إعطاء مقام الإمامة لإبراهيم عليه السّلام كان بعد نبوّته
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج1/ ص143-147
2025-10-12
386
انّ إمامة ابراهيم كانت بعد نبوّته، وبعد أن أصبح شيخاً كبيراً، أي انّ الإمامة تختلف عن النبوّة، بل هي مقام أعلى وأسمى.
وعلى هذا الأساس فانّ المراد بآية {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً}. اني سأجعلك قدوة يقتدي بها أفراد البشر في القول والعمل، فالإمام إذن هو الذي يجب ان يتبعه الناس في أفعالهم وأقوالهم وسلوكهم، وفي النهاية في أفكارهم وعقائدهم وملكاتهم.
ومن هنا أخطأ بعضُ المفسّرين فتصوّروا أن المراد بالإمامة في هذه الآية الشريفة هو نفسه معنى النبوّة، لإنّ الناس يقتدون بالنبّي في دينهم، ثم أوردوا هذه الآية دليلًا على ذلك: {وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}[1].
وهو توهّم لا محل له أبداً، لأن لفظ (إماماً) في قوله تعالى {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً} وقعت مفعولًا ثانياً لجاعلك، ولأن (جاعل) اسم للفاعل لا يعمل اذا كان المعنى دالّا على الماضي ولا يأخذ مفعولًا، لذا فانّ من المسلم انّه سيكون بمعنى الحال والاستقبال. أي: يا ابراهيم اني سأجعلك إماماً. ولأنّ ابراهيم في هذا الخطاب كان في منصب النبوّة، لذا فان من المسلم أن الإمامة هي غير النبوّة. وإضافة إلى ذلك فانّ الخطاب نفسه: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً} كان وحياً من السماء، ولا يمكن أن يحصل دون وجود منصب النبوّة، لذا فانّ ابراهيم عليه السلام كان نبيّاً قبل منصب الإمامة، وانّ الإمامة لن تكون هنا بمعنى النبوّة.
لقد كانت هذه الإمامة بعد الإبتلاءات التي مرّ بها ابراهيم، ومن جملتها ذبحه لولده اسماعيل، وكانت عند كبر ابراهيم وشيخوخته، فقد مرّ عليه- قبل ان يُرزق أولاداً- الملائكةُ الذاهبون لإهلاك قوم لوط، وكان آنذاك نبيّاً مرسلًا، ونتيجة لذلك فانّ إمامته كانت بعد درجة النبوّة.
وعلّة خطأ هؤلاء المفسّرين كثرة استعمال لفظ الإمام في غير الموارد الصحيحة بتسامحات عرفية، بحيث حصل التصوّر بانّه يمكن إطلاق اسم الإمام على كلّ من يمتلك رئاسة أو تفوّقاً؛ ولأنّ النبّي مطاع ومتفوّق، فقد عبّر عنه بالإمام.
لذا فقد فسّر البعض لفظ (إماماً) في هذه الآية المباركة بالنبيّ، والبعض بالرسول، والبعض بالمطاع، وفسّره البعض الأخر بالوصيّ والخليفة والرئيس والقائد، وجميعها غير صحيح، لأنّ معنى (النبيّ) من النبأ، والنبأ بمعنى الخبر. فالنبيّ هو الذي يخبره الله سبحانه في باطنه، وهو غير معنى الإمام. كما ان (الرسول) هو المكلّف بوظيفة التبليغ، ولا يستلزم ذلك أن يعتبره الناس قدوةً فيتبعونه في الظاهر والباطن، أو يسمعون كلامه فيعملون به، ولذلك فانّ معنى الرسول هو أيضاً غير الإمام.
امّا (المطاع) فهو الإنسان الذي له من الاحترام والحيثيّة بحيث يُطيعه الناس، وهو من لوازم النبوّة والرسالة ومختلف عن معنى الإمامة.
وامّا (الخليفة) و(الوصيّ) فمعناها النيابة لا الإمامة؛ كما انّ (الرئيس) يُقال للشخص الذي يكون مصدراً للحكم، ويستلزم ذلك أن يكون مطاعاً، وليس لأيّ منها معنى الإمام.
الإمام من مادّة أمّ يؤمّ، وهو- كما ذكر- كونه قدوة، والامام هو مطلق مَن يجب على الناس متابعته والنظر اليه ومشايعته في جميع آثاره في جميع الشؤون، من الحركة والسكون، النوم واليقظة، الظاهر والباطن، القول والعمل، والأخلاق والملكات و...
لذا نرى انّ هذا المعنى للإمام في هذه الآية المباركة في غاية المناسبة والحسن، أن يخاطب الله تعالى ابراهيم فيقول: بعد أن جعلتُك في مقام النبوّة والرسالة، أي في مقام تلقّي الوحي السماوي وإبلاغه إلى أفراد الإنسان، فقد جعلتُك الآن قدوة يجب ان يتبعوا شئونها في جميع الجهات.
لكننا لو وضعنا أيّاً من تلك المعاني السابقة المذكورة في مكان الإمام لما صحّ المعنى، فليس صحيحاً ان نقول: اني جاعلك- بعد امتلاك مقام النبوّة والرسالة- نبيّاً أو رسولًا او خليفةً او وصيّاً أو رئيساً.
وينبغي أن يُعلم أيضاً أنّ مخالفة معنى الإمام لمعاني هذه الالفاظ ليس مجرّد عناية لفظيّة واعتبارات كلاميّة، بل هو اختلاف في حقائق معانيها، ففي معنى الإمام حقيقة لا يمتلكها أي من تلك المعاني.
ولننصرف الآن وقد اتّضح المطلوب إلى تفسير الآية المباركة: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ}.
حيث يُلاحظ هنا انّ الله تعالى جعل مع كلمة الأئمة صفة تلازمها، ألا وهي الهداية بأمر الله، كما انّ هذه النكتة مشهودة في آية اخرى في قصّة سيّدنا ابراهيم: {وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ويَعْقُوبَ نافِلَةً وكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ ، وجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وكانُوا لَنا عابِدِينَ}[2].
ويُلاحظ هنا انّه قد ذكر صفة ملازمة لكلمة الأئمّة، أو بعبارة اخرى انّ جملة (يَهْدُونَ بِأمْرِنَا) جملة تفسيريّة لمعنى الأئمّة. لذا يجب ان يكون للإمامة عنوان الهداية أولًا، وان هذه الهداية هي بأمر الله ثانياً؛ أي انّ الامام هو الذي يهدي الناس بأمر الله. والمراد بأمر الله هو الذي ذكر حقيقته في هذه الآية: {إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[3].
وفي الآية: {وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}[4].
حيث يُستفاد من هذه الآيات أنّ أمر الله واحد لا تعدّد له، اضافةً إلى انّه ليس له زمان أو مكان، وثانياً انّ أمره هو إرادته، فبمجرّد إرادته فانّ الموجود سيرتدي لباس الوجود، وذلك نفسه هو ملكوت كلّ موجود. وحين يريد الله إيجاد موجود بأمره، أي ملكوت ذلك الموجود، فانّه يوجده.
ومن الجليّ انّ الأمر هو نفس الجانب الثبوتي مقابل الخلق الذي يمثّل جانب التغيّر والزوال والفساد. قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}[5].
وبناءً على هذا فانّ الموجودات لها وجهتان: وجهة خلقيّة، وهي التي يُشاهد فيها التغير والفساد والتدريج والحركة، ووجهة الأمر التي سيكون فيها الثبات وعدم التغير، وتلك الوجهة الأمريّة تسمّى بالملكوت، وهي حقيقة وواقعيّة الموجودات، والتي تقوم بها الوجهة الخلقية. ومع التغيرات والتبدّلات المشهودة في هذه الوجهة فانّ تلك الوجهة لا تتغير ولا تتبدّل.
[1] الآية 64، من السورة 4: النّساء.
[2] الآية 72 و73، من السورة 21: الأنبياء.
[3] الآية 82 و83، من السورة 36: يس.
[4] الآية 50، من السورة 54: القمر.
[5] الآية 54، من السورة 7: الأعراف.
الاكثر قراءة في الامامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة