صار الإيذاء قبيحا وهكذا، يتسلسل، فلا بدّ من انطباق عنوان عليه كان أحدهما ذاتيا له حتّى ينقطع السؤال؛ فإنّ الذاتي لا يعلّل، والقائل الثاني ينظر إلى العنوان الذاتي لنفس الفعل مثل ضرب اليتيم؛ فإنّه بعد انطباق الظلم عليه يسري قبحه إليه ويصير قبيحا بالعرض.

وبالجملة فالمتجرّى به أعني شرب المائع مثلا يكون قبحه بالوجه والاعتبار ولا كلام مع هذا القائل من هذه الجهة، إنّما الكلام معه في أنّ عنوان شرب المقطوع الخمريّة الذي هو عنوان ووجه عارض على شرب المائع يكون قبيحا بالذات، أو لانطباق عنوان آخر عليه؟ يظهر من مواضع من كلامه أنّ قبحه يكون لأجل انطباق عنوان هتك المولى المنعم والاستخفاف بأمره ونهيه والجرأة عليه.

فنقول: لا إشكال في كون هذه العناوين قبيحة بالذات، وفي الحقيقة يكون من شعب الظلم، إنّما الكلام في انطباقها على مورد التجرّي دائما، ولا إشكال أنّا نتصوّر في المعصية الحقيقيّة انفكاكها عن هذه العناوين؛ فإنّه يمكن أن يكون العبد مع كمال الاعتناء بالمولى وعظم أمره عنده مرتكبا لمعصيته مع كمال التضرّع في هذا الحال راجيا لعفوه لغلبة شقوته عليه، لا لعدم اعتنائه بمولاه وأوامره، كما هو الحال في فسّاق المسلمين.

ويدّل على إمكان ذلك قوله عليه السلام في دعاء أبي حمزة: «إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيّتك جاحد، ولا بأمرك مستخفّ، ولا لعقوبتك متعرّض، ولا لوعيدك متهاون، ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي وأعانني عليها شقوتي وغرّني سترك المرخى علي».

وبالجملة، فإذا فرضنا المعصية الحقيقيّة خالية من جميع تلك العناوين فالتجرّي‏ ليس بأعظم منها قطعا، فيمكن خلوّه أيضا منها ولو نادرا، وهذه يكفي في عدم كونه قبيحا، يعني أنّ الفعل الخارجي المتجرّى به من حيث هو لا يكون قبيحا عقليّا، وما يكون موضوعا لذلك هو شي‏ء آخر أعني عنوان الاستخفاف، نعم يكون غالب الانطباق على الفعل المتجرّى به، كما يمكن انطباقه على غيره أيضا كالمباحات، كما لو جعل أحد مباحا شرعيّا محرّما على نفسه من باب الاستخفاف بإباحة المولى، وبالجملة نحن نتكلّم من حيث التجرّي، وحيث الاستخفاف أمر آخر وراء التجرّي.

فإن قلت: فعلى هذا يلزم عدم قبح المعصية في الحقيقة أيضا، لإمكان انفكاك هذه العناوين عنه.

قلت: نعم قد ينفكّ هذه عنها، لكن عنوان الظلم ينطبق عليها دائما وهذا مفقود في مورد التجرّي؛ إذ فيه لا يلزم مخالفة أمر من أوامر المولى وتضييع غرض من أغراضه بخلاف المعصية الحقيقيّة؛ فإنّها غير منفكّة عن ذلك، فتحصّل من جميع ما ذكرنا إلى هنا أنّ الفعل الخارجي المتجرّى به ليس محرّما شرعيّا ولا قبيحا عقليّا، ومن ذلك يظهر أنّه ليس ممّا يستحقّ عليه العقاب أيضا.

بقي الكلام في أفعال النفس التي يكون الفعل الخارجي الاختياري مسبوقا بها أبدا، فلا بدّ من استقصاء تلك الأفعال.

فنقول: إنّ من يعزم على فعل خارجي يحصل أوّلا في ذهنه تصوّر هذا الفعل بماله من الفوائد والمنافع، ثمّ يحصل له عند هذا ميل إليه، ثمّ يحصل في الذهن تصوّر مضارّه المترتّبة عليه، ويقع بين هذه المضار وتلك الفائدة والمنفعة كسر وانكسار في النفس، فإن غلبت فائدته يصير الميل في طرف الفعل ثابتا فقط، وبعد ذلك يتحقق العزم والإرادة نحو الفعل.

ومن الواضح أنّ شيئا من هذه المذكورات التي هي مقدّمات للإرادة والعزم ليس باختياري، لا تصوّر نفس الفعل، ولا تصوّر منافعه، ولا الميل، ولا تصوّر مضارّه، ولا الكسر والانكسار وتحقّق الميل نحو الفعل محضا، بل كلّ ذلك امور قهريّة يحصل بعضها عقيب بعض، نعم قد يمكن أن يكون نفس تصوّر الفعل اختياريّا ومسبّبا عن أمر مقدور، فيكون سائر الامور المترتّبة على تصوّره أيضا اختياريّا لتسبّبها عن الأمر الاختياري، لكنّ الدعوى نفي كليّة اختياريّتها.

وأمّا العزم والإرادة، فأوّلا لا إشكال في أنّ العزم على معصية المولى أمر قبيح ذاتا بمعنى اشمئزاز طبع الإنسان عنه في قبال العزم على طاعته، حيث إنّ الطبع يستحسنه، ولا إشكال أنّ القبح الفعلي ملازم للقبح الفاعلي لو كان الفعل عن اختيار الفاعل، فيكون الفاعل مستحقّا للملامة والعقاب، فالمهمّ إثبات اختياريّة العزم أو اضطراريّته.

فنقول: قد يقال بأنّ الإرادة هو العلم بالصلاح وإن اختلف تعبيره في الخالق والمخلوق، فيعبّر عنه في الأوّل بالعلم بالأصلح، وفي الثاني باعتقاد النفع، والمحصّل أنّه إذا صار الصلاح والنفع معلوما فالمضرّة لو كانت فهي مضمحلّة في جنب الصلاح، وبعبارة اخرى علم النفع الخالص السالم عن المزاحم، فعند ذلك يحصل حركة العضلات ولا يحتاج إلى شي‏ء آخر وراء هذا العلم.

فلا إشكال أنّ العزم على هذا القول ليس باختياري مطلقا إلّا فيما إذا كانت مقدّماته اختياريّة، وأمّا إذا لم يكن مقدّماته في البين مثل ما لو علم عدم النفع في الفعل فليس باختياري؛ إذ لا يمكن في هذا الفرض إيجاد العلم بالصلاح في النفس بمجرّد إحراز مصلحة في نفس هذا العلم.

ولكنّ الحقّ أنّ الإرادة حالة نفسانيّة وراء العلم بالصلاح، والدليل عليه أنّا نتمكّن بالوجدان من إيجاد الإرادة في النفس مع عدم العلم بمصلحة في متعلّقها، بل والقطع بعدم صلاح فيه أصلا، والمثال الواضح لذلك أنّ المقيم عشرة أيّام في البلد إذا فرض عدم ترتّب نفع له على نفس البقاء في البلد، بل يعزم لمجرّد إتمام الصلاة، فإنّ عزمه هذا لا يمكن جعله عبارة عن العلم بالصلاح، كيف وهو عالم بعدم نفع في نفس البقاء مع قطع النظر عن العزم؛ فإنّه لو لم يعزم يقصّر صلاته وإن بقي عشرة أيّام، ولو عزم يتمّ وإن لم يبق عشرة أيّام، فهو عالم بعدم فائدة في نفس البقاء ومع ذلك يعزم عليه، وكذلك كلّ موضع كان لنفس الاختيار مدخليّة في ترتّب الاثر.

فلو كان العزم هو العلم بالصلاح لزم في هذه المواضع الدور، لوضوح توقّف العلم بالصلاح فيها على الاختيار، فلو كان الاختيار أيضا متوقّفا على العلم بالصلاح كان دورا، فيلزم أن لا يمكن الاختيار في هذه المواضع وقد فرضنا إمكانه، فيلزم أن يكون الاختيار حالة اخرى وراء العلم المذكور.

ثمّ هل هذه الحالة النفسانيّة المسمّاة بالإرادة اختياريّة أو اضطراريّة؟ الوجدان يشهد بالأوّل، وبرهان(2) الخصم غير تامّ.

أمّا برهان الخصم فهو أنّ الفعل الاختياري ليس إلّا عبارة عمّا هو مسبوق بالإرادة بحيث لو شاء فعل ولو شاء ترك، فلو كان نفس الإرادة أيضا اختياريّة لزم مسبوقيّتها بإرادة ثانية وهي بثالثة وهكذا، فيتسلسل.

والجواب على وجه يظهر بطلان التسلسل ودليل الاختياريّة يكون بتمهيد مقدّمتين:

الاولى: أنّ العلّة لوجود الإرادة شيئان كلّ منهما وجد يكتفى به، وإن وجد كلاهما اشتركا في التأثير، أحدهما: الصلاح في نفس المتعلّق مثل ما لو كان في ضرب الزيد فائدة فيريده، والثاني: الصلاح في نفس الإرادة، وحينئذ يحتاج في وجودها إلى إرادة اخرى فتكون الإرادة الاولى معلولة للإرادة الثانية، وهي مع الإرادة الاولى حالها حال الإرادة للأفعال الخارجيّة، فالإرادة الاولى تصير بمنزلة فعل خارجي، فالإرادة المتعلّقة به معلولة للصلاح فيها، كما أنّ الإرادة المتعلّقة بالفعل الخارجي معلولة للصلاح في الفعل الخارجي، فالإرادة الاولى علّتها الإرادة الثانية وهي علّتها الصلاح في الإرادة الاولى لا إرادة ثالثة؛ فاتّضح بطلان التسلسل فيما إذا وجد الإرادة بالإرادة، وإنّما يتحقّق التسلسل في هذه الصورة لو كان سبب وجود الإرادة منحصرا في الإرادة وقد عرفت عدمه.

والثانية: أنّ بعض الأفعال يكون اختياريّة بحيث يصحّ وقوعها متعلّقا للتكليف مع عدم مسبوقيّتها بإرادة المكلّف، بل بمجرّد قدرته على مقدّمة وجوده، فالاختيارية المصحّحة للتكليف أعمّ من أن يكون الفعل ناشئا عن الإرادة، وأن يكون مقدّمته بيده وإن كان ناشئا عن إرادة غيره، فيصحّ في الصورة الثانية العقاب على نفس ذي المقدّمة وما هو النتيجة لكونها مقدورة بالواسطة، مثلا مجي‏ء العمرو إلى دار الزيد وإن كان غير ناش عن إرادة الزيد بل عن إرادة العمرو ولكن يكفي في كون وجوده وعدمه مقدورين للزيد قدرته على ممانعة العمرو من دخول الدار بإغلاق الباب، فيصحّ عقابه على نفس مجي‏ء العمرو الذي هو النتيجة، كما يصحّ على ترك إيجاد المانع.

إذا عرفت ذلك علمت أنّ الإرادة أعمّ ممّا يوجد منها لمصلحة فيها وما يوجد لمصلحة في المتعلّق يكون اختياريّة.

أمّا القسم الأوّل فواضح وإشكاله لزوم التسلسل وقد عرفت منعه في المقدّمة الاولى.

وأمّا القسم الثاني- وهو ما يوجد لمصلحة في المتعلّق سواء كان متعلّقه إرادة اخرى أو فعلا خارجيّا- فلأنّه إذا ثبت الاقتدار على إيجاد الإرادة لمصلحة في نفسها كما هو القسم الأوّل فيثبت الاقتدار على تركها والممانعة من وجودها فيما يكون لمصلحة في المتعلّق إذا كانت في نفسها مضرّة مزاحمة لما في المتعلّق من المنفعة، فكما يتمكّن من إيجادها لمصلحتها فيتمكّن من تركها في القسم الثاني لمضرّتها إذا غلبت على مصلحة المتعلّق، وإذا غلبت مصلحته أيضا فهو متمكّن، حيث اختار الوجود بعد الكسر والانكسار وغلبة مصلحة المتعلّق لما عرفت في المقدّمة الثانية، فإنّه لو شاء يتمكّن من إيجاد إرادة الضدّ في نفسه قبل وجود الإرادة في النفس، فهو وإن لم‏ يصدر منه الإرادة أعني القسم الثاني منها بسبق إرادة اخرى عليها، لكن يكفي في كون وجود هذه الإرادة وعدمها تحت قدرته واختياره كون وجودها منوطا بمطلوبيّة ما فيها من المضرّة لمصلحة المتعلّق، وكون إيجاد المانع عن وجوده وهو إيجاد إرادة الضدّ قبل وجودها مقدورا له، فيصحّ عقوبته على نفس هذه الإرادة، كما يصحّ على ترك إيجاد الإرادة المانعة.

وبالجملة فكما تكون الاختياريّة المصحّحة للتكليف في الأفعال الخارجيّة حاصلة تارة بالصدور عن الإرادة واخرى بمقدوريّة مقدّمة وجودها أو عدمها في الخارج، فكذا هذان القسمان موجودان في الإرادة أيضا بلا فرق، هذا وصاحب الكفاية قدّس سرّه مع قوله بكون العزم غير اختياري صحّح العقوبة عليه معلّلا بأنّه راجع إلى جناية النفس وهي أمر ذاتي والذاتي لا يعلّل، فالقادم على المعصية خبيث النفس، وخبيث النفس يدخل النار كما أنّ الكلب يمنع من الدخول في البيت المفروش لقذارته الذاتيّة، ونحن في فسحة من ذلك حيث جعلنا العزم اختياريّا.

فإن قلت: سلّمنا كون العزم على المعصية اختياريّا وقبيحا، لكن ذلك إنّما يوجب القبح الفاعلي عقلا واستحقاقه اللوم عن العقلاء، ولا يلازم استحقاق العقوبة من المولى كما هو المدّعى؛ فإنّ مجرّد القبح العقلي ما لم ينته إلى الشرعي لا يوجب العقاب، ولهذا قيل بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع من باب قاعدة اللطف؛ فإنّ القبيح العقلي لا يكون نفوس النوع منصرفة عنه، فاللطف يقتضي بأن يأمر الشارع بالحسن وينهى عن القبح حتى يصير النوع مع الداعي؛ فإنّ مخالفة الأمر والنهي يكون من تبعتها العقاب والعذاب، فبعض النفوس يصير داعيها إلى الترك مجرّد القبح العقلي، وبعض النفوس لا يحصل الداعي لها إلّا بالأمر والنهي حتّى يدعوه خوف وقوعه في العذاب والنكال.

فلو كان مجرّد القبح العقلي مورثا للعقاب المولوي لم يصح إثبات الملازمة بقاعدة اللطف؛ إذ كان مجرّد القبح عقلا كافيا في ردع النوع ولم يحتج إلى الأمر والنهي مضافا إليه؛ إذ لم يكن فيهما لطف على هذا التقدير.

وبالجملة لا بدّ في استحقاق العقوبة في القبائح العقليّة إلى ضميمة حكم الشرع بقاعدة الملازمة، وهنا لا يمكن ذلك لعين ما ذكر في نفس المعصية من عدم إمكان توجّه النهي المولوي إليها؛ فإنّ هذا بعينه موجود في إرادة المعصية أيضا؛ فإنّها لا تتحقّق إلّا بعد العلم بوجود النهي واقعا، فإذا لم يصرفه هذا النهي فالنهي عن الإرادة لا يمكن مولويته بالبيان المتقدّم.

قلت: وجه الحاجة في سائر المواضع إلى ضميمة الأمر والنهي لاستحقاق العقاب المولوي أنّ مجرّد ارتكاب القبيح مع قطع النظر عن النهي لا يرتبط بالمولى من حيث إنّه مولى، نعم هو من حيث إنّه واحد من العقلاء مشمئزّ من الفعل، فالظلم لو لا النهي ليس هتكا للشارع من حيث إنّه مولى، نعم هو من حيث كونه من العقلاء يشمئزّ منه، فيحتاج إلى إيجاد الأمر والنهي في موضوع الحسن أو القبح العقليين حتى يكون الارتكاب أو الترك مرتبطا بمقام مولويته.

وهذا بخلاف المقام فإنّه بدون النهي يرجع سوئيته إلى المولى، بل قبح إرادة معصية المولى عقلا إنّما هو لأجل كونها راجعة إلى المولى وكونها بمنزلة الظلم عليه، كما أنّ هذا هو الحال في إرادة الطاعة المسمّاة بالانقياد؛ فإنّه من الابتداء يرجع حسنه إلى المولى، بل حسنه يكون من جهة كونه حسنا راجعا إلى المولى، فيكون المولى أهلا للثواب عليه، وإرادة المعصية أيضا تكون من الابتداء قبيحا راجعا إلى المولى، وقبحه العقلي أيضا من جهة ذلك، فيكون المولى هو الأهل للعقاب عليه.

والحاصل أنّ العزم على المعصية قبيح عقلي يستحقّ عليه العقاب بدون النهي كما أنّ العزم على الطاعة حسن عقلي يستحقّ عليه الثواب بدون الأمر، ولا يتوهّم منافاة بين ما ذكر هنا وما تقدّم من إمكان انفكاك التجرّي عن عنوان الاستخفاف وما أشبهه؛ فإنّه وإن كان يمكن أن لا يكون استخفافا ولكنّه لا ينفكّ عن كونه جريا على خلاف إرادة المولى وإرادة على خلاف ميله فيكون رجوع أمره إليه، مثلا لو ضرب العبد ابن شخص آخر غير المولى فالمولى من حيث إنّه أحد العقلاء يبغض هذا الفعل، وأمّا لو ضرب ابن المولى فهذا الضرب له تعلّق بالمولى وهو من حيث‏ مولويته متأثّر منه، فيكون أهلا للمجازاة عليه وإن لم يسبق منه نهي عن هذا العمل.

فتحصّل أنّ قصد المعصية في التجرّي قبيح عقلي وأنّ قبحه لتعلّقه بحيث مولويّة المولى موجب لاستحقاق العقاب، فلا يكون حراما شرعيّا وإن قلنا بالملازمة.

لكن هل يكون استحقاق العقوبة على هذا في المعصية الحقيقيّة متعدّدا فيكون العاصي مستحقّا لعقوبتين، إحداهما للقصد الذي هو الفعل القلبي والاخرى لنفس الفعل الخارجي، أو يكون مستحقّا لعقاب واحد لمجرّد القصد؟ الظاهر هو الأوّل؛ إذ يلزم على الثاني عدم مدخليّة الفعل الخارجي في العاصي لاستحقاق عقاب أصلا وأن لا يكون عقاب على فعل خارجي أصلا، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به، وإذن فلا مانع من القول باستحقاق العاصي عقابا أشدّ من عقاب من صدر منه القصد مع الفعل الخارجي المخالف أو مجرّدا وهما سيّان في الاستحقاق؛ لتساويهما في القصد الذي هو المنشأ له، والعفو في القسم الثاني لا ينافي مع الاستحقاق؛ فإنّ العفو ورفع فعليّة العقاب لا ينافي الاستحقاق كما هو واضح.

بقي الكلام في الدليل العقلي الذي أقاموه على استحقاق المتجرّي على الفعل الخارجي كالعاصي، وهو أنّه لو فرضنا شخصين كلّ منهما شرب مائعا يعتقد هو بخمريّته واتّفق مصادفة أحدهما للواقع ومخالفة الآخر فإمّا نقول باستحقاق كليهما، أو بعدم استحقاق كليهما، أو باستحقاق من خالف اعتقاده الواقع دون من صادف، أو باستحقاق من صادف دون من خالف، فهذه أربعة وجوه.

لا سبيل إلى عدم استحقاق كليهما، ولا إلى استحقاق من خالف دون من صادف؛ لمخالفة كليهما مع الوجدان والقطع بخلافهما، وأمّا استحقاق من صادف دون من خالف فهو مستلزم لإناطة الاستحقاق وعدمه على أمر خارج عن قدرة المكلّف؛ فإنّ المصادفة والمخالفة كليهما خارج عن الاختيار، فيتعيّن استحقاق كليهما وهو المطلوب.

والجواب أنّا نختار استحقاق من صادف دون من خالف، قولك: يلزم إناطة الاستحقاق بأمر غير اختياري مدفوع بأنّ صحّة العقوبة لا ينفكّ عن الإناطة بأمر غير اختياري، لا أقلّ من المقدّمات السابقة على الإرادة من تصوّر الفعل والميل ونحوهما، بل وجود الفاعل وقدرته ووجود الموضوع مثل الخمر مثلا؛ فإنّ كلّ ذلك دخيل في صحّة العقوبة قطعا.

ألا ترى أنّ من كان واجدا للخمر وشربه يستحقّ العقوبة ومن لم يشربه لأجل أنّه لا يجد لا يصحّ عقوبته، مع أنّ وجود الخمر عند الأوّل وعدمه عند الثاني غير اختياريين، وبالجملة المصحّح للعقوبة كون الفعل بالأخرة منتهيا إلى اختيار المكلّف بأن كان آخر مقدّمة وجوده بيده، فإذا تحقّق ذلك لا يضرّ عدم اختياريّة سائر المقدّمات وإن كانت ألف مقدّمة، نعم لو كان جميع المقدّمات خارجا عن الاختيار ولم يرجع إليه حتى بالاخرة لم يصحّ حينئذ العقاب.

وحينئذ فنقول: إنّ من شرب الخمر الواقعي فوجود الخمر الذي هو أحد أسباب الاستحقاق وإن كان غير اختياري متحقّق في حقّه، فلهذا صار مستحقّا، ومن شرب الماء باعتقاد الخمريّة فهذه المقدّمة منتفية في حقّه؛ فلهذا لا يكون مستحقّا، نظير من كان الخمر عنده موجودا ويشربه، ومن يكون عنده مفقودا فلهذا لا يشربه، كما مثّلنا به، وهذا من جهة الفعل الخارجي، وبعبارة اخرى من حيث عقاب معصية شرب الخمر، وأمّا من حيث القصد فقد عرفت عدم الفرق بينهما.

_______________

(1) والقائل صاحب الفصول أعلى اللّه مقامه. منه قدّس سرّه.

(2) وهذا وجه ثان لبطلان القول باضطراريتها؛ فإنّ البرهان في كلّ مقام لو كان الوجدان على خلافه كان ساقطا عن درجة الاعتبار، وإن عجزنا عن تخريبه ورفعه فإنّ البرهان إنّما يكون متّبعا لكونه منتهيا إلى الوجدان، فإذا كان الوجدان على خلافه فهو بمجرّده غير مفيد، وفي المقام مع كون الوجدان على خلاف نتيجة البرهان يكون نفس البرهان أيضا مخدوشا وممكن الرفع، فيكون غير مفيد بطريق أولى. منه عفي عنه.




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.