يذكر فيلب حتي ان حضارة الانباط (كانت حضارة مركبة)(1) وان كانت حضارة عربية في جوهرها، فهي حضارة عربية في لغتها آرامية في كتابتها سامية في ديانتها يونانية رومانية في فنها وهندستها المعمارية.

ويشيد استرابون بنشاط الانباط واجتهادهم في اعمالهم لزيادة ثرواتهم مما ادى الى ازدهار اقتصادهم وخلة مجتمعهم من الفقراء والمعدومين وفي ذلك يقول:

(يمتاز الانباط باعتدالهم وجدهم حتى انهم(2) يفرضون عقوبة علنية على كل شخص تتنافص ثروته، اما الشخص الذي ينمي ثروته فيزداد تكريما وشرفا.

واذ ان الانباط لا يقتنون سوى عدد قليل من العبيد فأنهم يستخدمون اقاربهم في اعمالهم او يخدمون بعضهن بعضا، او يخدمون انفسهم بأنفسهم، حتى ان الملوك يتبعون هذه العادة...)

ونتاول فيما يلي اهم مظاهر حضارة الانباط:

نظام الحكم:

ويقوم على النظام الملكي الوراثي، ومن الالقاب والصفات التي كان ملوك الانباط يضفونها على انفسهم، وليس لهم مثيل في الكتابات الاخرى في عهود ما قبل الاسلام عبارة (ملك رحم عمه) اي ملك (الملك الرحيم بشعبه، او الملك الحب لشعبه) ويتحدث استرابون عن ديمقراطية ملوك الانباط، ويقول (فبالإضافة الى قيام الملك بخدمة نفسه، فأنه يقوم بخدمة الاخرين، كما انه كثيرا ما يقدم حساب نفقاته الى الشعب واحيانا اخرى يجري التدقيق في مسلك حياته).

والملك هو رئيس الدولة، والمؤول الاعلى للحكومة، ويساعده في ادارة شؤون الدولة وبحث المسائل العليا وتقديم المشورة له، مجلس استشاري يضم حاشيته المقربين ويقال لكل منهم(اخ ملك) اي (اخو ملك) وكانوا ينتمون الى طبقة ارستقراطية خاصة، وتنحصر في ايديهم الوظائف العليا في الدولة.

كما كان الملك يختار الموظفين اللازمين لإدارة الاعمال العادية ولقضاء مصالح الرعية.

الحياة الاقتصادية:

وفي باديء الامر كان الانباط كعادة العرب، رعاة للأغنام والماشية وبعد ان استقروا اخذوا يشتغلون بتجارة القوافل وفي اعمال الزراعة والصناعة، واستخراج (الاسفلت) او(القار) من سواحل البحر المتوسط، وتفصيل ذلك فيما يلي:

التجارة:

وتقوم حضارة الانباط اساسا على التجارة، ومنها جمعوا ثروة عظيمة، واكتنزوا الذهب والفضة، وذلك بفضل الموقع الممتاز لدولة الانباط وخاصة عاصمتها البتراء التي كانت تلتقي عندها طرق القوافل التجارية القادمة من الحجاز واليمن، ومن الشام ومصر والخليج، وكانت تسيطر على الطرق التجارية ما بين غزة وبصرى وما بين دمشق وأيلة.

وقد استفاد ملوك الانباط من طرق القوافل هذه، بما يخدم مصلحتهم ومصالح الدولة، فوضعوا حرسا قويا لحمايتها، وقدموا التسهيلات اللازمة لأصحابها، مقابل دفع مبالغ محددة (ضربية الترانزيت) لضمان سلامتها. وكان العمل الاساسي لسكان العاصمة البتراء التجارة وخدمة القوافل التجارية وكان ذلك محور حياة الانباط بوجه عام.

وكان نشاط الانباط يمتد الى مناطق واسعة، شملت سلوقية وموانئ سوريا، والاسكندرية وجزيرة رودس وغيرها.

وكانت القوافل التجارية تنقل منتجات الهند والصين وبلاد الشرق الاقصى الاخرى، ومحاصيل ايران والخليج العربي واليمن والحبشة، بالاضافة الى منتجات بلاد الشام وبلاد الانباط ومن بعض الدول الاوربية مثل روما التي كان يجلب منها الخزف.

ومن اهم السلع التي كان يتجار بها الانباط ، الحرير والحناء والزجاج والارجوان والافاوية والخزف واللؤلؤ والذهب والفضة وزيت السمسم والقار. وكان القار يصدرونه الى مصر لاستخدامه في تحنيط جثث موتاهم.

ولما عمد البطالمة الى السيطرة على البحر الاحمر واحتكار التجارة عبره اضطر الانباط الى التمرس بسفنهم ومهاجمة السفن التي كانت تتجه الى مصر والاستيلاء على حمولتها، وذلك نتيجة للأضرار التي لحقتها من تحكم البطالمة في تجارة البحر الاحمر. وبعد ضم الرومان لدولة الانباط استمر سكانها في ممارسة التجارة وقيادة القوافل التجارية بين مصر والجزيرة العربية وموانئ البحر الاحمر.

الزراعة:

اشتغل فريق من الانباط بالزراعة، وقد استطاعوا ان يحولوا بعض المناطق الصحراوية الى اراضي زراعية خصبة.

ولأجل ري المزروعات وللشرب وفي الاغراض الخرى، قام الانباط بحفر الابار وشق القنوات وحفروا الصهاريج في الصخور لتجميع مباه الامطار والسيول فيها وجعلوا فوهاتها ضيقة، وحرصوا على اخفائها عن اعين الاعداء.

الصناعة:

اشتهر الانباط بصناعة الاواني الخزفية والفخارية، وبرعوا في ذلك، بحيث لم تكن تقل في الجودة والاتقان عن الخزف الصيني الذي كان يستورد من روما.

 ومن القطع التي تعتبر من اجود انواع الخزف التي انتجتها منطقة الشرق الادنى، كؤوس وفناجين وصحون وأباريق وكاسات، كانت في رقتها تشبه قشرة البيضة وبعضها بسيط خال من الزخارف، والبعض الاخر مزخرف برسوم في اشكال الزهور او اوراق الكروم وعناقيد العنب.

كما عرف الانباط استغلال مناجم النحاس والحديد في (ادوم) ومن هذين المعدنين صنعوا الادوات اللازمة في حياتهم اليومية.

فن العمران:

وهو من النوع الفريد في ابداعه، ويتمثل في الابنية الجميلة المنحوته في الصخر التي تشكل تراثا فنيا رائعا وتجذب السياح لمشاهدتها وتستفيد المملكة الاردنية من دخلها في الوقت الحاضر.

ويغلب اللون الوردي على الصخور التي نحت فيها هذه الابنية، حتى اطلق عليها الاثريون الاوائل اسم (المدينة الوردية). ومن اهم الاثار الباقية الى اليوم (خزنة فرعون) وهي عبارة عن بناء شامخ من مخلفات مدينة البتراء ويرجح انها ترجع الى اواخر القرن الثاني قبل الميلاد،  وتتكون من طبقتين منحوتين في الصخر ، وفي واجهتها حفر صفان من الاعمدة ونقشت رسوم وأفاريز بديعة.

وفي اعلى الطابق الثاني مثبت كتلة بيضاوية الشكل تشبه الجرة، اعتقد اهالي هذه المنطقة انها (خزنة فرعون) وبداخلها كنز عظيم من الذهب ومن ثم اطلق على هذا المبنى (هيكل الخزنة) ويرجح انه قد انشئ ليكون معبدا.

ويذكر استراب وان هذا المبنى قد تعرض لاعتداءات متكررة من قبل بقصد الحصول على الكنز المزعوم الذي يحتوي عليه. ومن الاثار الاخرى بناء فخم يعرف بالدير يقع فوق من الارض، ويبلغ عرضه 50م، وارتفاعه 45م، ويرجع بنائه الى القرن الثالث الميلادي، ويظهر انه كان مخصصا لعبادة الاله(دوشرى).

