أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-01-2015
3027
التاريخ: 2024-04-18
714
التاريخ: 29-4-2016
3305
التاريخ: 5-01-2015
3372
|
كان مجلس معاوية في هذه الليلة على غير انتظام، فقد كانت تسوده الكآبة، ويبدو على معاوية شيء من الاضطراب، وحوله أشياعه ومرتزقته، وقد طفح عليهم الوجوم، لقد أحكموا الخطة في إثارة الناس في مصر على والي الإمام علي (عليه السلام) محمد بن أبي بكر، بحجة الثأر إلى دم عثمان، حتما سينتهي الأمر بقتل الوالي.
لكن النتيجة لم تسعد معاوية بقدر ما أربكته، فهو وإن كان قد خطط لقتل أحد السواعد الشامخة لعلي (عليه السلام) محمد بن أبي بكر، لكن ما ترامى إليه من الخبر أخذ يقض مضجعه.
فقد عرف أن عليا (عليه السلام) قرر إرسال مالك الأشتر إلى مصر ليحميها من سطوة معاوية وكتب إليه كتابا جاء فيه: أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين، وأقمع به نخوة الأثيم وأسد به الثغر المخوف، وقد كنت وليت محمد ابن أبي بكر مصر فخرجت عليه خوارج.. .
ضاق معاوية بهذا البناء؛ وجمع أهل الرأي من أصحابه؛ ليوحدوا رأيهم في هذا الموضوع، فإن تولية الأشتر أهم بكثير من أمر محمد، وهو بعد لم يغرب عن باله موقفه أمس في صفين وبلاءه، وتضحيته، وتفانيه في سبيل الحق، كما لم تغرب عنه خطبته في ذلك اليوم، وهو على فرس أدهم وقد استعد للقتال، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال: ثم قد كان مما قضى الله سبحانه وقدر، أن ساقتنا المقادير إلى أهل هذه البلدة من الأرض، فلفت بيننا وبين عدو الله وعدونا، فنحن بحمد الله ونعمه ومنه وفضله، قريرة أعيننا، طيبة أنفسنا، نرجو بقتالهم حسن الثواب، والأمن والعقاب، معنا ابن عم نبينا، وسيف من سيوف الله علي بن أبي طالب، صلى مع رسول الله، لم يسبقه إلى الصلاة ذكر، حتى كان شيخا لم تكن له صبوة، ولا نبوة، ولا هفوة، ولا سقطة، فقيه في دين الله تعالى، عالم بحدود الله، ذو رأي أصيل، وصبر جميل، وعفاف قديم، فاتقوا الله، وعليكم بالحزم والجد.
واعلموا أنكم على الحق، وأن القوم على الباطل، إنما تقاتلون معاوية، وأنتم مع البدريين، وقريب من مائة بدري سوى من حولكم من أصحاب محمد، أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله، فما يشك في قتال هؤلاء إلا ميت القلب، أنتم على إحدى الحسنيين: أما الفتح، وأما الشهادة، عصمنا الله وإياكم بما عصم به من أطاعه واتقاه، وألهمنا وإياكم طاعته وتقواه، وأستغفر الله لي ولكم .
أبداً لم تغرب عن ذهن معاوية هذه الخطبة، وأمثالها، تلك التي هدر بها ابن الأشتر محرضا المسلمين، على معاوية ودافعا على قتاله، لأنه يعتقد جازما أنه على الحق، وأن من يعادي إمامه على الباطل.
مالك الأشتر من الأفراد القلائل الذين حملوا راية الجهاد بإخلاص عقيدة ضد معاوية، ولم يكن بالجديد هذا منه، فهو ممن شايع عليا، وصاحبه، واختص به من يومه الأول.
وهو الذي يتحدث في يوم مع أخيه، في عقيدة عمار بن ياسر في فضل علي، ويذكر قول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه: يا علي لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا .
وهذان المؤمنان هما خير من وعى، وأدركا هذا الحديث وتفهما حقيقته، وآمنا به.
وهو إلى جانب هذا كما وصفه الواصفون: فارس لا يقابل، وشجاع أرهق مبارزيه، ومحنك يخضع له أهل الرأي، وجلد لا يدانيه جلد، ومؤمن بأمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى درجة الوثوق، وشديد التحقق بولائه ونصره له، حتى أن الإمام نفسه قال بعد موته: رحم الله مالكا، فلقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)..
وهو كما وصفه الإمام لأهل مصر: فقد بعثت إليكم عبدا من عباد الله، لا ينام أيام الخوف ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع، أشد على الفجار من حريق النار، فاسمعوا له وأطيعوا أمره، فإنه سيف من سيوف الله، لا كليل الظبة، ولا نابي الضريبة، فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، وإن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم ولا يحجم، ولا يؤخر، ولا يقدم إلا عن أمري، وقد آثرتكم به على نفسي لنصيحته لكم، وشدة شكيمته على عدوكم.. .
وأقبل السحر، وعينا معاوية لم تغمض، يرتاع كلما مر على ذهنه شيء من أقوال علي في حق الأشتر، ويلتاع، كلما تذكر قولا للأشتر في حق علي، وهو ما بين هذا وهذا قلب جازع وفكر متمزق.
وكلما حاول السمار أن يخففوا من قلقه، فشلت المحاولات وتبددت الخطط، لا شيء يخفف من لوعة أبي يزيد إلا أن يدفع عنه هذا الخطر، ويبعد الأشتر عن مصر، فله في تلك الدنيا مطامع، وله فيها مآرب، وكيف السبيل ولابد من إيجاد السبيل، ولماذا لا يشري ضمائر المرتزقة، والذين يعمدون للباطل فيغترفوا منه.
والتفت إلى ابن العاص، وهذا لا يقل طمعا بولاية مصر وخراج مصر، وحكم مصر، وإذا كان أمر الأشتر قد أقض مضجع معاوية، ففي الوقت نفسه أرق ابن العاص، فقد بذل جهدا لدى معاوية، حتى دفعه على إثارة مصر على ابن أبي بكر، صاحب علي وأحد سواعده.
أما الآن، فإن ابن الأشتر الغاية القصوى، الرجل الذي لا تلوى له شكيمة في المواقف العارمة، والقائد الذي لا يلين في سبيل عقيدته، فلابد من حزم وجد.
والتقت الغايتان، أو بالأصح: مطامح الرجلين، ولابد من حزم وجد ليكون الأشتر، وإمامه أبي تراب ومحمد بن أبي بكر في ظلمة من أمر مصر.
وصرخ معاوية في ابن العاص، وهو يمسح عرقه من على جبهته المثقلة بالهموم: تكلم يا أبا محمد، هل انتهيت إلى رأي؟ أين دهاءك، يحسدني الناس عليك، وأنت في الزخم لا حس..
ويزعج هذا التأنيب ابن العاص، أبدا لم يكن في يوم لمعاوية في معزل، إنما معه على طول، وليس له في غير معاوية ملجأ، فعلي لا يجمع من حوله إلا الذين أخلصوا لدينهم، وبذلوا نفوسهم لعقيدتهم، أما الذين لا دين لهم فلا مجال لهم عند علي.
وابن العاص لا دين له كما يقول هو نفسه، فقد نقلت الرواية: إن ابن العاص لما حضرته الوفاة أخذ يبكي، فقال له ابنه: لم تبكي أجزعا من الموت؟ قال: لا والله، ولكن لما بعده.
قال: قد كنت على خير فجعل يذكره صحبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفتوحه الشام.
فقال عمرو: تركت أفضل من ذلك كله، شهادة أن لا إله إلا الله(1).
ولم يكن هذا فقط، فقد دخل عليه ابن عباس، وهو مريض فقال له: كيف أصبحت؟
قال: أصبحت وقد أصلحت من دنياي قليلا، وأفسدت من ديني كثيرا، فلو كان ما أصلحت هو ما أفسدت لفزت، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان ينجني أن أهرب هربت..(2).
وكل شيء يهون إلا الأشتر، فإنه معروف عندهم، قوة هذا المخلص، وجرأته في ذات الله، ولو وصل مصر، ووضع فيها قدمه، لم يبق لآل أبي سفيان أي أمل فيها..
وعمرو خير من يعرف أسلوب المؤامرات، وطرقها، وقد شد معاوية آماله على ما ينتهي إليه فكر هذا الرجل، ومعاوية يخطب: أيها الناس، إن عليا قد وجه الأشتر إلى مصر، فادعوا الله أن يكفيكموه، فكانوا يدعون عليه في دبر كل صلاة حتى مات الأشتر.
ومر السحر، وأقبل الفجر، وكؤوس الخمرة تلعب في رأس الرجلين، وكلما توغلا في أمر هذا الوالي الجديد ازدادا احتساء وولوغا بالخمرة..
وأخيرا اهتدى ابن العاص لرأي وصاح بفرح، والخمرة تدأب في رأسه قال: إن فلانا وهو صاحب حاجة عندك احمله على اغتياله.
ولم يمض حتى كان رسول معاوية على وشك الانطلاق يحمل معه رسالته إلى ذلك الشخص، يقول فيه: إن الأشتر قد ولي مصر، فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت، فاحتل في هلاكه ما قدرت عليه.
وأكد على الرسول أن يجد السير، ولا يضع رحله إلا في دار صاحبه، وساعة الانتظار عمر ـ كما يقولون ـ : ولكن ابن العاص كان متأكدا أن الذي اختاره للمهمة يقوم بتنفيذها مهما كلفه الأمر، ففي بعض الروايات إن الذي دس السم للأشتر هو مولى عمرو.
ولم تمر الأيام دون أن تحمل البشائر لمعاوية، والعزاء لعلي (عليه السلام) فقد سم الأشتر، بأي لون كان، واحتضنت مدينة القلزم في مصر جثمان التابعي العظيم في عام 37 هـ .
وبلغ الخبر أسماع معاوية، فنادى بالناس، واجتمعوا إليه، فقام فيهم خطيبا، وقال فيما قال: أما بعد فإنه كانت لعلي بن أبي طالب يدان، قطعت إحداها يوم صفين وهو عمار بن ياسر، وقطعت الأخرى اليوم وهو مالك الأشتر..
كما بلغ الخبر أسماع علي (عليه السلام) فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين، اللهم إني احتسبته عندك، فإن موته من مصائب الدهر..
ثم قال: رحم الله مالكا، فقد كان وفي بعهده، وقضى نحبه، ولقي ربه، مع إنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنها من أعظم المصائب .
ذكرت الرواية: دخل جماعة على الإمام حين بلغه موت الأشتر فوجدوه يتلهف ويتأسف عليه، ثم قال: لله در مالك، وما مالك لو كان من جبل لكان فندا(3) ولو كان من حجر لكان صلدا، أما والله ليهدن موتك عالما وليفرحن عالما، على مثل مالك فليبك البواكي وهل موجود كمالك؟ .
يقول علقمة بن قيس النخعي: فما زال علي يتلهف، ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب دوننا، وعرف ذلك في وجهه أياما..
وإذا كان مالك قد طوى القبر أضلاعه عليه، ورقص معاوية جذلانا، وفرحا بما ناله من بغيته، وتعملقت أطماع ابن العاص تركض إلى مصر لتتربع على عرش حكمه.
لكنه لم يخمد ذكره، ولم يهدأ عطر سيرته، فقد استمر يشق السنين كالقمر، لا تغيب أنواره حفنة سحاب.
وانطمر ذكر معاوية، بطل آل أبي سفيان، وانمحت آثارهم، ولم يبق لهم إلا السب واللعن.
فرحم الله مالكا، ورفع ذكراه نورا يضيء دروب الحرية والصمود والعقيدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1 ـ 2) نقل هذا الذهبي في تأريخ الإسلام: ج1، ص239 وأبو يوسف الكندي في الولاة والقضاة: ص 33 .
(3) الفند، بالكسر: القطعة العظيمة من الجبل.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|