أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-08-2015
2106
التاريخ: 2024-03-24
791
التاريخ: 22-12-2014
4414
التاريخ: 3-05-2015
2606
|
أن للقرآن طريقة موحدة في التعبير؛ يتخذها في أداء جميع الأغراض على
السواء ، حتى أغراض البرهنة والجدل. تلك هي طريقة التصوير التشخيصي بوساطة التخييل
والتجسيم.
فلننظر الآن في تقويم هذه الطريقة ، من حيث
هي طريقة فنية من طرق الأداء - وذلك هو مجال بحثنا في هذا الكتاب - فالأهداف
الدينية التي جاء القرآن لتحقيقها ، والموضوعات الإلهية والتشريعية التي تناولها
... كل أولئك مباحث ليست من همنا هنا ؛ وإذا كان بعضها قد جاء عرضا في ثنايا
الفصول الماضية ، فإنما جئنا به لننظر كيف تناوله القرآن ، وكيف سلك في التعبير
عنه.
وبعض الناس حين ينظر في هذه الموضوعات ، ويرى
ما فيها من دقة وعظمة ، وصلاحية ومرونة ، وإحاطة وشمول ، يحسبها ميزة القرآن
الكبرى ، ويحسب أن طريقة التعبير القرآنية تابعة لها ، وأن الإعجاز كله كامن فيها
، كما أن بعضهم يفرق بين المعاني وطريقة الأداء ، ويتحدث عن إعجاز القرآن في كل
منهما على انفراد.
أما نحن فنريد أن نقول : إن الطريقة التي
اتبعها القرآن في التعبير ، هي التي أبرزت هذه الأغراض والموضوعات؛ فهي كفاء هذه
الأغراض والموضوعات.
ولا يردنا هذا إلى تلك المباحث العقيمة حول
اللفظ والمعنى- وقد استغرقت من النقاد العرب ما استغرقت منذ أن أثارها الجاحظ ، فزعم
أن المعاني ملقاة على قارعة الطريق؛ ثم تابعه في البحث ابن قتيبة وقدّامة وأبو
هلال العسكري وغيرهم مخالفين ومؤيدين- وإنّا لنحسب أن «عبد القاهر» قد وصل فيها
إلى رأي حاسم حين انتهى في «دلائل الإعجاز» إلى أن اللفظ وحده ، لا يتصور عاقل أن
يدور حوله بحث من حيث هو لفظ. إنما من حيث دلالته يدور البحث فيه. وأن المعنى وحده
لا يتصور عاقل أن يدور حوله بحث من حيث هو خاطر في الضمير. إنما من حيث أنه ممثل
في لفظ يدور البحث فيه. وأن المعنى مقيّد في تحديده بالنظم الذي يؤدى به ، فلا
يمكن أن يختلف النظمان ، ثم يتحد المعنى تمام الاتحاد.
لم يصغ «عبد القاهر» القضية هذه الصياغة
المختصرة ، فنحن نترجم عنه؛ وإلا فقد استغرق فيها كتابا لا نستطيع نقله هنا ، ولا
نقل فقرات منه كالتي نقلناها في أول هذا الكتاب ، بذلك الأسلوب المعقّد الذي
رأيناه هناك.
ولكن له فضله العظيم في تقرير هذه القضية.
ولو خطا خطوة واحدة في التعبير الحاسم عنها ، لبلغ الذروة في النقد الفني. فنقول
نحن عنه : إن طريقة الأداء حاسمة في تصوير المعنى؛ وإنه حيثما اختلفت طريقتان
للتعبير عن المعنى الواحد اختلفت صورتا هذا المعنى في النفس والذهن. وبذلك تربط
المعاني وطرق الأداء ربطا لا يجوز الحديث بعده عن المعاني والألفاظ ، كل على
انفراد.
فلن يبرز المعنى الواحد إلا في صورة واحدة؛
فإذا تغيّرت الصورة تغيّر المعنى بمقدارها. وقد لا يتأثر المعنى الذهني العام في
ذاته ، ولكن صورته في النفس والذهن تتغيّر ، وهي المعوّل عليها في الفن- إذ
التعبير في الفن للتأثير- فإذا اختلف الأثر الناشئ عنه ، فالمعنى المنقول مختلف
بلا مراء!
وننتهي من هذا البيان ، إلى فضل الطريقة
التصويرية في القرآن. فهذه الطريقة هي التي جعلت للمعاني والأغراض والموضوعات
القرآنية ، صورتها التي نراها ، ومن هذه الصورة كانت قيمتها الكبرى. فهي في هذه
الصورة غيرها في أية صورة أخرى. كما أسلفنا.
ونحب أن نزيد المسألة إيضاحا بالنماذج ، وإن
كانت قد تفرقت في ثنايا الكتاب ، وتفرق التعليق عليها في مواضعها بما يفيد مزية
الطريقة القرآنية فيها؛ ولكننا هنا في معرض التلخيص الأخير ، ولدينا من النماذج
الكثير.
*** لقد كانت السمة الأولى للتعبير القرآني
هي اتباع طريقة تصوير المعاني الذهنية والحالات النفسية ، وإبرازها في صور حسيّة ،
والسير على طريقة تصوير المشاهد الطبيعية ، والحوادث الماضية ، والقصص المروية ، والأمثال
القصصية ، ومشاهد القيامة ، وصور النعيم والعذاب ، والنماذج الإنسانية .. كأنها
كلها حاضرة شاخصة.
بالتخييل الحسي الذي يفعمها بالحركة
المتخيلة.
فما فضل هذه الطريقة على الطريقة الأخرى ، التي
تنقل المعاني والحالات النفسية في صورتها الذهنية التجريدية؛ وتنقل الحوادث والقصص
أخبارا مروية؛ وتعبر عن المشاهد والمناظر تعبيرا لفظيّا ، لا تصويرا تخييليّا؟
يكفي لبيان هذا الفضل ، أن نتصور هذه
المعاني كلها في صورتها التجريدية ، وأن نتصورها بعد ذلك في الهيئة الأخرى
التشخيصية :
إن المعاني في الطريقة الأولى تخاطب الذهن والوعي
، وتصل إليهما مجرّدة من ظلالها الجميلة. وفي الطريقة الثانية تخاطب الحس والوجدان
، وتصل إلى النفس ، من منافذ شتى : من الحواس بالتخييل. ومن الحس عن طريق الحواس ،
ومن الوجدان المنفعل بالأصداء والأضواء. ويكون الذهن منفذا واحدا من منافذها
الكثيرة إلى النفس ، لا منفذها المفرد الوحيد.
ولهذه الطريقة فضلها ولا شك في أداء الدعوة
لكل عقيدة ، ولكننا إنما ننظر إليها هنا من الوجهة الفنية البحتة. وإن لها من هذه
الوجهة لشأنا. فوظيفة الفن الأولى هي إثارة الانفعالات الوجدانية؛ وإشاعة اللذة
الفنية بهذه الإثارة ، وإجاشة الحياة الكامنة بهذه الانفعالات ، وتغذية الخيال
بالصور لتحقيق هذا جميعه .. وكل أولئك تكفله طريقة التصوير والتشخيص للفن الجميل :
وإليك المثال فوق ما ضربنا من أمثال :
1- معنى النفور الشديد من دعوة الإيمان ينقل
إليك في صورته التجريدية هكذا : إنهم لينفرون أشد النفرة من دعوة الإيمان.
فيمتلي الذهن وحده معنى النفور في برود وسكون.
ثم ينقل إليك في هذه الصورة العجيبة : {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر : 49 - 51] فتشترك مع الذهن حاسة النظر ، وملكة الخيال ، وانفعال
السخرية ، وشعور الجمال : السخرية من هؤلاء الذين يفرون كما تفرّ حمر الوحش من
الأسد؛ لا لشيء إلّا لأنهم يدعون إلى الإيمان! والجمال الذي يرتسم في حركة الصورة
حينما يتملاها الخيال في إطار من الطبيعة ، تشرد فيه هذه الحمر يتبعها «قسورة»
المرهوب!
فللتعبير هنا ظلال حوله ، تزيد في مساحته
النفسية - إذا صحّ هذا التعبير!
2- ومعنى عجز الآلهة التي كان العرب
يعبدونها من دون اللّه ، يمكن أن يؤدّى في عدة تعبيرات ذهنية مجرّدة ، كأن يقال :
إن ما تعبدون من دون اللّه لأعجز عن خلق
أحقر الأشياء. فيصل المعنى إلى الذهن مجردا باهتا.
و لكن التعبير التصويري يؤديه في هذه الصورة
:
{ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا
ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ
مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج : 73]
فيشخص هذا المعنى ويبرز في تلك الصور
المتحركة المتعاقبة :
{لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً} هذه درجة. «وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ» وهذه أخرى. {وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ
شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} وهذه ثالثة ...
أ رأيت إلى تصوير الضعف المزري ، وإلى
التدرج في تصويره ، بما يثير في النفس السخرية اللاذعة ، والاحتقار المهين؟
و لكن. أ هذه مبالغة؟ وهل البلاغة فيها هذا
الغلوّ؟
كلا! فهذه حقيقة واقعة بسيطة. إن هؤلاء
الآلهة {لَنْ يَخْلُقُوا}
{ذُباباً ولَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} والذباب صغير حقير؛ ولكن الإعجاز في خلقه هو الإعجاز في خلق الجمل والفيل.
إنها معجزة «الحياة» يستوي فيها الجسيم والهزيل. فليست المعجزة في صميمها هي خلق
الهائل من الأحياء. إنما هي خلق الخليّة الصغيرة كالهباء.
ولكن الإبداع الفني هنا هو في عرض هذه
الحقيقة في صورة تلقي ظلال الضعف عن خلق أحقر الأشياء؛ والجمال الفني هنا هو في
تلك الظلال التي تضفيها محتويات الصورة ، وفي الحركة التخييلية في محاولة الخلق ، وفي
التجمع له ، ثم في محاولة الطيران خلف الذباب لاستنقاذ ما يسلبه ، وهم وأتباعهم
عاجزون عن هذا الاستنقاذ!
3- ويعبّر عن حالة تخلي الأولياء عن
أوليائهم أمام هول القيامة بهذه الصيغة التجريدية : لقد تناكر الأصفياء ، وتنابز
الأولياء ، وتخلى المتبوعون عن التابعين حينما شاهدوا الهول يوم الدين.
فيكون من أدق التعبيرات التي تصاغ. ولكن أين
هذا التعبير الذهني من هذا الاستعراض المفعم بالحياة :
{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ
الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ
أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ
هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا
مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا
قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا
أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم : 21 ، 22] ففي هذا الاستعراض يتجسّم للخيال مشهد من ثلاث
فرق :
الضعفاء.
الذين كانوا ذيولا للأقوياء وهم ما يزالون في ضعفهم ، وقصر عقولهم ، وخور نفوسهم.
يلجئون إلى الذين استكبروا في الدنيا ، يسألونهم الخلاص من هذا الموقف ، ويعتبون
عليهم إغواءهم في الحياة؛ متمشين في هذا مع طبيعتهم الهزيلة وضعفهم المعروف.
والذين استكبروا. وقد ذلت كبرياؤهم ، وواجهوا
مصيرهم.
وهم ضيّقوا الصدور بهؤلاء الضعفاء ، الذين
لا يكفيهم ما يرونهم فيه من ذلة وعذاب ، فيسألونهم الخلاص ، وهم لا يملكون لذات
أنفسهم خلاصا ، أو يذكرونهم بجريمة إغوائهم لهم حيث لا تنفع الذكرى. فما يزيدون
على أن يقولوا لهم في سأم وضيق : {لَوْ هَدانَا اللَّهُ
لَهَدَيْناكُمْ}!
والشيطان. بكل ما في شخصيته من مراوغة ومغالطة
، واستهتار وتبجح ، ومكر «و شيطنة». يعترف لأتباعه - الآن فقط - بأن اللّه وعدهم
وعد الحق ، وأنه هو وعدهم فأخلفهم. ثم يمضّهم ويؤلمهم ، وهو ينفض يديه من تبعاتهم
:
{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم : 22] لا بل يزيد في تبجّحه ، فيقول :
{إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ
قَبْلُ} [إبراهيم : 22]
حقا. إنه لشيطان!
وإن هذا لإبداع في تصوير الموقف الفريد ، الذي
يتخلى فيه التابع عن المتبوع ، ويتنكر المتبوع للتابع ، حيث لا يجدي أحدا منهم أن
يتخلى أو يستمسك؛ ولكنها طبيعة كل فريق ، تبرز عارية أمام الهول العظيم.
وإن الشيطان هنا لمنطقيّ مع نفسه ، ومع
الصورة التي يرسمها القرآن له. وإلا فما يكون شيطانا بغير هذه التلاعب والتبجح والإنكار!
وهكذا تصل إلى النفس تلك الأصداء كلها ، وتلك
الظلال جميعها ، من وراء التعبير المصور المشخص. فأين يقع التعبير الذهني ، من هذا
التصوير الفني؟
4- ويقال : إن أعمال الذين كفروا لا حساب
لها ولا وزن ، وأنهم يخدعون أنفسهم حين يظنونها شيئا؛ أو أنهم في ضلال دائم ، لا
مخرج لهم منه ، ولا هادي لهم فيه. فيؤدي المعنى إلى الذهن حيث يركد هناك.
ولكنه يحيا ويتحرك ، ويجيش به الحس والخيال
، حين يؤدّى في هذه الهيئة التصويرية :
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ
بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ
الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ
لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ
بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ
يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}[النور : 39 ، 40]
هنا صور فنية ساحرة ، فيها روح القصة ، وفيها
تخييل قوي ...
و هي بعد في حاجة إلى ريشة مبدعة ، لو أريد
تصويرها بالألوان ، وإلى عدسة يقظة ، لو أريد تصويرها بالحركات.
بل أين هي الريشة ، أو أين هي العدسة ، التي
تستطيع أن تبرز هذه الظلمات :
{فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ
فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا
أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها}؟
أو تصور الظمآن ، يسير وراء السراب {حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئاً} ووجد مفاجأة عجيبة- لم تكد تخطر
له على بال - {وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} وفي سرعة خاطفة تناوله «فوفاه حسابه»؟
فإذا ذكرنا الغرض الديني الذي رسمت له هذه
الصورة ، فلنذكر معه المتاع الفني الطريف ، في هذا التصوير الحي الجميل.
5- ومن هذا الوادي تصوير معنى الضلال بعد
الهدى ، وضياع الجهد معه سدى ، تلك الصور الحية المتتابعة :
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ
بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي
اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ
وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا
يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ
فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ
الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ
أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ
قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة : 16 - 20]
إن هنا حشدا من الصور المتتابعة في شريط
متحرك : هؤلاء هم قد أوقدوا النار فأضاءت. وفجأة يذهب اللّه بنورهم ، ويخيم حولهم
الظلام .. أو ها هي ذي العاصفة : صيّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق. وهؤلاء هم
مذعورون يتوقعون الصاعقة ، ويخافون الموت ، فيجعلون أصابعهم في آذانهم؛ وما تغني
الأصابع في الآذان؛ ولكنها حركة الغريزة في هذا الأوان. وها هو ذا البرق يخطف
البصر ، ولكنه ينير الطريق لحظة ، فهم يخطون على ضوئه خطوة. وها هو ذا ينقطع
فيظلون واقفين ، لا يدرون كيف يخطون ...
لو سجلت عدسة الصور المتحركة مشهدا كهذا ، بما
فيه من الحركة والتتابع ، لكانت موفقة كل التوفيق. فكيف والمنظر هنا تسجله الألفاظ
، فلا تنقص منه حركة واحدة تستطيع عدسة الصور المتحركة إثباتها؟ لا بل تتيح للنفس
متعة أشهى ، بأن تدع للخيال عملا؛ وهو يرسم الصور ويمحوها؛ ويصنع الحركات ويتبعها؛
ويرسم الظلال ويشهدها. والنفس تجيش ، والوجدان ينفعل ، والقلب يسرع في النبضات ، تحت
تأثير ما ذا؟ تحت تأثير الكلمات!
ومن تمام القول في طريقة القرآن التصويرية
أن نجمل هنا ما تفرق في مواضع مختلفة في الكتاب عن الحياة التي يبثها التعبير في
التصوير ، فهي سمة بارزة فيه ، تحدد نوع التصوير ومستواه.
إن المعاني الذهنية والحالات المعنوية ، لم
تستبدل بها صور فحسب ، ولكن اختيرت لها صور حيّة ، وقيست بمقاييس حيّة.
ومرت من خلال وسط حيّ «1».
فهول الساعة العظيم يصور في ذهول المرضعات
عما أرضعن ، وتخلي الحاملات عن حملهن ، وترنح السكارى وما هم بسكارى؛ ويقاس بمدى
فعل الهول في هذه النفوس الآدمية ، لا بالألفاظ والأوصاف التجريدية.
أو يصوّر في فرار المرء من أخيه وأمه وأبيه
، وفصيلته التي تؤويه. حيث يكون {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ
يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ}. فهو يقاس بأثره في النفس الإنسانية لا
بالمقاييس الأخرى الوصفية.
فإذا اشتركت الجوامد في تصوير هذا الهول
خلعت عليها الحياة أو أشرك معها الأحياء : {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ
وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل : 14] فهي حية ترتجف كالآدميين. أو {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ
كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ } [المزمل : 17 ، 18] فالسماء
المنفطرة بجوارها الأطفال الشيب ...
و هول الطوفان يصوّر في الطبيعة ، وإلى
جانبها يصور في والد وولده : ذلك ناج في السفينة ملهوف على فلذة كبده ، وهذا يجرفه
الطوفان حيث : {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود : 43] وإن الهول هنا ليكاد يكون أعظم من الهول في الطبيعة : {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ
كَالْجِبَالِ} [هود : 42] فما كان الموج في
المشهد إلا إطارا للهول النفسي الذي يفرّق بين الابن وأبيه ، ويفصم الصلة التي لا
تفصمها الأهوال!
و آلام العذاب الشديد في الآخرة ، تبدو من
خلال صرخات إنسانية ، تلقي ظلها من خلال التعبير :
{ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ
إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ } [الزخرف : 77]
{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر : 37]
و وخزات الخزي في هذا اليوم ، لا توصف
بالألفاظ ، ولكن تبرز من وسط آدمي حيّ :
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ
هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا
كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } [الأنعام : 30]
وصرخات الندم يهتف بها لسان إنسان ، يندم
بعد فوات الأوان :
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ
أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان : 27 ، 28]
وتسرب الإيمان نراه من خلال نفس بشرية في
قصة إبراهيم :
{ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا
رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ } [الأنعام : 76]
والحض على الجهاد يأتي في تصوير موقف
المؤمنين والكافرين :
{وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ
تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ
مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ}[النساء : 104]
وهو تصوير يفرق بين حقيقة الموقفين تفرقة
حاسمة في بضع كلمات ، ويقيس الفوارق بنفوس الفريقين وما ينتظرهما من مآل.
ولا نعود إلى استعراض ما استعرضنا من الصور
في شتى الفصول؛ فحسبنا هذا القدر لبيان نوع التصوير القرآني ، وتوضيح معنى الحياة
في هذا التصوير. الحياة التي تنقل الأثر من الحس إلى أعماق النفس ، لأنها تنتقل من
كائن حي ، إلى كائن حي ، في وسط حي ، فتتغلغل في أعماق الضمير من خلال التعبير والتصوير.
وسمة ثالثة في تعبير القرآن :
إن هذه الريشة المبدعة ما مسّت جامدا إلا
نبض بالحياة ، ولا عرضت مألوفا إلا بدا جديدا. وتلك قدرة قادرة ، ومعجزة ساحرة ، كسائر
معجزات الحياة!
الصبح مشهد مألوف مكرور ، ولكنه في تعبير
القرآن حي لم تشهده من قبل عينان. إنه «الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ».
والليل آن من الزمان معهود ، ولكنه في تعبير
القرآن حي جديد {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } [الفجر : 4]. وهو يطلب النهار في
سباق جبّار {يُغْشِي
اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} [الأعراف : 54]
والظل ظاهرة تشهد وتعرف ، ولكنه في تعبير
القرآن نفس تحس وتتصرف : { وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة : 43 ، 44] والجدار بنية جامدة كالجلمود ، ولكنه في تعبير
القرآن يحس ويريد : {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ
أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ } [الكهف : 77] والطير بنية حية ولكنها مألوفة لا تلفت الإنسان. أما في
تعبير القرآن فمشهد رائع يثير الجنان :
{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ
وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ} [الملك : 19]
والأرض والسماء ، والشمس والقمر. والجبال والوديان.
والدور العامرة. والآثار الداثرة. والنبات
والحيوان. والأشجار والأفنان ... كل أولئك أحياء. أو مشاهد تخاطب الأحياء. فليس
هناك جامد ولا ميت بين الجوامد والأشياء!
تلك طريقة القرآن. وإنها لفن قائم وحده إزاء
المعاني والأغراض.
وهو في أفقه الرفيع ، كفاء تلك المعاني ، وصنو
هذه الأغراض.
___________________________
(1) كان للأستاذ العقاد فصل توجيهي إلى إفراد هذه السمة القرآنية بالإشارة ، بعد ما ورد منها في ثنايا الكتاب من أمثلة متفرقة.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|