1

المرجع الالكتروني للمعلوماتية

الأدب

الشعر

العصر الجاهلي

العصر الاسلامي

العصر العباسي

العصر الاندلسي

العصور المتأخرة

العصر الحديث

النثر

النقد

النقد الحديث

النقد القديم

البلاغة

المعاني

البيان

البديع

العروض

تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب

الأدب الــعربــي : الأدب : النثر :

موضوعات نهضة النثر

المؤلف:  عمر الدسوقي

المصدر:  في الأدب الحديث

الجزء والصفحة:  ص :241-258ج1

17-9-2019

2790


أما موضوعات هذا النثر فكانت واسعة الأفق، وتناولت مشكلات الحياة وما يهم الشعوب, وما يبعث على اليقظة والنهضة ممثلة في:
1-
الدافع عن الشعوب المظلومة التي ظلت تئن تحت نير العبودية والعسف قرونًا مديدة، لا تعرف كيف تراجع الحاكم في حكمٍ أبرمه ولو كان ظالمًا، ولا كيف تثور وتشكو وتئن وتتوجع وتسمع شكاتها للعالم، والحاكم سادر في غلوائه، يمتص دماءها، ويسخرها لأهوائه وشهواته؛ ولا يفكر في نفعها إلا بمقدار ما يعود عليه من الفائدة، استمع للأستاذ الإمام محمد عبده كيف يصور لك حال مصر قبل أن يشيع هذا الأدب الجديد والفكر الجريء في أرجائها.

 

(1/241)

"إن أهالي مصر قبل سنة 1293هـ كانوا يرون شئونهم العامة بل والخاصة, ملكًا لحاكمهم الأعلى، ومن يستنيبه عنه في تدبير أمورهم، يتصرف فيها حسب إرادته، ويعتقدون أن سعادتهم وشقاءهم موكولان إلى أمانته وعدله, أو خيانته وظلمه؛ ولا يرى أحد منهم لنفسه رأيًا يحق له أن يبديه في إرادة يتقدم بها إلى عمل من الأعمال يرى فيها صالحًا لأمته، ولا يعلمون من علاقة بينهم وبين الحكومة سوى أنهم مصرفون فيما تكلفهم الحكومة به وتضربه عليهم.
وكانوا في غاية البعد عن معرفة ما عليه الأمم الأخرى, سواء كانت إسلامية أو أوروبية, ومع كثرة من ذهب منهم إلى أوروبا وتعلم فيها من عهد محمد علي الكبير إلى ذلك التاريخ، وذهاب العدد الكثير منهم إلى ما جاورهم من البلاد الإسلامية إيام محمد علي باشا الكبير, وإبراهيم باشا, لم يشعر الأهالي بشيء من ثمرات تلك الأسفار، ولا فوائد تلك المعارف, ومع أن إسماعيل باشا أبدع مجلس الشورى في مصر سنة 1283، وكان من حقه أن يعلم الأهالي أن لهم شأنًا في مصالح بلادهم, وأن لهم رأيًا يرجع إليه فيها، لم يحس أحد منهم ولا من أعضاء المجلس أنفسهم بأن لهم ذلك الحق الذي يقتضيه تشكيل هذه الهيئة الشورية؛ لأن مبدع المجلس قيده في النظام وفي العمل، ولو حدث إنسانًا فكره السليم بأن هناك وجهة خيرٍ غير التي يوجهها إليه الحاكم لما أمكنه ذلك؛ فإن بجانب كل لفظ نفيًا عن الوطن، أو إزهاقًا للروح، أو تجريدًا من المال".
وكان الأدب صدى لهذه الحياة البئيسة التي تقبر فيها الحريات وتغل العقول، ويتغنى بما قام به هذا الحاكم الظالم من أفعال وضيعة، ويصور سيئاته حسنات، وسخافاته آيات، وحماقاته معجزات، ولكن الأدب الجديد ينظر إلى هذه الشعوب، ويجعل خيرها غايته, فيجمعهم على من اعتدى عليها، ويبين للناس سوء حالهم, ومواضع بؤسهم وأدوائهم، وطرق علاجها، ويقف للحكام بالمرصاد، يذيع سيئاتهم ومظالمهم وينقدهم في غير هوادة أو رفق، ويشجع أفراد الأمة على المطالبة بحقوقهم، وألّا يخشوا بأس الحاكم وجبروته؛ لأنه مدين بقوته لهم، وبغناه وضياعه لكدهم وكدحهم.
واستمع كذلك إلى الأستاذ الشيخ محمد عبده كيف يحرض الأمة على خلع نير العبودية، والحد من سطوة الحاكم الغاشم، وينعى عليه جهله وسفالته:

(1/242)

"إن الأمة التي ليس لها في شئونها حلٌّ ولا عقدٌ، ولا تستشار في مصالحها, ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعة لحاكمٍ واحدٍ؛ إرادته قانون, ومشيئته نظام، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، ويتداولها العلم والجهل، ويتبادل عليها الغنى والفقر، ويتناوبها العز والذل، وكل ما يعرض عليها من هذه الأحوال خيرها وشرها، فهو تابع لحال الحاكم، فإن كان حاكمها عالما حازمًا أصيل الرأي، عالي الهمة، رفيع المقصد، قويم الطبع، سَاسَ الأمة بسياسة العدل, ورفع فيها منار العلم، ومهَّدَ لها طرق اليسار والثروة، وفتح لها أبوابًا للتفنن في الصنائع والحذق في جميع لوازم الحياة، وبعث في أفراد المحكومين روح الشرف والنخوة، وحملهم على التحلي بالمزايا الشريفة؛ من الشهامة والشجاعة، وإباء الضيم، والأنفة من الذل، ورفعهم إلى مكانة عليًّا من العزة، ووطَّأَ لهم سبل الراحة والرفاهة وتقدم بهم إلى كل وجهٍ من وجوه الخير.
وإن كان حاكمها جاهلًا، سيئ الطبع، سافل الهمة، جبانًا, ضعيف الرأي أحمق الجنان، خسيس النفس، معوج الطبيعة، أسقط الأمة بتصرفه إلى مهاوي الخسران، وضرب على نواظرها غشاوات الجهل، وجلب عليها غائلة الفاقة والفقر، وجار في سلطته عن جادة العدل، وفتح أبوابًا للعدوان؛ فيتغلب القويّ على حقوق الضعيف، ويختل النظام، وتفسد الأخلاق، وتخفض الكلمة, ويغلب اليأس؛ فتمتد إليها أنظار الطامعين، وتضرب الدول الفاتحة بمخالبها في أحشاء الأمة، عند ذلك, إن كان في الأمة رمق من الحياة، وبقيت فيها بقية منها، وأراد الله بها خيرًا، اجتمع أهل الرأي وأرباب الهمة من أفرادها, وتعانوا على اجتثاث هذه الشجرة الخبيثة، واستئصال جذورها، قبل أن تنشر الرياح بذورها، وأجزاءها السامة القاتلة بين جموع الأمة فتميتها, وينطق الأمل من العلاج)1)".
بمثل هذا الأدب أخذ المصلحون ينادون الشعوب المستكينة للذل, ويوقظونها من سباتها العميق, وينددون بما عليه أبناؤها من جبن وخور، فلا يغضبون لكرامة امتهنت، ولا يثورون لعفاف ثلم، وشرف دنس:
(1/243)

"الجبن هو الذي أوهى الممالك فهدم بناءها، هو الذي قطع روابط الأمم فحل نظامها، هو الذي وهن عزائم الملوك فانقلبت عروشهم، وأضعف قلوب العالمين فسقطت صروحهم، هو الذي يغلق أبواب الخير في وجوه الطالبين, ويطمس معالم الهداية عن أنظار السائرين، يسهل على النفوس احتمال الذلة, ويخفف عليها مضض المسكنة، ويهون عليها حمل نير العبودية الثقيل, ويوطن النفس على تلقي الإهانة بالصبر والتذليل بالجلد، ويوطن الظهور الجاسية لأحمال من المصاعب أثقل مما كان يتوهم عروضه عند التحلي بالشجاعة والإقدام، والجبن يلبس النفس عارًا دون القرب منه موت أحمر عند كل روح زكية, وهمة علية، ويرى الجبان وعر المذلات سهلًا، وشظف العيش في المسكنات رفهًا ونعيمًا".
من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام(2)
وإذا جاوز الحاكم حده، طغى وبغى واستبدَّ، وباع بلاده للأجانب الطامعين، والمستعمرين الغاصبين، ونكَّلَ بالأحرار المفكرين؛ كما فعل نوبار باشا مثلًا حين طلب إبعاد الزبير باشا من مصر، وحين حارب كثيرًا من المصلحين، وحين مكَّن للإنجليز في وادي النيل، فإن زعماء الإصلاح لا يترددون في التحريض على قتله، وتخليص الأمة منه".
"
وإني أتعجب، وكل ذي إحساس يتعجب، من سكان الديار المصرية من المصريين والأتراك والحجازيين واليمانيين، ألَا يوجد بين هؤلاء فتًى يشمِّر عن ساعده ويتقدم بصدره، ويخطو خطوةً إلى هذا الوزير الأرمنيّ فيبطل هذه الصفقة, وينقض هذه البيعة، ويكشف له وللمغرورين من أمثاله حقيقة الوطنية، ويرفع الحجاب عن واجبات الملية؟ لا حول ولا قوة إلّا بالله! إن المولعين بحب الحياة يقضونها من خوف العبودية في العبودية، ويتجرعون مرارات سكرات الموت في كل لحظة خوفًا من الموت, لا يسوقهم إلى مرضاة الله، ولا الحمية تدفعهم إلى ما به فخار الإنسان"(3).
(1/244)

وأنصت إلى السيد جمال الدين الأفغاني كيف يثير في النفوس الحمية، ويريدها متمردةً على الطغيان والعسف والهوان، وينعى على المصريين خورهم واستكانتهم إلى كل من يحكمهم؛ فقد روى سليم عنحوري عن السيد جمال الدين قوله: "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم في حجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرونٌ منذ زمن الملوك والرعاة حتى اليوم، وأنتم تحملون عبء الفاتحين، وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتهم الحيف والجور، وتنزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتستنزف قوام حياتكم ومواد غذائكم التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم بالعصا والمقرعة والسوط، وأنتم معرضون، فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حيوية، وفي رءوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة والحمية، لما رضيتم بهذا الذل وهذه المسكنة، وتناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس، ثم العرب والأكراد والمماليك، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت.
انظروا أهرام مصر, وهياكل ممفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوة، وحصون دمياط، فهي شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم.
هبوا من غفلتكم ... اصحوا من سكرتكم ... عيشوا كباقي الأمم أحرارًا سعداء(4).
بل كان السيد جمال الدين في غاية الجرأة يحرِّضُ على الثورة علانيةً في كلماتٍ ملتهبة تثير الهمم الخامدة، وتحيي العزائم الميتة، وتحرك العقول الجامدة، من مثل قوله من خبطة له بالإسكندرية قبيل خلع الخديو إسماعيل:
"
أنت أيها الفلاح المسكين, تشق قلب الأرض لتستنبت منها ما تسد به الرمق، وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشق قلب ظالمك؟ لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك"(5).
(1/245)

ومن الكلمات التي تتلظى لهبًا, وتتقد غيرة وحماسة حين تصور بؤس المصريين, وكيف يسومهم حكامهم العسف والخسف, تلك الكلمة التي كتبها أديب إسحق وهو مريض بباريس, تحت عنوان: "نفثة مصدور" ويوازن فيها بين الحياة النيابية الحرة في فرنسا وحياة الاستبداد بمصر, فيقول: "وأنا تحت سماء الإنصاف على أرض الراحة، بين أهل الحرية أسمع ألحانًا في مجالس العدل، فأذكر أنين قومي في مجالس الظلمة، وتحت سياط الجلادين، فأنوح نوح الثاكلات، وأرى علائم النعمة في معاهد المساواة، فأذكر شقاء سربي في ربوع الظلمة، فأذرف الدمع ممتزجًا بسواد القلب, فأكتب إليهم: يا قوم ظلمتم غير معذورين، وصبرتم غير مأجورين وسعيتم غير مشكورين, فهلكتم غير مأسوف عليكم، تصبرون على الظلم حتى يحسبه الناظر عدلًا، وتبتسمون للقيد حتى يظنه الناقد حليًّا، وتخفضون للظالمين جناح الذل حيث يقول من يراكم: ما هؤلاء بشر, إن هم إلّا آلة سخرت للناس، يفلحون بها الأرض ويزرعون، يقلب الجائرون عليكم أنواع المكايد وأصناف الحيل وألوان الخداع فيما يختلسون, كما تقلب المشعوذة لدى الأطفال أوجه الودعات في استخراج ما يضمرون.
رأيت فلاحهم في حقله الصغير, يتناول الطعام أكلًا مريئًا, وينام القيلولة نومًا هنيئًا، يأوي إلى البيت فيأكل بين عياله, ويتلو عليهم صحيفة النهار, ثم ينام ملء عينيه، لا يحلم بسوط المأمور ولا يتصور عصا الشيخ، ولا يتذكر حبس المدير، فتخيلتكم بين السواقي والأنهار تشتغلون سحابة اليوم؛ لتجتمعوا على القصعة السوداء فتلتهموا فتات الشعير، وتنكبوا على الترعة فتشربوا الماء الكدر، تعودون إلى الأرض المريعة تزرعونها، والغلة الوفيرة تحصدونها، لتنصرفوا إلى أكواخٍ باليةٍ تشبه قبورًا توالت عليها السنون، فيجتمع من حولكم الصغار لا تعرف أبدانهم الوقاء، ونساء تعوضن الأقذار عن الكساء، ثم يأتيكم المأمور سالبًا، والشيخ غاضبًا، والمدير ناهبًا، فأنتم في بلاءٍ مستقرٍّ، وعناء مستمرٍّ، وتحصدون البُرَّ ولا تأكلون، وتملكون الأرض ولا تسكنون"(6).
(1/246)

بل استمع إليه يحرض على الثورة جهرةً في كلمته التي كتبها تحت عنوان: "التردد", وهو فيها لا يقل حميةً وحماسةً عن جمال الدين، ساقها في أسلوبٍ شعريٍّ يهيج العواطف, وذلك حيث يقول:
"
قد بليتم بما يذيب الشحم, ويفري اللحم، وينقي العظم, وأنتم صابرون؛ ومنيتم بما وفَّرَ النقم وغير النعم, وأهلك النعم وأنتم صامتون، ورزقهتم بما جلب المصاب، وهتك الحجاب، وأبرز الكعاب وأنتم خاشعون، فما الذي تخافون؟
تقولون: لا نرضى بهذا الخسف، ولا نقوى على احتمال الذل، فقد صار تاجرنا عاملًا، ونبيهنا خاملًا، وعالمنا سائلًا، فلم يبق فينا غير الأجير والتابع والشحاذ والزارع، والجندي منخفض الجانب، والشرطيّ منقطع الراتب، بل زارعنا الذي يدفن مع الحبة قوة يمينه، ويسقي الغرس بماء جبينه, نزيلٌ في دار أبيه، وغريب في أرض ذويه، يحصد مما زرع ولكن لسواه، ويجني مما غرس ولا يذوق جناه.
وكأني بكم عصابة، من أهل الهمة الإصابة، ترفعون الأصوات في طلب الحق المسلوب، وتمدون الأكف لالتماس المال المنهوب، وتجعلون الأبدان للوطن سورًا يرد عنه العدو مذعورًا، وأنتم الكلمة المتحدة, والقوة المجتمعة هي أقوى من العدد الكثير إلّا أنكم تترددون.
فيا حليف الصبر, ويا نضو العناء، نداء مشارك في بلواك، وسامع لنجواك، دع التردد إن أردت النجاح والنجاة، وأقدم، فرب حياةٍ تكون في طلب الموت، ورب موتٍ يجئ من طلب الحياة"(7)
وهي كما ترى كلمة تحمل روح جمال الدين، وتحض على الثورة علانيةً، بتنبيه المصريين لمهاوي الذلة التي تردوا فيها، وحثهم على استخلاص حقهم بالقوة من ظالميهم.
(1/247)

2- الدعوة إلى الأخذ بنظام الشورى في الحكم، حتى تشعر الأمة أن مقدراتها بيدها، وحتى تأمن جانب الحكام وعبثهم بكنوزها وأزراقها، بل مقامرتهم على استقلالها وحريتها، وحتى لا تدع للأجانب حجة يتكئون عليها في إشرافهم على الحكومة وإدارتها.
وقد رأيت طرفًا مما قاله البارودي الشاعر في الشورى، وقد كانت هذه الروح التي تجلَّت في شعر البارودي قبسًا من نار مشتعلة في نفس جمال الدين الأفغاني وصحبه وحوارييه من أمثال محمد عبده وعبد الله نديم، وأديب إسحق، استمع إلى هذا الحوار بين توفيق باشا وبين جمال الدين الأفغاني, وقد طلبه للمثول بين يديه في قصر عابدين:
قال توفيق: إني أحب كل المصريين، ويسرني أن أرى بلادي وأبناءها في أعلى درجات الرقيِّ والفلاح، ولكن من الأسف أن أكثر الشعب خامل جاهل لا يصلح أن يلقى عليه ما تلقونه من الدروس والأقوال المهيجة، فيلقون بأنفسهم في تهلكة.
فأجاب جمال الدين: "ليسمح لي سمو أمير البلاد أن أقول بحريةٍ وإخلاصٍ: إن الشعب المصريّ كسائر الشعوب, لا يخلوا من وجود الخامل والجاهل بين أفراده، ولكنه غير محروم من وجود العالم والعاقل، فبالنظر الذي تنظرون به إلى الشعب المصريّ ينظر إليكم، وإن قبلتم نصح هذا المخلص، وأسرعتم في إشراك الأمة في حكم البلاد عن طريق الشورى فتأمرون بإجراء انتخابات نواب الأمة, لتسن القوانين وتنفذها باسمكم وإرادتكم, يكون ذلك أثبت لعرشكم وأدوم لسلطانكم"(8).
ويقول الأستاذ الإمام الشيح محمد عبده، مبرهنًا على أن الأمة المصرية بلغت حدًّا من النضج يؤهلها لأن تتولى أمورها بنفسها.
(1/248)

"ومما تقدَّم سرده تعلم أن أهالي بلادنا المصرية دبت فيهم روح الاتحاد، وأشرفت نفوسهم على مدارك الرأي العام، وأخذوا يتنصلون من جرم الإهمال، ويستيقظون من نومة الإغفال، وقد مرت عليهم حوادث كقطع الليل، ثم تقشَّعت عنهم فطالعوا من سماء الحق ما كحَّل عيونهم بنور الاستبصار، حتى اشرأبت مطامحهم إلى بثِّ أفكارهم فيما يصلح الشأن, ويلم الشعث, ويجمع المتفرق من الأمور؛ ليكونوا أمة متمتعة بمزاياها الحقيقية، فهم بهذا الاستعداد العظيم أهلٌ لأن يسلكوا الطريق الأقوم, طريق الشورى والتعاضد في الرأي"(9).
3-
محاربة الاستعمار، وإثارة الحمية الوطنية في نفوس الشعوب المستذلة التي غُلِبَتْ على أمرها, وقادها ملوكها وزعماؤها إلى الدمار والبوار، بينما العدو يتربص بهم الدوائر, فلما لاحت الفرصة انقض على الفريسة كالوحش الكاسر يوسعها نهشًا وعضًّا، حتى خرت تحت قدميه دامية الجسد، هامدة الفكرة، تنظر بعينين ملؤهما الرعب والذلة.
وقف هذا الأدب يصرخ في هذه الشعوب صرخاتٍ مدويةً علها تفيق من سباتها؛ تنهض لمحاربة عدوها، وتنبه الختل والغيلة، والغدر والحيلة، وشتَّى الوسائل الزائفة التي عمد لها الطامع الجشع من وعودٍ مصيرها الخلف، ومواثيق غايتها النقض، وأيمان يتبعها الحنث، كل ذلك حتى يمكِّنَ لنفسه في البلاد؛ فيمتص دماء أهلها, ويسخرهم لطاعته عبيدًا غير مأجورين, وفَعَلَةً غير مشكورين.
"
بلغ الإجحاف بالشرقيين غايته, ووصل العدوان فيهم نهايته، وأدرك المتغلب منهم نكايته، وخصوصًا في المسلمين منهم، فملوك أنزلوا عن عورشهم جورًا، وذووا حقوق في الإمرة حُرِمُوا حقوقهم ظلمًا، وأعزَّاء باتوا أذلاء، وأجلاء أصبحوا حقراء، وأغنياء أمسوا فقراء، وأصحَّاء أضحوا سقامًا، وأسود تحولت نعامًا، ولم تبق طبقة من الطبقات إلّا وقد مسَّها الضر من إفراط الطامعين في أطماعهم، خصوصًا من جراء هذه الحوادث التي بذرت بذورها الأراضي المصرية نحو
(1/249)

خمس سنواتٍ بأيدي ذوي المطامع فيها، حملوا إلى البلاد ما لا تعرفه فدهشت عقولها، وشدوا عليها بما لا تألفه فحارت ألبابها، وألزموها ما ليس في قدرتها فاستعصت عليه قواها، وخضدوا من شوكة الوازع تحت اسم العدالة؛ ليهيئوا بكل ذلك وسيلةً لنيل المطمع, فكانت الحركة العرابية, فاتخذوها ذريعةً لما كانوا له طالبين، فاندفع بهم سيل المصاعب، بل طوفان المصائب على تلك البلاد، وظنوا بلوغ الأرب, ولكن أخطأ الظن وهموا بما لم ينالوا(10)".
واستمع لهذه الفئة المصلحة اليقظة كيف تتنبه لمكايد الإنجليز وصنائعهم في مصر، وتفضح حيلهم: "نوبار باشا ساعٍ إلى أمر مهمٍّ, وهو ما ذكرناه في العدد السابق، ونشرته بعدنا جريدة "الدبّا" وسائر الجرائد الإنجليزية، وهو أن يكون ولي القاصر "عباس" بعد خلع أبيه, فينال بسطةً في السلطة، وإطلاقًا في الأمر والنهي، وعلم أن هذا وقت الفرصة لحرص الحكومة الإنجليزية على تملك مصر، وهي محتاجة في ذلك إلى من ليس له وطن ولا دين ولا جنس في مصر، فهي في شدة الاحتياج لنوبار باشا، وتوفيق باشا قبةٌ جوفاء لا يرجع منها إلّا صدى الأصوات، إن قلت: لا، فلا، أو قلت: نعم، فنعم، فهو في غضبه ورضاه تابع لما يلقى إليه، فعلم نوبار أن خديويًّا مثل هذا, يمكن أن يكون واسطةً في تمكين الإنجليز من مصر من حيث لا يشعر، بتقديمه هذه الخدمة لهم يبني لنفسه من العزة قصرًا شاهقًا"(11).
واستمع كذلك إلى أديب إسحق, تلميذ جمال الدين الأفغانين, وأحد الألسنة التي أطلقها تندد بالاستعمار وحيله، وكيف ينبه المصريين إلى خداع الإنجليز، وتخديرهم المصريين بتخفيض الضرائب حتى يمدحوا أيامهم، ويوازنوا بينهم وبين حكامهم المتعسفين, فيرجحون في كفة العدالة، وقد أشارت بعض الصحف بما قدم الإنجليز من عملٍ فثارت ثائرته وقال:
(1/250)

"فهل خفي عن تلك الصحف أن من شفقة الصياد على الطير إلقاءه الحب بين يديها؟ أولم تعلم أن القائل بهمجية المصريين، المعتقد بانحطاط مداركهم، لا يطعمهم هذا الفتات إلّا ليسهل على الإنجليز هضم قوتهم والتهام ثروتهم!
كلَّا! إن الجرائد المصرية لا تجهل حقيقة الأمر، ولكنها لا تستطيع التصدي، علمًا بأن اللصَّ العازم على سرقة الحقوق الوطنية يكره النور، فإذ حاولت الجرائد إظهاره سارع إلى إطفائه بتعطيلها وإلغائها.
يا أهل مصر: إني محدثكم حديثًا غريبًا, إذا كان امراؤكم خياركم، وأغنياؤكم أسخياءكم, وأموركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطانها، وإذا كان أمراؤكم شراركم, وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم, فبطن الأرض خير من ظهرها".
4-
السعي في إصلاح المفاسد الاجتماعية، فالفقر الذي يذوي الشباب الغض, والإهاب النضر, ويذل النفس الأبيّة، ويطوح بالأنفة والكبرياء بعيدًا حين تصرخ المعدة الجائعة صرخةً تنهار على أثرها النفس المتجلدة, قد جثم على صدور كثير من أبناء الشرق، يكدون ويكدحون لفئةٍ قليلةٍ من الأغنياء، يبعثرون على موائد الفساد ما جمع هؤلاء المساكين في حمارة القيظ وصبارة الشتاء، وهم يبيتون على الطوى، وأبناؤهم يتضاغون من المسبغة والفاقة, ويتضورون من الجوع والعُري، ويتلوون من السقام والأوصاب، والجهل الذي بنى أعشاشه في رءوس الجمهرة من أبناء الشرق، وباض وفرخ وملأ الدينا خرافات وخزعبلات, يجب أن يحارب, وتفتح لأبناء الأمة مغاليق الأمور حتى يعيشوا كالأناسي.
إن الفلاح المسكين كان نهبًا للمرابين والمستغلين يأكلون ظلمًا وعدوانًا ما سعى لتحصيله بكدِّ النهار وسهر الليل. استمع لعبد الله نديم يصور هذا الجهل بالحساب، ووقوع هذه الفلاح البائس في أحابيل شياطين الفرنجة من المرابين والأفاقين، وكيف يضاعفون ديونه ظلمًا، وينهبون ماله جهرًا، وهو لا يدري من الأمر شيئًا, كأنه سائمة ترعى, وقد ساق عبد الله نديم هذه المحاورة بين الفلاح

(1/251)

والمرابي باللغة العامية حتى يبين للفلاحين خداع هذا اللص الكبير، وسذاجة هذا الجاهل الغر "ذهب المزراع إلى المرابي ليقترض مائة جنيهٍ بفائدة قدرها عشرون في المائة، فقال المرابي: حسن! سأخصم من المائة عشرين فتستحق ثمانين، وأضيف الفائدة وقدرها عشرون فيكون الدين مائة وعشرين"، ووافق الفلاح لجهله بالحساب، وبذلك أخذ ثمانين جنيهًا ليسددها مائة وعشرين، وحين السداد جاء بكل ما أنتجته أرضه فاشتراه المرابي بأبخس الأثمان، وخرج الفلاح بعد بيع محصوله الكبير ميدينًا بمبلغ مائتي جنيه, في حين أن المرابي لو قدر المحصول كما يجب لسدد الفلاح دينه، ودفع له المرابي فوق ذلك مائة جنيه، ولكنه الجهل والغش.
ويحارب المصلحون زبرج المدنية الخلاب، ولأولاءها الخداع، والفتنة التي أوقعت المصريين في شباكها، فراحوا يلتقطون في نهم بالغٍ نفايات الحضارة الأوروبية العفنة, يحسبونها تمدينًا، ونسوا دينهم وأخلاقهم الكريمة وعاداتهم الطيبة.
لقد جهد المصلحون والمفكرون أن ينيروا للأمة سبيلها, ويبصروها عاقبة السير في ظلماء الجهالة، ويحثون على التعليم, بل يشيدون المدارس، ويخطبون في كل مكانٍ علَّ الأمة تستجيب لندائهم، فتمرق من شرك الجهل، وأحابيل الضلالة.
ونمت في الشعوب الجاهلة التي ظلت قرونًا تخضع لسيطرة العتاة الجبارين صفات رديئة كالنفاق، والرشوة، والكذب، والخداع، والتراخي في العمل.
إلى آخر هذا التثبت الشنيع من نقائص الأمم المغلوبة على أمرها، حتى ماتت فيها روح الكرامة والعزة، وكثير من المحامد التي لا تستطيع النمو في جوٍّ خانقٍ بعثير الظلم ودخانه؛ ولذلك عمد الكُتَّاب المفكرون في هذه الحقبة إلى التشنيع على هذا الرذائل وتبشيعها لدى أفراد الشعب كي يقلعوا عنها.
وهكذا امتد أفق الكتابة إلى جميع الأغراض السياسية والاجتماعية، وكانت الصحف خير معوانٍ بثَّ هذه الآراء الجريئة، والإرشادات النافعة، والنصائح الثمينة التي حركت الهمم, وأثارت العزائم، ومهدت الطريق لنضج الشعوب العربية والإسلامية.

(1/252)

وكان بجانب هذه الأغراض السياسية والاجتماعية موضوعات أدبية بحتة، من وصف وتعزية وتهنئة، وتحدث عن الأمور المعنوية كالجمال، والعاطفة, والذوق، والسعادة, وما شاكل هذا, وقد حاول بعض الكُتَّاب أن يرشد الناس إلى ما تقتضيه صنعة الكتابة من أمور، وما تطلبه من جهود؛ كأديب إسحق، وقد بَيَّنَ في مقالاته(12) شروط الكتابة السليمة وأنواعها، وكان ذلك ضروريًّا في هذه الحقبة، ويقول الشيخ خليل اليازجي في الإنشاء:
"
الإنشاء مَلَكَةٌ راسخةٌ في النفس, يعين عليه سلامة الذوق وطول المزاولة، والناس فيها طبقات متفاوتة, مرجعها في الأكثر إلى بداهة الخاطر وذكاء البصيرة وغزارة المادة، وله أحكام إذا راعاها المجيد نبغ فيها، وإذا راعاها الضعيف استأنس بها، فأعانته على الجري فيها"(13).
ومن أمثلة النثر الأدبي رسالة لعبد الله نديم يشكر صديقًا على كتاب وصله منه(14):
"
لبيك كوكب الصبح، دام نداك، وسعد بك نسيم الصبا، طاب شذاك، وأهلًا بك يا نور النهار، ومرحبًا بك نَوْر البهار، فإني أرقت للقاء منذ سمعت بالإسراء، ومازلت أسأل عن ركبكم من منازل البدر، وأستفهم منه ركبان النجوم حتى مطلع الفجر، فالشعرى تقول: تركتهم بتلك الرحلة، وعطارد يقول: تقدمتهم بمنزلة، والمريخ يقول: أناخوا ركابهم، والمشتري يقول: أثاروا نجائبهم، والدجى تقول: ليلهم قمري، والزهر تقول: هم أولاء على أثري, وكل ذلك وأنا هائم كحاطب بليلٍ, حتى طلع على جانب السحر سهيل، فهممت بتقبيله فأبى، وارتفع عني ونبا، فأشرت له بتلطفٍ, وأنشدته بتعطف:
(1/253)

سهيل انعطف وانزل بساحة مغرم ... يراك بعين طول ليلتها عبرى
عسى يأخذ الأخبار منك عن الألى ... سيصلى بهم جمر الغضا ولك البشرى
ومن أمثلة النثر الأدبيّ كذلك ما كتبه السيد مصطفى نجيب(15) يصف الحاكي "الفوتوغراف":
"
مثال القوة الناطقة، من غير إرادة سابقة، يقتطف الألفاظ اقتطافًا، ويختطف الصوت اختطافًا، مطبعة الأصوات، ومرآة الكلمات، ينقل الكلام من ناحيةٍ إلى ناحيةٍ, نقل كلام عمر -رضي الله عنه- إلى سارية، وأشد من الصدى وفعله، وفي إعادة الصوت إلى أصله، كأنه الحرف في يد الطابع، والوتر في يد الضارب، والقصب من فم القاصب(16)، يحفظ الكلام ولا يبديه، ومتى استعدته منه يعيده، من غير أن يبقي لفظًا في صدره، أو يكتم شيئًا من أمره، كأنما حفظ الوديعة في نفسه طبيعة، فلو تقدَّم به الوجود في مرتبة الزمن لما احتجنا في الأخبار إلى عنعنة، ولا في الدعاوي إلى بينة، بل كان يسمعنا كلام السيد المسيح في المهد؛ وصوت عازر من اللحد، وكانت استودعته الفلاسفة حكمتهم، وأنشدوه كلمتهم، فرأينا غرائب اليونان، وبدائع الرومان، وربما سمعنا خطب سحبان، وشعر سيدنا حسان بذلك اللسان، وأصبح وجود الإنسان غير محدود بزمنٍ من الأزمان.
لله دره من تلميذٍ يستوعب ما عند المعلم ويستخلصه في لحظة، معيدًا لقوله ناقلًا صوته ولفظه.
لقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانًا قائلًا فقل
نديم ليس في هفوة النديم، وسمير لا ينسب إليه تقصير، تسكته وتستعيده، وتذمه وتستجيده، وهو في كل هذه الأحوال، راضٍ بما يقال، لا يكلُّ من تحديث، ولا يمل من حديث، نمام كما ينم لك ينم عليك، وينقل لغيرك كما
(1/254)

ينقل إليك، فهو المصوِّرُ لكل فنٍّ، والمتكلم بكل لغة، المحدِّث بكل لسانٍ، المؤرِّخُ لكل زمان، الشاعر الناثر، المغني العازف، لا تعجزه العبارة، ولا تجهده الإدارة، ولا يضيره اختلاف شكل، ولا تباين أصل".
ومن أمثلة النثر الاجتماعي غير ما تقدَّم عرضه, قول قاسم أمين في كتابه عن "المرأة الجديدة":
"
إن كل تغيير يعرض على الأنظار في صورة مشروع يلتمس قبوله، ولم يكن بدأ الناس فيه من قبل، هو في الحقيقة فكر سبق أوانه وقت عرضه، ولهذا لا يفهمه ولا يقدِّره حق قدره إلّا العدد القليل، ممن يمتد نظرهم إلى ما يكنه المستقبل من الحوادث, انظر إلى حالة مصر، فقد عاشت الأمة المصرية أجيالًا في الاستعباد السياسيّ، فكانت النتيجة انحطاطًا عامًّا في جميع مظاهر حياتها: انحطاطًا في العقول، وانحطاطًات في الأخلاق، وانحطاطًا في الأعمال، وما زالت تهبط من درجة إلى أسفل منها، حتى انتهى بها الحال إلى أن تكون جسمًا ضعيفًا، عليلًا ساكنًا يعيش عيشة النبات أكثر من عيشة الحيوان، فلما تخلصت من الاستعباد، رأت نفسها أول الأمر في حيرة لا تدري معها ما تصنع بحريتها الجديدة، وكان الكل لا يفهم لهذه الكلمة معنًى, ولا يقدر لها قيمةً, وكان الناس يستخفون ويهزءون بالحرية, بل ويتألمون منها، وينسبون إليها اختلال عيشهم، وعلل نفوسهم، فكم من مرة سمعنا بآذاننا أن سبب شقاء مصر هو تمتعها بالحرية والمساواة, ثم اعتاد القوم شيئًا فشيئًا على الحرية، وبدءوا يشعرون بأن اختلال عيشهم لا يمكن أن يكون ناتجًا عنها, بل له أسباب أخرى, ثم تعلق بنفوس الكثير منا حب الحرية, حتى صاروا لا يفهمون للوجود معنًى بدونها، ولنا الأمل في أن أولادنا الذين يشبون على حب الحرية يجنون ثمراتها النفيسة التي أهمها تهيئة نفوسهم للعمل، وعند ذلك يعرفون جيدًا أن الحرية هي أساس كل عمران، وقد دلت التجربة على أن الحرية هي منبع الخير للإنسان، وأصل تربيته وأساس كماله الأدبيّ، وأن استقلال إرادة الإنسان كانت أهم عامل في نهوض الرجال، فلا يمكن إلّا مثل هذا الأثر في نفوس النساء".

(1/255)

ومن أمثلته النثر السياسي غير ما تقدَّم, ما كتبه الشيخ علي يوسف في المؤيد, تحت عنوان: "لا تعصب في مصر".
"
التعصب بالمعنى المعروف في الغرب عن الشرق، وبعبارةٍ أخرى: من المسيحيين عن المسلمين، وهو انبثاث روح العداء والبغضاء من الآخرين ضد الأولين، انبثاثًا يحمل على الاعتداء عليهم حينًا بعد حين، أو هو التوحش الذي يفتك بنفوس الأبرياء كلما ثار ثائره، فهو أشبه شيءٍ بالغول الكاسر الذي يندفع بعماية فيفترس كل ما في طريقه من نفوس البشر، وبهذا المعنى رذيلة من الرذائل التي ينهى عنها الدين الإسلاميّ، والقوانين الاجتماعية، نعوذ بالله أن ترزأ أمة بهذا البلاء العظيم.
قالوا: إن المصريين متعصبون تعصبًا دينيًّا، ومعنى هذا عندهم، أنهم يكرهون المخالفين لهم في الدين كراهةً عمياء, ويعتدون عليهم بروح البغضاء المتناهية، كلما سنحت لهم فرصة, أو استفزهم صائح، ولكن كيف وفي البلاد من قديم الزمان أديانٌ مختلفةٌ يتجاور أهلوها في المنازل، ويتشاركون في المرافق، ويتنافسون في الأعمال، فلم يكن بين المسلمين والأقباط تلك الروح الشريرة، ولو كانت في فطرة المسلمين أو فطرة الفريقين للاشت الأكثريةُ الأقليةَ في عصورٍ مضت, وخصوصًا في عصورٍ كانت الجهالة فيها سائدة، وكان بعض الحكام من المسلمين وغيرهم, يبذرون بذور البغضاء بين الفريقين لا لخدمة دينية إسلامية، بل لأغراضٍ منشؤها الشهوات والمطامع، ولكن التواريخ تدل على أن الفريقين عاشا على الوئام والسلام في كل الظروف أو أكثرها.
وقد وفد على القطر المصريّ وفودٌ من كل الطوائف المسيحية، غربية وشرقية، ومن أرمن وأروام وسوريين وفرنساويين وأرثوذكس، وغير ذلك، من علماء وتجار وصناع وعمال وهمل متشردين، فلقي الكل في مصر صدرًا رحبًا، وكان منهم الموظفون في كل مصلحة، حتى تولى نوبا باشا الأرمنيّ رياسة

(1/256)

النظار في مصر، وكان قائم مقام خديوي، ورئيسًا للاحتفال بموكب المحمل الشريف، فهل يوجد في أمة غير الأمة المصرية المسالمة مثل هذا التساهل الذي يرأس فيه احتفالًا دينيًّا رجل غير مسلم.
وكان من علمائهم الأساتذة والمعلمون ونظار المدارس والمفتشون، فهل الأمة التي تربي أبناءها على أيدي أساتذة من غير دينها تعد متعصبة، وكان التجار على ما يحبون من الرحب والسعة وحسن القبول، فضربوا في البلاد بمتاجرهم من غثٍّ وسمين، وجيدٍ ورديء, وخالص ومغشوش، حتى صارت مصر من أوسع أسواق متاجر أوربة ومعالمها التي وجدت إقبالًا من الأمة هائلًا.
وهؤلاء بعض الأجانب يقيمون الأكواخ الصغيرة الحقيرة لبيع الخمور الرديئة في كل قريةٍ من قرى القطر مهما سحقت وقل عددها، أو يربون الخنازير ويثرون شيئًا فشيئًا, حتى يكون الصعلوك منهم في بضع سنواتٍ صاحب القرية ومزارعها ومداين أهليها وسيدهم، فهل هؤلاء هم المتعصبون الذين يُخْشَى من شرهم في وادي النيل على الأوربيين؟ كيف يكون عند المصريين تعصب ديني وهؤلاء بينهم تتسع معاملاتهم معهم، وكثيرًا ما تنتهي هذه المعاملات بمصادرات المدينين في أملاكهم، ولا يخطر على بال مسلم خاطر سوء من ناحيتهم، لعلمه أن دينه ينهاه عن ذلك، حيث لا تكفي القوانين النظامية في زجر النفوس المتعصبة؛ لأن للاعتداء ضروبًا شتَّى وطرقًا خفيَّةً أكثر منها ظاهرة، وهذه تعديات الأهالي على بعضهم تعد بالألوف، في حين أن تعدياتهم على غيرهم لا تكاد تذكر في جانب تعديات الأجانب على بعضهم في هذه البلاد.
فكيف تعمى أعين الناظرين عن هذه الشمس المشرقة العامة بأسعتها على أرجاء القطر, ويقوم مفترون يزعمون أن في المصريين تعصبًا ثائرًا يكاد يفتك بالأوربيين لمجرد كونهم مسيحيين، أيها المدعون راقبوا الله في أمة رزئت بالإهمال في شئونها، حتى انحلَّتْ عرا الجامعة بين أفرادها، وذهبت منها ريح العصبية في كل شيءٍ, حرام عليكم مع هذا الانحلال أن تتهموها بالتعصب في أشد حالاته".

(1/257)

ومن هذه النماذج التي سقناها إليك هنا, وفي غير هذا الموضع, تستطيع أن تدرك إلى أيِّ حدٍّ وصل النثر الفني في هذه الحقبة التي نتحدث عنها؛ بل إنه سار إلى سبيل الكمال حثيثًا حتى يومنا هذا، لم يرجع القهقريّ منذ تكونت هذه المدرسة الإصلاحية, ومنذ أثمرت نهضة إسماعيل العلمية والأدبية، بل تراه قد زاد فنونًا، وتنوعت موضوعاته، وتعددت نظراته إلى الأشياء؛ لكثرة ما قرأ الكُتَّاب من الأدب القديم، وما اطلعوا عليه من آداب الغرب، ولهذا النثر مميزات وخصائص وطابع يعرف بها، ويختلف عما شاهدناه من الكتابة الديوانية.

(1/258)

 

 

__________
)
1) تاريخ الأستاذ الإمام, الجزء الثاني, ص331, والعدد الرابع عشر من مجلة العروة الوثقى.

(2)تاريخ الأستاذ الإمام, ج2 ص328.
(3) مجلة العروة الوثقى, القسم الثاني, ص147.

(4) سليم عنحوري, تاريخ محمد عبده, لرشيد رضا, ج1 ص46.
(5) مذكراتي في نصف قرن: أحمد شفيق, ص108.

(6) الدرر ص70.

(7) الدرر ص72.

(8) خطرات جمال الدين لمحمد باشا المخزومي.

(9) تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده ج2, ص217-218.

(10) افتتاحية مجلة العروة الوثقى.
(11)مجلة العروة الوثقى, ج2 ص146.

(12) مجالي الغرر ج3 ص5, وص100 من هذا الكتاب.
(13) مجالي الغرر ص10 ج3.
(14) سالقة النديم ص45.

(15) كان كاتبًا إدرايًّا بديوان الخديو، ومنه تحول إلى وزارة الداخلية، وكان أديبًا عذب النثر, سهل الشعر, وله كتاب "حماة الإسلام", توفي سنة 1899.
(16) القصب: المزمار، والقاصب هو الذي يزمر فيه.

 

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي