أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-10-2017
2697
التاريخ: 11-10-2017
3921
التاريخ: 11-10-2017
3266
التاريخ: 11-10-2017
4997
|
قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْو وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد : 32 - 38].
{إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله} أي امتنعوا عن اتباع دين الله ومنعوا غيرهم من اتباعه (2) تارة وبالإغواء أخرى.
{وشاقوا الرسول} أي عاندوه وعادوه {من بعد ما تبين لهم الهدى} أي من بعد ما ظهر لهم أنه الحق وعرفوا أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) {لن يضروا الله} بذلك {شيئا} وإنما ضروا أنفسهم {وسيحبط} الله {أعمالهم} فلا يرون لها في الآخرة ثوابا وفي هذه الآية دلالة على أن هؤلاء الكفار كانوا قد تبين لهم الهدى فارتدوا عنه فلم يقبلوه عنادا وهم المنافقون وقيل أنهم أهل الكتاب ظهر لهم أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فلم يقبلوه وقيل هم رؤساء الضلالة جحدوا الهدى طلبا للجاه والرياسة لأن العناد يضاف إلى الخواص.
{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله} بتوحيده {وأطيعوا الرسول} بتصديقه وقيل أطيعوا الله في حرمة الرسول وأطيعوا الرسول في تعظيم أمر الله {ولا تبطلوا أعمالكم} بالشك والنفاق عن عطاء وقيل بالرياء والسمعة عن الكلبي وقيل بالمعاصي والكبائر عن الحسن {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله} مضى معناه {ثم ماتوا وهم كفار} أي أصروا على الكفر حتى ماتوا على كفرهم {فلن يغفر الله لهم} أبدا لأن لفظ لن للتأبيد {فلا تهنوا} أي فلا تتوانوا ولا تضعفوا عن القتال {وتدعوا إلى السلم} أي ولا تدعوا الكفار إلى المسالمة والمصالحة.
{وأنتم الأعلون} أي وأنتم القاهرون الغالبون عن مجاهد وقيل إن الواو للحال أي لا تدعوهم إلى الصلح في الحال التي تكون الغلبة لكم فيها وقيل إنه ابتداء إخبار من الله عن حال المؤمنين أنهم الأعلون يدا ومنزلة آخر الأمر وإن غلبوا في بعض الأحوال {والله معكم} أي بالنصرة على عدوكم {ولن يتركم أعمالكم} أي لن ينقصكم شيئا من ثوابها بل يثيبكم عليها ويزيدكم من فضله عن مجاهد وقيل معناه لن يظلمكم عن ابن عباس وقتادة وابن زيد .
ثم حض الله سبحانه على طلب الآخرة فقال {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو} أي سريعة الفناء والانقضاء ومن اختار الفاني على الباقي كان جاهلا ومنقوصا قال الحسن الذي خلقها هو أعلم بها {وإن تؤمنوا} بالله ورسوله {وتتقوا} معاصيه {يؤتكم أجوركم} أي جزاء أعمالكم في الآخرة {ولا يسألكم أموالكم} كلها في الصدقة وأن أوجب عليكم الزكاة في بعض أموالكم عن سفيان بن عيينة والجبائي وقيل لا يسألكم أموالكم لأن الأموال كلها لله فهو أملك لها وهو المنعم بإعطائها وقيل لا يسألكم الرسول على أداء الرسالة أموالكم أن تدفعوها إليه .
{إن يسئلكموها فيحفكم} أي يجهدكم بمسألة جميعها {تبخلوا} بها فلا تعطوها أي إن يسئلكم جميع ما في أيديكم تبخلوا وقيل فيحفكم أي فليلطف في السؤال بأن يعد عليه الثواب الجزيل عن أبي مسلم {ويخرج أضغانكم} أي ويظهر بغضكم وعداوتكم لله ورسوله ولكنه فرض عليكم ربع العشر قال قتادة علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأضغان وهي الأحقاد التي في القلوب والعداوات الباطنة {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله} يعني ما فرض عليهم في أموالهم أي إنما تؤمرون بإخراج ذلك وإنفاقه في طاعة الله.
{فمنكم من يبخل} بما فرض عليه من الزكاة {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه} لأنه يحرمها مثوبة جسيمة ويلزمها عقوبة عظيمة وهذه إشارة إلى أن معطي المال أحوج إليه من الفقير الآخذ فبخله بخل على نفسه وذلك أشد البخل قال مقاتل إنما يبخل بالخير والفضل في الآخرة عن نفسه وقيل معناه فإنما يبخل بداع عن نفسه يدعوه إلى البخل فإن الله تعالى نهى عن البخل وذمه فلا يكون البخل بداع من جهته {والله الغني} عما عندكم من الأموال {وأنتم الفقراء} إلى ما عند الله من الخير والرحمة أي لا يأمركم بالإنفاق لحاجته ولكن لتنتفعوا به في الآخرة.
{وإن تتولوا} أي تعرضوا عن طاعته وعن أمر رسوله {يستبدل قوما غيركم} أمثل وأطوع لله منكم {ثم لا يكونوا أمثالكم} بل يكونوا خيرا منكم وأطوع لله وروى أبو هريرة أن ناسا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) قالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه وكان سلمان إلى جنب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فضرب يده على فخذ سلمان فقال ((هذا وقومه.. والذي نفسي بيده لوكان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس)) وروى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال إن تتولوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم يعني الموالي وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قد والله أبدل بهم خيرا منهم الموالي .
_______________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9، ص178- 180.
2- [بالقهر].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهً شَيْئاً وسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ } . دعا الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله ) إلى الإسلام بالدلائل والبينات ، فكفر به أرباب المصالح والأهداف ، ومنعوا الناس عنه بالقوة والمال والدعايات الكاذبة ، ولكن اللَّه قد أعز نبيه وأظهر دينه ، وأبطل عمل الخائنين . .
وحتى اليوم يعاني الإسلام والمسلمون الكثير من قوى الشر ، وأخطرها بعض الدول والهياكل التي تحمل اسم الإسلام وتتعاون مع أعدى أعدائه الاستعمار والصهيونية ، وقد آن للمسلمين أن ينفضوا عنهم غبار الحقد والشقاق ، ويتحدوا ضد عدوهم المشترك .
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } باللَّه والرسول واليوم الآخر {أَطِيعُوا اللَّهً وأَطِيعُوا الرَّسُولَ } أي اعملوا بوحي من ايمانكم ، فقوله تعالى : أطيعوا اللَّه بعد قوله :
يا أيها الذين آمنوا مثل قوله : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110]. {ولا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ } بالشرك والنفاق ولا بالمن والأذى ولا بالسيئات اللاتي يذهبن بالحسنات . قال تعالى : {إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} وفي الحديث : {لا يقبل عمل إلا بالتقوى} .
وقال الإمام علي ( عليه السلام ) : كونوا على قبول العمل أشد عناية منكم على العمل .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } في الآخرة لأن اللَّه سبحانه يحشر الإنسان على ما مات عليه ، ويحاسبه حسبما يختم به حياته من الكفر أو الايمان . وتقدم مثله في الآية 161 من سورة البقرة ج 1 ص 248 والآية 91 من سورة آل عمران ج 2 ص 106 .
القرآن وسياسة الحرب :
{ فَلا تَهِنُوا وتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ } . لقد أثبتت الحوادث ان من وهن أمام عدوه وتهيب سطوته ، وخاف مجابهته فقد زوده بالسلاح الذي يقتله به ويخضعه لأمره ، قال الإمام علي ( عليه السلام ) : قرنت الهيبة بالخيبة ، والحياء بالحرمان . أنظر ج 6 ص 240 فقرة (الحرب النفسية) . والسياسة الحكيمة في الحرب عند قادتها وأهل الاختصاص ان لا ينهار الإنسان أمام عدوه ، وأيضا أن لا يستهين بقوته ، بل يعد له العدة ويجابهه بثبات مستهينا بكل ما يصيبه من مشاق وآلام ، وقد رسم القرآن الكريم هذه السياسة بقوله : {فَلا تَهِنُوا وتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} أي لا تنهاروا أمام أعدائكم وتستسلموا لقوتهم وطغيانهم ، وبقوله : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ } [الأنفال: 60] أي لا تستهينوا بقوتهم واحشدوا لحربهم كل ما تملكون من طاقات بشرية واقتصادية .
{ وأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ } إذا كنتم صفا واحدا ، ويدا واحدة على عدو اللَّه وعدوكم وإلا فشلتم وذهبت ريحكم كما نصت الآية 46 من سورة الأنفال {واللَّهُ مَعَكُمْ } إذا لبيتم دعوته إلى الجهاد بالنفس والنفيس لتكون كلمة الحق هي العليا ، وكلمة الباطل هي السفلى ، أما من يؤثر الدعة والراحة ، ويستسلم للهوان وقوى الضلال والفساد فإن اللَّه يتخلى عنه ، ويكله لمن استسلم له {ولَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ } . من أصيب بنفسه أو أهله أو ماله من أجل الدين أو الوطن أو أي حق كان - فإن تضحيته هذه لن تذهب سدى ، بل هي عز للدين وللوطن في الحياة الدنيا ، وذخر له في الآخرة عند اللَّه .
وتسأل : ان قوله تعالى : {فَلا تَهِنُوا وتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} يدل بصراحة على ان للقوي أن يبطش بعدوه الضعيف ، ولا يكترث بسلم ولا رحمة .
وليس من شك ان هذا يناقض الإنسانية والعدالة ، ولا يتفق مع قوله تعالى :
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} - 208 البقرة .
الجواب : ان قوله تعالى : {فَلا تَهِنُوا وتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} معناه إذا بليتم بعدو متوحش شرس لا يقيم وزنا للحق والعدالة ، ولا يلتزم بقانون ولا بميثاق ، ولا يفهم إلا بلغة العنف والقوة ، إذا بليتم بهذا العدو فاصمدوا له ولا تهابوه وابطشوا به ، ولا تأخذكم في الحق رأفة ولا هوادة ، فان القضاء عليه قضاء على الشر ، وخير للإنسانية جمعاء .
ومن غريب الصدف أن أكتب هذه الكلمات في اليوم (2) الذي أغارت فيه إسرائيل بطائرات الفانتوم الأمريكية وقذائفها - على مدرسة بحر البقر الابتدائية بالجمهورية العربية المتحدة ، وقتلت 47 طفلا تتراوح سنهم بين السادسة والثانية عشرة ، ما عدا الجرحى .
والولايات المتحدة الأمريكية هي المسؤولة عن قتل وجرح أولئك الصغار ، وعن الغارة المماثلة على معمل أبي زعبل الأهلي التي راح ضحيتها 33 عاملا بين قتيل وجريح ، هي المسؤولة عن جرائم إسرائيل حيث أمدتها بالسلاح والمال ، وأمرتها أن تفعل في البلاد العربية ما تفعله هي في فيتنام . . فقد نقلت الصحف والإذاعات ان جنود الولايات المتحدة قتلوا أهل قرية بأكملهم في فيتنام ، ولم ينج منهم طفل ولا امرأة ، وما كان لهذه القرية ولا لمدرسة الأطفال أي شأن في الحرب . . فهل يجدي السلم شيئا مع هؤلاء السفاكين ؟ اللهم إلا إذا كان معنى السلم الاستسلام للجور والطغيان .
{إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْو} لمن ركن إليها ، وخدع بأباطيلها بل هي شر على من أثار الحروب من أجلها ، وهي دار خير لمن اتعظ بها ، وتزود منها لآخرته {وإِنْ تُؤْمِنُوا وتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ }. وعطف التقوى على الايمان يدل على ان مجرد الاعتراف والتصديق لا أجر عليه عند اللَّه ، بل لا بد من العمل مع الايمان ، وأوضح من هذه الآية في الدلالة على ذلك قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].
{ ولا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا ويُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ } لا يسألكم أموالكم أي لا يطلب منكم أن تخرجوا من جميع أموالكم ، ولا أن تبذلوا الكثير منها الذي يضر بكم . . ويحفكم أي يلح عليكم ويجهدكم ، ومعنى الآية بمجموعها ان اللَّه سبحانه جعل للفقراء نصيبا في أموال الأغنياء ، وراعى في تقدير هذا النصيب وتحديده مصلحة المحتاجين بما يسد خلتهم ، ومصلحة الباذلين بما لا يضر بهم ، ولا يمس بحاجة من حاجاتهم الضرورية ، ولوان اللَّه جلت حكمته سأل الأغنياء أكثر من هذا النصيب وألح عليهم في بذله لأمسكوا وحقدوا على الإسلام ونبي الإسلام .
{ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } . قال جماعة من المفسرين :
المراد بسبيل اللَّه الجهاد . . والصحيح انه يشمل كل ما فيه للَّه رضا ، وللناس صلاح بجهة من الجهات { فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ومَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ } . بخل الشحيح بحق اللَّه ، وادخره لنفسه عند حاجتها ، فجاءت النتيجة على العكس مما
أراد ، حيث عرّض نفسه لغضب اللَّه وعذابه ، وحرمها من رضوانه وثوابه .
أنظر فقرة (المال هو المحك) ج 2 ص 107 .
( واللَّهُ الْغَنِيُّ وأَنْتُمُ الْفُقَراءُ ) إلى فضله ورحمته ، وما استغنى عبد من عباده إلا بسبب منه تعالى ، أما هو فغني بالذات لا باستفادة ، وفاعل لا بآلة ، ومقدر لا بفكرة{ وإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ } . ان تعرضوا عن دعوة اللَّه ، وتصروا على التمرد والعصيان يذهبكم ويأت بخلق جديد يسبّحون بحمده ولا يعصون له أمرا . وتقدم مثله في الآية 19 من سورة إبراهيم ج 4 ص 436 والآية 16 من سورة فاطر .
______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7، ص77-81.
2- 8نيسان سنة 1970.
قوله تعالى : {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم} المراد بهؤلاء رؤساء الضلال من كفار مكة ومن يلحق بهم لأنهم الذين صدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول وعادوه أشد المعاداة بعد ما تبين لهم الهدى.
وقوله: {لن يضروا الله شيئا} لأن كيد الإنسان ومكره لا يرجع إلا إلى نفسه ولا يضر إلا إياه وقوله: {وسيحبط أعمالهم} أي مساعيهم لهدم أساس الدين وما عملوه لإطفاء نور الله، وقيل: المراد إحباط أعمالهم وإبطالها فلا يثابون في الآخرة على شيء من أعمالهم، والمعنى الأول أنسب للسياق لأن فيه تحريض المؤمنين وتشجيعهم على قتال المشركين وتطييب نفوسهم أنهم هم الغالبون كما تفيده الآيات التالية.
ولما وصف حال الكفار وأضاف إليه وصف حال الذين في قلوبهم مرض وتثاقلهم في أمر القتال وحال من ارتد منهم بعد، رجع يحذر المؤمنين أن يكونوا أمثالهم فيفاوضوا المشركين ويميلوا إليهم فيتبعوا ما أسخط الله ويكرهوا رضوانه فيبطل أعمالهم بالحبط، وفي الآيات موعظة لهم بالترغيب والترهيب والتطميع والتخويف، وبذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم} الآية وإن كانت في نفسها مستقلة في مدلولها مطلقة في معناها حتى استدل الفقهاء بقوله فيها: {ولا تبطلوا أعمالكم} على حرمة إبطال الصلاة بعد الشروع فيها لكنها من حيث وقوعها في سياق الآيات السابقة المتعرضة لأمر القتال، وكذا الآيات اللاحقة الجارية على السياق وخاصة ما في ظاهر قوله: {إن الذين كفروا} إلخ، من التعليل وما في قوله: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم} إلخ، من التفريع، وبالجملة الآية بالنظر إلى سياقها تدل على إيجاب طاعة الله سبحانه فيما أنزل من الكتاب وشرع من الحكم وإيجاب طاعة الرسول فيما بلغ عن الله سبحانه، وفيما يصدر من الأمر من حيث ولايته على المؤمنين في المجتمع الديني، وعلى تحذير المؤمنين من إبطال أعمالهم بفعل ما يوجب حبط أعمالهم كما ابتلي به أولئك الضعفاء الإيمان المائلون إلى النفاق الذين انجر أمر بعضهم أن ارتدوا بعد ما تبين لهم الهدى.
فالمراد بحسب المورد من طاعة الله طاعته فيما شرع وأنزل من حكم القتال، ومن طاعة الرسول طاعته فيما بلغ منه وفيما أمر به منه ومن مقدماته بما له من الولاية فيه وبإبطال الأعمال التخلف عن حكم القتال كما تخلف المنافقون وأهل الردة.
وقيل: المراد بإبطال الأعمال إحباطها بمنهم على الله ورسوله بإيمانهم كما في قوله تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا}، وقيل:.
إبطالها بالرياء والسمعة، وقيل: بالعجب، وقيل: بالكفر والنفاق، وقيل: المراد إبطال الصدقات بالمن والأذى كما قال: {لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } [البقرة: 264] ، وقيل: إبطالها بالمعاصي، وقيل: بخصوص الكبائر.
ويرد على هذه الأقوال جميعا أن كل واحد منها على تقدير صحته وتسليمه مصداق من مصاديق الآية مع الغض من وقوعها في السياق الذي تقدمت الإشارة إليه، وأما من حيث وقوعها في السياق فلا تشمل إلا القتال كما مر.
قوله تعالى: {إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم} ظاهر السياق أنه تعليل لمضمون الآية السابقة فيفيد أنكم لولم تطيعوا الله ورسوله وأبطلتم أعمالكم باتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه أداكم ذلك إلى اللحوق بأهل الكفر والصد ولا مغفرة لهم بعد موتهم كذلك أبدا.
والمراد بالصد عن سبيل الله الإعراض عن الإيمان أو منع الناس أن يؤمنوا.
قوله تعالى: {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم} تفريع على ما تقدم، وقوله: {فلا تهنوا} من الوهن بمعنى الضعف والفتور، وقوله: {وتدعوا إلى السلم} معطوف على {تهنوا} واقع في حيز النهي أي ولا تدعوا إلى السلم، والسلم - بفتح السين - الصلح، وقوله: {وأنتم الأعلون} جملة حالية أي لا تفعلوا الصلح، وقوله: {وأنتم الأعلون} جملة حالية أي لا تفعلوا ذلك والحال أنكم الغالبون، والمراد بالعلو الغلبة وهي استعارة مشهورة.
وقوله: {والله معكم} معطوف على {وأنتم الأعلون{ يبين سبب علوهم ويعلله فالمراد بمعيته تعالى لهم معية النصر دون المعية القيومية التي يشير إليها قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [الحديد: 4].
وقوله: {ولن يتركم أعمالكم} قال في المجمع: يقال: وتره يتره وترا إذا نقصه ومنه الحديث فكأنه وتر أهله وماله، وأصله القطع ومنه الترة القطع بالقتل ومنه الوتر المنقطع بانفراده عن غيره.
انتهى.
فالمعنى: لن ينقصكم أعمالكم أي يوفي أجرها تاما كاملا، وقيل: المعنى: لن يضيع أعمالكم، وقيل: لن يظلمكم، والمعاني متقاربة.
ومعنى الآية: إذا كانت سبيل عدم طاعة الله ورسوله وإبطال أعمالكم هذه السبيل وكان مؤديا إلى الحرمان من مغفرة الله أبدا فلا تضعفوا ولا تفتروا في أمر القتال ولا تدعوا المشركين إلى الصلح وترك القتال والحال أنكم أنتم الغالبون والله ناصركم عليهم ولن ينقصكم شيئا من أجوركم بل يوفيكموها تامة كاملة.
وفي الآية وعد المؤمنين بالغلبة والظفر إن أطاعوا الله ورسوله فهي كقوله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
قوله تعالى: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم} ترغيب لهم في الآخرة وتزهيد لهم عن الدنيا ببيان حقيقتها وهي أنها لعب ولهو- وقد مر معنى كونها لعبا ولهوا -.
وقوله: {وإن تؤمنوا} إلخ، أي أن تؤمنوا وتتقوا بطاعته وطاعة رسوله يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم بإزاء ما أعطاكم وظاهر السياق أن المراد بالأموال جميع أموالهم ويؤيده أيضا الآية التالية.
قوله تعالى: {إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم} الإحفاء الإجهاد وتحميل المشقة، والمراد بالبخل - كما قيل - الكف عن الإعطاء، والأضغان الأحقاد.
والمعنى: أن يسألكم جميع أموالكم فيجهدكم بطلب كلها كففتم عن الإعطاء لحبكم لها ويخرج أحقاد قلوبكم فضللتم.
قوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل} إلى آخر الآية بمنزلة الاستشهاد في بيان الآية السابقة كأنه قيل: إنه إن يسأل الجميع فيحفكم تبخلوا ويشهد بذلك أنكم أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله – وهو بعض أموالكم - فبعضكم يبخل فيظهر به أنه لو سأل الجميع جميعكم بخلتم.
وقوله: {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه} أي يمنع الخير عن نفسه فإن الله لا يسأل ما لهم لينتفع هوبه بل لينتفع به المنفقون فيما فيه خير دنياهم وآخرتهم فامتناعهم عن إنفاقه امتناع منهم عن خير أنفسهم، وإليه يشير قوله بعده: {والله الغني وأنتم الفقراء} والقصران للقلب أي الله هو الغني دونكم وأنتم الفقراء دون الله.
وقوله: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} قيل: عطف على قوله: {وإن تؤمنوا وتتقوا} والمعنى: إن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم وإن تتلوا وتعرضوا يستبدل قوما غيركم بأن يوفقهم للإيمان دونكم ثم لا يكونوا أمثالكم بل يؤمنون ويتقون وينفقون في سبيل الله.
_______________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج18،ص199204.
الذين يموتون على الكفر لن يغفر الله لهم :
بعد البحوث المختلفة التي دارت حول المنافقين في الآيات السابقة، تبحث هذه الآيات وضع جماعة أُخرى من الكفار، فتقول: (إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله وشاقوا الرّسول من بعد ما تبيّن لهم الهدى لن يضرّوا الله شيئاً وسيحبط أعمالهم)حتى وإن عملوا خيراً، لأنّه لم يكن مقترناً بالإيمان.
هؤلاء يمكن أن يكونوا مشركي مكّة، أو الكفار من يهود المدينة، أوكليهما، لأنّ التعبير بـ«الكفر»، و«الصد عن سبيل الله»، و(شاقّوا الرسول) قد ورد بحقّ الفريقين في آيات القرآن الكريم.
أمّا «تبيّن الهدى»، فقد كان عن طريق المعجزات بالنسبة إلى مشركي مكّة، وعن طريق الكتب السماوية بالنسبة إلى أهل الكتاب.
و«إحباط أعمالهم» إمّا أن يكون إشارة إلى أعمال الخير التي قد يقومون بها أحياناً كإقراء الضيف، والإنفاق، ومعونة ابن السبيل، أو أن يكون إشارة إلى عدم تأثير خطط هؤلاء ومؤامراتهم ضد الإسلام.
وعلى أية حال، فقد كان هؤلاء الجماعة متّصفين بثلاث صفات: الكفر، والصد عن سبيل الله، والعداء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ كانت إحداها تتعلق بالله سبحانه، والأُخرى بعباد الله، والثالثة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبعد أن تبيّن حال المنافقين، والخطوط العامة لأوضاعهم، وجّهت الآية التالية الخطاب إلى المؤمنين مبيّنة خطهم وحالهم، فقالت: {يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول ولا تبطلوا أعمالكم}.
في الواقع، إنّ أسلوب حياة المؤمنين وبرنامجهم يقع في الطرف المقابل للكفار والمنافقين في كلّ شيء، فهؤلاء يعصون أمر الله سبحانه، وأُولئك يطيعونه، هؤلاء يعادون النبي، وأولئك يطيعون أمره هؤلاء تحبط أعمالهم لكفرهم وريائهم ومنّتهم، أمّا أولئك فإنّ أعمالهم محفوظة عند الله سبحانه وسيثابون عليها، لاجتنابهم هذه الأُمور.
وعلى كلّ حال، فإنّ أُسلوب الآية يوحي بأنّ من بين المؤمنين أفراداً كانوا قد قصروا في طاعة الله ورسوله وفي حفظ أعمالهم عن التلوث بالباطل، ولذلك فإنّ الله سبحانه يحذّرهم في هذه الآية.
والشاهد لهذا الكلام سبب النّزول الذي ذكره البعض لهذه الآية، وهو: إنّ «بني أسد» كانوا قد أسلموا وأتوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إنّنا نؤثرك على أنفسنا، ونحن وأهلونا رهن إشارتك وأمرك. غير أنّ أسلوبهم في الكلام كانت تلوح منه المنّة، فنزلت الآية أعلاه، وحذّرتهم من ذلك.
واستدل بعض الفقهاء بجملة: (ولا تبطلوا أعمالكم) على حرمة قطع الصلاة، ولكنّ الآية مورد البحث وما قبلها وما بعدها شاهدة على أنّها لا تتعلق بهذا الأمر، بل عدم الإبطال عن طريق الشرك والرياء والمن وأمثال ذلك.
وجاءت الآية الأخيرة من هذه الآيات موضحة ومؤكّدة لما مرّ في الآيات السابقة حول الكفار، وتهدي إلى الصراط المستقيم من يريد التوبة إلى طريق الرجوع، فتقول: {إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله ثمّ ماتوا وهم كفّار فلن يغفر الله لهم} لأنّ أبواب التوبة ستغلق بنزول الموت، ويحمل هؤلاء أوزارهم وأوزار الذين يضلّونهم، فكيف يغفر الله لهم؟
وبهذا، فقد ورد الحديث في مجموع هذه الآيات عن ثلاث مجموعات: الكفّار، والمنافقون، والمؤمنون، وتحدّدت صفات كلّ منهم ومصيره.
وقوله تعالى : {فَلاَ تَهِنُواْ وَتَدْعُواْ إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعمَلَكُمْ}:
الصلح المذل!!
متابعة للآيات السابقة التي كانت تتحدّث حول مسألة الجهاد، تشير هذه الآية إلى أحد الأُمور الهامة في مسألة الجهاد، وهو أنّ ضعفاء الإيمان يطرحون غالباً مسألة الصلح للفرار من مسؤولية الجهاد، ومصاعب ميدان الحرب.
من المسلّم أنّ الصلح خير وحسن جدّاً، لكن في محله، إذ يكون حينها صلحاً يحقق الأهداف الإسلامية السامية، ويحفظ ماء وجه المسلمين وحيثيتهم وهيبتهم وعظمتهم. أمّا الصلح الذي يؤدي إلى ذلّتهم وانكسار شوكتهم فلا، ولذلك تقول الآية الشريفة: الآن وقد سمعتم الأوامر الإلهية في الجهاد {فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون}(2).
أي: الآن وقد لاحت علائم انتصاركم وتفوّقكم، كيف تذلّون أنفسكم وترضون بالمهانة باقتراح الصلح الذي لا يعني إلاّ التراجع والهزيمة؟ فليس هذا صلحاً في الواقع، بل هو استسلام وخضوع ينبع من الضعف والإنهيار، وهو نوع من طلب الراحة والعافية، ويقبح بكم أن تتحملوا عواقبه الأليمة الخطرة.
ومن أجل رفع معنويات المسلمين المجاهدين تضيف الآية: (والله معكم ولن يتركم أعمالكم) فإنّ من كان الله معه تكون كلّ عوامل الإنتصار مسخّرة له، فلا يحس بالوحشة أبداً، ولا يدع للضعف والإنهزام سبيلاً إلى نفسه، ولا يستسلم للعدو باسم الصلح ولن يدع نتائج دماء الشهداء ومكاسبها تذهب سدى في اللحظات الحسّاسة.
(لن يتركم) من مادة «الوتر»، وهو المنفرد، ولذلك يقال لمن قتل قريبه، وبقي وحيداً: وِتْر. وجاء أيضاً بمعنى النقصان.
وفي الآية ـ مورد البحث ـ كناية جميلة عن هذا المطلب، بأنّ الله سبحانه لن يترككم وحدكم، بل سيقرنكم بثواب أعمالكم، خاصّةً وأنّكم تعلمون أنّكم لن تخطوا خطوةً إلاّ كتبت لكم، فلم يكن الله لينقص من أجركم شيئاً، بل سيضاعفه ويزيد عليه من فضله وكرمه.
اتضح ممّا قلناه أنّ الآية مورد البحث لا تنافي مطلقاً الآية (61) من سورة الأنفال حيث تقول: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61] لنجعل إحداهما ناسخة للأُخرى، بل إنّ كلاً منها ناظرة إلى مورد خاص، فإحداهما تنظر إلى الصلح المعقول، والأُخرى إلى الصلح الذي ليس في محله فإنّ أحدهما صلح يحفظ مصالح المسلمين، والآخر صلح يطرحه ضعفاء المسلمين وهم على أبواب النصر، ولذلك فإنّ تتمة آية سورة الأنفال تقول: {وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك الله}.
وقد أشار أمير المؤمنين علي(عليه السلام) إلى كلا الصلحين في عهده لمالك الأشتر، حيث يقول: «ولا تدفعنّ صلحاً دعاك إليه عدوّك ولله فيه رضى»(3).
إنّ طرح قضية الصلح من ناحية العدو من جهة، وكونه مقترناً برضى الله سبحانه من جهة أُخرى، يبيّن انقسام الصلح إلى القسمين اللذين أشرنا إليهما فيما قلناه.
وعلى أية حال، فإنّ أمراء المسلمين وأولياء أُمورهم يجب أن يكونوا في غاية الحذر في تشخيص موارد الصلح والحرب، والتي هي من أعقد المسائل وأدقّها، لأنّ أدنى اشتباه في المحاسبة سيستتبع عواقب وخيمة في هذا المجال.
وقوله تعالى : {إِنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْو وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ( 36 ) إِن يَسْئلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَنَكُمْ( 37 ) هَا أَنتُمْ هؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنكُم مَن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِىُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَلَكُم}
إن تتولّوا سيمنح الله الرسالة قوماً آخرين:
قلنا: إنّ سورة محمّد هي سورة الجهاد، فبأمر الجهاد بدأت، وبه تنتهي، والآيات مورد البحث ـ وهي آخر آيات هذه السورة ـ تتناول مسألة أُخرى من مسائل حياة البشر في هذا الميدان، فتطرح كون الحياة الدنيا لا قيمة لها لزيادة ترغيب المسلمين ودعوتهم إلى طاعة الله سبحانه عموماً، والى أمر الجهاد بالخصوص، لأنّ حبّ الدنيا والإنشداد إليها أحد عوامل المهمّة التي تعوّق عن الجهاد، فتقول: {إنّما الحياة الدنيا لعب ولهو}.
«اللعب» يقال للأعمال التي تتصف بنوع من الخيال للوصول إلى هدف خيالي، و«اللهو» يقال لكلّ عمل يشتغل الإنسان به فيصرفه عن المسائل الأساسية.
والحق أنّ الدنيا لعب ولهو ليس إلاّ، فلا يحصل منها أنس وارتياح، وليس لها دوام وبقاء، وإنّما هي لحظات كلمح البصر، ولذات زائلة تحفّها الآلام والمتاعب.
ثمّ تضيف الآية: {وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم}(4) فلا أنّ الله يسألكم أجراً مقابل الهداية والرشاد وكلّ تلك الهبات العظيمة في الدنيا والآخرة، ولا رسوله، فإنّ الله تعالى غني عن العالمين، ولا يحتاج رسوله إلى غير الله.
وإذا كان الشيء الزهيد من أموالكم يؤخذ كزكاة وخمس وحقوق شرعية أخرى، فإنّه يعود عليكم ويصرف فيكم، لحماية يتاماكم ومساكينكم وضعفائكم وأبناء السبيل منكم، وللدفاع عن أمن بلادكم واستقلالها، ولإستقرار النظام والأمن، ولتأمين احتياجاتكم، وعمران دياركم.
بناءً على هذا، فحتى هذا المقدار اليسير هومن أجلكم ومنفعتكم، فإنّ الله ورسوله في غنى عنكم، وبذلك فلا منافاة بين مفهوم هذه الآية وآيات الزكاة والإنفاق وأمثالها.
ثمّة احتمالات أُخرى عديدة في تفسير جملة: {ولا يسألكم أموالكم} ولرفع ما يبدو في الظاهر تناقضاً:
فقال البعض: إنّه تعالى لا يسألكم شيئاً من أموالكم مقابل الهداية والثواب.
وقال آخرون: إنّه تعالى لا يسألكم كلّ أموالكم، بل يريد قسماً منها فقط.
وقال جماعة: إنّ هذه الجملة إشارة إلى أنّ أموال الجميع من الله سبحانه، وإن كانت ودائع بأيدينا أيّاماً قليلة.
لكن أفضلها جميعاً هو التّفسير الأول.
وعلى أية حال، فلا ينبغي نسيان أنّ جانباً من الجهاد هو الجهاد بالأموال، ومن الطبيعي أنّ كلّ جهاد للعدو وقتال ضده يحتاج إلى أموال وميزانيات يجب أن تجمع وتهيّأ من قبل المسلمين الزاهدين في الدنيا وغير المتعلّقين بها. والآيات مورد البحث تهيء ـ في الحقيقة ـ الأرضية الفكرية والثقافية لهذه المسألة.
ولتبيان تعلّق أغلب الناس بأموالهم وثرواتهم الشخصية تضيف الآية التالية: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم).
«يحفكم» من مادة إحفاء، أي: الإصرار والإلحاح في المطالبة والسؤال، وهي في الأصل من حفأ، وهو المشي حافياً، وهذا التعبير كناية عن الأعمال التي يتابعها الإنسان إلى أبعد الحدود، ومن هنا كان إحفاء الشارب يعني تقصيره ما أمكن.
و«الأضغان» جمع ضغن، وهو بمعنى الحقد الشديد، وقد أشرنا إليه سابقاً.
وخلاصة القول: فإنّ الآية تبيّن التعلّق الشديد لكثير من الناس بالأُمور المالية، وهي في الحقيقة نوع من اللوم ولتوبيخ لهؤلاء، وفي نفس الوقت ترغيب في ترك هذا الإرتباط، وتشويق إلى هذا المعنى، فإنّ تعلّقهم بلغ حدّاً أنّ الله سبحانه إذا سألهم شيئاً من أموالهم فإنّهم يغضبون ويحقدون عليه!
وبذلك فإنّ الآية تريد أن توقظ أرواح البشر الغاطّة في نومها العميق بسوط التقريع والملامة والعتاب، ليرفعوا عن أعناقهم قيود الذل والعبودية للأموال، ويصبحوا في حال يضحّون عندها بكلّ ما لديهم في سبيل الله، ويقدّمون ما عندهم بين يديه، ولا يرجون في مقابل ما يعطون إلاّ الإيمان به وتقواه ورضاه عنهم.
والآية الأخيرة ـ من الآيات مورد البحث، وهي آخر آية من سورة محمّد ـ تأكيد آخر على ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل المادية وتعلّق الناس بها، ومسألة الإنفاق في سبيل الله، فتقول: {ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل}.
وهنا يأتي سؤال، وهو: إنّ الآيات السابقة قد ذكرت أنّ الله لا يسألكم أموالكم، فكيف أمرت هذه الآية بالإنفاق في سبيل الله؟
غير أنّ تتمة الآية تجيب عن هذا السؤال عن طريقين، فتقول أولاً: {ومن يبخل فإنّما يبخل عن نفسه}(5) لأنّ ثمرة الإنفاق تعود عليكم أنفسكم في الدنيا والآخرة، حيث يقل التفاوت الطبقي، وعندها سيعم الأمن والهدوء في المجتمع، وتحل المحبّة والصفاء محل العداوة والحقد. هذا ثوابكم الدنيوي.
وأمّا في الآخرة، فستمنحون مقابل كلّ درهم أو دينار تنفقونه الهبات والنعم العظيمة التي لم تخطر على قلب بشر، وعلى هذا فإنّ من يبخل يبخل عن نفسه!
وبتعبير آخر: فإنّ الإنفاق هنا يعني أكثر ما يعني الإنفاق في أمر الجهاد، والتعبير بـ(في سبيل الله) يلائم هذا المعنى أيضاً، ومن الواضح أنّ أي نوع من المساهمة في تقدّم أمر الجهاد سيضمن وجود المجتمع واستقلاله وشرفه.
والجواب الآخر هو: {والله الغني وأنتم الفقراء} فهو غني عن إنفاقكم في سبيله، وغني عن طاعتكم، وإنّما أنتم الفقراء إلى لطفه ورحمته وثوابه وكرمه في الدنيا والآخرة.
إنّ الموجودات الممكنة ـ وما سوى الله سبحانه ـ متسربلة في الفقر جميعاً، والغني بذاته هو الله سبحانه لا غير، فإنّها فقيرة إليه دائماً، حتى في أصل وجودها، وتستمد العون من منبع الفيض الأزلي كلّ لحظة، فإذا انقطعت عنها رعايته ولطفه لحظة، فسينتهي وجودها، وتخرّ أبدانها جثثاً هامدة!
وتحذر الجملة الأخير جميع المسلمين أن اعرفوا قدر هذه النعمة الجليلة، والموهبة العظيمة، حيث جعلكم سبحانه حماة دينه القويم وأنصار دينه وأتباع رسوله وأصحابه، فحذار أن تقصروا في تعظيم هذه النعمة وإكبارها، إذ: {وإن تتولّوا يستبدل قوماً غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم}.
أجل، إنّ هذا الحمل لن يسقط على الأرض أبداً، وهذه الرسالة العظيمة لا يمكن أن يتوقّف مسيرها، فإن أنتم لم تستمروا في موقفكم في الذب عن دين الله، واستصغرتم شأن هذه الرسالة العظيمة، فإنّ الله سبحانه سوف يأتي بقوم يتحمّلون أعباء هذه الرسالة.. أُولئك قوم يفوقونكم مرّات في الإيثار والتضحية وبذل الأنفس والأموال والإنفاق في سبيل الله!
وقد جاء نظير هذا التهديد في الآية (54) من سورة المائدة، حيث تقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } [المائدة: 54].
والطريف أنّ أكثر المفسّرين قد نقلوا في ذيل الآية ـ مورد البحث ـ أنّ جماعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سألوه بعد نزول هذه الآية: من هؤلاء الذين ذكرهم الله في كتابه؟ وكان «سلمان» جالساً قريباً من النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فضرب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)بيده على فخذ سلمان ـ وفي رواية على كتفه ـ وقال: «هذا وقومه، والذي نفسي بيده لوكان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس».
لقد أورد هذا الحديث وأمثاله محدّثو السنّة المعروفون في كتبهم المعروفة، كالبيهقي والترمذي، وعليه اتفاق مفسّري الشيعة والسنّة المشهورين، كصاحب تفسير القرطبي، وروح البيان، ومجمع البيان، والفخر الرازي، والمراغي، وأبي الفتوح الرازي وأمثالهم.
وورد في تفسير الدر المنثور عدة أحاديث في هذا الباب في ذيل الآية مورد البحث(6).
وروي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام)، يكمل الحديث السابق، إذ يقول: «والله أبدل بهم خيراً منهم الموالي»(7).
إذا نظرنا إلى تاريخ الإسلام والعلوم الإسلامية بدقّة، وبنظرة بعيدة عن التعصّب، ولاحظنا سهم المسلمون غير العرب الإيرانيين خاصة ـ في ميادين الجهاد ومحاربة العدو من جهة، وتنقيح العلوم الإسلامية وتدوينها من جهة أخرى، فسنطلع على حقيقة هذا الحديث، وتفصيل هذا الكلام طويل.
_________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج12، ص652-662.
2 ـ «تدعوا» مجزوم، وهو معطوف على (لا تهنوا)، والمعنى: لا تهنوا ولا تدعوا إلى السلم.
3 ـ نهج البلاغة، الرسالة 53.
4 ـ جملة (لا يسألكم) مجزومة، ومعطوفة على جزاء الجملة الشرطية، أي: يؤتكم.
5 ـ «البخل» يتعدّى مرة بعن، وأخر بعلى، وعلى الأوّل يعني المنع، وعلى الثّاني يعني
الإضرار.
6 ـ الدر المنثور، المجلد 6، صفحة 67.
7 ـ تفسير مجمع البيان، الجزء 9، صفحة 108.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|