أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-7-2017
763
التاريخ: 23-5-2018
1059
التاريخ: 31-7-2017
947
التاريخ: 26-7-2017
857
|
سبب قتل البرامكة وما وقع لهم مع الرشيد
والقصة في ذلك على ما رواه إبراهيم بن إسحاق عن أبي ثور زاهر بن صقلاب قال: بلغني أنه كان لهارون الرشيد مجلس بالليل مع جعفر البرمكي. فقال له يوماً: لا يطيب لي ذلك إلا بمحضر أختي ميمونة. ولكن لا يجوز إلا إن كتبت لك عليها لإباحة النظر من غير أن تقربها.
فاتفقا على ذلك وعقد له عليها ثم أحضرها فكانت تحضر لذلك المجلس إلا أنه زاد غرامها وعشقها فيه، وكان لجعفر البرمكي امرأة تزين له الجواري كل ليلة، فجاءت ميمونة إليها ورشتها بمال فزينتها له، وأدخلتها عليه، فظن أنها جارية فواقعها. فلما أصبحوا قالت له: أنا ميمونة، وقد كنت أسألك أن تساعدني على مودتك فتأبى. فلما أيست منك احتلت عليك بما رأيت في هذه الليلة، وإن لم تواظب لأكونن سبباً في سلب نعمتك، وهل أنت إلا زوجي؟ فقال لها جعفر: ويحك أهلكتني وأهلكت نفسك.
وكان كما قال، ولم يزرها حتى ظهر أمرها للرشيد، فهذا كان سبب قتل البرامكة وهذا ابتداء الحديث.
قال المبرد: قال أبو عبد الله المارستاني عن يحيى بن أكثم القاضي، قال: سألت إسماعيل بن يحيى الهاشمي عن سبب زوال نعمة البرامكة.
قال: نعم أعرف صحة الخبر وباطن القصة: كان سبب ذلك أني كنت مع الرشيد يوماً من الأيام راكباً إلى الصيد، فبينما نحن نسير إذ نظر إلى موكب بالعبد اعترضنا، فقال لي: يا إسماعيل لمن هذا؟ فقلت: هو لأخيك جعفر بن يحيى.
فالتفت يميناً وشمالاً إلى من معه في موكبه، فإذا هو شرذمة يسيرة، ثم نظر إلى الموكب الذي فيه جعفر فلم يره. فقال: يا إسماعيل ما فعل جعفر وموكبه؟ فقلت: يا سيدي قد مضى أخوك في طريق ولم يعلم بموضعك.
فقال: ما رآنا أهلاً أن يزيننا بمركبه ويجملنا بجيشه.
فقلت: العفو يا أمير المؤمنين، لو علم بمكانك ما تعداك وما سار إلا بين يديك، واعتذرت بما حضر لي من الكلام.
ثم سرنا حتى انتهينا إلى ضيعة عامرة ومواشٍ كثيرة وعمارة حسنة، وكان الطريق يدور عليها، فدرنا حتى وردنا باب القرية، فنظر الرشيد إلى البيدر وإلى كثرة الغلال فيه والمواشي ويسار أهلها، فالتفت إلي وقال: يا إسماعيل لمن هذه الضيعة؟ قلت: لأخيك جعفر بن يحيى.
فسكت ثم تنفس الصعداء ثم سرنا ولم يزل يمر بكل ضيعة أعمر من الأخرى، وكلما مر وسألني عن ضيعة قلت: لجعفر بن يحيى، حتى سرنا ووصلنا إلى المدينة، فلما أردت وداعه والانصراف إلى منزلي نظر إلي من كان حواليه نظرة، فعلموا ما أراد فتفرقوا وبقيت أنا وهو، فقال: يا إسماعيل.
قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.
فقال: انظر إلى البرامكة أغنيناهم وأفقرنا أولادنا وأغفلنا أمرهم.
فقلت في نفسي: بلية والله، ثم قلت: لماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: نظرت لهؤلاء وغفلت عن هؤلاء لأني لا أعرف لأحد من أولادي ضيعة من ضياع البرامكة على طريق واحد، على قرب هذا المدينة، فكيف بما هو لهم غير ذلك على غير هذا الطريق في سائر البلدان.
فقلت: يا أمير المؤمنين إنما البرامكة عبيدك وخدمك، والضيعات وأموالهم وكل ما يملكون لك.
فنظر إلي نظرة جبار عنيد.
ثم قال: ما عد البرامكة بني هاشم إلا عبيدهم، وأنهم هم الدولة وأن لا نعمة لبني العباس إلا والبرامكة أنعموا عليهم بها.
فقلت: أمير المؤمنين أبصر من غيره بخدمه ومواليه.
فقال: والله يا إسماعيل! إنك لتعلم أني قلت هذا وكأني أراك أن تعلمهم بكلامي فتتخذ لك عندهم يداً، وإني آمرك أن تكتم هذا الأمر فإنه ما علم به أحد غيرك، ومتى بلغهم شيء مما جرى؟ علمت أنه ما أفشاه إلا أنت.
فقلت: يا أمير المؤمنين، أعوذ بالله أن يكون مثلي يفشي سرك.
قال: وكان هذا القول أول ما ظهر من أمر البرامكة، ثم ودعته وانصرفت متفكراً في إيقاع الحيلة عليهم. فلما كان من الغد بكرت إليه، وجلست بين يديه وكان في محل يشرف على الدجلة من شرقي مدينة باب السلام، وبإزائه منزل جعفر من الجانب الغربي، وكانت المواكب من جميع الأَصناف: من قائد وأمير وعامل يردون في كل يوم إلى قصر جعفر، فالتفت إلي وقال: يا إسماعيل، هذا ما كنا فيه بالأمس. انظر كم على باب جعفر من الجيوش والغلمان والمواكب، وأنا ما على باب داري أحد؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ناشدتك الله أن لا تعلق نفسك بشيء من هذا. وإن جعفراً إنما هو عبدك وخادمك ووزيرك وصاحب جيوشك، إذا لم يكن الجيش على بابه فعلى باب من يكون؟ إنما بابه باب من أبوابك.
فقال: يا إسماعيل، أنظر إلى دوابهم ألست ترى أعجازهم إلى قصري وتروث بإزائنا، ونحن ننظر إليها، والله هذا هو الاستخفاف بعينه، والله لا أصبر على ذلك.
ثم غضب غضباً شديداً وامتلأ غيظاً، فأمسكت عن الكلام وقلت: والله هذا قضاء من الله سابق وحكم لا محالة واقع، ثم استأذنته في الانصراف ورجعت إلى منزلي، فلقيني جعفر في الطريق يريد الرشيد، فتواريت عنه حتى مضى، فدخل إليه وسلم عليه فأجلسه عن يمينه وأكرمه غاية الإكرام وبش في وجهه وحادثه ساعة ووهب له خادماً من خاصة خدمه وأنبلهم وأوضحهم وجهاً وأكملهم ظرفاً، كاتباً حاسباً لبيباً، فسر جعفر سروراً كاملاً، ووقع في قلبه أجل موقع، وكان دسيساً عليه وبلية لديه يرفع أخباره إلى الرشيد ويحصي عليه أنفاسه ساعة بساعة ووقتاً بوقت، فخلا به جعفر يومه ذلك وليلته واحتجب من أجله عن الناس، فلما كان بعد ثلاثة أيام سرت إلى جعفر فسلمت عليه، فلما خلا مجلسه ولم يبق عنده غيري وذلك الخادم واقفٌ، وعلمت أن الخادم يحصي علينا أخبارنا فقلت: أيها الوزير، نصيحة أفتأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم.
وكان الرشيد ولاه كورة خراسان كلها وما يضاف إليها وينسب لها قبل هذا الكلام بأيام، وخلع عليه وعقد له لواء وعسكراً بالنهروان، وضرب الناس مضاربهم بها، وهم متأهبون للسفر، فقلت: يا سيدي! أنت عازم على الخروج إلى بلدة كثيرة الخير واسعة الأقطار عظيمة المملكة، فلو صيرت بعض ضياعك لولد أمير المؤمنين لكان أحظى لمنزلتك عنده؟ فلما قلت ذلك نظر إلي مغضباً وقال: والله يا إسماعيل، ما أكل الخبز ابن عمك أو قال صاحبك إلا بفضلي، ولا قامت هذا الدولة إلا بنا، أما كفى أني تركته لا يهتم بشيء من أمر نفسه وولده وحاشيته ورعيته، وقد ملأت بيوت أمواله أموالاً، ولا زلت للأمور الجليلة أدبرها حتى يمد عينيه إلى ما ادخرته واخترته لولدي وعقبي من بعدي، وداخله حسد بني هاشم وبغيهم ودب فيه الطمع والله لئن سألني شيئاً من ذلك ليكونن وبالاً عليه سريعاً.
فقلت: والله يا سيدي، ما كان مما ظننت شيء ولا تكلم أمير المؤمنين بحرف.
قال: فما هذا الفضول منك، فقعدت بعدها هنيهة ثم قمت إلى منزلي ولم أركب إليه ولا إلى الرشيد لأني صرت بينهما في حال تهمة، وقلت في نفسي: هذا الخليفة وهذا وزيره، وأي شيء لي بالدخول بينهما؟ ولا شك في زوال نعمة البرامكة، وأن أمورهم قد انثلمت.
قال: وحدثني خادم أم جعفر: أن الخادم الذي وهبه الرشيد لجعفر كتب إلى الرشيد بما كان بيني وبينه، وما تكلم به من الكلام الغليظ.
قال: فلما قرأ الكتاب وفهم الخبر احتجب ثلاثة أيام متفكراً في إيقاع الحيلة على البرامكة فدخل في اليوم الرابع على زبيدة فخلا بها وشكا لها ما في قلبه، وأطلعها على الكتاب الذي رفعه إليه الخادم، وكان بين جعفر وزبيدة شر وعداوة قديمة فلما تملكت الحجة عليه بالغت في المكر بهم واجتهدت في هلاكهم، وكان الرشيد يتبرك بمشورتها، فقال: أشيري علي برأيك الموافق الرشيد، إني خائف أن يخرج الأمر من يدي إن تمكنوا من خراسان وتغلبوا عليها؟ فقالت: يا أمير المؤمنين! مثلك مع البرامكة كمثل رجل سكران غريق في بحر عميق، فإن كنت قد أفقت من سكرتك وتخلصت من غرفتك أخبرتك بما هو أصعب عليك وأعظم من هذا بكثير؛ وإن كنت على الحالة الأولى تركتك.
فقال لها: قد كان ما كان، فقولي أسمع منك.
فقالت: إن هذا الأمر أخفاه عنك وزيرك وهو أصعب مما أنت فيه وأقبح وأشنع.
فقال لها: ويحك، وما هو؟ فقالت: أنا أجل من أن أخاطبك به ولكن تحضر أرجوان الخادم وتشدد عليه وتوهنه ضرباً فإنه يعرفك الخبر.
وكان الرشيد قد أحل جعفراً محلاً لم يحله أخوه ولا أبوه، وأمره أن يدخل على الحريم في السفر والحضر وأبرز إليه جواريه وأخواته وبناته لأنه كان بينهما رضاع سوى امرأته زبيدة، فإنه لم يكن رآها ولا دخل عليها ولا قضى لها حاجة، ولا هي أيضاً تستقضيه حاجة، فلما فسد قلب الرشيد وعزم على هلاك البرامكة وجدت سبيلاً على البرامكة فحطت على جعفر، وكان جعفر يدخل على الحريم في غياب الرشيد ويقضي حوائجهن لأنهن لا يستترن منه، وكان ذلك بأمر الرشيد، ولم يعلم الرشيد ما حدث من جعفر.
قال: فخرج الرشيد واستدعى أرجوان الخادم وأحضر السيف. والنطع، وقال: برئت من المنصور إن لم تصدقني في حديث جعفر لأقتلنك.
فقال: الأمان يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم لك الأمان.
فقال: اعلم أن جعفراً قد خانك في أختك ميمونة، وقد دخل بها منذ سبع سنين وولدت منه ثلاث بنين: أحدهم له ست سنين، والآخر له خمس سنين والثالث عاش سنتين ومات قريباً، والاثنان قد أنفذهما إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه [وآله] ، وهي حامل بالرابع، وأنت أذنت له بالدخول على أهل بيتك، وأمرتني أن لا أمنعه في أي وقت شاء ليلاً أو نهاراً.
قال: أمرتك أن لا تحجبه، فحين حدثت هذه الحادثة لم لا أخبرتني أول مرة؟ ثم أمر بضرب عنقه، وقام من وقته على الفور، ودخل على زبيدة، وقال لها: أرأيت ما عاملني به جعفر وما ارتكب من هتك ستري ونكس رأسي وفضحني بين العرب والعجم؟ فقالت: هذه شهوتك وإرادتك، عمدت إلى شاب جميل الوجه حسن الثياب طيب الرائحة جبار في نفسه، أدخلته على ابنة خليفة من خلفاء الله، وهي أحسن منه وجهاً، وأنظف منه ثوباً، وأطيب منه رائحة، لكنها لم تر رجلاً قط غيره، فهذا جزاء من جمع بين النار والحطب.
فخرج من عندها مكروباً فدعا بخادمه مسروراً، وكان قاسي القلب فظاً غليظاً قد نزع الله الرحمة من قلبه، فقال: يا مسرور، إذا كان الليلة بعد العتمة فأتني بعشرة من الفعلة أجلاداً ومعهم خادمان.
قال: نعم.
فلما كان بعد العتمة جاء مسرور ومعه الفعلة والخادمان، فقام الرشيد وهم بين يديه حتى أتى المقصورة التي فيها أخته فنظر إليها وهي حامل فلم يكلمها بشيء ولم يعاتبها على ما فعلت، وأمر الخادمين بإدخالها في صندوق كبير في مقصورتها بعد قتلها ووضعها بحليها وثيابها كما هي وأقفل عليها، وقد علمت أنها بعد قتل أرجوان لاحقة به، فلما علم أنه استوثق بها دعا بالفعلة ومعهم المعاول والزنابيل فحفروا وسط تلك المقصورة حتى بلغوا الماء وهو قاعد على كرسي، ثم قال: حسبكم! هاتوا الصندوق، فدلوه في تلك الحفرة، ثم قال: ردوا التراب عليه، ففعلوا وسووا الموضع كما كان، ثم أخرجهم وأقفل الباب وأخذ المفتاح معه وجلس في موضعه والفعلة والخادمان بين يديه، ثم قال: يا مسرور! خذ هؤلاء القوم وأعطهم أجرتهم، فأخذهم مسرور وجعلهم في جواليق وخيط عليهم بعد أن ثقلهم بالصخر والحصى ورماهم في وسط الدجلة ورجع من وقته فوقف بين يديه، فقال: يا مسرور! فعلت ما أمرتك به؟ قال: وفيت القوم أجورهم.
فدفع ليه مفتاح البيت، وقال: احفظه حتى أسألك عنه، وامض الآن فانصب في وسط المحل القبة التركية.
ففعل ذلك ووافاه قبل الصبح ولم يعلم أحد ما يريد. فلما جلس في مجلسه وكان يوم الخميس يوم موكب جعفر. قال: يا مسرور لا تتباعد عني.
ودخل الناس فسلموا عليه ووقفوا على مراتبهم ودخل جعفر بن يحيى البرمكي فسلم عليه فرد عليه السلام أحسن رد ورحب به وضحك في وجهه، فجلس في مرتبته، وكانت مرتبته أقرب المراتب إلى أمير المؤمنين، ثم حدثه ساعة وضاحكه، فأخرج جعفر الكتب الواردة عليه من النواحي؛ فقرأها عليه، وأمر، ونهى، ومنع، ونفذ الأمور، وقضى حوائج الناس، ثم استأذنه جعفر في الخروج إلى خراسان في يومه ذلك، فدعا الرشيد بالمنجم، وهو جالس بحضرته فقال الرشيد: كم مضى من النهار.
قال: ثلاث ساعات ونصف.
وأخذ له الارتفاع وحسب له الرشيد بنفسه ونظر في نجمه، فقال: يا أخي، هذا يوم نحوسك، وهذه ساعة نحس، ولا أرى إلا أنه يحدث فيها حدث، ولكن تصلي الجمعة وترحل في سعودك وتبيت في النهروان وتبكر يوم السبت وتستقبل الطريق بالنهار، فإنه أصلح من اليوم.
فما رضي جعفر بما قاله الرشيد حتى أخذ الاصطرلاب من يد المنجم وقام وأخذ الطالع وحسب الطالع لنفسه، وقال: والله صدقت يا أمير المؤمنين؛ إن هذه الساعة ساعة نحسن وما رأيت نجماً أشد احتراقاً ولا أضيق مجرى من البروج في مثل هذا اليوم.
ثم قام وانصرف إلى منزله، والناس والقواد والخاص والعام من كل جانب يعظمونه ويبجلونه إلى أن وصل إلى قصره في جيش عظيم، وأمر ونهى وانصرف الناس فلم يستقر به المجلس حتى بعث إليه الرشيد مسروراً، وقال له: امض إلى جعفر وأتني به الساعة، وقل له: وردت كتب من خراسان، فإذا دخل الباب الأول أوقف الجند، وإذا دخل الباب الثاني أوقف الغلمان، وإذا دخل الباب الثالث فلا تدع أحداً يدخل معه من غلمانه، بل يدخله وحده، فإذا دخل صحن الدار فمل به إلى القبة التركية التي أمرتك بنصبها فاضرب عنقه، وائتني برأسه، ولا توقف أحداً من خلق الله على ما أمرتك به، ولا تراجعني في أمره، وإن لم تفعل أمرت من يضرب عنقك ويأتيني برأسك ورأسه جملة، وفي هذا كفاية، وأنت أعلم، وتبادر قبل أن يبلغه الخبر من غيرك.
فمضى مسرور واستأذن على جعفر فدخل عليه، وقد نزع ثيابه وطرح نفسه ليستريح، فقال: سيدي! أجب أمير المؤمنين.
قال: فانزعج وارتاع منه، وقال: ويلك يا مسرور! أنا في هذه الساعة خرجت من عنده؛ فما الخبر؟ قال: وردت كتب من خراسان يحتاج أن تقرأها.
فطابت نفسه ودعا بثيابه فلبسها وتقلد سيفه وذهب معه، فلما دخل من الباب الأول أوقف الجند وفي الثاني أوقف الغلمان، فلما دخل من الباب الثالث التفت فلم ير أحداً من غلمانه ولا الخادم الفرد، فندم على ركوبه تلك الساعة ولم يمكنه الرجوع، فلما صار بإزاء تلك القبة المضروبة في صحن الدار مال به إليها وأنزله عن دابته وأدخله القبة فلم ير فيها أحداً.
وفي رواية: رأى فيها سيفاً ونطعاً فحس بالبلاء، وقال لمسرور: يا أخي ما الخبر؟ فقال له مسرور: أنا الساعة أخوك، وفي منزلك تقول لي: ويلك! أنت تدري ما القضية؟ وما كان الله ليهملك ولا ليغفلك، فقد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك وحمل رأسك إليه الساعة.
فبكى جعفر وجعل يقبل يدي مسرور ورجليه، ويقول: يا أخي! يا مسرور، قد علمت كرامتي لك دون جميع الغلمان والحاشية، وأن حوائجك عندي مقضية في سائر الأوقات، وأنت تعرف موضعي ومحلي من أمير المؤمنين، وما يوحيه إلي من الأسرار، ولعل أن يكونوا بلغوه عني باطلاً، وهذه مائة ألف دينار أحضرها لك الساعة قبل أن أقوم من موضعي هذا، وخلني أهيم على وجهي.
فقال: لا سبيل إلى ذلك أبداً.
قال: فاحملني إليه وأوقفني بين يديه، فلعله إذا وقع نظره علي تدركه الرحمة فيصفح عني؟ قال: ما لي سبيل إلى ذلك أبداً، ولا يمكنني مراجعته، وقد علمت أنه لا سبيل إلى الحياة أبداً.
قال: فتوقف عني ساعة وارجع إليه، وقل له: قد فرغت مما أمرتني به، واسمع ما يقول، وعد فافعل ما تريد، فإن فعلت ذلك وحصلت لي السلامة، فإني أشهد الله وملائكته أني أشاطرك في نعمتي مما ملكته يدي وأجعلك أمير الجيش وأملكك أمر الدنيا.
ولم يزل به وهو يبكي حتى طمع في الحياة، فقال له مسرور: ربما يكون ذلك.
وحل سيفه ومنطقته وأخذهما ووكل به أربعين غلاماً من السودان يحفظونه ومضى مسرور ووقف بين يدي الرشيد وهو جالس يقطر غضباً، وفي يده قضيب ينكث به الأرض. فلما رآه قال له: ثكلتك أمك ما فعلت في أمر جعفر؟ فقال: يا أمير المؤمنين قد أنفذت أمرك فيه.
فقال: فأين رأسه؟ فقال: في القبة.
قال: فأتني برأسه الساعة.
فرجع مسرور وجعفر يصلي، وقد ركع ركعة فلم يمهله أن يصلي الثانية حتى سل سيفه الذي أخذه منه وضرب عنقه وأخذ رأسه بلحيته فطرحه بين يدي أمير المؤمنين، وهو يشخب دماً فتنفس الصعداء وبكى بكاء شديداً وجعل ينكت الأرض أثر كل كلمة ويقرع أسنانه بالقضيب، ويخاطبه، ويقول: يا جعفر ألم أحلك محل نفسي؟ يا جعفر! ما كافأتني ولا عرفت حقي ولا حفظت عهدي ولا ذكرت نعمتي ولا نظرت في عواقب الأمور، ولا تفكرت في صروف الدهر، ولا حسبت تقلب الأيام واختلاف أحوالها، يا جعفر خنتني في أهلي وفضحتني بين العرب والعجم، يا جعفر، أسأت إلي وإلى نفسك ولا تفكرت في عاقبة أمرك.
قال مسرور: وأنا واقف بين يديه، وهو ينكت الأرض في كل كلمة، وملم يزل كذلك إلى أن أذن لصلاة الظهر، فدعا بماء فتوضأ للصلاة وخرج للجامع فصلى بالناس جماعة، ثم التفت بوجهه لقصور جعفر ودوره وقبض على أبيه وأخيه وجميع أولاد البرامكة ومواليهم وغلمانهم واستباح ما فيها، ووجه مسروراً إلى العسكر فأخذوا جميع ما فيه من مضارب وخيام وسلاح وغير ذلك. فلما أصبح يوم السبت، فإذا هو قد قتل من البرامكة وحاشيتهم نحو ألف إنسان، وترك من بقي منهم لا يرجع إلى وطنه وشتت شملهم في البلاد، ولم يقدر أحد منهم على كسرة خبز، وحبس أباه يحيى وأخاه الفضل في مطمورة، وأمر بجثة جعفر فصلبت على الجسر ببغداد، ثم بعث إلى خراسان أن يوطن بلادها، وأمر الناس فردوا مضاربهم ودخل العسكر، ثم وجه إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بالصبيين ولدي جعفر من أخته ميمونة فأدخلا عليه في بيته، فلما رآهما أعجب بهما وكانا في نهاية من الحسن والجمال، فاستنطقهما فوجد لغتهما مدنية وفصاحتها هاشمية، وفي ألفاظهما عذوبة وبلاغة، فقال لكبيرهما: ما اسمك يا قرة عيني؟ قال: الحسن.
قال للصغير: ما اسمك يا حبيبي؟ قال: الحسين.
فنظر إليهما وبكى بكاء شديداً، ثم قال: يعز علي حسنكما وجمالكما لا رحم الله من ظلمكما ولم يدريا ما يراد بهما، ثم قال: ما فعلت بالمفتاح الذي دفعته لك وأمرتك بحفظه؟ قال: هو حاضر يا أمير المؤمنين.
قال: فائتني به.
ثم دعا بجماعة من الغلمان والخدم وأمرهم أن يحفروا في البيت حفرة عميقة ودعا مسروراً وأمره بقتلهما ودفنهما مع أمهما في تلك الحفرة، رحمهم الله تعالى جميعاً، وهو مع ذلك يبكي بكاء شديداً حتى ظننت أنه رحمهما، ثم مسح عينيه من الدموع وأمر أن لا تذكر البرامكة في مجلس، ولا يستعان بمن بقي منهم في المدينة أبداً، فخرجوا على وجوههم في البلاد شاردين متنكرين وقطع الله دابرهم.
قال: فلما كان بعد مدة من هلاك البرامكة وجد الرشيد رقعة تحت مصلاه فيها خطاب وأبيات من الشعر فبحث عنها، فقيل: إن صاحب السر عملها، فبعث إليه فسأله عنها، فقال: يا أمير المؤمنين وجدتها في صحن الدار، ولا أعلم من طرحها فأخذتها وطرحتها تحت مصلاك، فقيل: إن ذلك من زبيدة لتهلك من بقي من البرامكة فعملت الرقعة للرشيد وحركته وزادت في غيظه، فاستدعى في الوقت بالفضل بن يحيى وضربه سياطاً حتى كاد يهلكه وزاد في حديده وأغلاله، ثم استدعى يحيى وكان شيخاً كبيراً، وزاد في حديده وأغلاله أيضاً، وكان قد أنشأ في النعيم، فتذكر فقد جعفر وتشتت الأهل، فكتب كتاباً إلى الرشيد يستعطفه ويسأله أن يخفف عنه من القيد والغل، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى أمير المؤمنين ونسل المهديين وإمام المسلمين وخليفة رسول الله رب العالمين، من عبد أسلمته ذنوبه وأوثقته عيوبه وخذله شقيقه ورفضه صديقه وخانه الزمان وأناخ عليه الخذلان ونزل به الحدثان فصار إلى الضيق بعد السعة، وعالج الموت بعد الدعة، وشرب كأس الموت مترعة، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل بالسهر بعد الكرى، فنهاره فكر ونومه سهر، وساعته شهر وليله دهر قد عاين الموت مراراً وشارف الهلاك جهاراً، يا أمير المؤمنين، قد أصابتني مصيبتان: الحال والمال، أما المال، فإن ذلك منك ولك، وكان في يدي عارية منك، ولا بأس برد العواري إلى أهلها، وما المصيبة بجفعر فبجرمه وجراءته وعاقبته بما استخف من أمرك وكان جزاؤه فوق ما استحق، وأما الفقير، فاذكر يا أمير المؤمنين خدمتي وارحم ضعفي ووهن قوتي وهب لي رضاك فمن مثلي الزلل ومن مثلك الإقالة، ولست أعتذر ولكن أقر وقد رجوت أن أفوز برضاك فتقبل عذري وصدق نيتي وظاهر طاعتي وتلويح حجتي ففي ذلك ما يكتفي به أمير المؤمنين ويرى الحقيقة فيه ويبلغ المراد منه، ثم أنشأ يقول:
قـل للخيلفــة ذي الصنــا *** ئع والعطايـــا الفاشيه
وابن الخلائف من قري؟ *** شٍ والــــملوك العاليه
رأس الأمـور وخيـر من *** ساس الأمور الماضيه
إن الــبرامكـة الـــــذي؟ *** ن رمـــوا لديك بداهيـه
عمتهمـــو لـك سخطــة *** لـــم تبق منهــــم باقية
؟فكأنهـــم ممــــــا بهـم *** أعجـــاز نخـــل خاويه
صـفر الوجـــــوه عليهم *** خلـــــع المــذلة باديه
........
ثم أردفه بقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } [النحل: 112] فلما قرأها يحيى، وهو بالسجن، أخذته الحمى لوقته وساعته، وكان ينام على التراب وأيس من الحياة، وعلم أنه ليس له مخلص مما هو فيه من السجن......
موت يحيى البرمكي
ثم إن الرشيد نذر الحج، فخرج وخرج معه العسكر وكان خروجه في رمضان، فكانت تضرب له السرادقات المكللة بالديباج مفروشة بالحرير، يخرج من سرادق إلى سرادق، والناس محدقون به، حتى وصل إلى الحرم وحج. فاتفق أن الوفاة دنت من يحيى، وهو في السجن، فكتب رقعة وأوصى ولده الفضل أن يوصلها إلى الرشيد وكتب فيها هذه الأبيات:
ستعلم في الحســــــــــــاب إذا التقينا *** غـــداً، يومَ القيامة، من الظلومُ
؟وينقطــــــع التلذذ عـــــــن أنـــــاس*** مـــــن الدنيا، وتنقطـــع الهموم
تنام ولـــم تنم عنــــــك المـــــــــنايا *** تنبـــه للمنيــــة يــــــا نـــــؤوم
إن البرامكــــة الكــــرام تعلمــــــــوا *** فعــــل الكــــرام فعلموه النــاسا
كانوا إذا غـــرسوا سقــوا، وإذا بنوا *** لم يهدمـــوا ممـــا بنــوه أساسا
وإذا همو صنعوا الصنائع في الورى *** جعلــوا لها طـــولَ البقـاء لـباسا
فعـــلام تقصينـــي وأنــــــت سقيتني *** من مر هجرك، من جنابـك كاسا
آنستــني متفضـــــلاً، أفـــــلا تـــرى *** أن انقطــاعك يُـــوحش الإيناسا
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
تستخدم لأول مرة... مستشفى الإمام زين العابدين (ع) التابع للعتبة الحسينية يعتمد تقنيات حديثة في تثبيت الكسور المعقدة
|
|
|