ومنها بناء يعرف (بقصر البنت) او (قصر بنت فرعون) وهو بناء مشيد غير منحوت في الصخر وربما اقيم في العصر الروماني .

وقد تأثر فن المعمار النبطي بأساليب الفن الهيلينستي الذي كان سائدا في سوريا وقتذاك، ونقله الملك الحارث الثالث الى بلاده بعد ضم دمشق، فقد استقدم الصناع السوريين واستخدمهم في اعمال النقش والنحت لتجميل مباني العاصمة البتراء، ومن ذلك نقش واجهة مبنى (هيكل الخزنة) المشار اليه.

الديانة:

وهي ديانة وثنية من نوع الديانات الوثنية التي كانت سائدة في الجزيرة العربية، وفي الشام.

وقد عبد الانباط الاصنام والالهة التي كانت معروفة عند عرب الحجاز، وبنفس اسمائها مثل اللات، ومناة، والعزى، وهبل، وذي الشرى، وعل مكان مرتفع في البتراء اقام الانباط معبدا خالصا للالهة العزى.

ومن الهة الاراميين في الشمال التي عبدها الانباط (اتاجارتس) وهي الهة النماء للحبوب والنبات والثمار والاسماك. واهم الالهة الانباط واكثرها تقديسا ذوشرى وكان مقر عبادته في البتراء، ثم انتشرت في باقي البلاد، وهو يمثل الشمس كما يعتبر الها للتجارة ويستدل على ذلك من اسمه (سيد الشراء) وكانوا يرمزون له في شكل مسلة او حجر اسود غير منحوت له اربع زوايا.

ومن الالهة الاخرى التي عبدها الانباط ( شيخ القوم) الذي يحمي القوافل التجارية، وبعل شمين، وهو اله السماء والمطر والخصب. وفي بعض الاوقات عبدوا بعض ملوكهم كما كانوا يقدسون الافعى.

ولا يعرف الا القليل عن طقوسهم الدينية، والاحتفالات التي كانت ترافقها. ومن اهم المعابد النبطية معبد حزبه التنور، ومعبد وادي رم.

اللغة والكتابة:

كان الانباط يتكلمون باللغة العربية الى جانب اللغة الآرامية، واحيانا اللغة اليونانية واللاتينية بدرجة اقل.

وكانت لغة النصوص النبطية والنقوش الاثرية مكتوبة باللغة الارامية التي كانت منتشرة في جميع ارجاء الشرق الادنى انذاك.

كما استعمل الانباط اللغة الارامية في الكتابة على نقودهم، وفي النقش على ابنيتهم ثم اخذ استعمالها يقل في ذلك تدريجيا، وفي منتصف القرن الاول قبل الميلاد اصبح لهذه النقوش طابع مميز ذو صفة ثابتة.

ويختلف رسم الحروف في الكتابات النبطية القديمة الى حد ما عن الكتابات النبطية المتأخرة، المدونة بعد الميلاد، كما تختلف تبعا للاماكن التي دونت فيها فالكتابات التي عثر عليها في (طور سيناء)، تختلف في خصائصها عن الكتابات التي وجدت في اماكن اخرى.

وكان الاراميين قد حوروا الخط الارامي، مع مرور الزمن، حتى تحول الى خط عرف بأسم (الخط النبطي) وبهذا الخط دونت النصوص العربية في شمال الجزيرة العربية ومنها نص (النمارة) وهو اقدم خط عربي كتب بحروف نبطية .

وعن الخط النبطي، انبثق (خط النسخ) الذي يماثل من حيث القدم (الخط الكوفي) وينسب للكوفة والحيرة.

_________

(1) فيلب حتي: تاريخ سوريا- الجزء الاول – ص426.

(2) لانكسترها ردنج، تعريب سليمان موسى: اثار الاردن. ص120.

مواضيع ذات صلة

حضارة الأنباط.

دولة الأنباط.

حضارات الوسط (الدولة النبطية).

ملوك الانباط

طبقات المجتمع في الانباط

الانباط

الانباط

الآلهة في الانباط

النبط

الاسرة والمرأة في الانباط

المظاهر العمرانية في الانباط قبل الاسلام

الديانة عند الانباط