حالة البلاد المصرية بعد طرد أنتيوكوس منها والنضال الذي قام بين الأخوين
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج16 ص 191 ــ 194
2025-11-28
18
بعد أن خرجت «روما» منتصرة في الحرب التي نشبت بينها وبين «برسيوس» ملك «مقدونيا» عام 171ق.م وهي التي انتهت بصلح «بيدنا» الذي أطاح بما كان لمقدونيا من سلطان وجاه، أصبحت «روما» صاحبة الجاه والسلطان في كل العالم المتمدين، كما أصبحت الحكم في كل الخصومات التي كانت تظهر بين الدول المتنافسة بوجهٍ عام، ولا أدل على ذلك من أن «أنتيوكوس الرابع» قد خضع لأوامر الجمهورية الرومانية وأعاد للبطالمة بلادهم بعد أن كان قد استولى عليها، غير أن الرومان لم يتركوا البلاد المصرية وشأنها لتحكم نفسها بنفسها؛ بل على العكس رأينا أن مجلس الشيوخ بعد أن انتزع مصر من بين براثن «أنتيوكوس» أخذ يعمل على تقويض العمل الذي أحدثته ثورة «الإسكندرية»، وذلك بأن يعيد للسلطة الملكية وحدتها، وتدل ظواهر الأحوال على أن السياسة الرومانية كانت تمتاز بدورها في تاريخ العالم الذي يتمثل في القول المأثور «فرق تَسُدْ»، ومن ثم كان لزامًا عليها في حالة مصر أن تفيد من الانقسام الذي كان موجودًا، والذي لم تكن في حاجة لإثارته، وعلى ذلك استمر كل من الملكين الأخوين يحكمان البلاد سويًّا، وكان الوئام بينهما سائدًا لدرجة أنه لم يكن للملك إلا لقب واحد رسمي، وكذلك لم يكن هناك إلا ملكة واحدة وهي زوج «بطليموس» الأكبر «فيلومتور».
وفي الحق ليس في استطاعتنا أن نضع فكرة واضحة عن هذه الحكومة التي كان يشترك فيها ملكان، أو — كما شاهدنا على الآثار — كان يحكمها ثلاثة ملوك: رجلان وامرأة؛ يدل على ذلك نقش بالإغريقية على شرف الملك «بطليموس» أخ الملك «بطليموس» والملكة «كليوباترا» الآلهة المحبين لأمهم.1
يُضاف إلى ذلك أن نقود الملكين لا تحمل إلا «بطليموس بازيليكس» في حين أنها تحمل نسرين بدلًا من نسر واحد.2
وقد كانت أول نتيجة لنظام الحكم الجديد أن برزت على مسرح الحكم في البلاد الملكة الوحيدة التي لم تكن فقط ملكة بوصفها زوج ملك؛ بل كانت وصية تحمل نفس اللقب الذي يحمله كل من الملكين، ولا نزاع في أن هذا الحادث كان فتحًا جديدًا للجنس اللطيف في ميدان السياسة البطلمية، وقد عرفت الملكات اللائي جئن بعدها في هذه الأسرة كيف يمكنهن المحافظة على هذه المكانة، ومن الغريب أننا لا نعرف كيف كانت السلطة موزعة بين هذين الملكين، وعلى أية حال لم يكن هناك تقسيم فيما بينهما من حيث أرض الدولة، وهذه طريقة قد أصبح من الضروري تحديدها لأجل عدم الارتباك في الحكم المشترك، وكان الجدال في هذا الموضوع يتجه بصورة خاصة إلى مسألة التأريخ بسني حكم كل من الملكين، وهذا أمر هام عند فحص الآثار، وإن كان لا يهم المؤرخ كثيرًا. وعلى أية حال فإن هذا الموضوع غامض.
ولا نزاع في أن ما كان لا بد من حدوثه في مدة خمس السنوات التي ظل فيها هذان الملكان يحكمان سويًّا قد أمكن التنبؤ به من مجريات الحوادث؛ إذ كانت فترة خمس السنوات هذه تُعتبر فترة استعداد لحروب أهلية شبت بين الأخوين، فقد كان «فيلومتور» في أعماق نفسه ينطوي على بعض الصفات الإنسانية والاستقامة الخلقية، غير أنه في الوقت نفسه كان ينقصه النشاط واستقامة الرأي، أما أخوه «إيرجيتيس الثاني» فقد كان أكثر قوة إرادة وذكاء، ومن جهة أخرى كان منذ صباه ميالًا للرذائل والقسوة، هذا إلى أنه كان طموحًا إلى حد الإفراط، وكانت له كنية يُعرف بها عند الشعب وهي «الشرير»، كما كان ينابذه الشعب «الإسكندري» ﺑ «البطين» (أبو كرش)، وفي هذا منتهى السخرية والاستخفاف والاستهزاء برجل يحكم البلاد.3
ويُلحظ أن ما كان بين هذين الرجلين من تناقض في الأخلاق والطباع كان لا بد أن ينتهي بقيام نزاع مرير بينهما، وفعلًا اشتد الخلاف بين الأخوين، وتحرج الموقف حتى أدى إلى أن طرد «إيرجيتيس الثاني» أخاه «فيلومتور» من «الإسكندرية» بالقوة عام 164ق.م.4 ولا بد أن طرد «فيلومتور» من البلاد كان يُعتبر بمثابة ترويح عن نفوس المصريين؛ وذلك لأن الخلاف الذي كان متوطنًا في البلاط كان قد بدأ يضرب بأعراقه في البلاد، فمنذ عام 167 أو 166ق.م ظهر في أفق السياسة المصرية رجل صاحب شخصية ممتازة من أرومة مصرية صميمة يحمل اسمًا مصريًّا وهو «بتوسرابيس» واسمًا آخر إغريقيًّا وهو «ديونيسيوس»، وكان يُنظر إليه بأنه حامي «بطليموس» الصغير من شرور أخيه الكبير، ومن أجل ذلك أشعل نار فتنة كان عليه أن يخمد أوارها بحرب جبارة، وكان «ديونيسيوس» هذا قد نال شهرة عظيمة بما اتصف به من شجاعة نادرة بين مواطنيه، والواقع أنه كان قد فكر في أن يفيد من النزاع الذي كان قائمًا بين الأخوين، وبخاصة لأنه كان يحتقرهما لصغر سنهما وقلة تجاربهما، وكان يعد العدة للتخلص من «بطليموس فيلومتور»، وذلك باستغلال ما كان لأخيه الصغير من شهرة ومحبة لدى الشعب الإسكندري، كما كان يرغب في أن يفيد من «بطليموس إيرجيتيس الثاني» بالالتجاء إلى وطنية الشعب المصري، وبذلك يصل إلى عرش الملك.
وكان أول عمل قام به هو أنه أثار خواطر الشعب «الإسكندري» لدرجة أنه كاد يودي بحياة «فيلومتور»، وكانت نتيجة ذلك أن عرض «فيلومتور» على أخيه الصغير عرش البلاد بمفرده، غير أن «إيرجيتيس» احتج على اتهامه بالاشتراك في التآمر على أخيه، وبعد ذلك تفاهم الملكان، وخرج كل منهما يلبس تاج الملك أمام الشعب؛ ليرى كل الناس أنهما على وفاق تام. وقد كان من جراء ذلك المظهر أن أفل نجم «ديونيسيوس» بعد أن كُشف أمره، غير أنه أخذ من ناحية أخرى يستحث الجنود الوطنيين؛ فحرضهم على الانضمام إلى جانبه، وكان يأمل من وراء القضاء على أسرة البطالمة أن يعود بالحكم إلى يدي مصري، ونراه بعد ذلك قد ارتد بما لديه من جنود إلى «إليوسيس» Eleusis وهناك جمع كل الموالين للثورة، ويبلغ عددهم حوالي أربعة آلاف مقاتل من الخارجين على البطالمة، وعندئذ سار الملك لملاقاة «بتوسرابيس» في ساحة القتال؛ فهزمه وقتل بعض أتباعه، ثم قفى أثر الفارين، وقد أجبر «بتوسرابيس» على أن يعبر النهر عاريًا، ومن ثم التجأ إلى بعض المصريين، وهناك أمكنه أن يثير عواطف مواطنيه، وجعلهم يخرجون على الملك، وقد أمكن هذا البطل المصري بما كان يتمتع به من مكانة عظيمة في نفوس المصريين أن يجمع حوله جمعًا غفيرًا من أبناء مصر المتحمسين لوطنهم، وقد وطد الجميع العزم على أن يوثقوا عرى الاتحاد والصبر على النضال5 حتى النهاية.
ومما لا شك فيه أن هذا الاتحاد كان طعمًا لهبوب ثورة قومية، وهذا يذكرنا بالحالة التي كانت عليها البلاد في عهدي «بطليموس الرابع»، و«بطليموس الخامس».
.....................................
1- راجع: Strack n. 86.
2- راجع: Svoronos, pp. 234–236.
3- راجع: Strab., XVII, p. 795.
4- راجع: Liv., Epit. XLVI.
5- راجع: Diod., XXXI, 15a Dindorf.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة