أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-6-2019
3133
التاريخ: 9-8-2019
2350
التاريخ: 22-5-2019
32897
التاريخ: 11-6-2019
4703
|
قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف : 54 - 56] .
قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف : 54] .
لما ذكر سبحانه الكفار ، وعبادتهم غير الله سبحانه ، احتج عليهم بمقدوراته ومصنوعاته ، ودلهم بذلك على أنه لا معبود سواه ، فقال مخاطبا لجميع الخلق : {إن ربكم الله} أي : إن سيدكم ومالككم ، ومنشئكم ومحدثكم ، هو الله {الذي خلق السماوات} أي : أنشأ أعيانها وأبدعها لا من شيء ، ولا على مثال ، ثم أمسكها بلا عماد يدعمها {والأرض} أي : وأنشأ الأرض : أوجدها كذلك .
{في ستة أيام} أي : في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا ، ولا شبهة أنه سبحانه يقدر على خلق أمثال ذلك في لحظة ، ولكنه خلقهما في هذه المدة لمصلحة ، ورتبهما على أيام الأسبوع ، فابتدأ بالأحد ، والاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، والجمعة ، فاجتمع له الخلق يوم الجمة ، فلذلك سمي الجمعة ، عن مجاهد ، وقيل : إن ترتيب الحوادث على إنشاء شيء بعد شيء ، على ترتيب أدل على كون فاعله عالما مدبرا يصرفه على اختياره ، ويجريه على مشيئته . وقيل : إنه سبحانه علم خلقه التثبت والرفق في الأمور ، عن سعيد بن جبير .
{ثم استوى على العرش} أي : استوى أمره على الملك ، عن الحسن .
يعني استقر ملكه ، واستقام بعد خلق السماوات والأرض ، فظهر ذلك للملائكة ، وإنما أخرج هذا على المتعارف من كلام العرب ، كقولهم استوى الملك على عرشه ، إذا انتظمت أمور مملكته ، وإذا اختل أمر ملكه ، قالوا : ثل عرشه ، ولعل ذلك الملك لا يكون له سرير ، ولا يجلس على سرير أبدا . قال الشاعر :
إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم ، وأودت كما أودت إياد وحمير (2)
وقال :
إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم * بعتيبة بن الحارث بن شهاب
وقيل : معناه ثم استوى عليه بأن رفعه عن الجبائي . وقيل : معناه ثم قصد إلى خلق العرش عن الفراء وجماعة ، واختاره القاضي ، قال : دل بقوله ثم إن خلق العرش كان بعد خلق السماء والأرض . وروي عن مالك بن أنس أنه قال : الاستواء غير مجهول ، وكيفيته غير معلومة ، والسؤال عنه بدعة . وروي عن أبي حنيفة أنه قال : {أمروه كما جاء} أي : لا تفسروه {يغشي} أي : يلبس {الليل النهار} يعني يأتي بأحدهما بعد الآخر ، فيجعل ظلمة الليل بمنزلة الغشاوة للنهار ، ولم يقل ويغشى النهار الليل ، لأن الكلام يدل عليه ، وقد ذكر في موضع آخر : {يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل} .
{يطلبه حثيثا} أي : يتلوه فيدركه سريعا ، وهذا توسع يريد أنه يأتي أثره كما يأتي الشئ في أثر الشئ ، طالبا له {والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} أي : مذللات جاريات في مجاريهن بتدبيره وصنعه . خلقهن لمنافع العباد . ومن قرأ {مسخرات} بالنصب : فإنه منصوب على الحال {ألا له الخلق والأمر} إنما فصل بين الخلق والأمر ، لأن فائدتهما مختلفة ، لأنه يريد بالخلق أن له الاختراع . وبالأمر أن له أن يأمر في خلقه بما أحب ، ويفعل بهم ما شاء .
{تبارك الله} أي : تعالى بالوحدانية فيما لم يزل ، ولا يزال ، فهو بمعنى تعالى بدوام الثبات . وقيل : معناه تعالى عن صفات المخلوقين والمحدثين . وقيل : تعالى بدوام البركة . أي : البركة في ذكر اسمه {رب العالمين} أي : خالقهم ، ومالكهم ، وسيدهم .
- {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف : 55 - 56] .
ثم أمر سبحانه بعد ذكره دلائل توحيده ، بدعائه على وجه الخشوع كافة عبيده ، فقال {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} أي : تخشعا وسرا .
عن الحسن قال : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ، ثم قال : إن كان الرجل لقد جمع القرآن ، وما يشعر به جاره ، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير ، وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الكثيرة في بيته ، وعنده الزور (3) فلا يشعرون به ، ولقد تداركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر ، فيكون علانية أبدا ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم .
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، كان في غزاة ، فأشرفوا على واد ، فجعل الناس يهللون ويكبرون ويرفعون أصواتهم ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (يا أيها الناس! أربعوا على أنفسكم ، أما إنكم لا تدعون الأصم ، ولا غائبا ، إنكم تدعون سميعا قريبا ، إنه معكم ، . وقيل : إن التضرع : رفع الصوت . والخفية : السر ، أي : ادعوه علانية وسرا ، عن أبي مسلم ، ورواه علي بن إبراهيم في تفسيره .
{إنه لا يحب المعتدين} في الدعاء قيل : هو أن يطلب منازل الأنبياء ، فيجاوز الحد في الدعاء ، عن أبي مجلز . وقيل : هو الصياح في الدعاء ، عن ابن جريج .
وقيل : معناه لا يحب المجاوزين الحد المرسوم في جميع العبادات والدعوات .
{ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} ومعناه النهي عن قتل المؤمنين ، وإضلالهم ، والعمل بالمعاصي في الأرض ، بعد أن أصلحها الله بالكتب والرسل ، عن السدي ، والحسن ، والضحاك ، والكلبي ، وقيل : بعد أن أمر الله بالإصلاح فيها ، قال الحسن : واصلاحها : اتباع أوامر الله تعالى فيها ، وروي عنه أيضا أنه قال : لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه . وقيل : لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل . وقيل : معناه لا تعصوا في الأرض ، فيمسك الله المطر ، ويهلك الحرث بمعاصيكم ، عن عطية .
وعلى هذا فيكون معنى قوله {بعد إصلاحها} : بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب .
وروى ميسر عن أبي جعفر عليه السلام ، في هذه الآية قال : (إن الأرض كانت فاسدة فأصلحها الله بنبيه صلى الله عليه وآله وسلم) .
{وادعوه خوفا وطمعا} خوفا من عقابه ، وطمعا في ثوابه . وقيل : خوفا من الرد ، وطمعا في الإجابة - وقيل : خوفا من عدله ، وطمعا في فضله ، عن ابن جريج . وقيل : معناه خوفا من النيران ، وطمعا في الجنان ، عن عطا {إن رحمة الله قريب من المحسنين} معناه : إن إنعام الله قريب إلى فاعلي الإحسان . وقيل : إن رحمة الله أي ثوابه قريب من المطيعين ، عن سعيد بن جبير . وقيل : المراد بالرحمة المطر ، عن الأخفش ، ويؤيده قوله : {فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها} والإحسان : هو النفع الذي يستحق به الحمد . والإساءة : هي الضرر الذي يستحق به الذم . ومن قال إن المراد بالمحسنين من خلصت أفعاله من الإساءة ، وكانت كلها حسنة ، فالظاهر لا يقتضي ذلك ، بل الذي يقتضيه أن رحمة الله واصلة إلى من فعل الإحسان وليس فيه أنه لا يصل إلى من جمع الإحسان والإساءة ، وذلك موقوف على الدلالة .
_______________________________
1 . تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 268-272 .
2 . أودى : هلك . وإياد - بالكسر - وحمير : قبيلتان .
3. الزور بمعنى الزائر .
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} . للمفسرين في هذه الآية أقوال متضاربة ، ويرجع سبب الاختلاف إلى أمرين : الأول ان أفعال اللَّه تعالى لا تقدر بالزمان : {وما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر - 50] .
أي كلمة واحدة وهي كُنْ فَيَكُونُ . الأمر الثاني ان الزمان انما يقدر بعد وجود السماوات والأرض وما يقع فيها من حوادث ، فقبل الكون لا زمان ولا أيام ، فكيف يمكن إيجاده من أيامه وفي أيامه ؟ وهل هذا إلا كقول القائل : بنيت بيتا من سقفه وحيطانه ؟ .
إذن ، لا بد من تأويل الأيام بمعنى مقبول ومعقول ، وقد اختلفوا في تعيين هذا المعنى المجازي ، فمنهم من قال : ان في الكلام حذفا أي في مقدار ستة أيام ، ومنهم من قال : ان الأيام هنا كناية عن المراحل والدفعات ، وانه تعالى لم يخلق الكون دفعة واحدة ، بل على ست مراحل ، ليكون لكل شيء حد محدود ، ووقت مقدر . ومن قائل : ان الأيام كناية عن الأطوار ، وانه سبحانه لم يخلق الكون ابتداء كما هو عليه الآن ، بل انتقل بخلقه من طور إلى طور وفقا لنظرية النشوء والارتقاء ، حتى الطور السادس والأخير ، وهو الذي نراه الآن .
وهذه الوجوه كلها محتملة ، وليس لدينا ما يعين أحدها ، أو يرجحه برغم تتبعنا لكثير من التفاسير القديمة والحديثة ، ولذا نقول مع القائل :
(ان الأيام قد تكون ست مراحل ، وقد تكون ستة أطوار ، وقد تكون ستة أيام من أيام اللَّه التي لا تقاس بمقياس زماننا . . وقد تكون شيئا آخر ، فلا ينبغي أن يجزم أحد ما ذا يعني هذا العدد على وجه التحديد . . والظن باسم العلم محاولة تحكمية ، وهزيمة روحية أمام ما يقال له علم ، وهو لا يتجاوز درجة الظنون والفروض) .
{ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} . هذه الجملة تفسرها الجملة التي بعدها ، وهي {أَلا لَهُ الْخَلْقُ والأَمْرُ} أي انه يملك الكون ويدبر أمره ، ومثلها الآية 3 من سورة يونس : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} . وانما عبر سبحانه عن ملكه وتدبيره بالاستواء على العرش لأن الملك يستولي على مملكته ويديرها : وهو على عرشه ، والقصد التقريب ، دون التشبيه : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
{يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} . هذا من تدبيره تعالى لشؤون الكون ، ومعناه ان الليل يتبع النهار ، ويتعقبه مسرعا في طلبه ، ويتغلب على المكان الذي كان فيه ، فيصير مظلما بعد ان كان منيرا ، ومثله قوله تعالى : {واللَّيْلِ إِذا يَغْشى} أي يتغلب على ضوء النهار ، وقوله : {واللَّيْلِ إِذا يَغْشاها} أي يتغلب على ضوء الشمس .
{والشَّمْسَ والْقَمَرَ والنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ} . أي وخلق هذه الكواكب تنقاد لمشيئته ، وتسير على مقتضى الحكمة والمصلحة . . والكلام عن هذه الكواكب يحتاج إلى علم الفلك ، ولا نعرف منه شيئا {أَلا لَهُ الْخَلْقُ والأَمْرُ} هذا بيان وتفسير لقوله : {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} كما أسلفنا ، وفي الحديث : من زعم ان اللَّه جعل للعباد من الأمر شيئا فقد كفر بما أنزل على أنبيائه بقوله :
الا له الخلق والأمر . {تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} . تعالى بوحدانيته وملكه وتدبيره .
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وخُفْيَةً} . وليس معنى دعوة العبد ربه أن يقول : اللهم رحمتك وغفرانك ، كلا . . وانما دعوة الحق أن يخافه ويتقيه ، ويلتزم أوامره ونواهيه ، وليس المراد بالتضرع أن يقول : اللهم أتضرع إليك تائبا ، وأعوذ بك مستجيرا ، بل المراد به أن يكون صادقا مخلصا للَّه فيما يقول ويفعل ، أما خفية فمعناها أن لا يباهي بما يفعل من خير ، ويعلنه على الملأ ، فان هذا ضرب من الاعتداء ، واللَّه يقول : {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي المتجاوزين ما أمر به ، وما نهى عنه ، وقد نهى سبحانه عن المباهاة بالعبادات ، وفعل الخيرات .
اللَّه أصلح الأرض والإنسان أفسدها :
{ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} . أصلح اللَّه هذه الأرض بما أودع فيها من كنوز لا تحصيها كثرة من الطيبات والمتع الروحية والمادية . . فمن مباهج الطبيعة إلى جمال المرأة ، ومن وفاء الأصدقاء إلى بر الأبناء ، ومن نشوة المعرفة والاطلاع إلى وشوشة الألحان والأنغام . . إلى ما لا نهاية .
أما الطيبات المادية فمن المأكول الحبوب والخضار واللحوم والفواكه ، وفي كل نوع من هذه أشكال وألوان ، ومن الملبوس الصوف والقطن والجلد والحرير ، ثم اكتشف الإنسان النايلون ، وسيكتشف بعد ما نظنه من الممتنعات والمستحيلات ، تماما كما اكتشف واخترع الأعاجيب لطئ الأرض والسماء ، وعبور القارات في دقائق ولحظات ، أما الوقود فمن الشجر إلى الفحم الحجري ، ومن البترول إلى الكهرباء ، إلى حرارة الشمس والذرة . . وقرأت فيما قرأت ان العلم استخرج من البترول المطاط الصناعي للاطارات ، والزجاج غير القابل للكسر ، وقنابل النابالم والنايلون ، والأسمدة الكيماوية ، والأطباق وأنابيب الري بالرش ، ومساحيق التجميل ، ومناضد الحدائق ، وأغطية الموائد ، والزهور الصناعية ، وأحمر الشفاه وكحل العيون ، وطلاء الأظافر ، والملابس الداخلية ، وفرشاة الأسنان ، وحبر المطابع ، والأفلام ، إلى ثلاثة آلاف صنف أحصاها الخبراء ، بل إلى ما لا يحصيه عدا إلا من أحاط بكل شيء علما : {وإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم - 34] .
ان الإنسان لظلوم كفار . . جاءت الآية بصيغة المبالغة ، مع تأكيدين لهذه المبالغة : أولهما بأنّ ، وثانيهما باللام . . وأي شيء أكثر ظلما وكفرانا ، وأعظم فسادا وطغيانا من تحويل الطيبات من الرزق إلى قنابل النابالم ، تقتل الصغار وتشوه الكبار ، وإلى نفاثات السموم واللهب يحرق الأخضر واليابس ، أما القنابل الذرية والهيدروجينية فإنها لا تبقي ولا تذر .
لقد بدّل الإنسان نعمة اللَّه كفرا ، وحوّل نعيم أرضه إلى جحيم ، وربط مصير الإنسانية كلها بمصير القنابل الذرية والهيدروجينية . . لقد أودع اللَّه في هذه الأرض المتع والطيبات من الرزق لعباده وعياله ، وأودع الظلوم الكفار القنابل الذرية في مخازنه وطائراته ، تجوب أجواء القارات ليل نهار ، يرقب الفرصة المؤاتية ليحوّل الأرض ومن عليها إلى رماد وهباء . . وهذا هو تأويل قوله تعالى : {ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} . فيجب أن تعرف الذي أفسد علينا الأرض بعد أن أصلحها اللَّه لنا ، وأن نقطع عليه الطريق بكل ما نملكه من وسائل ، وأقلها أن نعلن حقيقته للملأ ، ونسميه باسمه الذي وضع له ، وهو عدو اللَّه والإنسانية ، ليحذر الناس ، كل الناس من مكره وخداعه .
{وادْعُوهُ خَوْفاً وطَمَعاً} . ان بث روح اليأس خيانة ، لأنه لا حياة مع اليأس ، وبث روح الأمل مع ترك التحفظ والحذر أيضا خيانة ، لأنه تغرير وتخدير ، وطريق النجاة وسط بين الاثنين ، قال تعالى : {ويَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويَخافُونَ عَذابَهُ} [الإسراء - 57] . وقال : {نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الأَلِيمُ} [الحجر - 50] . فالمؤمن العاقل يعمل ، وهو خائف من اللَّه أن لا يقبل منه لخلل في عمله ، وفي الوقت نفسه يرجو النجاح والقبول ، وكل من الخوف والرجاء يدعو إلى التحفظ والإتقان ، {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} . فيه إيماء إلى أن من يخاف اللَّه ويرجوه فهو من أهل الإحسان ، وانه تعالى يجازي الإحسان بمثله .
___________________________
1. تفسير الكاشف ، ج4 ، ص 338-341 .
قوله تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف : 54] سيأتي البحث في معنى السماء والأيام الستة التي خلقتا فيها في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله .
قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ - الى قوله - بِأَمْرِهِ} [الأعراف : 54] - الاستواء - الاعتدال على الشيء والاستقرار عليه ، وربما استعمل بمعنى التساوي ، يقال : استوى زيد وعمرو أي تساويا قال تعالى : {لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة : 19] .
و- العرش - ما يجلس عليه الملك وربما كني به عن مقام السلطنة ، قال الراغب في المفردات : العرش في الأصل شيء مسقف ، وجمعه عروش قال : {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة : 259] ومنه قيل : عرشت الكرم وعرشتها إذا جعلت له كهيئة سقف .
قال : والعرش شبه هودج للمرأة تشبيها في الهيئة بعرش الكرم ، وعرشت البئر جعلت له عريشا ، وسمي مجلس السلطان عرشا اعتبارا بعلوه .
قال : وعرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم ، وليس كما يذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له - تعالى عن ذلك - لا محمولا والله تعالى يقول : {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر : 41] ، وقال قوم : هو الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب ، واستدل بما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما السماوات السبع والأرضون السبع في جنب الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة والكرسي عند العرش كذلك .
وقد استقرت العادة منذ القديم أن يختص العظماء من ولاة الناس وحكامهم ومصادر أمورهم من المجلس بما يختص بهم ويتميزون به عن غيرهم كالبساط والمتكأ حتى آل الأمر إلى إيجاد السرر والتخوت فاتخذ للملك ما يسمى عرشا وهو أعظم وأرفع وأخص بالملك ، والكرسي يعمه وغيره ، واستدعى التداول والتلازم أن يعرف الملك بالعرش كما كان العرش يعرف بالملك في أول الأمر فصار العرش حاملا لمعنى الملك ممثلا لمقام السلطنة إليه يرجع وينتهي ، وفيه تتوحد أزمة المملكة في تدبير أمورها وإدارة شئونها .
واعتبر لاستيضاح ذلك مملكة من الممالك قطنت فيها أمة من الأمم لعوامل طبيعية أو اقتصادية أو سياسية استقلوا بذلك في أمرهم وتميزوا من غيرهم فأوجدوا مجتمعا من المجتمعات الإنسانية واختلطوا وامتزجوا بالأعمال ونتائجها ثم اقتسموا في التمتع بالنتائج فاختص كل بشيء منها على قدر زنته الاجتماعية .
كان من الواجب أن تحفظ هذه الوحدة والاتصال المتكون بالاجتماع بمن يقوم عليها فإن التجربة القطعية أوضحت للإنسان أن العوامل المختلفة والأعمال والإرادات المتشتتة إذا وجهت نحو غرض واحد وسيرت في مسير واحد لم تدم على نعت الاتحاد والملاءمة إلا أن تجمع أزمة الأمور المختلفة في زمام واحد وتوضع في يد من يحفظه ويديم حياته بالتدبير الحسن فتحيا به الجميع وإلا فسرعان ما تتلاشى وتتشتت .
ولذلك ترى أن المجتمع المترقي ينوع الأعمال الجزئية نوعا نوعا ثم يقدم زمام كل نوع إلى كرسي من الكراسي كالدوائر والمصالح الجزئية المحلية ، ثم ينوع أزمة الكراسي فيعطي كل نوع كرسيا فوق ذلك ، وعلى هذا القياس حتى ينتهي الأمر إلى زمام واحد يقدم إلى العرش ويهدى لصاحب العرش .
ومن عجيب أمر هذا الزمام وانبساطه وسعته في عين وحدته أن الأمر الواحد الصادر من هذا المقام يسير في منازل الكراسي التابعة له على كثرتها واختلاف مراتبها فيتشكل في كل منزل بشكل يلائمه ويعرف فيه ، ويتصور لصاحبه بصورة ينتفع بها ويأخذها ملاكا لعمله .
يقول مصدر الأمر ﴿ليجري الأمر﴾ فتأخذه المصالح المالية تكليفا ماليا ومصالح السياسية تكليفا سياسيا ، ومصالح الجيش تكليفا دفاعيا وعلى هذا القياس كلما صعد أو نزل .
فجميع تفاصيل الأعمال والإرادات والأحكام المجراة فيها المنبسطة في المملكة وهي لا تحصى كثرة أو لا تتناهى لا تزال تتوحد وتجتمع في الكراسي حتى تنتهي إلى العرش فتتراكم عنده بعضها على بعض وتندمج وتتداخل وتتوحد حتى تصير واحدا هو في وحدته كل التفاصيل فيما دون العرش ، وإذا سار هذا الواحد إلى ما دونه لم يزل يتكثر ويتفصل حتى ينتهي إلى أعمال أشخاص المجتمع وإراداتهم .
هذا في النظام الوضعي الاعتبار الذي عندنا ، وهو لا محالة مأخوذ من نظام التكوين ، والباحث عن النظام الكوني يجد أن الأمر فيه على هذه الشاكلة ، فالحوادث الجزئية تنتهي إلى علل وأسباب جزئية ، وتنتهي هي إلى أسباب أخرى كلية حتى تنتهي الجميع إلى الله سبحانه غير أن الله سبحانه مع كل شيء وهو محيط بكل شيء ، وليس كذلك الملك من ملوكنا لحقيقية ملكه تعالى واعتبارية ملك غيره .
ففي عالم الكون على اختلاف مراحل مرحلة تنتهي إليها جميع أزمة الحوادث الملقاة على كواهل الأسباب ، وأزمة الأسباب على اختلاف أشخاصها وأنواعها ، وترتب مراتبها هو المسمى عرشا كما سيجيء ، وفيه صور الأمور الكونية المدبرة بتدبير الله سبحانه كيفما شاء ، وعنده مفاتح الغيب .
فقوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف : 54] كناية عن استيلائه على ملكه وقيامه بتدبير الأمر قياما ينبسط على كل ما دق وجل ، ويترشح منه تفاصيل النظام الكوني ينال به كل ذي بغية بغيته ، وتقضي لكل ذي حاجة حاجته ، ولذلك عقب حديث الاستواء في سورة يونس في مثل الآية بقوله : ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ إذ قال : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس : 3] .
ثم فصل بقوله : {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الأعراف : 54] ويستره به {يَطْلُبُهُ} أي يطلب الليل النهار ليغشيه ويستره ﴿حثيثا﴾ أي طلبا حثيثا سريعا ، وفيه إشعار بأن الظلمة هي الأصل ، والنهار الذي يحصل من إنارة الشمس ما يواجهها مما حولها ، عارض لليل الذي هو الظلمة المخروطية اللازمة لأقل من نصف كرة الأرض المقابل للجانب المواجه للشمس كان الليل يعقبه ويهجم عليه .
وقوله : {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف : 54] أي خلقهن والحال أنها مسخرات بأمره يجرين على ما يشاء ولما يشاء وقرئ الجميع بالرفع ، وعلى ذلك فالشمس مبتدأ والقمر والنجوم معطوفة عليها ، ومسخرات خبره ، والباء في قوله : ﴿بِأَمْرِهِ﴾ للسببية .
ومجموع قوله : {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} إلخ ، يجري مجرى التفسير لقوله : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} على ما يعطيه السياق ، وهو الذي تعطيه أغلب الآيات القرآنية التي يذكر فيها العرش فإنها تذكر معه شيئا من التدبير أو ما يؤول إليه بحسب المعنى .
قوله تعالى : {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف : 54] - الخلق - هو التقدير بضم شيء إلى شيء وإن استقر ثانيا في عرف الدين وأهله في معنى الإيجاد أو الإبداع على غير مثال سابق ، وأما - الأمر - فيستعمل في معنى الشأن وجمعه أمور ، ومصدرا بمعنى يقرب من بعث الإنسان غيره نحو ما يريده يقال أمرته بكذا أمرا ، وليس من البعيد أن يكون هذا هو الأصل في معنى اللفظ ثم يستعمل الأمر اسم مصدر بمعنى نتيجة الأمر وهو النظم المستقر في جميع أفعال المأمور المنبسط على مظاهر حياته ، فينطبق في الإنسان على شأنه في الحياة ثم يتوسع فيه فيستعمل بمعنى الشأن في كل شيء فأمر كل شيء هو الشأن الذي يصلح له وجوده ، وينظم له تفاريق حركاته وسكناته وشتى أعماله وإراداته ، يقال : أمر العبد إلى مولاه ، أي هو يدبر حياته ومعاشه ، وأمر المال إلى مالكه ، وأمر الإنسان إلى ربه أي بيده تدبيره في مسير حياته .
ولا يرد عليه أن الأمر بمعنى الشأن يجمع على ﴿أمور﴾ وبمعنى يقابل النهي على ﴿أوامر﴾ وهو ينافي رجوع أحدهما إلى الآخر معنى! ، فإن أمثال هذه التفننات كثيرة في اللغة يعثر عليها المتتبع الناقد فالأمر كالمتوسط بين من يملكه وبين من يملك منه كالمولى والعبد ويضاف إلى كل منهما يقال : أمر العبد وأمر المولى ، قال تعالى : {وَأَمْرُهُ إِلَى ال} [البقرة : 275] ، وقال : {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ } [النحل : 1] .
وقد فسر سبحانه أمره الذي يملكه من الأشياء بقوله : {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس : 82 ، 83] ، فبين أن أمره الذي يملكه من كل شيء سواء كان ذاتا أو صفة أو فعلا وأثرا هو قول كن وكلمة الإيجاد وهو الوجود الذي يفيضه عليه فيوجد هو به ، فإذا قال لشيء : كن فكان ، فقد أفاض عليه ما وجد به من الوجود ، وهذا الوجود الموهوب له نسبة إلى الله سبحانه وهو بذاك الاعتبار أمره تعالى وكلمة ﴿كن﴾ الإلهية ، وله نسبة إلى الشيء الموجود ، وهو بذاك الاعتبار أمره الراجع إلى ربه ، وقد عبر عنه في الآية بقوله : ﴿فيكون﴾ .
وقد ذكر تعالى لكل من النسبتين - وإن شئت فقل : للإيجاد المنسوب إليه تعالى وللوجود المنسوب إلى الشيء - نعوتا وأحكاما مختلفة سنبحث عنها إن شاء الله في محل يناسبه .
والحاصل : أن الأمر هو الإيجاد سواء تعلق بذات الشيء أو بنظام صفاته وأفعاله فأمر ذوات الأشياء إلى الله وأمر نظام وجودها إلى الله لأنها لا تملك لنفسها شيئا البتة ، والخلق هو الإيجاد عن تقدير وتأليف سواء كان ذلك بنحو ضم شيء إلى شيء كضم أجزاء النطفة بعضها إلى بعض وضم نطفة الذكور إلى نطفة الإناث ثم ضم الأجزاء الغذائية إليها في شرائط خاصة حتى يخلق بدن إنسان مثلا ، أم من غير أجزاء مؤلفة كتقدير ذات الشيء البسيط وضم ما له من درجة الوجود وحده وما له من الآثار والروابط التي له مع غيره ، فالأصول الأولية مقدرة مخلوقة كما أن المركبات مقدرة مخلوقة .
قال الله تعالى : {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان : 2] ، وقال : {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه : 50] ، وقال : {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر : 62] ، فعمم خلقه كل شيء .
فقد اعتبر في معنى الخلق تقدير جهات وجود الشيء وتنظيمها سواء كانت متمايزة منفصلا بعضها عن بعض أم لا بخلاف الأمر .
ولذا كان الخلق يقبل التدريج كما قال : {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف : 54] بخلاف الأمر قال تعالى : {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر : 50] ، ولذلك أيضا نسب في كلامه إلى غيره الخلق كقوله : {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا} [المائدة : 110] ، وقال : {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون : 14] .
وأما الأمر بهذا المعنى فلم ينسبه إلى غيره بل خصه بنفسه ، وجعله بينه وبين ما يريد حدوثه وكينونته كالروح الذي يحيا به الجسد .
انظر إلى قوله تعالى : {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف : 54] وقوله : {وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ} [الروم : 46] ، وقوله : {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [النحل : 2] ، وقوله : {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء : 27] ، إلى غير ذلك من الآيات تجد أنه تعالى يجعل ظهور هذه الأشياء بسببية أمره أو بمصاحبة أمره ، فنلخص أن الخلق والأمر يرجعان بالآخرة إلى معنى واحد وإن كانا مختلفين بحسب الاعتبار .
فإذا انفرد كل من الخلق والأمر صح أن يتعلق بكل شيء ، كل بالعناية الخاصة به ، وإذا اجتمعا كان الخلق أحرى بأن يتعلق بالذوات لما أنها أوجدت بعد تقدير ذواتها وآثارها ، ويتعلق الأمر بآثارها والنظام الجاري فيها بالتفاعل العام بينها لما أن الآثار هي التي قدرت للذوات ولا وجه لتقدير المقدر فافهم ذلك .
ولذلك قال تعالى : {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف : 54] فأتى بالعطف المشعر بالمغايرة بوجه وكان المراد بالخلق ما يتعلق من الإيجاد بذوات الأشياء ، وبالأمر ما يتعلق بآثارها والأوضاع الحاصلة فيها والنظام الجاري بينها كما ميز بين الجهتين في أول الآية حيث قال : {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف : 54] وهذا هو إيجاد الذوات {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس : 3] وهو إيجاد النظام الأحسن بينها بإيقاع الأمر تلو الأمر والإتيان بالواحد منه بعد الواحد .
وما ربما يقال : إن العطف لا يقتضي المغايرة ، ولو اقتضى ذلك لدل في قوله : {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة : 98] على كون جبريل من غير جنس الملائكة! مدفوع بأن المراد مغايرة ما ولو اعتبارا لقبح قولنا جاءني زيد وزيد ورأيت عمرا وعمرا فلا محيص عن مغايرة ما ولو بحسب الاعتبار ، وجبريل مع كونه من جنس الملائكة يغايره غيره بما له من المقام المعلوم والقوة والمكانة عند ذي العرش .
وقوله تعالى : {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف : 54] أي كان ذا بركات ينزلها على مربوبيه من جميع من في العالمين فهو ربهم .
قوله تعالى : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [الأعراف : 55] إلى آخر الآيتين .
التضرع هو التذلل من الضراعة وهي الضعف والذلة .
والخفية هي الاستتار وليس من البعيد أن يكون كناية عن التذلل جيء به لتأكيد التضرع فإن المتذلل يكاد يختفي من الصغار والهوان .
الآية السابقة : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ} [الأعراف : 54] الآية تذكر بربوبيته وحده لا شريك له من جهة أنه هو الخالق وحده ، وإليه تدبير خلقه وحده ، فتعقيبها بهاتين الآيتين بمنزلة أخذ النتيجة من البيان ، وهي الدعوة إلى دعائه وعبوديته ، والحكم بأخذ دين يوافق ربوبيته تعالى وهي الربوبية من غير شريك في الخلق ولا في التدبير .
ولذلك دعا أولا إلى دين العبودية فقال : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف : 55 ، 56] فأمر أن يدعوه بالتضرع والتذلل وأن يكون ذلك خفته من غير المجاهرة البعيدة عن أدب العبودية الخارجة عن زيها - بناء على أن تكون الواو في ﴿تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ للجمع - أو أن يدعوه بالتضرع والابتهال الملازم عادة للجهر بوجه أو بالخفية إخفاتا فإن ذلك هو لازم العبودية ومن عدا ذلك فقد اعتدى عن طور العبودية وإن الله لا يحب المعتدين .
ومن الممكن أن يكون المراد بالتضرع والخفية : الجهر والسر وإنما وضع التضرع موضع الجهر لكون الجهر في الدعاء منافيا لأدب العبودية إلا أن يصاحب التضرع .
هذا فيما بينهم وبين الله ، وأما فيما بينهم وبين الناس فأن لا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها فليس حقيقة الدين فيما يرجع إلى حقوق الناس إلا أن يصلح شأنهم بارتفاع المظالم من بينهم ومعاملتهم بما يعينهم على التقوى ، ويقربهم من سعادة الحياة في الدنيا والآخرة ثم كرر الدعوة إليه وأعاد البعث إلى دعائه بالجمع بين الطريقين الذين لم يزل البشر يعبد الرب أو الأرباب من أحدهما وهما طريق الخوف وطريق الرجاء فإن قوما كانوا يتخذون الأرباب خوفا فيعبدونهم ليسلموا من شرورهم ، وكان قوما يتخذون الأرباب طمعا فيعبدونهم لينالوا خيرهم وبركتهم لكن العبادة عن محض الخوف ربما ساق الإنسان إلى اليأس والقنوط فدعاه إلى ترك العبادة ، وقد شوهد ذلك كثيرا ، والعبادة عن محض الطمع ربما قاد إلى استرسال الوقاحة وزوال زي العبودية فدعاه إلى ترك العبادة ، وقد شوهد أيضا كثيرا فجمع سبحانه بينهما ودعا إلى الدعاء باستعمالهما معا فقال : {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الأعراف : 56] ليصلح كل من الصفتين ما يمكن أن تفسده الأخرى ، وفي ذلك وقوع في مجرى الناموس العام الجاري في العالم أعني ناموس الجذب والدفع .
وقد سمى الله سبحانه هذا الاعتدال في العبادة والتجنب عن إفساد الأرض بعد إصلاحها إحسانا وبشر المجيبين لدعوته بأنهم يكونون حينئذ محسنين فتقرب منهم رحمته إن رحمة الله قريب من المحسنين .
ولم يقل : رحمة الله قريبة ، قيل : لأن الرحمة مصدر يستوي فيه الوجهان ، وقيل : لأن المراد بالرحمة الإحسان ، وقيل : لأن قريب فعيل بمعنى المفعول فيستوي فيه المذكر والمؤنث ونظيره قوله تعالى : {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى : 17] .
__________________________
1 . تفسير الميزان ، ج8 ، ص 150-163 .
قال تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} [الأعراف : 54] .
الآية الحاضرة تصف المعبود الحقيقي مع ذكر صفاته الخاصّة حتى يستطيع الذين يطلبون الحقيقة وينشدونها أن يعرفوه بوضوح في هذا العالم وقبل حلول يوم القيامة ، ويبدأ حديثه هذا بقوله : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي أنّ المعبود لا يمكن أن يكون إلّا من كان خالقا .
هل خلق العالم في ستّة أيّام ؟
لقد ورد البحث عن خلق العالم وتكوينه في ستّة أيّام ، في سبعة موارد من آيات القرآن الكريم (2) ، ولكنّه في ثلاثة موارد أضيف إلى السماوات والأرض لفظة «وما بينهما» أيضا. والتي هي في الحقيقة توضيح للجملة السابقة ، لأنّ جميع هذه الأشياء تدخل في معنى السماوات والأرض ، لأنّنا نعلم أنّ السماء تشمل جميع الأشياء التي توجد في الأعلى ، والأرض هي النقطة المقابلة للسماء.
وهنا يتبادر هذا السؤال فورا وهو : قبل أن تخلق السماوات والأرض لم يكن ليل ولا نهار ليقال : خلقت السماوات والأرض فيهما ، لأنّ الليل والنهار ناشئان من دوران الأرض حول نفسها في مقابل الشمس .
هذا مضافا إلى أنّ ظهور المجموعة الكونية في ستّة أيام ـ يعني أقل من أسبوع ـ يخالف العلم ، لأنّ العلم يقول : لقد استغرق تكوّن الأرض والسماء حتى وصل الى الواضع الحالي ملياردات من السنوات والأعوام .
ولكن نظرا إلى المفهوم الواسع للفظة «يوم» وما يعادلها في مختلف اللغات ، يكون جواب هذا السؤال واضحا ، لأنّه كثيرا ما يستعمل اليوم بمعنى الدورة ، سواء استغرقت مدة سنة ، أو مائة سنة ، أو مليون سنة أو ملياردات السنين ، والشواهد التي تثبت هذه الحقيقة ، وتفيد أنّ أحد معاني اليوم هو الدورة ، كثيرة :
1 ـ لقد استعملت لفظة اليوم والأيّام في القرآن الكريم مئات المرات ، وفي كثير من الموارد لم تكن بمعنى الليل والنهار ، مثلا يعبر عن عالم البعث بيوم القيامة ، وهذا يشهد بأنّ مجموع عملية القيامة التي هي دورة طويلة الأمد والمدّة ، تسمى يوم القيامة.
ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ يوم القيامة ومحاسبة أعمال الناس يستغرق خمسين ألف سنة (سورة المعارج الآية 4) .
2ـ نقرأ في كتب اللغة أيضا أنّ اليوم ربّما يطلق على الزمن بين طلوع الشمس وغروبها ، وربّما على مقدار من الزمان مهما كان قدره ، قال الراغب في المفردات : «اليوم يعبّر به عن وقت طلوع الشمس إلى غروبها ، وقد يعبّر عن مدة من الزمان أي مدّة كانت».
3 ـ جاء في روايات أئمّة الدين وأحاديثهم ـ كذلك ـ استعمال اليوم بمعنى الدهر ، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أنّه قال : «الدّهر يومان : يوم لك ، ويوم عليك».
ونقرأ في تفسير البرهان في تفسير هذه الآية ، عن تفسير علي بن إبراهيم الإمام عليه السلام قال : «في ستة أيّام ، أي في ستة أوقات» ، أي في ست دورات.
4 ـ كثيرا ما نشاهد في المحاورات اليومية ، وأشعار الشعراء في اللغات المختلفة ، أنّ كلمة اليوم وما يعادلها قد استعملت بمعنى الدورة والعهد ، مثلا نقول يوم كانت الكرة الأرضية حارة ومشتعلة ، ويوم صارت باردة وظهرت فيها آثار الحياة ، في حين أنّ فترة سخونة الأرض واشتعالها استغرقت ملياردات من الأعوام .
أو عند ما نقول غصب آل أمية الخلافة الإسلامية يوما ، وغصبها بنو العباس يوما آخر. في حين أنّ فترة اغتصاب الأمويين للخلافة استغرقت عشرات السنين وفترة اغتصاب العباسيين لها استغرقت المئات.
من مجموع الحديث السابق نستنتج أنّ الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض في ست دورات متوالية ، وإن استغرقت كل دورة من هذه الدورات ملايين أو ملياردات السنين ، والعلم الحديث لم يبيّن أي أمر يخالف هذا الموضوع.
وهذه الدورات ـ احتمالا ـ هي على الترتيب :
1 ـ يوم كان الكون في شكل كتلة غازية الشكل ، فانفصلت منها أجزاء بسبب دورانها حول نفسها ، وتشكلت من المواد المنفصلة الكرات والأنجم.
2 ـ هذه الكرات قد تحولت تدريجا إلى هيئة كتلة من المواد الذائبة المشعة أم الباردة القابلة للسكنى.
3 ـ في دورة أخرى تألفت المنظومة الشمسية وانفصلت الأرض عن الشمس .
4 ـ في الدورة الرّابعة بردت الأرض وأصبحت قابلة للحياة .
5 ـ ثمّ ظهرت النباتات والأشجار على الأرض .
6 ـ وبالتالي ظهرت الحيوانات والإنسان فوق سطح الأرض .
وكل ما ذكرناه أعلاه من الأدوار الستة لعملية خلق وتكوين السماوات والأرض تنطبق على الآيات (8) إلى (11) من سورة فصلت التي سيأتي تفسيرها في المستقبل إن شاء الله .
لماذا لم يخلق الله العالم في لحظة واحدة ؟
وهنا يطرح سؤال آخر نفسه وهو : لماذا خلق الله السماوات والأرض في دورات عديدة وطويلة ، وهو القادر على خلقها في لحظة واحدة ؟
إنّ جواب هذا السؤال يمكن الوقوف عليه بالالتفات إلى نقطة واحدة ، وهي أنّ الخلق لو تمّ في لحظة واحدة ، لكان ذلك أقل دلالة على عظمة الخالق وقدرته وعلمه ، ولكن لما تمّت عملية الخلق والتكوين في مراحل مختلفة وأشكال متنوعة ، وفق برنامج منظم محسوب ، كان لذلك دلالة أوضح على معرفة الخالق .
ففي المثل لو كانت النّطفة البشرية تتبدل في لحظة واحدة إلى وليد كامل ، لمّا كان ذلك يحكي عظمة الخلق والتكوين ، ولكن عند ما ظهر الوليد خلال 9 أشهر ، وضمن برنامج دقيق واتخذ في كل يوم وشهر شكلا خاصا وصورة خاصّة ، استطاعت كل واحدة من هذه المراحل أن تقدّم آية جديدة من آيات العظمة الإلهية ، وتكون دليلا جديدا على قدرة الخالق .
ثمّ يقول القرآن الكريم : إنّ الله تعالى بعد خلق السماوات والأرض أخذ زمام إدارتها بيده (أي ليس الخلق منه فقط ، بل منه الإدارة والتدبير أيضا) فقال تعالى : {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} .
وهذا جواب لمن يعتقد أنّ الكون محتاج إلى الله تعالى في الخلق والإيجاد دون البقاء .
ما هو العرش ؟
«العرش» في اللغة هو ما له سقف ، وقد يطلق العرش على نفس السقف ، مثل قوله تعالى : {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها} [البقرة : 259] .
وربّما يأتي بمعنى الأسرة الكبيرة المرتفعة ، مثل أسرة الملوك والسلاطين ، كما جاء في قصة سليمان : {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها} [النمل : 28] .
وهكذا يطلق لفظ العرش على الأسقف التي يقيمها المزارعون لحفظ بعض الأشجار ، وبخاصّة المتسلقة منها ، كما نقرأ في القرآن الكريم : {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ} [الأنعام 141] .
ولكن عند ما ينسب الى الله سبحانه وتعالى ويقال : عرش الله ، يراد منه مجموعة عالم الوجود ، الذي يعدّ في الحقيقة سرير حكومة الله تعالى .
وأساسا فإنّ عبارة {اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} كناية عن سيطرة حاكم من الحكام على أمور بلده ، كما أنّ المراد من جملة «ثلّ عرشه» هو خروج زمام الأمر من يده وفقدان السيطرة عليه ، وقد استعملت هذه الكناية في اللغة بكثرة إذ يقال : إنّ جماعة من الناس ثارت في البلد الفلاني ، وأنزلت حاكمه من سريره وعرشه ، في حين من الممكن أن لا يكون لذلك الزعيم والحاكم تخت أصلا .
أو يقال : إنّ جماعة من الناس أيدوا فلانا ، وأجلسوه على العرش ، فكل هذه كناية عن امتلاك السلطة أو فقدانها .
وعلى هذا تكون عبارة {اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} كناية عن الإحاطة الكاملة لله تعالى وسيطرته على تدبير أمور الكون ـ سماء وأرضا ـ بعد خلقها .
ومن هنا يتّضح أنّ الذين أخذوا هذه الجملة دليلا على «جسمانيّة الله» كأنّهم لم يلتفتوا إلى موارد استعمال هذه الجملة العديدة في هذا المعنى الكنائي .
وهناك معنى آخر للعرش ، وهو أنّه قد ورد أحيانا في قبال «الكرسي» وفي مثل هذه الموارد يمكن أن يكون الكرسي (الذي يطلق عادة على المقعد القصير القوائم) كناية عن العالم المادي ، والعرش كناية عن عالم ما فوق المادة (أي عالم الأرواح والملائكة} كما جاء في تفسير آية {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} التي مرّت في سورة البقرة .
ثمّ يقول بأنّه تعالى هو الذي يلقي بالليل ـ كغشاء ـ على النهار ، ويستر ضوء النهار بالأستار المظلمة {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ} .
والملفت للنظر أنّ العبارة المذكورة ذكرت في مجال الليل فقط ، ولم يقل (ويغشي النهار الليل) لأنّ الغطاء والغشاء يناسب الظلمة فقط ولا يناسب النور والضوء .
ثمّ يضيف بعد ذلك قائلا : إنّ الليل يطلب النهار طلبا حثيثا (يطلبه حثيثا) .
إنّ هذا التعبير ـ نظرا لوضع الليل والنهار في الكرة الأرضية ـ تعبير في غاية الروعة والجمال ، لأنّه لو نظر أحد إلى كيفية حركة الكرة الأرضية من الخارج ، وكيفية دورانها حول نفسها ووقوع ظلها المخروطي الشكل على نفسها ، مع العلم أنّ الكرة الأرضية تدور بسرعة فائقة حول نفسها (أي في حدود 30 كيلومترا في الدقيقة) لأحس أنّ غول الظلّ المخروطي الأسود يجري بسرعة كبيرة على هذه الكرة خلف ضوء النهار .
ولكن هذا الأمر غير صادق بالنسبة إلى ضوء النهار ، لأنّ ضوء الشمس منتشر في نصف الكرة الأرضية وفي جميع الفضاء المحيط بأطراف الأرض ، ولا يتخذ لنفسه شكلا خاصا ، وإنّما ظلمة الليل فقط هي التي تدور مثل شبح غامض الأسرار حول الأرض .
ثمّ يضيف تعالى أنّه هو الذي خلق الشمس والقمر والنجوم ، وهي خاضعة لأمره بعد خلقها : {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ} وهي {مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ} .
(وسوف نبحث حول تسخير الشمس والقمر والنجوم ومعاني ذلك في ذيل الآيات المناسبة بإذن الله تعالى) .
ثمّ بعد ذكر خلق العالم ونظام الليل والنهار ، وخلق الشمس والقمر والنجوم ، قال مؤكّدا : اعلموا أنّ خلق الكون وتدبير أموره كلّه بيده سبحانه دون سواه ، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} .
ما هو «الخلق» و «الأمر»؟
هناك كلام كثير بين المفسّرين حول المراد من «الخلق» و «الأمر» أنّه ما هو ؟
ولكن بالنظر إلى القرائن الموجودة في هذه الآية ـ والآيات القرآنية الأخرى يستفاد أنّ المراد من «الخلق» هو الخلق والإيجاد الأوّل. والمراد من «الأمر» هو السنن والقوانين الحاكمة على عالم الوجود بأسره بأمر الله تعالى ، والتي تقود الكون في مسيره المرسوم له.
إن هذا التعبير ـ في الحقيقة ـ ردّ على الذين يتصورون أنّ الله خلق الكون ثمّ تركه لحاله وأهله ، وجلس جانبا. أي إنّ العالم بحاجة إلى الله في وجوده وحدوثه ، دون بقائه واستمراره .
إنّ هذه الجملة تقول : كلّا ، بل إنّ العالم كما يحتاج إلى حدوثه إلى الله ، كذلك يحتاج إليه في تدبيره واستمرار حياته وإدارة شؤونه إلى الله ، ولو أنّ الله صرف عنايته ولطفه عن الكون لحظة واحدة لتبدد النظام وانهار وانهدم بصورة كاملة.
وقد مال بعض الفلاسفة إلى أن يفسّر عالم «الخلق» بعالم «المادة» وعالم «الأمر» بعالم «ما وراء المادة» لأنّ لعالم الخلق جانبا تدريجيا ، وهذه هي خاصية المادة. ولعالم الأمر جانبا دفعيا وفوريا ، وهذه هي خاصية عالم ما وراء المادة ، كما نقرأ في قوله تعالى : {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس : 82] .
ولكن بالنظر إلى موارد استعمال لفظة الأمر في آيات القرآن ، وحتى عبارة{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ} الواردة في الآية المبحوثة يستفاد الأمر يعني كل أمر إلهي سواء في عالم المادة أو في عالم ما وراء المادة (تأملوا رجاء).
ثمّ في ختام الآية يقول : {تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} .
في الحقيقة إنّ هذه الجملة ـ بعد ذكر خلق السماوات والأرض والليل والنهار والشمس والقمر والنجوم وتدبير عالم الوجود ـ نوع من الثناء على الذات الربوبية المقدسة ، وقد سيق لتعليم العباد .
و «تبارك» من مادة البركة وأصلها «برك» ومعناها صدر البعير ، حيث أنّ الإبل عند ما تستقر في مكان ما تلصق صدورها على الأرض ، لهذا اتخذت هذه الكلمة تدريجيا معنى الثبوت والاستقرار والاستتباب ، ثمّ وصفت وسمّيت كل نعمة مستقرة ودائمة ، وكل كائن طويل العمر ، ومستمر الآثار والخيرات ، بأنّه موجود مبارك ، ويقال أيضا للمكان الذي يتجمع فيه الماء «بركة» لبقائه في ذلك المكان مدة طويلة.
من هنا يتّضح أنّ رأس المال «المبارك» هو الذي يتصف بالدوام ، والكائن «المبارك» هو الموجود المستديم الآثار ، ومن البديهي أنّ أليق وجود لهذه الصفة هو وجود الله تعالى ، فهو وجود مبارك أزلي أبدي ، وهو بالتالي منشأ جميع البركات والخيرات ، ومنبع الخير المستمر {تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ} (وسوف نتحدث في هذا المجال في تفسير الآية (92) من سورة الأنعام أيضا) .
- {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف : 55-56] .
شروط استجابة الدعاء :
لقد أثبتت الآية السابقة ـ في ضوء ما أقيم من برهان واضح ـ هذه الحقيقة ، وهي أنّ الذي يستحق للعبادة فقط هو الله ، وفي عقيب ذلك ورد الأمر هنا بالدعاء ، الذي هو مخ العبادة وروحها ، يقول أوّلا : {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} .
و «التضرع» في الأصل من مادة «ضرع» بمعنى الثدي ، وعلى هذا يكون فعل التضرع بمعنى حلب اللبن من الضرع ، وحيث إنّه عند حلب اللبن تتحرك الأصابع على حلمة الثدي من جهاتها المختلفة استدارا للحليب ، لهذا استعملت هذه الكلمة في من يظهر حركات خاصّة إظهارا للخضوع والتواضع .
وعلى هذا فإنّ الآية المبحوثة ، وعبارة {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً} تحثّنا على أن نقبل على الله بمنتهى الخضوع والخشوع والتواضع ، بل يجب أن تنعكس روح الدعاء في أعماق روحه ، وعلى جميع أبعاد وجوده ، ويكون اللسان مجرّد ترجمانها ، ويتحدث نيابة عن جميع أعضائه.
وأمره تعالى ـ في الآية الحاضرة ـ بأن يدعى الله «خفية» وفي السّر ، لأنّه أبعد عن الرياء ، وأقرب إلى الإخلاص ، ولأجل أن يكون الدعاء مقرونا بتمركز الفكر وحضور القلب.
ونحن نقرأ في حديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما كان في إحدى غزواته ، ووصل جنود الإسلام إلى واد رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير قائلين : «لا إله إلّا الله» و «الله أكبر» فقال النّبي صلى الله عليه وآله وسلم : «يا أيّها الناس اربعوا على أنفسكم ، أمّا إنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبا ، إنّكم تدعون سميعا قريبا ، إنّه معكم» (3) .
كما ويحتمل في هذه الآية أيضا أن يكون المراد من «التضرع» هو الدعاء الظاهر العلني ، والمراد من «الخفية» الدعاء الخفي السّري ، لأنّ لكل مقام اقتضاء خاصا ، فقد يقتضي أن يكون الدعاء علنا ، وربّما يقتضي خفية وسرا ، وهناك رواية وردت في ذيل هذه الآية تؤيد هذا الموضوع.
ثمّ قال تعالى في ختام الآية : {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي أنّ الله لا يحب المعتدين .
ولهذه العبارة معنى وسيع يشمل كل نوع من أنواع العدوان والتجاوز ، سواء الصراخ ورفع الصوت عاليا جدا حين الدعاء ، أو التظاهر وممارسة الرياء ، أو التوجه إلى غير الله حين الدعاء.
وفي الآية اللاحقة يشير تعالى إلى حكم هو في الحقيقة شرط من شروط تأثير الدعاء ، إذ قال : {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها} .
ومن المسلم أنّ الأدعية إنّما تكون عند الله أقرب إلى الإجابة إذا تحققت فيها الشرائط اللازمة ، ومن جملة ذلك أن يكون الدعاء مقترنا بالجوانب البناءة والعملية في حدود المستطاع ، وأن تراعى حقوق الناس ، وأن تلقي حقيقة الدعاء بأنوارها وظلالها على وجود الإنسان الداعي بأسره ، ولهذا فلا تستجاب أدعية المفسدين والعصاة ، ولا تنتهي إلى أية نتيجة مرجوّة .
والمراد من «الفساد بعد الإصلاح» يمكن أن يكون الإصلاح من الكفر أو الظلم أو كليهما ، جاء في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام : (إنّ الأرض كانت فاسدة فأصلحها نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم» (4) .
ومرّة أخرى يعود إلى مسألة الدعاء ويذكر شرطا آخر من شرائطه فيقول : {وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً}.
أي لا تكونوا راضيين معجبين بأفعالكم بحيث تظنون أنّه لا توجد في حياتكم أية نقطة سوداء ، إذ أنّ هذا الظن هو أحد عوامل التقهقر والسقوط ، كما لا تكونوا يائسين إلى درجة أنّكم لا ترون أنفسكم لائقين للعفو الإلهي ، ولإجابة الدعاء ، إذ أنّ هذا اليأس والقنوط هو الآخر سبب لانطفاء شعلة السعي والاجتهاد ، بل لا بد أن تعرجوا نحوه تعالى بجناحي (الخوف) و (الأمل) الخوف من المسؤوليات والعثرات ، والأمل برحمته ولطفه.
وفي خاتمة الآية يقول تعالى للمزيد من التأكيد على أسباب الأمل بالرحمة الإلهية {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} .
ويمكن أن تكون هذه العبارة إحدى شرائط إجابة الدعاء ، يعني إذا كنتم تريدون أن لا تكون أدعيتكم خاوية ، ومجرّد لقلقة لسان ، فيجب أن تقرنوها بعمل الخير والإحسان ، لتشملكم الرحمة الإلهية بمعونة ذلك وتثمر دعواتكم ، وبهذا تكون الآية قد تضمنت الإشارة إلى خمسة من شرائط قبول الدعاء وإجابته ، وهي باختصار كالتالي :
1 ـ أن يكون الدعاء عن تضرّع وخفية.
2 ـ أن لا يتجاوز حدّ الاعتدال.
3 ـ أن لا يكون مقرونا بالإفساد والمعصية.
4 ـ أن يكون مقرونا بالخوف والأصل المعتدلين.
_________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 390-399 .
2. وهي : الآية المبحوثة هنا ، و 3 يونس ، و 7 هود ، و 59 الفرقان و 4 السجدة و 38 ق ، و 4 الحديد.
3. مجمع البيان ، المجلد الرابع ، الصفحة 429.
4. مجمع البيان ، المجلد الرابع ، الصفحة 429.
|
|
كل ما تود معرفته عن أهم فيتامين لسلامة الدماغ والأعصاب
|
|
|
|
|
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل تناقش تحضيراتها لإطلاق مؤتمرها العلمي الدولي السادس
|
|
|