أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-9-2017
3207
التاريخ: 30-9-2017
2501
التاريخ: 28-9-2017
2817
التاريخ: 30-9-2017
6468
|
قال تعالى : {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر: 33 - 44].
{كذبت قوم لوط بالنذر} أي بالإنذار وقيل بالرسل على ما فسرناه {إنا أرسلنا عليهم حاصبا} أي ريحا حصبتهم أي رمتهم بالحجارة والحصباء قال ابن عباس يريد ما حصبوا به من السماء من الحجارة في الريح قال الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام تضربنا *** بحاصب كنديف القطن منثور(2)
ثم استثنى آل لوط فقال {إلا آل لوط نجيناهم} أي خلصناهم {بسحر} من ذلك العذاب الذي أصاب قومه {نعمة من عندنا} أي إنعاما فيكون مفعولا له ويجوز أن يكون مصدرا وتقديره أنعمنا عليهم بذلك نعمة {كذلك} أي كما أنعمنا عليهم {نجزي من شكر} قال مقاتل يريد من وحد الله تعالى لم يعذب مع المشركين {ولقد أنذرهم} لوط.
{بطشتنا} أي أخذنا إياهم بالعذاب {فتماروا بالنذر} أي تدافعوا بالإنذار على وجه الجدال بالباطل وقيل معناه فشكوا ولم يصدقوه وقالوا كيف يهلكنا وهوواحد منا وهوتفاعلوا من المرية {ولقد راودوه عن ضيفه} أي طلبوا منه أن يسلم إليهم أضيافه {فطمسنا أعينهم} أي محوناها والمعنى عميت أبصارهم عن الحسن وقتادة وقيل معناه أزلنا تخطيط وجوههم حتى صارت ممسوحة لا يرى أثر عين وذلك أن جبرائيل (عليه السلام) صفق أعينهم بجناحه صفقة فأذهبها والقصة مذكورة فيما مضى وتم الكلام.
ثم قال {فذوقوا عذابي ونذر} أي فقلنا لقوم لوط لما أرسلنا عليهم العذاب ذوقوا عذابي ونذري {ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر} أي أتاهم صباحا عذاب نازل بهم حتى هلكوا جميعا {فذوقوا عذابي ونذر} ووجه التكرار أن الأول عند الطمس والثاني عند الائتفاك(3) فكلما تجدد العذاب تجدد التقريع {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} مر معناه {ولقد جاء آل فرعون} النذر أي متابعي فرعون بالقرابة والدين {النذر} أي الإنذار وقيل هوجمع نذير يعني الآيات التي أنذرهم بها موسى {كذبوا ب آياتنا كلها} وهي الآيات التسع التي جاءهم بها موسى وقيل بجميع الآيات لأن التكذيب بالبعض تكذيب بالكل {فأخذناهم} بالعذاب {أخذ عزيز} أي قادر لا يمتنع عليه شيء فيما يريد {مقتدر} على ما يشاء .
ثم خوف سبحانه كفار مكة فقال {أ كفاركم خير} وأشد وأقوى {من أولئكم} الذين ذكرناهم وقد أهلكناهم وهذا استفهام إنكار أي لستم أفضل من قوم نوح وعاد وثمود لا في القوة ولا في الثروة ولا في كثرة العدد والعدة والمراد بالخير ما يتعلق بأسباب الدنيا لا أسباب الدين والمعنى أنه إذا هلك أولئك الكفار فما الذي يؤمنكم أن ينزل بكم ما نزل بهم {أم لكم براءة في الزبر} أي أ لكم براءة من العذاب في الكتب السالفة أنه لن يصيبكم ما أصاب الأمم الخالية {أم يقولون نحن جميع منتصر} أي أم يقول هؤلاء الكفار نحن جميع أمرنا ننتصر من أعدائنا عن الكلبي والمعنى أنهم يقولون نحن يد واحدة على من خالفنا ننتصر ممن عادانا فيدلون بقوتهم واجتماعهم ووحد منتصر للفظ الجميع فإنه واحد في اللفظ وإن كان اسما للجماعة كالرهط والجيش أي كما أنهم ليسوا بخير من أولئك ولا لهم براءة فكذلك لا جمع لهم يمنع عنهم عذاب الله وينصرهم وإن قالوا نحن مجتمعون متناصرون فلا نرام ولا نقصد ولا يطمع أحد في غلبتنا.
__________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص320-323.
2- الضمير في ((تضربنا)) راجع الى الشمال ، والمراد : ريح الشمال أي : كانت ريح الشمال تضربنا بالحصباء منثورة فيها كالقطن المندوف . ومر البيت في ج6.
3- ائتفكت البلدة بأهلها : انقلبت.
{ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ} تماما كما كذبت قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم و غيرهم ، والسر واحد وهو صراع الحق مع الباطل ، والعدل مع الجور . . ثم بيّن سبحانه نوع العذاب الذي أنزله بقوم لوط : {إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً}.
أي رماهم بالحصباء التي تحملها الريح بالإضافة إلى الخسف ، وهذه الحصباء هي التي ذكرها سبحانه في الآية 33 من سورة الذاريات : {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ} . { إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ } . أنجى لوطا ومن آمن معه من العذاب حيث أخرجهم آخر الليل من القرية الظالم أهلها {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} . انتقم سبحانه ممن عصى ، وأنعم على من أطاع عملا بمبدأ العدالة ، ولكن الرازي قال : {ولو أهلكوا - أي آل لوط - لكان ذلك عدلا} . . واللَّه أصدق حديثا ، وهو القائل : {وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ} - 115 الأنعام . أي ان العدل فيما تم منه تعالى ، وما عداه فهو ظلم .
{ولَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ } . خوّفهم لوط من عذاب اللَّه ، فشكوا وسخروا ، بل هددوا وتوعدوا و{قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} - 167 الشعراء . {ولَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} . سمعوا ان أضيافا دخلوا على لوط ، فأسرعوا إليه ، وقالوا له بوقاحة وصلف : أعطنا أضيافك لنفجر بهم ونفحش {فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ} أعمى اللَّه أبصارهم عن أضياف لوط ، ثم أرسل عليهم العذاب ، وقال لهم : { فَذُوقُوا عَذابِي ونُذُرِ} وهو الذي شككتم فيه وسخرتم منه {ولَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ} . أتاهم العذاب صباحا ، واستمر حتى أفناهم عن آخرهم {فَذُوقُوا عَذابِي ونُذُرِ ) . ذكر سبحانه هذا بعد عذاب الطمس ، ثم كرره بعد العذاب الحاصب {ولَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ؟ . كرر ، جلت حكمته ، هذه الآية أربع مرات : الأولى بعد الإشارة إلى قصة نوح ، والثانية بعد قصة هود ، والثالثة بعد قصة صالح ، والرابعة بعد قصة لوط ، والغرض ان نعتبر ونتعظ بكل قصة من هذه الأربع لأنها كافية وافية في التذكير والوعظ . وتقدمت قصة لوط في سورة هود وغيرها .
{ولَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} . ومثله {ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ ومَلَائِهِ} - 103 الأعراف . {كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها} وكانت تسعا {ولَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ} - 101 الإسراء ذكر سبحانه خمسا منها في الآية 132 من سورة الأعراف : {فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ والْجَرادَ والْقُمَّلَ والضَّفادِعَ والدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ} والأربع الباقية أشار إليها سبحانه في آيات متفرقة
وهي اليد والعصا وحل العقدة من لسان موسى وانفلاق البحر {فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} . أغرق سبحانه فرعون وملأه في اليم ، وكان من قبل يقول لقومه :
{أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى} . . فأذاقه اللَّه عذاب الخزي في الدنيا ولعذاب الآخرة أكبر .
{ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ } ؟ الخطاب للذين كذبوا محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وأولئكم إشارة إلى الأمم البائدة الهالكة بسبب كفرها وعنادها ، وقد ذكر سبحانه في الآيات السابقة ما حل بهم من أنواع العذاب . والمعنى : لستم خيرا ممن أهلكنا ، بل أنتم شر مكانا ، وأشد على الرحمن عتيا ، فهل أمنتم أن يخسف بكم أو يرسل عليكم حاصبا كما فعل بالذين قبلكم ؟ { أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ} ؟ هل أنزل اللَّه في كتاب من كتبه انكم في أمان من عذابه ؟ {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} ؟
أم تدعون انكم جمع لا يقهر ؟
______________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص197-200.
قوله تعالى: {كذبت ثمود بالنذر} النذر إما مصدر كما قيل والمعنى: كذبت ثمود بإنذار نبيهم صالح (عليه السلام)، وإما جمع نذير بمعنى المنذر، والمعنى: كذبت ثمود بالأنبياء لأن تكذيبهم بالواحد منهم تكذيب منهم بالجميع لأن رسالتهم واحدة لا اختلاف فيها فيكون في معنى قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 141] ، وإما جمع نذير بمعنى الإنذار ومرجعه إلى أحد المعنيين السابقين.
قوله تعالى: {فقالوا أ بشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر} تفريع على التكذيب والسعر جمع سعير بمعنى النار المشتعلة، واحتمل أن يكون بمعنى الجنون وهو أنسب للسياق، والظاهر أن المراد بالواحد الواحد العددي، والمعنى: كذبوا به فقالوا: أ بشرا من نوعنا وهو شخص واحد لا عدة له ولا جموع معه نتبعه إنا إذا مستقرون في ضلال عجيب وجنون.
فيكون هذا القول توجيها منهم لعدم اتباعهم لصالح لفقده العدة والقوة وهم قد اعتادوا على اتباع من عنده ذلك كالملوك والعظماء وقد كان صالح (عليه السلام) يدعوهم إلى طاعة نفسه ورفض طاعة عظمائهم كما يحكيه الله سبحانه عنه بقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} [الشعراء: 150، 151].
ولو أخذ الواحد واحدا نوعيا كان المعنى: أ بشرا هو واحد منا أي هو مثلنا ومن نوعنا نتبعه؟ وكانت الآية التالية مفسرة لها.
قوله تعالى: {أ ألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر} الاستفهام كسابقه للإنكار والمعنى: أ أنزل الوحي عليه واختص به من بيننا ولا فضل له علينا؟ لا يكون ذلك أبدا، والتعبير بالإلقاء دون الإنزال ونحوه للإشعار بالعجلة كما قيل.
ومن المحتمل أن يكون المراد نفي أن يختص بإلقاء الذكر من بينهم وهوبشر مثلهم فلوكان الوحي حقا وجاز أن ينزل على البشر لنزل على البشر كلهم فما باله اختص بما من شأنه أن يرزقه الجميع؟ فتكون الآية في معنى قولهم له كما في سورة الشعراء: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا } [الشعراء: 154].
وقوله: {بل هو كذاب أشر} أي شديد البطر متكبر يريد أن يتعظم علينا بهذا الطريق.
قوله تعالى: {سيعلمون غدا من الكذاب الأشر} حكاية قوله سبحانه لصالح (عليه السلام) كالآيتين بعدها.
والمراد بالغد العاقبة من قولهم: إن مع اليوم غدا، يشير سبحانه به إلى ما سينزل عليهم من العذاب فيعلمون عند ذلك علم عيان من هو الكذاب الأشر صالح أوهم؟.
قوله تعالى: {إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر} في مقام التعليل لما أخبر من أنهم سينزل عليهم العذاب والمفاد أنهم سينزل عليهم العذاب لأنا فاعلون كذا وكذا، والفتنة الامتحان والابتلاء، والمعنى: أنا مرسلون - على طريق الإعجاز - الناقة التي يسألونها امتحانا لهم فانتظرهم واصبر على أذاهم.
قوله تعالى: {ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر} ضمير الجمع الأول للقوم والثاني للقوم والناقة على سبيل التغليب، والقسمة بمعنى المقسوم، والشرب النصيب من شرب الماء، والمعنى: وخبرهم بعد إرسال الناقة أن الماء مقسوم بين القوم وبين الناقة كل نصيب من الشرب يحضر عنده صاحبه فيحضر القوم عند شربهم والناقة عند شربها قال تعالى: {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155].
قوله تعالى: {فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر} المراد بصاحبهم عاقر الناقة، والتعاطي التناول والمعنى: فنادى القوم عاقر الناقة لعقرها فتناول عقرها فعقرها وقتلها.
قوله تعالى: {فكيف كان عذابي ونذر إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر} المحتظر صاحب الحظيرة وهي كالحائط يعمل ليجعل فيه الماشية، وهشيم المحتظر الشجر اليابس ونحوه يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: {ولقد يسرنا} إلخ تقدم تفسيره.
قوله تعالى: {كذبت قوم لوط بالنذر} تقدم تفسيره في نظيره.
قوله تعالى: {إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر} الحاصب الريح التي تأتي بالحجارة والحصباء، والمراد بها الريح التي أرسلت فرمتهم بسجيل منضود.
وقال في مجمع البيان،: سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يقال: رأيت زيدا سحرا من الأسحار فإذا أردت سحر يومك قلت: أتيته بسحر - بالفتح - وأتيته سحر - من غير تنوين - انتهى، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: {نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر} {نعمة} مفعول له من {نجيناهم} أي نجيناهم ليكون نعمة من عندنا نخصهم بها لأنهم كانوا شاكرين لنا وجزاء الشكر لنا النجاة.
قوله تعالى: {ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر} ضمير الفاعل في {أنذرهم} للوط (عليه السلام)، والبطشة الأخذة الشديدة بالعذاب، والتماري الإصرار على الجدال وإلقاء الشك، والنذر الإنذار، والمعنى: أقسم لقد خوفهم لوط أخذنا الشديد فجادلوا في إنذاره وتخويفه.
قوله تعالى: {ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر} مراودته عن ضيفه طلبهم منه أن يسلم إليهم أضيافه وهم الملائكة، وطمس أعينهم محوها، وقوله: {فذوقوا عذابي ونذر} التفات إلى خطابهم تشديدا وتقريعا، والنذر مصدر أريد به ما يتعلق به الإنذار وهو العذاب، والمعنى ظاهر.
قوله تعالى: {ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر} قال في مجمع البيان،: وقوله: {بكرة} ظرف زمان فإذا كان معرفة بأن تريد بكرة يومك تقول: أتيته بكرة وغدوة لم تصرفهما فبكرة هنا - وقد نون - نكرة، والمراد باستقرار العذاب حلوله بهم وعدم تخلفه عنهم.
قوله تعالى: {فذوقوا عذابي - إلى قوله - من مدكر} تقدم تفسيره.
قوله تعالى: {ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} المراد بالنذر الإنذار، وقوله: {كذبوا بآياتنا} مفصول من غير عطف لكونه جوابا لسؤال مقدر كأنه لما قيل: {ولقد جاء آل فرعون النذر} قيل: فما فعلوا؟ فأجيب بقوله: {كذبوا بآياتنا}، وفرع عليه قوله: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر}.
وقوله تعالى : { أَ كُفّارُكمْ خَيرٌ مِّنْ أُولَئكمْ أَمْ لَكم بَرَاءَةٌ فى الزّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نحْنُ جَمِيعٌ مّنتَصِرٌ}
الآيات في معنى أخذ النتيجة مما أعيد ذكره من الأنباء التي فيها مزدجر وهي نبأ الساعة المذكور أولا ثم أنباء الأمم الهالكة المذكورة ثانيا فهي تنعطف أولا على أنباء الأمم الهالكة فتخاطب قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن كفاركم ليسوا خيرا من أولئك الأمم الطاغية الجبارة وقد أهلكهم الله على أذل وجه وأهونه ولا لكم براءة مكتوبة من عذاب الله، ولا أن جمعكم ينفعكم في الذب عن العقاب.
ثم تنعطف إلى ما مر من نبأ الساعة بأنها موعدهم الصعب أن أجرموا وكذبوا والساعة أدهى وأمر، ثم تشير إلى موطن المتقين يومئذ وعند ذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: {أ كفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر} الظاهر أنه خطاب لقوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مسلم وكافر على ما تشعر به الإضافة في {كفاركم} والخيرية هي الخيرية في زينة الدنيا وزخارف حياتها كالمال والبنين أومن جهة الأخلاق العامة في مجتمعهم كالسخاء والشجاعة والشفقة على الضعفاء، والإشارة بأولئكم إلى الأقوام المذكورة أنباؤهم: قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون، والاستفهام للإنكار.
والمعنى: ليس الذين كفروا منكم خيرا من أولئكم الأمم المهلكين المعذبين حتى يشملهم العذاب دونكم.
ويمكن أن يكون خطاب {أ كفاركم} لخصوص الكفار بعناية أنهم قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيهم كفار وهم هم.
وقوله: {أم لكم براءة في الزبر{ ظاهره أيضا عموم الخطاب، والزبر جمع زبور وهو الكتاب، وقد ذكروا أن المراد بالزبر الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء، والمعنى: بل أ لكم براءة في الكتب السماوية التي نزلت من عند الله أنكم في أمن من العذاب والمؤاخذة وإن كفرتم وأجرمتم واقترفتم ما شئتم من الذنوب.
قوله تعالى: {أم يقولون نحن جميع منتصر} الجميع المجموع والمراد به وحدة مجتمعهم من حيث الإرادة والعمل، والانتصار الانتقام أو التناصر كما في خطابات يوم القيامة: {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ } [الصافات: 25] ، والمعنى: بل أ يقولون أي الكفار نحن قوم مجتمعون متحدون ننتقم ممن أرادنا بسوء أو ينصر بعضنا بعضا فلا ننهزم.
__________________________
1- تفسير الميزان ، الطباطبائي ، ج19، ص69-73.
المصير الأكثر شؤماً:
نلاحظ في هذه الآيات تعبيرات قصيرة وقويّة حول قصّة «قوم لوط» والعذاب الشديد الذي حلّ بهم، وهم المجموعة الرابعة من الأقوام التي اتّصفت بالقبح والضلال والتي إستعرضتهم هذه السورة المباركة ... حيث يبدأ الحديث عنهم بقوله سبحانه: (كذّبت قوم لوط بالنذر).
و«نذر» كما ذُكِرَ سابقاً جمع (إنذار) وتعني التهديد والتخويف، ومن المحتمل أن يكون المراد بها بعد ذكرها بصيغة الجمع هو الإنذارات المتعاقبة من النّبي لوط (عليه السلام)لقومه، والتي كذّب بها أجمع، كما يمكن أن يكون المقصود منها هو إشارة إلى إنذار لوط (عليه السلام) والأنبياء الذين سبقوه في الدعوة إلى الله، ذلك أنّ جميع الأنبياء يسعون من أجل تثبيت حقيقة أساسية واحدة وهي العبودية لله.
وتستعرض الآيات التالية بجمل قصيرة مشاهد من العذاب الذي نزل بقوم لوط وكيفية نجاة عائلته حيث يقول سبحانه: {إنّا أرسلنا عليهم حاصباً}.
و«حاصب» تعني الريح الشديدة التي تأتي بالحجارة والحصباء، والحصباء هي الحصى، ويكون المقصود: إنّا أمطرناهم بالحجارة والحصباء حتّى علت أجسادهم ودفنوا تحتها، (إلاّ آل لوط نجّيناهم بسحر).
وتتحدّث الآيات القرآنية الاُخرى عن هول العذاب الذي حلّ بقوم لوط حيث الزلازل التي قلبت مدنهم فأصبح عاليها سافلها، وبذلك اُصيبت بكارثة الدمار الماحق ... وتتحدّث عن مطر الحجارة والحصى الذي نزل عليهم بشدّة، فيقول سبحانه في ذلك: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ } [هود: 82].
ويثار السؤال التالي وهو: هل أنّ العذاب الذي نزّل بقوم لوط كان على نوعين: الأوّل: العاصفة التي حملت الحجارة وحصى الصحراء وقذفتهم بها. والثاني: الأحجار السماوية من السجّيل المنضود. أو أنّهما كانا نوعاً واحداً؟ حيث العواصف العظيمة المحمّلة بالحصى والحجارة المأخوذة من الصحراء ترفعه العواصف العاتية نحو السماء ليعود مرّة اُخرى إلى الأرض بعد إنخفاض العواصف باتّجاهها.
ولذا فليس من المستبعد أن تأخذ العاصفة قسماً من الحصى والحجارة وترفعها إلى السماء بأمر من الله تعالى لتسقط مرّة اُخرى على مدنهم بعد أن أصابها الزلزال العظيم، فتطمس معالمها المدمّرة، وتمحوآثار خرائبها من على وجه الأرض، وتدفن أجسادهم وتنهي كلّ أثر لهم، كي يكونوا إلى الأبد عبرة وعظة للآخرين(2).
والذي يفهم من الآية السابقة أنّ نجاة آل لوط كان في وقت السحر، والسبب في ذلك أنّ الوعد بالإنتقام الإلهي من قوم لوط كان وقت الصبح، لذلك ـ بأمر من الله ـ قد نجت هذه العائلة المؤمنة بخروجها من المدينة آخر الليل ـ بإستثناء زوجته التي تنكّبت وأعرضت عن دعوته ـ حيث لم يمض وقت طويل حتّى نزل العذاب عليهم زلزالا وعاصفة عاتية تمطرهم بالحصى والحجارة، كما يتحدّث القرآن الكريم عن هذا المشهد المثير في سورة هود ويقول: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] .
ومن هنا يتّضح عدم تناسب أقوال المفسّرين الذين اتّبعوا أقوال أئمّة اللغة وذلك باعتبارهم «السَحَر» ما بين الطلوعين في الآية أعلاه(3).
ويضيف الباريء عزّوجلّ بقوله: {نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر}(4).
إنّ لوطاً (عليه السلام) قد أتمّ الحجّة على قومه قبل أن ينزل البلاء عليهم، حيث يوضّح الله سبحانه هذه الحقيقة فيقول تعالى: (ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر).
(بطش) على وزن (فرش) وتعني في الأصل أخذ الشيء بالقوّة، ولأنّ المجرم لا يؤخذ إلاّ بالقوّة ليلقي جزاءه، لذلك فإنّها تعني المجازاة.
(تماروا) من (تمارى) بمعنى محادثة طرفين لإيجاد الشكّ وإلقاء الشبهة مقابل الحقّ، فهؤلاء سعوا بطرق مختلفة إلى إلقاء الشكوك والشبهات بين الناس لإبطال تأثير إنذارات هذا النّبي العظيم «لوط» (عليه السلام).
ولم يكتفِ هؤلاء المعاندون بإلقاء الشبهات العقائدية بين الناس، بل بلغت بهم الوقاحة والصلف وعدم الحياء حدّاً أنّهم تجرّؤوا على ملائكة الرحمن وضيوف النّبي الكريم المأمورين بعذاب هؤلاء القوم حينما دخلوا بيت لوط (عليه السلام)بصورة شباب وسيمين، حيث يقول سبحانه: (ولقد راودوه عن ضيفه) أي أنّهم طلبوا منه أن يضع ضيوفه تحت تصرّفهم.
لقد بلغ الألم الذي اعترى «لوطاً» (عليه السلام) حدّاً لا يطاق نتيجة هذا التصرّف القبيح والمخجل لقومه، وطلب بإصرار أن يكفّوا عن هذا السلوك المشين المخجل البعيد عن الشرف والحياء. بل وأبدى إستعداده (عليه السلام) لتزويج بناته لهم ـ إن أعلنوا توبتهم ـ وهذه أعلى حالات المظلومية التي يتعرّض لها هذا النّبي الكريم من قبل قوم عديمي الحياء والإيمان والقيم الخيرة، كما في قوله سبحانه: {قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [الحجر: 71]
ولم يمض وقت طويل حتّى واجهت هذه الفئة المجرمة الباغية الجزاء الأوّلي لعملهم الإجرامي حيث يقول في ذلك سبحانه: {فطمسنا أعينهم فذقوا عذابي ونذر}.
إنّ يد القدرة الإلهيّة إمتدّت لتنتقم من هؤلاء القوم المجرمين، وذلك بأن طمست على أعينهم، حيث يقول البعض بأنّ جبرائيل قد اُمر أن يخفق بجناحهم على عيونهم حيث فقدوا بصرهم حالا، وقيل أنّ بؤر أبصارهم قد أصبحت مستوية مع وجوههم.
ومع أنّ القرآن الكريم لم يبيّن من هم الأشخاص الذين راودوا (الملائكة) ضيوف النّبي الكريم لوط (عليه السلام)، إلاّ أنّ من الواضح أنّه لم يكن جميع القوم، بل أوباشهم الأكثر وقاحة وإجراماً الذين تسابقوا للقيام بهذا الجرم المشين، ولذا فإنّ العذاب الذي لحقهم في طمس عيونهم يفترض أن يكون عبرة للآخرين من قومهم. وللأسف الشديد لم يكن هنالك من يتّعظ ويعتبر بهذا الدرس الإلهي البليغ، والذي كان مقدّمة للعذاب الإلهي المحتوم عليهم جميعاً.
ويقال: أنّ سبب تأخير العذاب على قوم لوط إلى الصبح، هو أنّ هذه الحادثة كانت قد وقعت قبل يوم، لذا فقد اُعطي لهؤلاء المعاندين مهلة ليلة اُخرى عسى أن يفكّروا في مصيرهم قبل نزول البلاء عليهم، ويعتبروا بهذه الثلّة السيّئة الحظّ ممّن فقدوا بصرهم.
وتذكر الرّواية أنّ الجناة الذين فقدوا بصرهم لم يتّعظوا أيضاً بما أصابهم، فقد توعّدوا آل لوط أن لا يبقوا منهم أحداً، وذلك في طريق عودتهم إلى بيوتهم وهم يتلمّسون الجدران ليهتدوا بواسطتها إلى أهليهم(5).
وجاءت الساعة المرتقبة حيث أمر الله بفنائهم وقلبت الزلزلة مدينتهم رأساً على عقب وصُبّ عليهم العذاب صبّاً مع أوّل خيط من أشعّة فجر ذلك اليوم، فتتمزّق أجسادهم وتتلاشى أبدانهم وتدمّر بيوتهم وتندثر قصورهم وتتحوّل إلى أنقاض وخرائب، وإذا بالمطر الحجري ينهمل عليهم ويطمس كلّ معالم الحياة لديهم حتّى لم يبق أي أثر لهم.
وذلك ما تشير له الآية الكريمة حيث تعكس هذا المعنى بإختصار وتركيز (ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر).
نعم، وفي لحظات قصار انتهى كلّ شيء ولم يبق لهم أثر!!
كلمة (بكرة) تعني (أوّل اليوم) لأنّ (صبّحهم) واسع المعنى ويشمل كلّ الصباح، في الوقت الذي يقصد في الصباح هنا (أوّله).
وهل كان وقت العذاب الإلهي بداية طلوع الفجر، أو أنّه حصل في بداية طلوع الشمس؟ إنّ هذا الأمر لم يعرف بالضبط ولكن تعبير (بكرة) يتناسب أكثر مع بداية طلوع الشمس.
كلمة (مستقرّ) تعني الثبوت والإحكام، أي بمعنى (ثابت الحكم) ويحتمل أن يكون المراد به هنا هو: أنّ العذاب الإلهي كان شديداً إلى حدّ أنّ أي قوّة لم تكن قادرة على مواجهته.
ويقال أنّ العذاب الدنيوي لهؤلاء القوم متّصل مع عذاب البرزخ، لذا اُطلق عليه أنّه (مستقرّ).
ثمّ يضيف سبحانه مؤكّداً ومكرّراً مرّة اُخرى قوله: {فذوقوا عذابي ونذر}.
لكي لا يكون مجال للشكّ والتردّد في إنذار الأنبياء لكم بعد هذا، ورغم أنّ هذه الجملة ذكرت مرّتين في القصّة: {فذوقوا عذابي ونذر} إلاّ أنّه من الواضح هنا أنّ الجملة الاُولى تشير إلى العذاب الذي حلّ بالمجموعة التي إقتحمت بيت لوط (عليه السلام) وما نتج من إصابتهم بالعمى مقدّمة للعذاب العامّ، والثانية إشارة إلى العذاب الذي نزل بقوم لوط أجمع من الزلازل والدمار ومطر الحجارة.
وفي نهاية المطاف وفي آخر آية من بحثنا هذا تتكرّر جمل الموعظة والعبرة وللمرّة الرابعة في هذه السورة بقوله تعالى: {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر}.
نعم، لم يتّعظ قوم لوط من النذر، ولم يتّعظوا من العذاب الأوّل الذي أعمى أبصار البعض منهم والذي كان بمثابة إنذار لهم فهل أنّ الآخرين الذين يرتكبون نفس الذنوب يتّعظون لدى سماع آيات القرآن هذه وينوبوا إلى رشدهم ويندموا على ما فرط منهم؟!..
وقال تعالى :{وَلَقَدْ جَآءَ ءَالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ ( 41 ) كَذَّبُوا بآيَتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَهُمْ أَخْذَ عَزِيز مُّقْتَدِر ( 42 ) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِى الزُّبُرِ ( 43 ) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ ( 44 )سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( 45 ) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}:
هل أنتم أفضل من الأقوام السابقة؟!
المجموعة الخامسة التي يتحدّث عنها القرآن في هذه السلسلة هم قوم فرعون، ولأنّ الحديث عن هؤلاء القوم قد طرح بصورة تفصيلية في السور القرآنية المختلفة، لذا فإنّ هذه السورة المباركة تستعرض هذه القصّة في مقاطع مختصرة ومركّزة حول ضرورة الإستفادة من العبر التي جاءت فيها والإتّعاظ منها...
يقول سبحانه: {ولقد جاء آل فرعون النذر}(6).
المقصود من (آل فرعون) ليسوا أهل بيته ومتعلّقيه فقط، بل يشمل كلّ أتباعه بصورة عامّة، لأنّ كلمة (آل) وبالرغم من أنّها تستعمل في الغالب لأهل البيت والعائلة، إلاّ أنّ معناها أوسع من ذلك، حيث تأتي بالمعنى الذي ذكر، والقرائن العامّة في هذا المورد تؤيّد هذا المعنى الواسع لها.
(نذر) على وزن (كتب) وهي جمع نذير، وبمعنى «المنذر» سواء كان هذا المنذر إنساناً أو حادثة من الحوادث التي تحذّر الإنسان من عاقبة أعماله، وفي الحالة الاُولى يمكن أن يكون المقصود في الآية أعلاه (موسى وهارون) (عليهما السلام)، وفي الصورة الثانية إشارة إلى المعجزات التسع لموسى (عليه السلام). ومن خلال ملاحظة الآية التي بعدها تشير إلى أنّ المعنى الثاني هو الأنسب.
والآية اللاحقة تكشف عن ردّ الفعل لآل فرعون من دعوة النبيين الإلهيين (عليهما السلام)، والإنذارات التي وجّهوها لهم حيث يقول الله سبحانه: {كذّبوا بآياتنا كلّها}.
نعم إنّ هؤلاء المغرورين من الجبابرة والمعاندين قد أنكروا كلّ الآيات الإلهيّة وبدون إستثناء، وحسبوها سحراً وكذباً وصدفة.
(آيات) لها معنى واسع تشمل الدلائل العقلية والمعجزات والدلائل النقلية، وعند ملاحظة قوله تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بيّنات} يتبيّن لنا أنّ المقصود بـ (الآيات) هنا هي المعجزات التسع لموسى (عليه السلام)(7).
إنّ الإنسان إذا كان صادقاً في البحث عن الحقيقة فانّه يكفيه أن يرى واحدة منها، وخاصّة تلك التي يسبقها إنذار، ثمّ بلاء، ثمّ زوال هذا البلاء عند دعاء النّبي الإلهي، ولكن العناد والإصرار على الباطل والغرور إذا ركب الإنسان، فحتّى لو أصبحت جميع السماء والأرض آيات لله، فلن تكون ذات تأثير على أمثال هؤلاء، والجواب الحاسم المناسب لهم هو العذاب الإلهي الذي يقضي على النزعات الشريرة والنفوس المريضة التي يملؤها الهوى والغرور. كما قال تعالى: (فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر) تكملة للآية مورد البحث.
«أخذ» في الأصل بمعنى تناول الشيء وأخذه باليد، ولكون المجرم يؤخذ قبل أن يعاقب، لذا فإنّها تستعمل كناية عن المجازاة.
والتعبير الآخر الذي أتى في آخر هذه القصّة لا يوجد له شبه في التعابير المماثلة في القصص الاُخرى، وذلك لأنّ الفراعنة كانوا يتباهون بقوّتهم وسطوتهم وعزّهم أكثر من بقيّة الاُمم، والحديث عن قوّة سلطانهم كان في كلّ مكان. يقول الله تعالى: {فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} وذلك كي يكون واضحاً للجميع أنّ القوّة الحقيقة هي لله وحده، لأنّ كلّ قوّة وعزّة اُخرى غير قوّته وما يتّصل بذاته وهميّة لا تساوي شيئاً في قبال عزّته وقدرته ... والعجيب أنّ نهر النيل العظيم الذي كان مصدر خير وثروة لهم، هو الذي اُمر بالإنتقام منهم، والأعجب من ذلك أنّ أضعف المخلوقات سلّطت عليهم كالجراد والضفادع والقمل فجعلتهم في حالة عجز ومسكنة لا يقدرون على دفعها، وهم الذين كانوا من السطوة والقوّة موضع حديث أهل زمانهم.
وبعد بيان هذه المشاهد المؤثّرة من قصص الأقوام المنصرمة والعذاب الإلهي العظيم الذي حلّ بهؤلاء الجبابرة المتمردّين على الحقّ، يخاطب الله سبحانه في الآية اللاحقة مشركي مكّة بقوله تعالى: {أكفّاركم خير من اُولائكم أم لكم براءة في الزبر}(8).
فما الفرق بينكم وبين قوم فرعون وقوم نوح ولوط وثمود؟ فكما أنّ اُولئك الأقوام قد عذّبوا بالطوفان تارةً والزلازل والصواعق اُخرى، إقتصاصاً منهم للكفر والظلم والطغيان والعصيان الذي كانوا عليه ... فما المانع أن يصيبكم العذاب ويكون مصيركم نفس المصير .. فهل أنتم أفضل منهم؟ وهل أنّ كفركم وعنادكم أخفّ حدة؟ وكيف ترون أنّكم مصونون من وقوع العذاب الإلهي؟ أألقي إليكم كتاب من السماء يعطيكم هذا الأمان؟
ومن الطبيعي أنّ مثل هذه الإدّعاءات إدّعاءات كاذبة لا يقوم عليها أي دليل {أم يقولون نحن جميع منتصر}(9).
«جمع» بمعنى مجموع، والمقصود هنا هي الجماعة التي لها هدف وقدرة على إنجاز عمل، والتعبير هنا بـ (منتصر) تأكيد على هذا المعنى لأنّه من مادّة (إنتصار) بمعنى الإنتقام والغلبة.
والجدير بالذكر هنا أنّ الآية السابقة كانت بصورة خطاب، أمّا في الآية مورد البحث والآيات اللاحقة، فإنّ الحديث عن الكفّار بلغة الغائب، وهو نوع من أنواع التحقير، أي أنّهم غير مؤهّلين للخطاب الإلهي المباشر.
وعلى كلّ حال، فإنّ إدّعاءهم بالقوّة والقدرة إدّعاء فارغ وقول هراء، لأنّ الأقوام السابقة من أمثال قوم عاد وثمود وآل فرعون وأضرابهم كانوا أكثر قوّة وسطوة، ومع ذلك فلم تغن عنهم قوّتهم شيئاً حينما واجهوا العذاب، وكانوا من الضعف كالقشّة اليابسة تتقاذفها الأمواج من كلّ مكان، فكيف بمن هو أقل عدداً وأضعف حيلة وقوّة ومنعة؟
_____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13، ص401-409.
2 ـ توجد أبحاث اُخرى حول هذا الموضوع في الآية (82) من سورة هود.
3 ـ يقول الراغب في المفردات: السحر إختلاط ظلام آخر الليل بضياء النهار.
4 ـ نعمة مفعول به لفعل مقدّر من نفس جنسه، أو أنّه مفعول له لـ (نجّينا) الذي ورد في الآية السابقة.
5 ـ نور الثقلين، ج5، ص185.
6 ـ (نذر) بالإضافة إلى كونها جمع (نذير)، فإنّها تعطي أيضاً معنى المصدر أواسم المصدر، ولكون المصدر يطلق على المعنى الوصفي أيضاً، لذا يمكن جمع الإثنين في مفهوم واحد.
7 ـ المعجزات التسع لموسى (عليه السلام) وبالنظر إلى الآيات القرآنية المختلفة فهي عبارة عن: «تبديل العصا لثعبان عظيم» (طه / 20) (2) «يد بيضاء» ولمعان يد موسى (عليه السلام) كمصدر نور (طه / 22) (3) الطوفانات المحطّمة الأعراف / 133 (4) (الجراد) الذي سلّط على المزارع، (5) (والقمل) (وهو نوع من الآفات الزراعية)، (6) (الضفادع) التي خرجت من نهر النيل وبعد مدّة قصيرة غطّت سطحه (7) (الدم) حيث أصبح لون نهر النيل بلون الدم (الأعراف / 133)، (8)، (9) عدم نزول الأمطار ونقص الثمرات (الأعراف / 130).
8 ـ الضمير في «كفّاركم» يرجع في الظاهر (لمشركي العرب) بقرينة الجملة (أم لكم براءة في الزبر).
9 ـ بالرغم من أنّ (نحن) ضمير جمع فانّ خبرها (جميع) قد جاء مفرداً، وكذلك منتصر والتي جاءت خبراً بعد خبر أو صفة لـ (جميع)، والسبب في ذلك فإنّ لفظ (جميع) وإن كانت مفردة إلاّ أنّ المعنى (جمع).
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
الأمين العام للعتبة العسكرية المقدسة يستقبل شيوخ ووجهاء عشيرة البو بدري في مدينة سامراء
|
|
|