الهجرة الى الحبشة
المؤلف:
الشيخ ماجد ناصر الزبيدي
المصدر:
التيسير في التفسير للقرآن برواية أهل البيت ( عليهم السلام )
الجزء والصفحة:
ج 2، ص213-217.
2025-11-24
20
الهجرة الى الحبشة
قال تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [المائدة: 82 - 86].
قال علي بن إبراهيم : إنّه كان سبب نزولها أنّه لمّا اشتدّت قريش في أذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأصحابه الذين آمنوا به بمكّة قبل الهجرة ، أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أن يخرجوا إلى الحبشة ، وأمر جعفر بن أبي طالب أن يخرج معهم ، فخرج جعفر ، ومعه سبعون رجلا من المسلمين ، حتى ركبوا البحر.
فلمّا بلغ قريشا خروجهم بعثوا عمرو بن العاص ، وعمارة بن الوليد إلى النّجاشي ليردّهم إليهم ، وكان عمرو [ بن العاص ] ، وعمارة [ بن الوليد ] متعاديين ، فقالت قريش : كيف نبعث رجلين متعاديين ؟ فبرئت بنو مخزوم من جناية عمارة وبرئت بنو سهم من جناية عمرو بن العاص ، فخرج عمارة ، وكان حسن الوجه ، شابّا مترفا ، فأخرج عمرو بن العاص أهله معه ، فلمّا ركبوا السّفينة شربوا الخمر ، فقال عمارة لعمرو بن العاص : قل لأهلك تقبّلني. فقال عمرو : أيجوز هذا ، سبحان اللّه ؟ ! فسكت عمارة ، فلمّا انتشى - أول السكر وقيل هو السكر نفسه - عمرو ، وكان على صدر السّفينة ، دفعه عمارة ، وألقاه في البحر ، فتشبث عمرو بصدر السفينة ، وأدركوه ، فأخرجوه ، فوردوا على النجاشيّ ، وقد كانوا حملوا إليه هدايا ، فقبلها منهم ، فقال عمرو بن العاص :
أيّها الملك إنّ قوما منّا خالفونا في ديننا ، وسبّوا آلهتنا ، وصاروا إليك ، فردّهم إلينا.
فبعث النّجاشيّ إلى جعفر ، فجاءوا به ، فقال : يا جعفر ما يقول هؤلاء ؟
فقال جعفر ( رضي اللّه عنه ) : أيّها الملك ، وما يقولون ؟ قال : يسألون أن أردّكم إليهم. قال : أيّها الملك ، سلهم : أعبيد نحن لهم ؟ فقال عمرو : لا ، بل أحرار كرام ، قال : فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها ؟ قال : لا ، ما لنا عليكم ديون. قال : فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها ؟ قال عمرو : لا. قال : فما تريدون منّا ؟ أذيتمونا ، فخرجنا من بلادكم.
فقال عمرو بن العاص : أيّها الملك ، خالفونا في ديننا ، وسبّوا آلهتنا ، وأفقدوا شبابنا ، وفرّقوا جماعتنا ، فردّهم إلينا لنجمع أمرنا.
فقال جعفر : نعم أيّها الملك ، خلقنا اللّه ، ثم بعث اللّه فينا نبيّا أمرنا بخلع الأنداد ، وترك الاستقسام بالأزلام ، وأمرنا بالصلاة والزكاة ، وحرّم الظّلم ، والجور ، وسفك الدماء بغير حقّها ، والزّنا والرّبا ، والميتة ، والدّم ، ولحم الخنزير ، وأمرنا بالعدل والإحسان ، وإيتاء ذي القربى ، ونهى عن الفحشاء ، والمنكر ، والبغي.
فقال النجاشي : بهذا بعث اللّه عيسى بن مريم عليه السّلام ، ثم قال النّجاشي :
يا جعفر ، هل تحفظ ممّا أنزل اللّه على نبيّك شيئا ؟ ، قال : نعم. فقرأ عليه سورة مريم ، فلمّا بلغ إلى قوله : {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } [مريم : 26، 27] ولمّا سمع النّجاشي بهذا بكى بكاءا شديدا ، وقال : هذا واللّه هو الحقّ.
فقال عمرو بن العاص : أيّها الملك ، إنّه مخالف لنا ، فردّه إلينا ، فرفع النجاشيّ يده ، فضرب بها وجه عمرو ، ثمّ قال : اسكت ، واللّه لئن ذكرته بسوء لأفقدنّك نفسك.
فقام عمرو بن العاص من عنده ، والدّماء تسيل على وجهه ، وهو يقول : إن كان هذا كما تقول أيّها الملك ، فإنا لا نتعرّض له.
كانت على رأس النجاشيّ وصيفة له تذبّ عنه ، فنظرت إلى عمارة بن الوليد ، وكان فتىّ جميلا ، فأحبته ، فلما رجع عمرو بن العاص إلى منزله قال لعمارة : لو راسلت جارية الملك ، فراسلها ، فأجابته ، فقال له عمرو : قل لها تبعث إليك من طيب الملك شيئا. فقال لها ، فبعثت إليه ، فأخذ عمرو من ذلك الطيب ، وكان الذي فعل به عمارة في قلبه ، حين ألقاه في البحر ، فأدخل الطيب على النجاشيّ ، فقال : أيّها الملك ، إنّ حرمة الملك عندنا ، وطاعته علينا عظيمة ، ويلزمنا إذا دخلنا بلاده ، ونأمن فيها أن لا نغشّه ولا نريبه.
وإن صاحبي هذا الذي معي قد راسل إلى حرمتك ، وخدعها ، وبعثت إليه من طيبك. ثمّ وضع الطيب بين يديه ، فغضب النجاشيّ ، وهم بقتل عمارة ، ثمّ قال : لا يجوز قتله ، فإنّهم دخلوا بلادي بأماني.
فدعا النجاشيّ السّحرة ، فقال لهم : اعملوا به شيئا أشدّ عليه من القتل ، فأخذوه ونفخوا في إحليله الزّئبق ، فصار مع الوحش يغدو ويروح ، وكان لا يأنس بالناس ، فبعثت قريش بعد ذلك إليه ، فكمنوا له في موضع حتّى ورد الماء مع الوحش ، فأخذوه ، فما زال يضطرب في أيديهم ويصيح حتّى مات.
ورجع عمرو إلى قريش ، وأخبرهم أنّ جعفرا في أرض الحبشة ، في أكرم كرامة. فلم يزل بها حتى هادن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قريشا ، وصالحهم ، وفتح خيبر ، فوافى بجميع من معه ، وولد لجعفر بالحبشة من أسماء بنت عميس عبد اللّه بن جعفر ، وولد للنّجاشي ابن فسماه محمّدا.
وكانت أم حبيبة - رملة - بنت أبي سفيان تحت عبد اللّه « 1 » ، فكتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى النجاشيّ ، يخطب أم حبيبة ، فبعث إليها النّجاشيّ ، فخطبها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فأجابته ، فزوّجها منه ، وأصدقها أربع مائة دينار ، وساقها عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وبعث إليها بثياب وطيب كثير ، وجهّزها ، وبعثها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وبعث إليه بمارية القبطيّة أم إبراهيم ، وبعث إليه بثياب وطيب وفرس ، وبعث ثلاثين رجلا من القسيسين ، فقال لهم : انظروا إلى كلامه ، وإلى مقعده ، وإلى مطعمه ، ومشربه ، ومصلّاه ، فلمّا وافوا المدينة ، دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى الإسلام ، وقرأ عليهم القرآن إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إلى قوله : {فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة : 110] فلمّا سمعوا ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بكوا ، وآمنوا ، ورجعوا إلى النّجاشيّ ، فأخبروه خبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وقرأوا عليه ما قرأ عليهم ، فبكى النجاشيّ ، وبكى القسّيسون ، وأسلم النجاشيّ ، ولم يظهر للحبشة إسلامه ، وخافهم على نفسه ، وخرج من بلاد الحبشة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فلمّا عبر البحر توفّي ، فأنزل اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُود} إلى قوله :
{وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة : 85] « 2 ».
وقال أبو عبد اللّه عليه السّلام - ذكر النّصارى وعداوتهم ، فقال : قول اللّه :
{ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ }: « أولئك كانوا قوما بين عيسى ومحمّد عليهما السّلام ينتظرون مجيء محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم » « 3 ».
______________
( 1 ) أم حبيبة هاجرت مع زوجها عبد اللّه بن جحش إلى الحبشة ، ثمّ تنصّر عبد اللّه هناك ، ومات على النصرانية ، وثبتت أم حبيبة على دينها الإسلام ، ثم تزوّجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم. ( أعلام النساء : ج 1 ، ص 464 ).
( 2 ) تفسير القميّ : ج 1 ، ص 176.
( 3 ) تفسير العياشي : ج 1 ، ص 335 ، ح 16.
الاكثر قراءة في مواضيع عامة في سيرة النبي والأئمة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة