أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-11-2017
4255
التاريخ: 25-3-2021
2124
التاريخ: 4-4-2021
15199
التاريخ: 25-3-2021
9129
|
قال تعالى : {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام : 63 - 67] .
قال تعالى : {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام : 63 - 64] .
عاد سبحانه إلى حجاج الكفار ، فقال : {قُلْ} يا محمد لهؤلاء الكفار {مَنْ يُنَجِّيكُمْ} أي : يخلصكم ، ويسلمكم {مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} أي : من شدائدهما وأهوالهما عن أبن عباس . قال الزجاج : العرب تقول لليوم الذي فيه شدة : يوم مظلم ، حتى إنهم يقولون : يوم ذو كواكب أي : قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل ، وأنشد : بني أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوم ذو كواكب أشهب وقال آخر : فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا وقال غيره : أراد ظلمة الليل ، وظلمة الغيم ، وظلمة التيه ، والحيرة ، في البر والبحر ، فجمع لفظه ، ليدل على معنى الجمع {تَدْعُونَهُ} أي : تدعون الله عند معاينة هذه الأهوال {تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} أي : علانية وسرا ، عن ابن عباس ، والحسن .
وقيل : معناه تدعونه مخلصين متضرعين تضرعا بألسنتكم ، وخفية في أنفسكم ، وهذا أظهر {لَئِنْ أَنْجَانَا} أي . في أي شدة وقعتم ، قلتم لئن أنجيتنا {مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لإنعامك علينا ، وهذا يدل على أن السنة في الدعاء التضرع والإخفاء .
وقد روي عن النبي (صلَّ الله عليه وآله وسلم) أنه قال : خير الدعاء الخفي ، وخير الرزق ما يكفي ومر بقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء ، فقال : إنكم لا تدعون أصم ، ولا غائبا ، وإنما تدعون سميعا قريبا !! {قُلْ} يا محمد {اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ} أي : ينعم عليكم بالنجاة ، والفرج ، ويخلصكم {مِنْهَا} أي : من هذه الظلمات {وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ} أي : ويخلصكم الله من كل غم {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} بالله تعالى بعد قيام الحجة عليكم ، ما لا يقدر على الإنجاء من كل كرب ، وإن خف .
- {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام : 65] .
ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الحجج التي حاج بها الكافرين ، ونبه على الإعذار والإنذار ، فقال {قل} يا محمد لهؤلاء الكفار {هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ} أي : يرسل {عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قيل : فيه وجوه أحدها : إن {عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} : عنى به الصيحة ، والحجارة ، والطوفان والريح ، كما فعل بعاد ، وثمود ، وقوم شعيب ، وقوم لوط . {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} عنى به الخسف ، كما فعل بقارون ، عن سعيد بن جبير ، ومجاهد . وثانيها : أن المراد بقوله : {مِنْ فَوْقِكُمْ} أي ! من قبل كباركم ، أو {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} . من سفلتكم ، عن الضحاك . وثالثها : إن {مِنْ فَوْقِكُمْ} السلاطين الظلمة ، و {مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} ؟ العبيد السوء ، ومن لا خير فيه ، عن ابن عباس ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام .
{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} أي : يخلطكم فرقا مختلفي الأهواء ، لا تكونوا شيعة واحدة . وقيل : هو أن يكلهم إلى أنفسهم ، فلا يلطف لهم اللطف الذي يؤمنون عنده ، ويخليهم من ألطافه بذنوبهم السالفة ، وقيل : عنى به يضرب بعضكم ببعض ، بما يلقيه بينكم من العداوة والعصبية ، وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} أي : قتال بعضي ، وحرب بعض ، ومعناه يقتل بعضكم بعضا ، حتى يفني بعضكم بعضا ، كما قال : {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وقيل : هو سوء الجوار ، عن أبي عبد الله عليه السلام .
وقال الحسن : التهديد بإنزال العذاب ، والخسف ، يتناول الكفار ، وقوله : {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} يتناول أهل الصلاة ، وقال . قال رسول الله (صلَّ الله عليه وآله وسلم) : " سألت ربي أن لا يظهر على أمتي أهل دين غيرهم فأعطاني ، وسألته أن لا يهلكهم جوعا فأعطاني ، وسألته أن لا يجمعهم على ضلالة فأعطاني ، وسألته أن لا يلبسهم شيعا فمنعني " ، وفي تفسير الكلبي : إنه لما نزلت هذه الآية قام النبي (صلَّ الله عليه وآله وسلم) فتوضأ ، وأسبغ وضوءه ، ثم قام وصلى ، فأحسن صلاته ، ثم سأل الله سبحانه أن لا يبعث على أمته عذابا من فوقهم ، ولا من تحت أرجلهم ، ولا يلبسهم شيعا ، ولا يذيق بعضهم بأس بعض ، فنزل جبرائيل عليه السلام فقال : يا محمد! إن الله تعالى سمع مقالتك ، إنه قد أجارهم من خصلتين ، ولم يجرهم من خصلتين : أجارهم من أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم ، أو من تحت أرجلهم ، ولم يجرهم من الخصلتين الأخريين .
فقال (صلَّ الله عليه وآله وسلم) : يا جبرائيل اما بقاء أمتي مع قتل بعضهم بعضا؟ فقام ، وعاد إلى الدعاء ، فنزل : {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت : 1، 2] الآيتين . فقال : لا بد من فتنة تبتلى بها الأمة بعد نبيها ، ليتبين الصادق من الكاذب ، لأن الوحي انقطع وبقي السيف ، وافتراق الكلمة إلى يوم القيامة .
وفي الخبر أنه (صلَّ الله عليه وآله وسلم) قال : إذا وضع السيف في أمتي ، لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ! وقال أبي بن كعب : " سيكون في هذه الأمة بين يدي الساعة خسف ، وقذف ، ومسخ " .
ثم أكد سبحانه الإحتجاج عليهم بقوله : {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ} أي : أنظر يا محمد ، كيف نردد الآيات ، ونظهرها مرة بعد أخرى ، بوجوه أدلتها ، حتى تزول الشبه {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} أي : لكي يعلموا الحق فيتبعوه ، والباطل فيجتنبوه ، وإذا كان البعث في الآية محمولا على التسليط ، فالمراد به التمكين ، ورفع الحيلولة دون أن يفعل سبحانه ذلك ، أو يأمر به ، تعالى الله عن ذلك وفي هذه الآية دلالة على أنه سبحانه قادر على ما المعلوم أنه لا يفعله .
- {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام : 66- 67] .
لما ذكر سبحانه تصريف الآيات ، قال عقيب ذلك : {وَكَذَّبَ بِهِ} أي : بما نصرف من الآيات ، عن الجبائي ، والبلخي وقال الأزهري : الهاء يعود إلى القرآن ، وهو قول الحسن ، وجماعه . {قَوْمُكَ} يعني : قريشا والعرب {وَهُوَ الْحَقُّ} أي : القرآن ، أو تصريف الآيات حق ؟ بمعنى أنه يدل على الحق ، وأن ما فيه حق . ثم بين سبحانه أ ن عاقبه تكذيبهم يعود عليهم ، فقال : {قُلْ} يا محمد : {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي : لم أؤمر بمنعكم من التكذيب بآيات الله ، وأن أحفظكم من ذلك ، وأحول بينكم وبينه ، لأن الوكيل على الشيء هو القائم بحفظه ، والذي يدفع الضرر عنه ، عن الجبائي . وقيل : معناه لست بحافظ لأعمالكم لأجازيكم بها ، إنما أنا منذر ، والله سبحانه هو المجازي ، عن الحسن . وقيل : معناه لم أؤمر بحربكم ، ولا أخذكم بالأيمان ، كما يأخذ الموكل بالشيء الذي يلزم بلوغ آخره ، عن الزجاج .
{لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} أي : لكل خبر من أخبار الله ورسوله حقيقة كائنة ، إما في الدنيا ، وإما في الآخرة ، عن ابن عباس ، ومجاهد . وقيل : معناه لكل خبر قرار على غاية ينتهي إليها ، ويظهر عندها . قال السدي : استقر يوم بدر ما كان يعدهم من العقاب ، وسمي الوقت مستقرا ، لأنه ظرف للفعل الواقع فيه . وقيل : معناه لكل عمل مستقر عند الله حتى يجازي به يوم القيامة ، عن الحسن {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} فيه وعيد وتهديد لهم : إما بعذاب الآخرة ، وإما بالحرب ، وأخذهم بالأيمان شاؤوا أو أبو ، وتقديره : وسوف تعلمون ما يحل بكم من العذاب ، وحذف لدلالة الكلام عليه .
____________________________
1. تفسير مجمع البيان ، ج4 ، ص 76-81 .
{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ والْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وخُفْيَةً} . ظلمات البر والبحر كناية عما يلاقيه الإنسان من الشدائد والآلام في حله وترحاله برا وبحرا ، ونعطف عليهما جوا بعد أن صرنا في عصر الفضاء ، وهو أكثر خطرا من البر والبحر ، والمعنى : سل أيها الرسول المشركين والجاحدين ، سلهم : لمن يلجئون في ساعة العسرة ، ويتضرعون في سرهم وعلانيتهم ، هل يلجئون إلى اللَّه ، أو إلى من يعبدون من دونه ؟ .
وقلنا عند تفسير الآية 41 من هذه السورة : ان الفطرة تدرك خالقها تلقائيا ، ولكن حجاب التقليد والأهواء يمنع شعاعها عن العيان ، وعند الشدائد يتقشع هذا الحجاب ، وينطق الإنسان بفطرته النقية الصافية . ولا أحد ينجو من هذه الشدائد كائنا من كان ، حتى المعافى يخشى الغوائل ، ويخاف من سوء العاقبة إذا كان عاقلا ، قال الإمام علي (عليه السلام) : ما المبتلى الذي اشتد به البلاء بأحوج إلى الدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء .
{لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} . أي انهم يخلصون للَّه وحده عند الشدة والخوف ، ويقطعون العهود على أنفسهم أن يوحدوا اللَّه ويشكروه إذا أنجاهم من ظلمات البر والبحر ، فإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا وبغوا ، وقد أثبت العلم ان ضعف الشخصية والإرادة يتكيف مع الظروف ، تماما كالماء يتلون بلون الإناء .
{قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها ومِنْ كُلِّ كَرْبٍ} فكان عليكم أن تعظموا نعمة اللَّه وتشكروها {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} ولكنكم بعد أن أنعم عليكم بالنجاة بدلتم نعمة اللَّه كفرا وشركا .
{قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} كالصواعق والطوفان {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} كالخسوف والزلازل {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أي يخلطكم أو يجعلكم أحزابا متطاحنة لا تقوم لكم معها قائمة ، أو يجعل الواحد منكم في حرب وخصام مع نفسه يرضى مساء عما غضب عليه صباحا ، وبالعكس ، فتضطرب حاله ، ولا يستقيم له أمر {ويُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} . أي يقتل بعضكم بعضا {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} . ان اللَّه سبحانه يقيم للناس الحجج والدلائل الواضحة على الحق من الحس والعقل والوجدان ، ويضرب الأمثال من هذه بشتى الأساليب ، ليعرفوا الحق فيتبعوه ، والباطل فيجتنبوه ، ومن خالف قامت عليه الحجة ، واستحق العذاب .
{وكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وهُوَ الْحَقُّ} . الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله) ، وضمير به يعود إلى القرآن الناطق بالدلائل والبينات ، وبعذاب من كذّب بها {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} . بل بشير ونذير يبلغ ما أرسل به ، ويترك أمر الحساب والعقاب للَّه وحده .
{لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ} . يجوز أن يكون المستقر موضع استقرار الشيء ، أو وقت استقراره ، والمعنى ان لكل خبر يخبره اللَّه زمانا أو مكانا بقع فيه من غير خلف {وسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أوان وقوعه ، وفيه تهديد ووعيد على تكذيب الحق .
____________________________
1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 203-205 .
قوله تعالى : {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ} إلى آخر الآية كأن المراد بالتنجية من ظلمات البر والبحر هو التخليص من الشدائد التي يبتلى بها الإنسان في خلال الأسفار إذا ضرب في الأرض أو ركب البحر كالبرد الشديد والأمطار والثلوج وقطاع الطريق والطوفان ونحو ذلك ، وأشق ما يكون ذلك على الإنسان في الظلمات من ليل أو سحاب أو ريح تثير عجاج الأرض فيزيد في اضطراب الإنسان وحيرته وضلاله طريق الاحتيال لدفعه ، ولذلك علقت التنجية على الظلمات ، وكان أصل المعنى الاستفهام عمن ينجي الإنسان من الشدائد التي يبتلى بها في أسفاره في البر والبحر فأضيفت الشدائد إلى البر والبحر بعناية الظرفية ثم أضيفت إلى ظلمات البر والبحر لأن للظلمات تأثيرا تاما في تشديد هذه المكاره ، ثم حذفت الشدائد وأقيمت الظلمات مقامها فعلقت التنجية عليها فقيل : ينجيكم من ظلمات البر والبحر .
وإنما خصت الظلمات بالذكر وإن كان المنجي من كل مكروه وغم هو الله سبحانه كما يذكره في الآية التالية لأن أسفار البر والبحر معروف عند الإنسان بالعناء والوعثاء والكريهة .
والتضرع إظهار الضراعة وهو الذل والخضوع على ما ذكره الراغب ، ولذلك قوبل بالخفية وهو الخفاء والاستتار فالتضرع والخفية في الدعاء هما الإعلان والإسرار فيه ، والإنسان إذا نزلت به المصيبة يبتدئ فيدعو للنجاة بالإسرار والمناجاة ثم إذا اشتدت به ولاح بعض آثار اليأس والانقطاع من الأسباب لا يبالي بمن حوله ممن يطلع على ذلته واستكانته فيدعو بالتضرع والمناداة ففي ذكر التضرع والخفية إشارة إلى أنه تعالى هو المنجي من مصائب البر والبحر شديدتها ويسيرتها .
وفي قوله : {لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} إشارة إلى أن الإنسان يضيف في هذه الحالة التي يدعو لكشفها إلى دعائه عهدا يقدمه إلى ربه ووعدا يعده به أن لو كشف الله عنه ليكونن من الشاكرين ويرجع عن سابق كفره .
أصل هذه العدة مأخوذ من العادة الجارية بين أفراد الإنسان بعضهم مع بعض فإن الواحد منا إذا أعيته المذاهب وأحاطت به البلية من مصيبة قاصمة أو فقر أو عدو واستغاث لكشف ما به من كرب إلى أحد الأقوياء القادرين على كشفه بزعمه وعده بما يطيب به نفسه ويقوي باعث عزيمته وفتوته ، وذلك بثناء جميل أو مال أو طاعة أو وفاء كل ذلك لما أن الأعمال الاجتماعية التي تدور بيننا كلها معاملات قائمة بطرفين يعطي فيها الإنسان شيئا ويأخذ شيئا لأن الحاجة محيطة بالإنسان ليس له أن يعمل عملا أو يؤثر أثرا إلا لنفع عائد إلى نفسه ، ومثله سائر أجزاء الكون .
لكن الله سبحانه أكرم ساحة أن تمسه حاجة أو يطرأ عليه منقصة لا يفعل فعلا إلا ليعود نفعه إلى غيره من خليقته فوجه التوحيد في مقابلة الإنسان له بوعد الشكر والطاعة في دعائه الفطري هو أن الإنسان إذا نزلت به النازلة ، وانقطعت عنه الأسباب وغابت عن مسرح نظره وسائل الخلاص وجد أن الله سبحانه هو السبب الوحيد الذي يقدر على كشف ما به من غم ، وأنه الذي يدبر أمره منذ خلقه ويدبر أمر كل سبب فوجد نفسه ظالما مفرطا في جنب الله سبحانه لا يستحق كشف الغم ورفع الحاجة من قبله تعالى لما كسبت يداه من السيئات ، وحملت نفسه من وبال الخطيئة فعندئذ يعد ربه الشكر والطاعة ليصحح ذلك استحقاقه لاستجابة دعائه وكشف ضره .
ولذلك نجده أنه إذا نجي مما نزل به النائبة ذهب لوجهه ناسيا لما عهد به ربه ووعده من الشكر كما قال تعالى في ذيل الآية التالية : {ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} .
قوله تعالى : {قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} قال الراغب في مفرداته : ، الكرب الغم الشديد ، قال تعالى : {وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} والكربة كالغمة ، وأصل ذلك من كرب الأرض بسكون الراء وهو قلبها بالحفر فالغم يثير النفس إثارة ذلك وقيل في مثل : الكراب على البقر وليس ذلك من قولهم : الكلاب على البقر ، في شيء ، ويجوز أن يكون الكرب من كربت الشمس إذا دنت للمغيب ، وقولهم : إناء كربان أي قريب نحو قربان أي قريب من الملء ، أو من الكرب [بفتحتين] وهو عقد غليظ في رشا الدلو ، وقد يوصف الغم بأنه عقد على القلب يقال : أكربت الدلو ، انتهى .
وقد أضيف في هذه الآية كل كرب إلى ظلمات البر والبحر ليعم الجميع فإن إنسانا ما لا يخلو في مدى حياته من شيء من الكروب والغموم فالمسألة والدعاء عام فيهم سواء أعلنوا به أو أسروا .
فملخص المراد بالآية أنكم في الشدائد النازلة بكم في ظلمات البر والبحر وغيرها إذا انقطعتم عن الأسباب الظاهرة وأعيت بكم الحيل تشاهدون بالرجوع إلى فطرتكم الإنسانية أن الله سبحانه هو ربكم لا رب سواه وتجزمون أن عبادتكم لغيره ظلم وإثم والشاهد على ذلك أنكم تدعونه حينئذ تضرعا وخفية ، وتعدونه أن تشكروه بعد ذلك ولا تكفروا به إن أنجاكم لكنكم بعد الإنجاء تنقضون ميثاقكم الذي واثقتموه به وتستمرون على سابق كفركم ، ففي الآيتين احتجاج على المشركين وتوبيخ لهم على حنث اليمين وخلف الوعد .
قوله تعالى : {قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ} إلى آخر الآية ، قال الراغب في المفردات ، : أصل البعث إثارة الشيء وتوجيهه يقال : بعثته فانبعث ، ويختلف البعث بحسب اختلاف ما علق به فبعثت البعير أثرته وسيرته ، وقوله عز وجل : {وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ} أي يخرجهم ويسيرهم إلى القيامة ـ إلى أن قال ـ فالبعث ضربان : بشري كبعث البعير وبعث الإنسان في حاجة ، وإلهي وذلك ضربان : أحدهما : إيجاد الأعيان والأجناس والأنواع عن ليس وذلك يختص به الباري تعالى ولم يقدر عليه أحد ، والثاني إحياء الموتى وقد خص بذلك بعض أوليائه كعيسى عليه السلام وأمثاله ، انتهى .
وبالجملة في لفظه شيء من معنى الإقامة والإنهاض ، وبهذه العناية يستعمل في التوجيه والإرسال لأن التوجيه إلى حاجة والإرسال نحو قوم يكون بعد سكون وخمود غالبا ، وعلى هذا فبعث العذاب لا يخلو من إشعار على أنه عذاب من شأنه أن يتوجه إليهم ويقع بهم ، وإنما يمنع عن هذا الاقتضاء مانع كالإيمان والطاعة ، وللكلام تتمة سنوافيك .
وقال في المجمع ، : لبست عليهم الأمر ألبسه إذا لم أبينه وخلطت بعضه ببعض ولبست الثوب ألبسه ، واللبس اختلاط الأمر واختلاط الكلام ، ولابست الأمر خالطته ، والشيع الفرق ، وكل فرقة شيعة على حدة ، وشيعة فلان تبعته ، والتشيع الاتباع على وجه التدين والولاء ، انتهى .
وعلى هذا فالمراد بقوله : {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} أن يضرب البعض بالبعض ويخلط حال كونهم شيعا وفرقا مختلفة .
فقوله : {قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} ظاهره إثبات القدرة لله سبحانه على بعث العذاب عليهم من فوق أو من تحت ، والقدرة على الشيء لا تستلزم فعله ، وهو أعني إثبات القدرة على الفعل الذي هو العذاب كاف في الإخافة والإنذار لكن المقام يعطي أن المراد ليس هو إثبات مجرد القدرة بل لهم استحقاق لمثل هذا العذاب ، وفي العذاب اقتضاء أن ينبعث عليهم إن لم يجتمعوا على الإيمان بالله وآياته كما مر من استفادة ذلك من معنى البعث ، ويؤيده قوله بعد : {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} فإنه تهديد صريح .
على أنه تعالى يهدد هذه الأمة صريحا بالعذاب في موارد مشابهة لهذا المورد من كلامه كقوله تعالى : {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ـ إلى أن قال ـ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} الآيات [يونس : 47 ـ 53] وقوله : {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} إلى آخر الآيات : [الأنبياء : 93 ـ 97] وقوله تعالى : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً ـ إلى أن قال ـ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً} إلى آخر الآيات : [الروم : 30 ـ 45] .
وقد قيل : إن المراد بالعذاب الذي من فوقهم هو الصيحة والحجارة والطوفان والريح كما فعل بعاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط ، وبالذي من تحت أرجلهم الخسف كما فعل بقارون ، وقيل : إن المراد بما من فوقهم العذاب الآتي من قبل كبارهم أو سلاطينهم الجبابرة وبما من تحت أرجلهم ما يأتيهم من قبل سفلتهم أو عبيدهم السوء ، وقيل : المراد بما من فوق وبما من تحت الأسلحة النارية القتالة التي اخترعها البشر أخيرا من الطيارات والمناطد التي تقذف القنابل المحرقة والمخربة وغيرها ومراكب تحت البحر المغرفة للسفائن والباخرات فإن الإنذار إنما وقع في كلامه تعالى وهو أعلم بما كان سيحدث في مملكته .
والحق أن اللفظ مما يقبل الانطباق على كل من المعاني المذكورة وقد وقع بعد النزول ما ينطبق عليه اللفظ ، والمحتد الأصلي لهذه الوقائع الذي مهد لها الطريق هو اختلاف الكلمة والتفرق الذي بدأت به الأمة وجبهت به النبي صلى الله عليه وآله فيما كان يدعوهم إليه من الاتفاق على كلمة الحق ، وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم .
قوله تعالى : {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} ظاهره أنه أريد به التحزبات التي نشأت بعد النبي صلى الله عليه وآله ، فأدى ذلك إلى حدوث مذاهب متنوعة ألبست لباس العصبية والحمية الجاهلية واستتبعت حروبا ومقاتل يستبيح كل فريق من غيره كل حرمة ويطرده بمزعمته من حرمة الدين وبيضة الإسلام .
وعلى هذا فقوله : {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ} إلخ ، عذاب واحد لا عذابان وإن أمكن بوجه عد كل من إلقاء التفرق في الكلمة وإذاقة البعض بأس بعض عذابا مستقلا برأسه فللتفرقة بين الأمة أثر سوء آخر وهو طرو الضعف ونفاد القوة وتبعض القدرة لكن المأخوذ في الآية المعدود عذابا أعني قوله : {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ} إلخ ، حينئذ بالنسبة إلى مجرد إلقاء الاختلاف بمنزلة المقيد بالنسبة إلى المطلق ، ولا يحسن مقابلة المطلق بالمقيد إلا بعناية زائدة في الكلام ، على أن العطف بواو الجمع يؤيد ما ذكرناه .
فبالجملة معنى الآية : قل يا رسول الله مخاطبا لهم منذرا لهم عاقبة استنكافهم عن الاجتماع تحت لواء التوحيد واستماع دعوة الحق إن لشأنكم هذا عاقبة سيئة في قدرة الله سبحانه أن يأخذكم بها وهو أن يبعث عليكم عذابا لا مفر لكم منه ولا ملاذ تلوذون به وهو العذاب من فوقكم أو من تحت أرجلكم ، أو أن يضرب بعضكم ببعض فتكونوا شيعا وفرقا مختلفين متنازعين ومتحاربين فيذيق بعضكم بأس بعض ، ثم تمم البيان بقوله خطابا لنبيه : {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} ، والمعنى ظاهر .
قوله تعالى : {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} قوم النبي صلى الله عليه وآله هم قريش أو مضر أو عامة العرب والمستفاد من فحوى بعض كلامه تعالى في موارد أخر أن المراد بقومه صلى الله عليه وآله هم العرب كقوله : {وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ ، فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ ، كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ، لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ ، فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الشعراء : 202] وقوله : {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم : 4] .
وكيف كان فقوله : {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ} بمنزلة التمهيد لتحقيق النبإ الذي يتضمنه الإنذار السابق كأنه قيل : يا أيتها الأمة اجتمعوا في توحيد ربكم واتفقوا في اتباع كلمة الحق وإلا فلا مؤمن يؤمنكم عذابا يأتيكم من فوق أو من تحت أو من اختلاف وتحزب يستتبع سيفا وسوطا من بعضكم على بعض ، ثم خوطب النبيصلى الله عليه وآله فقيل : إن قومك كذبوا بذلك فليستعدوا لعذاب بئيس أو بأس شديد يذوقونه .
ومن هنا يظهر أولا : أن الضمير في قوله : {وَكَذَّبَ بِهِ} راجع إلى العذاب كما نسبه الآلوسي إلى غالب المفسرين ، وربما قيل : إنه عائد إلى تصريف الآيات أو إلى القرآن وهو بعيد ، وليس من البعيد أن يرجع إلى النبإ باعتبار ما تشتمل عليه الآية السابقة .
وثانيا : أن هذا الخبر أعني قوله : {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ} بحسب ما يعطيه المقام في معنى ذكر أول خبر يمهد الطريق لنبإ موعود كأنه قيل : يجب على أمتك أن يجتمعوا على الإيمان بالله وآياته ويكونوا على تحرز وتحذر من أن يتسرب إليهم الكفر بالله وآياته ويدب فيهم اختلاف حتى لا ينزل عليهم عذاب الله سبحانه ثم قيل : إن قومك من بين جميع أمتك ومن عاصرك أو جاء من بعدك من أهل الدنيا بادروا إلى نقض ما كان يجب عليهم أن يبرموه وكذبوا النبأ فانثلم بذلك الأمر فسوف يعلمون ذلك أن المكذبين للنبي صلى الله عليه وآله أو للقرآن أو لهذا العذاب ليسوا هم الأعراب خاصة وهم قومه صلى الله عليه وآله بل كذبته اليهود وأمم من غيرهم في زمانه وبعده وكان تكذيبهم واختلافهم جميعا ذا أثر مثبت في ما هددوا به من العذاب فتخصيص تكذيب قومه بالذكر والحال هذه يفيد ما ذكرناه .
والبحث التحليلي عن نفسية المجتمع الإسلامي يؤيد هذا الذي استفدناه من الآية فإن ما ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم من الانحطاط في نفسيتهم والوهن في قوتهم والتشتت في كلمتهم ينتهي بحسب التحليل إلى ما نشأت من الاختلافات والمشاجرات في الصدر الأول بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله ثم يصعد ذلك إلى حوادث أول الهجرة وقبل الهجرة مما لقيه النبي من قومه ، وما جبهوه به من التكذيب وتسفيه الرأي .
وهؤلاء وإن تجمعوا حول راية الدعوة الإسلامية واستظلوا بظلها بعد ما ظهرت كلمة الحق وأنارت مشعلته لكن المجتمع الطيب الديني لم يصف من خبث النفاق ، وقد نطقت آيات جمة من القرآن الكريم بذلك ، وكان أهل النفاق لا يستهان بعددهم ومن المحال أن يسلم بنية المجتمع من سيء أثرهم في نفسية أجزائه ولم يقدر على هضمهم هضما تاما يحيلهم إلى أعضاء صالحة في المجتمع مدى حياة النبي صلى الله عليه وآله ، ولم يمكث وقودهم دون أن اشتعل ثم زاد اشتعالا ولم يزل ، والجميع يرجع إلى ما بدأ منه ، وكل الصيد في جوف الفراء .
وثالثا : أن قوله تعالى : {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} مسوق سوق الكناية أي أعرض عنهم وقل : إن أمركم غير مفوض إلي ولا محمول علي حتى أمنعكم من هذا التكذيب نصيحة لكم، وإنما الذي إلي بحسب مقامي أن أنذركم عذابا شديدا هو كمين لكم .
ومن هنا يظهر أيضا : أن قوله : {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} من مقول القول وتتمة قول النبي صلى الله عليه وآله لقومه كما يؤيده الخطاب في قوله : {وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} فإن القوم إنما هم في موقف الخطاب بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله لا بالنسبة إليه تعالى .
وقوله : {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تصريح بالتهديد وإنباء عن الوقوع الحتمي وقد ظهر مما تقدم وجه صحة خطاب المشركين بما سيبتلى به الأمة الإسلامية من تفرق الكلمة ونزول الشدة فإن الأعراق تنتهي إليهم وليس الناس إلا أمة واحدة يؤخذ آخرهم بما اكتسبه أولهم ويعود إلى أولهم ما يظهر في آخرهم علموا ذلك أو جهلوا ، أبصروا من أنفسهم ذلك أو عموا قال تعالى : {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ، فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ} [الدخان : 15] .
تدبر في الآيات كيف أخذ آخرهم بما أجرمه أولهم أو هي في عداد ما تقدم نقله من آيات سورة يونس والأنبياء والروم ، وفي القرآن الشريف شيء كثير من الآيات المنبئة عما سيوافي الأمة من وخيم العاقبة ووبال السيئة ثم إدراك العناية الإلهية ومن أسوأ التقصير إهمال الباحثين منا أمر البحث في هذه الآيات الكريمة على كثرتها وأهميتها وشدة مساسها بحال الأمة وسعادة جدها في دنياها وآخرتها .
___________________________
1. تفسير الميزان ، ج7 ، ص 113-119 .
قال تعالى : {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام : 63-64] .
النّور الّذي يضيء في الظلّام :
مرّة أخرى يأخذ القرآن بيد المشركين ويتوغّل بهم إلى أعماق فطرتهم ، وهناك في تلك الأغوار المحفوفة بالأسرار الغامضة يريهم نور التوحيد وعبادة الواحد الأحد ، فيقول للنبي (صلَّ الله عليه وآله وسلم) قل لهم : {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ؟
إنّ الظلام يكون حسيا أحيانا ومعنويا أحيانا أخرى ، الظلام الحسي هو الذي يكون عند انقطاع النّور انقطاعا تاما ، أو يضعف بحيث لا يرى شيء ، أو يرى بالجهد الجهيد ، والظلام المعنوي هو المشاكل والصعوبات ذات النهايات المظلمة الغامضة ، الجهل . . . الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية ، والانحرافات والفساد الأخلاقي التي لا يمكن التكهن بعواقبها السيئة ، أو التي تجر إلى التعاسة والشقاء . . . كلّها ظلام .
إنّ الظلام بذاته مخيف مثير للأوهام والتخيلات ، فهجوم الكثير من الحيوانات الخطرة وسطوة اللصوص والمجرمين يقع تحت جنح الظلام ، أنّ لكل امرئ ذكرياته عن هذه الحالات ، فعند هبوط الظلام تنشط الأوهام وتخرج منها الأشباح المرعبة ، فيستولي الخوف والهلع على العامّة من الناس .
الظلام من العدم ، والإنسان يهرب بطبيعته من العدم ويخافه ، ولهذا نراه يخاف الظلام .
وإذا حدثت في هذا الظلام حوادث واقعية مرعبة ، كأن يكون الإنسان مسافرا في البحر ، وتحاصره في ليلة ظلماء الأمواج الهائلة والدوامات المائية ، فإنّ خوفه من ذلك يكون أضعاف ما لو حدث ذلك بالنهار ، لأنّ الإنسان في مثل هذه الظروف يجد أبواب النجاة مسدودة في وجهه ، وهكذا لو كان في ليلة حالكة الظلام يسير في الصحراء فيضل الطريق ويسمع زمجرة الوحوش المفترسة من هنا وهناك وهي تبحث عن فريسة ، في مثل هذه اللحظات ينسى الإنسان كل شيء ولا يعود يتذكر شيئا سوى نفسه ، والنّور الذي يسطع في أعماقه ويجذبه نحو المبدأ قادر على إزالة ما يعتوره من بلاء وضيق ، هذه الحالات تفتح نوافذ على عالم التوحيد ومعرفة الله ، لذلك يقول في أمثال هذه الحالات : {تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} .
وتعقدون ـ وأنتم في تلك الحالة ـ عهدا وميثاقا على أنفسكم ، وتقولون : {لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} .
ثمّ تأمر الآية النّبي (صلَّ الله عليه وآله وسلم) أن يخبرهم أنّ الله سوف ينجيهم من هذه ومن غيرها من الأخطار ، وقد فعل ذلك من قبل مرارا ، ولكنّهم بعد زوال الخطر عنهم يعودون إلى طريق الشرك والكفر : {قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} .
{قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام : 65] .
ألوان العذاب :
في الآيات السابقة التي تتضمن بيان التوحيد الفطري تتجلى محبّة الله لعباده ، وحنوه عليهم عند الشّدائد والصعاب ، واستجابته لدعواتهم .
وفي هذه الآية تركيز على التهديد بعذاب الله وعقابه ، من أجل إكمال طرق التربية والتهذيب ، أي أنّ الله وهو أرحم الراحمين وملجأ اللاجئين ، قهار منتقم مقابل الطغاة العصاة ، ففي هذه الآية يؤمر الرّسول (صلَّ الله عليه وآله وسلم) بتهديد المجرمين بثلاثة أنواع من العقاب : عذاب من فوق ، وعذاب من تحت ، وعقاب يتمثل في اختلاف الكلمة والحرب وإراقة الدماء : {قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} .
وفي الختام تقول الآية : {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} ، أي انظر كيف نوضح لهم المعالم والدلائل على أمل أن يفهموا الحقائق ويعودا إلى الله .
{وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام : 66-67] .
تكمل هاتان الآيتان البحث الذي جرى في الآيات السابقة عن الدعوة إلى الله والمعاد وحقائق الإسلام والخشية من عقاب الله .
الآية الأولى : تخبر رسول الله (صلَّ الله عليه وآله وسلم) أنّ قومه ـ أي قريش وأهل مكّة ـ لم يصدقوا ما يقول مع أنّه صدق وحق وتؤكّده الأدلة العقلية المختلفة والفطرية : {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُ} (2) ثمّ يصدر الأمر إلى رسول الله (صلَّ الله عليه وآله وسلم) : {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي إنّما أنا رسول ولست أضمن قبولكم .
في الآيات الكثيرة المشابهة لهذه الآية (كالآيات 107 ـ الأنعام ، 108 ـ يونس ، 41 ـ الزمر ، 6 ـ الشورى) يتبيّن أنّ المقصود من «وكيل» في هذه المواضع هو المسؤول عن الهداية العملية للأفراد والضامن لهم ـ لذلك فإنّ رسول الله (صلَّ الله عليه وآله وسلم) يقول لهم في هذه الآية : إنّ الأمر يعود إليكم ، فأنتم الذين يجب أن تتخذوا القرار النهائي في قبول الحقيقة أو ردّها ، فما أنا إلّا رسول أبلغ رسالة الله .
وفي الآية التّالية القصيرة ذات المعنى العميق تحذير لهم ، ودعوة إلى اختيار الطريق الصحيح ، و {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} (3) أي أنّ كل خبر أخبركم به الرّسول (صلَّ الله عليه وآله وسلم) في هذه الدنيا أو في الآخرة موضع ومقر ، وسوف يتحقق في موعده المقرر ، وعندئذ ستعرفون ذلك .
__________________________
1. تفسير الأمثل ، ج4 ، ص 104-110 .
2. الضمير في «به» يرجعه بعضهم إلى القرآن ، ويرجعه آخرون إلى العذاب الذي ورد في الآيات السابقة ، ولكنّ الظاهر إنّه يرجع إلى كل هذه وإلى تعاليم الرّسول (صلَّ الله عليه وآله وسلم) التي كذبوا بها ، وتؤكّد ذلك الآية التّالية .
3. قد يكون «المستقر» المصدر الميمي بمعنى «الاستقرار» أو اسما لمكان وزمان بمعنى مكان الاستقرار ، بالمعنى الأوّل يكون إخبارا عن تحقيق وعد الله ، وبالمعنى الثاني الإخبار عن مكان تحققه وزمانه .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|