الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
الرسائل الإخوانية والأدبية
المؤلف: د .شوقي ضيف
المصدر: تاريخ الأدب العربي ـالعصر العباسي الثاني
الجزء والصفحة: 563ـ573
8-7-2019
31132
رأينا في كتاب العصر العباسي الأول كيف أن الرسائل الإخوانية ازدهرت حينذاك، إذ اتخذها الأدباء لتصوير عواطفهم ومشاعرهم في الخوف والرجاء والرهبة والرغبة والمديح والهجاء والتهاني والعتاب والاعتذار والاستعطاف والتعزية والاستمناح.
وبذلك نافس النثر الشعر في مجالاته الخاصة: مجالات الوجدان، وأظهر الكتّاب في ذلك براعة فائقة، إذ كان كثير منهم بلغ الذروة في الفن الكتابي، وأيضا فإن الشعراء أنفسهم أدلوا بدلائهم في تلك الرسائل حين وجدوها شديدة التأثير في نفوس من توجّه إليهم. وبذلك توفّر للرسائل الإخوانية كثيرون من الكتّاب والشعراء النابهين، الذين استطاعوا أن يبثوا في النثر طاقات جديدة من طرافة التفكير ودقة التعبير، حتى لنرى قوما إذا سئلوا عن الكلام أو الوصف هل يكون شعرا أو نثرا فضّلوا أن يكون نثرا، فقد روى المسعودي عن أبي العباس المكي نديم محمد بن عبد الله بن طاهر أنه كان ينادمه ذات ليلة في سنة 250 للهجرة، فسأله أن يصف له الطعام والشراب والطيب والنساء والخيل، فقال له: أيكون ذلك منثورا أو منظوما؟ قال: لا، بل منثورا (1) فالنثر أصبح له القدح المعلّى على
ص563
الشعر، لا لأن أصحابه كانوا يرقون إلى الوظائف العليا في الدولة ودواوينها فحسب ولا لأنه كان يختار منهم الوزراء فحسب، بل أيضا لأنه أصبح يضارع الشعر في التأثير في وجدان القارئ، بما وفّر له كتّابه العظام من جزالة الألفاظ ورصانتها ومن حسن تلاؤمها في الجرس. فالكاتب ما يزال يلائم بين لفظة ولفظة، بل أحيانا بين حرف وحرف، حتى يأسر العقول والألباب. وكان أكثر من الشعر طواعية لحمل الأفكار بحكم يسر تعابيره وما يجرى فيها من مرونة، مما جعل الشعراء أنفسهم يتخذونه في بعض الأحوال أداة لتصوير خواطرهم ومشاعرهم وأفكارهم، كما ذكرنا آنفا. وتحمل كتب الأدب كثيرا من الرسائل الإخوانية لكتّاب بارعين، ونحن نعرض طائفة منها تصوّر مدى ما كانوا يحققونه لها من إجادة وإتقان، فمن ذلك رسالة للحسن بن وهب كتب بها إلى المتوكل في عيد نيروز، يهنئه بالعيد، وكلها دعاء وابتهال، يقول (2):
«أسعدك الله-يا أمير المؤمنين-بكرّ الدهور، وتكامل السرور، وبارك لك في إقبال الزمان، وبسط بيمن خلافتك الآمال، وخصّك بالمزيد، وأبهجك بكل عيد، وشدّ بك أزر التوحيد، ووصل لك بشاشة أزهار الربيع المونق، بطيب أيام الخريف المغدق (كثير المياه) وبمواقع تمكين لا يجاوزه الأمل، وغبطة إليها نهاية ضارب المثل، وعمّر ببلائك الإسلام، وفسح لك في القدرة والمدة، وأمتع برأفتك وعدلك الأمة، وسربلك (ألبسك) العافية، وردّاك السلامة، ودرّعك العزّ والكرامة، وجعل الشهور لك بالإقبال متصدّية، والأزمنة إليك راغبة متشوقة، والقلوب نحوك سامية، تلاحظك عشقا، وترفرف نحوك طربا وشوقا».
وكانت قد أخذت تشيع التهنئات بالأعياد الفارسية والإسلامية شعرا فجعلها الحسن بن وهب نثرا، وفي رأينا أنه لم يعش طويلا في عصر المتوكل. وكانوا قد اعتادوا كثيرا في العصر العباسي الأول أن يتهادوا التحف والطرف، وعادة كانوا يرسلون مع الهدية بعض الأشعار، وأخذ النثر يزاحم الشعر في هذا الموضوع، فمن ذلك أن نرى الكندي الفيلسوف المتوفى سنة 260 كما مرّ بنا يهدى إلى بعض إخوانه سيفا ويكتب معه (3):
ص564
«الحمد لله الذي خصّك بمنافع ما أهدى إليك، فجعلك تهتزّ للمكارم، اهتزاز الصارم (السيف)، وتمضي في الأمور، مضاء السيف المأثور (المتألّق اللامع) وتصون عرضك بالإرفاد (الإعطاء) كما تصان السيوف في الأغماد، ويظهر دم الحياء في صفحة خدّك المشوف (المجلو) كما يشفّ الرونق في صفحات السيوف، وتصقل شرفك بالعطيّات، كما تصقل متون المشرفيّات (السيوف)».
والرسالة تتقدم في السجع خطوة عن سابقتها، فإن الحسن بن وهب كان يترك السجع أحيانا أما الكندي فإنه في رسالته يتشبث بالسجع، وكأنما لحق عصرا كانت عنايته به أقوى وأشد من عصر الحسن بن وهب. ومرّ بنا أبو على البصير بين الشعراء، ويقول ابن المعتز كان كاتبا رساليّا (صاحب رسائل) ليس له في زمانه ثان. . . وقد قلنا في أخبار العتّابي (وكان شاعرا كاتبا): إن هذا قلما يتفق للرجل الواحد، لأن الشعر الذى للكتّاب ضعيف جدّا، فإذا اجتمعا في الواحد فهو المنقطع القرين» (4). وقد أثرت عن أبي علي البصير رسائل كثيرة، فمن ذلك رسالة كتب بها إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل مادحا له معدّدا فضائله، وفيها يقول (5):
«إن أمير المؤمنين لما استخلصك لنفسه، وائتمنك على رعيّته، فنطق بلسانك، وأخذ وأعطى بيدك، وأورد وأصدر عن رأيك. . . ولم يزد-أكرمك الله-رفعة وتشريفا إلا ازددت له هيبة وتعظيما، ولا تسليطا وتمكينا إلا زدت نفسك عن الدنيا عزوفا وتنزيها، ولا تقريبا واختصاصا إلا ازددت بالعامة رأفة وعليها حدبا، لا يخرجك فرط النصح له عن النظر لرعيته، ولا إيثار حقه عن الأخذ بحقها عنده. . . ولا يشغلك معاناة كبار الأمور عن تفقد صغارها. .
تمضى ما كان الرشد في إمضائه، وترجئ ما كان الحزم في إرجائه. . . وتلين في غير تكبر، وتعمّ في غير تصنع، لا يشقى بك المحقّ وإن كان عدوّا، ولا يسعد بك المبطل وإن كان وليّا. . . وكافّة الرعية-إلا من غمط (بطر) منهم النعمة-مشنون عليك بحسن السيرة، ويمن النقيبة».
ص565
وقدرة أبي علي البصير على اختيار الألفاظ بارعة، فقد كان يعرف كيف يختار مفرداته وكيف يؤلف بينها تأليفا حسنا، يجرى فيه التقابل والتوازن، وإن لم يجر في هذه الرسالة السجع، ولكن يجري فيها ماء ورونق. وهو لم يسق في مديح عبيد الله عبارات طنانة فحسب، بل ساق معاني سياسية جيدة، فهو رءوف بالشعب حدب عليه، وحقّ كل فرد فوق حق الخليفة نفسه، مدبر حازم.
مترفع عن الصغائر، في تواضع لا يسفّ به إلى الدنيات دون تكلف. لا يؤذي محقا وإن كان عدوّا، ولا يسرّ مبطلا وإن كان صديقا. والرعية جميعها تحبه وتثنى عليه لسيرته وفضائله الطيبة. وله رسالة مسجوعة تدخل في العتاب أو بعبارة أدق في الهجاء كتب بها إلى أبي العيناء منافسه في منادمة الخلفاء والوزراء، وفيها يقول (6):
«من أبي علي البصير، ذي البرهان المنير، المبلغ في التحذير، المعذر في النكير، إلى أبى العيساء الضّرير، ذي الرأي القصير، والخطل الكثير، والإقدام بالتعيير، سلام على المخصوصين بالسلام، من أجل حقيقة الإسلام، المؤمنين بالحلال والحرام، والفرائض والأحكام، فإني أحمد الله إلى نفسه وأوليائه من خلقه، على ما هداني من دينه، وعرفني من حقه، وامتنّ علىّ به من تصديق رسله. . . أما بعد فإنك الرجل الدقيق حسبه، الرّديء مذهبه، الدّنيء مكسبه، الخسيس مطلبه، البذيء لسانه، المبتلى به إخوانه. . . قد صيّرت القحة (الوقاحة) جنّة (وقاية) وشتم الأعراض سنّة. . . صديقك على وجل منك إن شاهدته عافك، وإن غبت عنه خافك، تسأله فوق الطاقة، وترهقه عند الفاقة (الفقر) فإن اعتذر إليك لم تعذره، وإن استنظرك لم تنظره (تمهله) وإن أنعم عليك لم تشكره، لا تزيدك السنّ إلا نقصا، ولا يفيدك الغنى إلا حرصا. . . وتعرض للناس بالسؤال، غير محتشم من الإملال. . . من أطاعك في ماله حربته (سلبته)، ومن منعك بعذر واضح سببته. . . ومن أكرمك أهنته وتطاولت عليه، ومن أهانك استكنت له ولنت في يديه. . . إرثك عن أبيك السعاية، ونقل الأخبار والوشاية».
ص566
والرسالة كلها-على هذا النحو-هجاء وإقذاع في الهجاء، وقد استهلها لممّحا إلى أن أبا العيناء لا يؤمن بحلال ولا حرام ولا بفرائض ولا أحكام مخرجا له من الملة حامدا لنفسه هداه وتصديق الرسل الذين يكفر بهم أبو العيناء. ثم يسبه في حسبه وفي مذهبه ومكسبه واصفا له بالخسّة والدناءة، وأنه لا يحترم صديقا مهما أكرمه، مع الشّحّ والتعرض للناس بالسؤال والإلحاف فيه. ويقول له في نهاية رسالته:
«قد ملت إلى السجع على علمي بخساسة حظه وركاكة معانيه ولفظه، إذ كنت تلوى به لسانك، وتثنى إليه عنانك، قطعا لحجتك، وإزاحة لعلتك».
وكان أبو العيناء على شاكلة أبي علي البصير يملأ رسائله بالسجع على نحو ما نجد في رسالة كتب بها إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان يشكو له ابنه محمدا إذ أهداه فرسا غير فاره، وفيها يقول (7):
«أعلم الوزير-أيده الله-أن أبا على محمدا أراد أن يبرّني فعقّني، وأن يركبني فأرجلني، أمر لي بفرس كالقضيب اليابس عجفا (هزالا) وكالعاشق المهجور دنفا (سقما). قد أذكر الرواة عروة العذري، والمجنون العامري. . .
قد حفظ الأشعار، وروى الأخبار، ولحق العلماء في الأمصار. . . وإنما أتيت من كاتبه الأعور، الذي إذا اختار لنفسه أطاب وأكثر، وإن اختار لغيره أخبث وأنزر (قلّل)».
والرسالة سجع خالص، وكأن من الكتّاب من أخذ يصطنعه منذ أوائل هذا العصر في بعض الرسائل، فإن لأبى العيناء نفسه رسائل أخرى في الاستمناح (8) وطلب النوال وفي الشكر (9)، يكتفى فيها بالعبارة المصقولة والألفاظ المنتخبة المختارة دون أن يعنى بالسجع وترصيفه وتنميقه. ومن الكتاب البلغاء المعاصرين لأبي العيناء وأبي علي البصير محمد بن مكرم، وفيه يقول صاحب الفهرست: «كاتب بليغ مترسل، وله كتاب رسائل» (10)، وتدور له في الكتب مجموعة من الرسائل، منها رسالة في الاعتذار لبعض الرؤساء على هذه الشاكلة (11):
ص567
«نبت بي عنك غرّة (غفلة) الحداثة، فردّتني إليك التجربة، وباعدتني عنك الثقة بالأيام، فأدنتني إليك الضرورة ثقة بإسراعك إلىّ، وإن أبطأت عنك، وبقبولك لعذري وإن قصّرت عن واجبك. وإن كانت ذنوبي قد سدّت مسالك الصّفح عنى، فراجع في مجدك وسؤددك. وإني لا أعرف موقفا أذلّ من موقفي، لولا أن المخاطبة فيه لك، ولا خطّة أدنى من خطّتي، لولا أنها في طلب رضاك».
والرسالة محكمة، وكل عبارة كأنما حاكتها أو قل صبّتها في قالبها يد صناع وحقّا لم يحلّ الرسالة بالسجع، ولكن العبارات كلها كأنها حلى مختارة، سواء في اصطفاء الألفاظ، أو في توشيئها بألوان البديع، فالغرة أمام التجربة، والبعد أمام الدنو، والسرعة أمام البطء. ثم تتعاقب الاستعارات والصور، فالذنوب قد سدّت بحجاب غليظ دروب الصفح وممالكه، وهو يتوسل أن يراجع فيه مجده وسؤدده. ثم يأتي التلطف وقبول الذل وكأنه يقبله من حبيب. وله رسالة جيدة في تعزية سليمان بن وهب عن أخيه الحسن حين لبّى نداء ربه، ونكتفي منها بهذه الفقرة (12):
«إن الرّمض (حرقة الغيظ) والهلع إنما يكونان للمصيبة الخاصة التي لا تعدو صاحبها، ولا يجد مسعدا (معينا) عليها، ولا شريكا فيها، وقد أعانك الله على مصيبتك بالواشج (المشتبك) رحما بك والبعيد نسبا منك، وجمع في ثقل محملها وألم فجعها صديقك وعدوّك، وكلّ مكتس منها سربال وحشة، ومنطو على دخيل حزن، وناظر من أعقابها في منظر وعر، فجميعهم فيها مشترك، وأنت بالتعزّي حقيق قمين».
والقطعة كالرسالة السابقة، ألفاظها محكمة، ويجرى فيها الطباق والتقابل والاستعارات والصور والرّصف الدقيق للعبارات، فالنسج متين، وعليه ألوان وصور تلفت الأذهان. ومن الكتّاب البلغاء أحمد بن سليمان بن وهب، وهو من بيت كتابة، كان أبوه وعمه الحسن من البلغاء المفوهين، وله في الصداقة رسالة كتب بها إلى بعض أصدقائه، وفيها يقول (13):
ص568
«ليس عن الصديق المخلص والأخ المشارك في الأحوال كلها مذهب، ولا وراءه للواثق به مطلب، والشاعر يقول:
وإذا يصيبك والحوادث جمّة … حدث حداك إلى أخيك الأوثق
وأنت الأخ الأوثق، والولي المشفق، والصديق الوصول، والمشارك في المكروه والمحبوب، قد عرّفني الله من صدق صفائك وكرم وفائك، على الأحوال المتصرّفة، والأزمنة المتقلبة، ما يستغرق الشكر، ويستعبد الحر، وما من يوم يأتي علىّ إلا وثقتي بك تزداد استحكاما، واعتمادي عليك يزداد تأكدا والتئاما. . .
وأعيذك بالله من العيون الطامحة، والألسنة القادحة، وأسأله أن يجعلك في حرزه الذي لا يرام، وكنفه الذي لا يضام، وأن يحرسك بعينه التي لا تنام، إنه ذو المنّ والإنعام».
واستخدامه للسجع واضح، وليس سجعا متكلفا، مما يدل على أنه حذق صناعته، حتى أصبح السجع ينحدر عن لسانه انحدارا سهلا طبيعيّا، لاعوج فيه ولا التواء، ولا تكلف ولا عثرات هنا أو هناك، بل أسلوب مستو متناسق. ومن الشعراء الكتاب الذين نبغوا في كتابة النثر والشعر أحمد بن أبى طاهر طيفور، ومرّت بنا ترجمة له بين الشعراء، ويحتفظ كتابه: «اختيار المنظوم والمنثور» بطائفة من رسائله، منها رسالة في شكر على بن يحيى المنجم على برّ واسع أغدقه عليه، تمضى على هذا النحو (14):
«إن أحقّ معروف بأن يشكر، ويد بارّة بأن لا تكفر، وأحق واجب بأن يؤدّى، وإحسان وبرّ بأن يجازى معروفك-أعزّك الله-عندي، ويدك قبلي، وحقك علىّ، وإحسانك إلىّ، لأن المعروف يحسن عند الأحرار موقعه، ويجب عليهم شكره ونشره والإشادة بذكره. تتطوّع مبتدئا، وتشفع ما تقدّم معقبا، وتحسن ربّ ما أسديته متفضلا، لا أخلاك الله من برّ وإحسان، ولا أخلانا منك في حال».
والرسالة فيها سجع قليل، ولكن له رسائل أخرى يكثر فيها السجع، وكان
كثير الهجاء للكتّاب، ويبدو أنه قلما كان أحد يسلم من لسانه، وممن هجاهم وأقذع في هجائهم ابن ثوابة وابن مكرم، ومن قوله في رسالة كتب بها إلى أبي علي البصير يذم له الأخير ويعدد مثالبه (15):
«المقلىّ المذمّم، المهين ابن مكرّم. . . العاكف على ذنبه، الصادف عن ربه، الوضيع في خلائقه، العاتي على خالقه. . . عدوّه آمن من غائلته، وصديقه خائف من بائقته. . . من استخفّ به أكرمه. ومن وصله صرمه (قطعه). . . يحلف ليحنث، ويعهد لينكث، إسناده عن المذمومين، وبلاغته في ذم الصالحين، وطرفه قذف المحصنات، وسعيه في كسب السيئات».
ولابن المعتز رسائل إخوانية كثيرة في التهاني والتعازي والاعتذار والشوق والفراق وفى السؤال عن بعض المرضى والدعاء لهم بالشفاء، وبكل ذلك احتفظ كتاب الأوراق للصولي في ترجمته، كما احتفظ بكثير منه كتاب زهر الآداب، ويقلّ السجع في رسائله الإخوانية، ولكنه يعنى أشد العناية بصياغة كلامه، على نحو ما نرى في الرسالة التالية، وهي في تهنئة صديقه عبيد الله بن وهب وزير المعتمد في يوم عيد (16):
«أخرتني العلة عن الوزير-أعزّه الله-فحضرت بالدعاء في كتابي لينوب عني، ويعمر ما أخلته العوائق منى، وأنا أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العيد أعظم الأعياد السالفة بركة على الوزير، ودون الأعياد المستقبلة فيما يحبّ ويحبّ له، ويقبل ما توسّل به إلى مرضاته، ويضاعف الإحسان إليه على الإحسان منه، ويمتعه بصحبة النعمة ولباس العافية، ولا يريه في مسرّة نقصا، ولا يقطع عنه مزيدا، ويجعلني من كل سوء فداءه، ويصرف عيون الغير (حوادث الدهر) عنه وعن حظّي منه».
والرسالة أدعية للوزير الصديق، وهو يعنى فيها أشد العناية بجزالة العبارة ونصاعتها، ولكن دون أن يلجأ إلى سجع. ويحتفظ له كتاب الأوراق بفصول كثيرة من بعض رسائله، فمن ذلك فصل في الشوق يقول فيه: «إني لآسف على كل يوم فارغ منك، وكلّ لحظة لا تؤنسها رؤيتك، وسقيا لدهر كان موسوما
ص570
بالاجتماع معك، معمورا بلقائك، جمع الله شمل سروري بك، وعمّر بقائي بالنظر إليك» (17). ومن ذلك فصل في شفاعة: «موصل كتابي فلان، وقد جعلت الثقة به مطيته إليك، فلا تنضها (تهزلها) بمطلك، وأسرع ردّها بسابق إنجازك، وتصديق الأمل فيك والظن بك» (18)، ولا ريب في أنه كان يسجع أحيانا ففي بعض فصوله: «قد ملت إليك فما أعتدل، ونزلت بك فما أرتحل، ووقفت عليك فما أنتقل» (19) وفي فصل آخر: «تولّى الله عنى مكافأتك، وأعان على فعل الخير نيتك، وأصحب بقاءك عزّا يبسط يدك لوليك وعلى أعدائك، وكلاءة (حراسة) تذبّ عن ودائع مننه عندك، وزاد في نعمك وإن عظمت، وبلّغك آمالك وإن انفسحت» (20). وله في وصف الكتاب والقلم (21):
«الكتاب والج الأبواب، جرئ على الحجّاب، مفهم لا يفهم، وناطق لا يتكلم، به يشخص (يحضر) المشتاق، ومنه يداوى الفراق. والقلم مجهز لجيوش الكلام يخدم الإرادة، ولا يملّ الاستزادة، يسكت واقفا، وينطق سائرا، على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء، وكأنه يقبّل بساط سلطان، أو يفتح نوّار بستان».
والوصف يكثر فيه السجع، كما يكثر التصوير، فقد شخّص الكتاب وجسّمه في صور كثيرة، وبالمنل صنع بالقلم، وأخرجه مع الصحف التي يكتبها في صور بديعة:
وكان الكتّاب يكثرون من الدعوة للزيارة ولقضاء بعض الوقت في اللهو ولسماع الغناء أو للسمر والطعام. وأكثروا من التهاني في كل مناسبة في الأعياد وفي الزواج وفي إنجاب الأولاد وفي ختانهم، وفي الحج وقضاء مناسكه، وفي وصف الطبيعة شتاء وفي الربيع. . . وقد تعقبنا انتشار السجع في الرسائل الإخوانية طوال العصر، لندل على أن ذوقا عامّا أخذ يعنى به، وهي عناية جعلته يعمّ في تلك الرسائل مع أواخر القرن الثالث، بل لقد أخذ يعمّ-منذ أواسطه-عند أبي علي
ص571
البصير وأبي العيناء في بعض رسائلهما. وقد أخذت تنتشر مع ذلك عناية باصطناع الصور البيانية وبعض ألوان البديع على نحو ما لاحظنا في بعض رسائل ابن مكرم، وكأن الكاتب لا يريد أن يؤلف كلاما فحسب، بل يريد أن يصوغ دررا، مما هيّأ لسيادة السجع وسيطرته على جميع الرسائل سياسية وإخوانية منذ عصر المقتدر، بل لقد هيأ ذلك لظهور كتاب الألفاظ الكتابية التي ألف فيها عبد الرحمن ابن عيسى الهمذاني المتوفى سنة 320 كتابه الذي وقفنا عنده في موضع آخر، وهو يدل بوضوح على أنه أخذت تسود فكرة النموذج في الكتابة: في التهاني والتعازي والبشارة والإنذار والاعتذار، وأيضا في كتابة الرسائل الديوانية، ففي كل ذلك درر من السجع والصور تحفظ وتصبح مادة للكتّاب، تعينهم في كتابة الرسائل، وكأنما كان صنيع الهمذاني نذيرا بجمود النثر العربي وأن يصبح صيغا برّاقة، تخلب بما فيها من أسجاع قبل أن تخلب بما فيها من معان.
ولم يقف انتشار السجع وشيوعه عند الرسائل الإخوانية والديوانية، فقد أخذ يشيع في الرسائل الأدبية الخالصة، وكان الجاحظ قد أشاع في تلك الرسائل أسلوب الازدواج المعروف به، غير أن من تلوه في القرن الثالث الهجري أخذوا يدخلون عليها السجع ويكثرون منه، على نحو ما تصوّر ذلك رسالة لابن المعتز كتب بها إلى بعض أصدقائه يصف سامرّاء ويأسى لخرابها ويذم بغداد وأهلها، وهي أشبه بمناظرة بين البلدتين: العاصمة القديمة سامرّاء، والعاصمة الجديدة بغداد، وكان قد انتقل إليها المعتمد منذ سنة 276 وانتقل معه ابن المعتز. ولعل من الخير أن نسوق أكثر هذه الرسالة الطريفة، وهي تمضي على هذه الصورة (22):
«كتبت إليك من بلدة قد أنهض (23) الدهر سكّانها، فشاهد البأس فيها ينطق وحبل الرّجاء فيها يقصر، فكأن عمرانها يطوى وكأن خرابها ينشر، وقد وكّلت إلى الهجر نواحيها، واستحثّ باقيها إلى فانيها، وقد تمزّقت بأهلها الديار، فما يجب فيها حقّ جوار، فالظّاعن منها ممحوّ الأثر، والمقيم بها على طرف سفر، نهاره إرجاف، وسروره أحلام. . . فحالها تصف
ص572
للعيون الشكوى، وتشير إلى ذم الدنيا، بعد ما كانت بالمرأى القريب جنّة الأرض، وقرار الملك، تفيض بالجنود أقطارها، عليهم أردية السيوف وغلائل الحديد، كأن رماحهم قرون الوعول، ودروعهم زبد السيول، على خيل تأكل الأرض بحوافرها، وتمدّ بالنّقع (الغبار) سرادقها، قد نشرت في وجوهها غرر كأنها صحائف البرق، وأمسكها تحجيل كأنه أسورة اللجين، وقرّطت عذرا (24) كالشنوف، في جيش يتلقف الأعداء أوائله، ولم تنهض أواخره، قد صبّ عليه وقار الصبر، وهبّت له روائح النصر، يصرّفه ملك يملأ العيون جمالا، والقلوب جلالا. . . قبل أن تخبّ (تعدو) مطايا الغير، وتسفر وجوه الحذر، وما زال الدهر مليئا بالنوائب، طارقا بالعجائب، يؤمن يومه، ويغد رغده. على أنها-وإن جفيت-معشوقة السكنى، حبيبة المشوى (المنزل) كوكبها يقظان، وجوها عريان (صحو) وحصباؤها جوهر، ونسيمها معطّر، وترابها مسك أذفر (ذكىّ) ويومها غداة (لطيف الطقس) وليلها سحر، وطعامها هنئ، وشرابها مرئ، وتاجرها مالك، وفقيرها فانك (غير محتاج) لا كبغدادكم الوسخة السماء، الومدة (الراكدة) الهواء، جوها نار، وأرضها خبار (لينة) وحيطانها نزوز (تنز بالماء) وتشرينها (أكتوبر) تموز (يولية) فكم في شمسها من محترق، وفي ظلها من غرق، ضيقة الدار، قاسية الجوار، ساطعة الدخان، قليلة الضيفان، أهلها ذئاب، وكلامهم سباب، وسائلهم محروم، ومالهم مكتوم، لا يجوز إنفاقه، ولا يحلّ خناقه (كيسه) وحيطانهم خصاص (أكواخ) وبيوتهم أقفاص (ضيقة) ولكل مكروه أجل، وللبقاع دول، والدهر يسير بالمقيم، ويمزج البؤس بالنعيم».
والسجع زاخر في الرسالة كما يرى القارئ، وكأن ابن المعتز أراد أن يجعلها رسالة أدبية خالصة، فهو يختار لها الأسلوب الذى أخذ يشيع في عصره أسلوب درر السجع ولآلئه التي أصبحت موضع إعجاب الكتّاب والتي كانت تروقهم إلى أقصى حد، مما هيأ الأذواق لأن ترفع اللفظ فوق المعنى، فالمدار على جمال
الجسد لا جمال الروح، والعبرة بالشكل لا بالجوهر، وبالقالب لا بما يحتويه، وبالبريق الخارجي للمعاني لا بالبريق الداخلي. وعمّ ذلك حتى طغى في كتابة بعض الأخبار، وحتى نجد الخليفة القاهر (320 - 322 هـ) يطلب من بعض أصحاب التاريخ وصف الخلفاء العباسيين الذين سبقوه، ويقول له: «لا تغيّب عنى شيئا، ولا تحسّن القصة ولا تسجع فيها» (25)، فهو لا يريد في وصفهم إدخال زينة السجع، حتى لا يجور اللفظ على المعنى. وكأنما أصبح السجع أسلوب الكتابة العامة واطّرد ذلك في العصر التالي، وظل آمادا متطاولة.
وابن المعتز لا يكتفى في هذه الرسالة الأدبية بالسجع، بل يضيف إلى ذلك ألوانا من البديع، إذ تطالعنا فيها توّا الطباقات. فالنهوض أو الرحيل يقابل القعود، واليأس يقابل الرجاء، والخراب يقابل العمران، والنشر يقابل الطىّ، والباقي يقابل الفاني، والظاعن يقابل المقيم. وبجانب الطباقات ما اشتهر به في شعره من كثرة التشبيهات وإيراد الصور الطريفة، فالخيل تأكل الأرض بحوافرها وتمد من الغبار سرادقا ضخما يظل الجيش، والغرر في وجوهها كأنها صحائف البرق، والتّحجيل في سيقانها كأنه الأساور من فضة تحيط بها، وما سال على خدودها من اللجم كأنه أقراط في آذانها، والحصباء جوهر، والتراب مسك أذفر. وتتوالى الصور والتشبيهات وابن المعتز دائما يستمد من مخازن لا تنفد، مخازن تعطيه كل ما يريد من زخارف السجع وزخارف الصور والأخيلة، وكأنه لم يلبث أن انضم بقوة إلى الرّكب، ركب العناية بالوشي. ويطلّ القرن الرابع، وإذا هذه العناية تصبح هي الذوق العام في الكتابة الأدبية، فليس هناك كاتب نابه إلا ويتخذ هذا الأسلوب الفني الجديد أسلوب السجع وما يطوى فيه من زخارف البديع.
ــــــــــــــــــــــــ
(1) مروج الذهب للمسعودي 4/ 70.
(2) المحاسن والأضداد ص 285.
(3) غرر الخصائص الواضحة ص 447.
(4) طبقات الشعراء لابن المعتز ص 398.
(5) زهر الآداب 1/ 241.
(6) جمهرة رسائل العرب 4/ 159.
(7) زهر الآداب 2/ 165.
(8) زهر الآداب 1/ 291.
(9) زهر الآداب 3/ 95.
(10) الفهرست ص 185.
(11) عيون الأخبار 3/ 105 وزهر الآداب 3/ 382.
(12) جمهرة رسائل العرب 4/ 248.
(13) معجم الأدباء 3/ 62.
(14) جمهرة رسائل العرب 4/ 344.
(15) جمهرة رسائل العرب 4/ 350.
(16) زهر الآداب 1/ 207.
(17) أشعار أولاد الخلفاء للصولي ص 292.
(18) الصولي ص 290.
(19) الصولي ص 291.
(20) الصولي ص 294.
(21) الصولي ص 292 وزهر الآداب. 2/ 32.
(22) زهر الآداب 1/ 207 وجمهرة رسائل العرب 4/ 403.
(23) أنهض هنا: بعث على الرحيل.
(24) العذر: جمع عذار وهو من اللجام ما سال على عد؟ ؟ ؟ الفرس. الشنوف: جمع شنف وهو القرط.
(25) مروج الذهب 4/ 222.