أقرأ أيضاً
التاريخ: 15-12-2017
2298
التاريخ: 21-11-2021
2359
التاريخ: 21-12-2021
1988
التاريخ: 2024-03-12
771
|
لم تنبت فكرة التكافل بلا جذور ، ولم تنطلق من فراغ ، وإنّما سبقتها ومهدت لها وأسهمت في فاعليتها وديمومتها مجموعة من الأسس والمبادئ العامة ، كانت بمثابة البنى التحتية التي عملت على بلورة فكرة التكافل وإرساء قواعدها ، وفي طليعة هذه الأسس والمبادئ :
أولاً : مبدأ الأخوّة الإيمانية :
عمل الإسلام على بناء وتدعيم علاقات طيبة بين الناس تقوم على أساس الأخوّة والألفة ، وإذا كان علم الاجتماع معنياً أولاً وقبل كل شيء بالظواهر الاجتماعية ، فإن ظاهرة الأخوّة التي أوجدها الإسلام بين أفراده تستحق الدراسة والتأمل ، فقد كان العرب ـ في الجاهلية ـ على شفا حفرة من نار الخلاف والاختلاف والتمزق والتقاتل ، ولكنهم بعد أن ارتضعوا من لبان ثقافة الإسلام أصبحوا أمة متحدة ، مرهوبة الجانب تمتلك أسباب التمدّن والرّقي.
فقد أحدثت مبادئ الإسلام وخاصة مبدأ الأخوة إنعطافاً اجتماعياً حاداً في أنماط تفكير وسلوك الغالبية الغالبة من المسلمين ، حيث كان الإنسان الجاهلي قبل الإسلام منكفئاً على ذاته ، ومتقوقعاً داخل أسوار نفسه ، فغدا بفضل الإسلام إنساناً إجتماعياً يشعر بمعاناة إخوته ، ويمدّ يد العون لهم ، ويشاركهم في مكاره الدهر.
وهذه النقلة الحضارية يشير إليها القرآن بصورة جلّية ، في قوله عز من قائل :{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}[آل عمران: 103].
وكان للسُنة النبوية الأثر البالغ في تدعيم وترسيخ مبدأ التكافل من خلال تأكيدها على مبدأ الأخوة وما يستلزمه من التزامات اجتماعية كقضاء حوائج الإخوان وإعانتهم ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (من سعى في حاجة أخيه المؤمن ، فكأنّما عبد الله تسعة آلاف سنة ، صائماً نهاره ، قائماً ليله) (1).
وقال (صلى الله عليه وآله) : (من قضى لأخيه المؤمن حاجةً ، كان كمن عبد الله دهره) (2).
وقال (صلى الله عليه واله) : (من مشى في عون أخيه ومنفعته ، فله ثواب المجاهدين في سبيل الله) (3).
فهنا نجد أن قضاء حوائج الإخوان وخاصة تلك التي لابد منها لاستمرار العيش الكريم يرفعها الرسول (صلى الله عليه واله) إلى درجة العبادة العملية التي تستلزم الثواب الأخروي الجزيل.
وكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) يحثّ على صون كرامة الأخ المؤمن وعدم إراقة ماء وجهه بعدم تكليفه الطلب عند حاجته ، لذلك يدعو إلى المبادرة بقضاء حوائجه بمجرّد الشعور بحاجته إلى المساعدة ، وهذه توصية حضارية في غاية الأهمية ، قال (صلى الله عليه واله) : (لا يكلّف المؤمن أخاه الطلب إليه إذا علم حاجته) (4).
ونسجت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام): على هذا المنوال بأقوال عديدة تعكس حالة التضامن والتكافل التي ترغب في إشاعتها بين أفراد المجتمع ، فعن الإمام علي (عليه السلام) قال: (خير الاخوان من لا يحوج إخوانه إلى سواه) (5).
وقال أيضاً : (خير اخوانك من واساك) (6).
ورسم لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) مقياساً للتفاضل الاجتماعي يقوم على المنفعة المتبادلة ، عندما قال : (خير الناس من نفع الناس) (7).
في حين أن حفيده الإمام الصادق (عليه السلام) يرسم لنا معادلة إلهية ، هي : (إنّ الله في عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه) (8).
وعنه (عليه السلام) : أن (من قضى لأخيه المؤمن حاجة ، قضى الله (عز وجل) له يوم القيامة مئة ألف حاجة) (9).
ويقول أيضاً : (من كان في حاجة أخيه المؤمن المسلم كان الله في حاجته ، ما كان في حاجة أخيه) (10) وقال (عليه السلام) : (قضاء حاجة المؤمن أفضل من ألف حجّة متقبّلة بمناسكها ، وعتق ألف رقبة لوجه الله ، وحملان ألف فرس في سبيل الله بسرجها ولجامها) (11).
نتيجة لكل ذلك ما انفك إمامنا الصادق (عليه السلام) يوصي بمبدأ الأخوة في مختلف الأحوال والظروف ، عن محمد بن مسلم ، قال : أتاني رجل من أهل الجبل ، فدخلت معه على أبي عبدالله (عليه السلام) ، فقال له عند الوداع : أوصني. فقال : (أوصيك بتقوى الله وبرّ أخيك المسلم ، وأحب له ما تحبّ لنفسك ، واكره له ما تكره لنفسك ، وإن سألك فأعطه... فوازره وأكرمه ولاطفه ، فإنّه منك وأنت منه)(12).
ويظهر على ضوء ما تقدم من أحاديث أهل البيت (عليهم السلام): أن التكافل من أروع أنواع عبادة الله ، بل ويضاهي العبادات الأخرى ، ويفوقها ثواباً ، قال الإمام الباقر (عليه السلام) : (لأن أعول أهل بيت من المسلمين... أسدّ جوعتهم وأكسو عورتهم ، فأكفّ وجوههم عن الناس، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة [وحجّة] ، ومثلها حتى بلغ عشراً ، حتى بلغ عشرة ، ومثلها حتى بلغ السبعين) (13).
وهناك إشارات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام): على أن قبول الأعمال العبادية متوقف على قضاء حوائج الإخوان المؤمنين ، وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : (من مشى في حاجة أخيه المؤمن يطلب بذلك ما عند الله حتى تقضى له ، كتب الله عزّ وجل له بذلك أجر حجّة وعمرة مبرورتين ، وصوم شهرين من أشهر الحرم واعتكافهما في المسجد الحرام ، ومن مشى فيها بنيّة ولم تقضى كتب الله له بذلك من حجّة مبرورة) (14).
وعنه (عليه السلام) : (إنّ العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن فيوكّل الله (عزّ وجل) به ملكين: واحدا عن يمينه وآخر عن شماله ، يستغفران له ربّه ويدعوان بقضاء حاجته) (15).
ـ ترغيب وترهيب :
ومن أجل أن يتأصّل مبدأ التكافل في وجدان وواقع الناس اتّبع الإسلام منهج (الترغيب والترهيب) لأجل دفع الأفراد نحو الاتحاد والتعاون والتكافل. فمن جهة الترغيب نجد أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) : تُسهب في إيراد الشواهد على الثواب الجزيل الذي ينتظر كلّ من قضى حوائج إخوانه وتبشّره بالأمن يوم الحساب ، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (من سعى في حاجة أخيه المسلم طلب وجه الله ، كتب الله له ألف ألف حسنة) (16).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : (من قضى لأخيه المؤمن حاجةً ، قضى الله (عزّ وجل) له يوم القيامة مائة ألف حاجة من ذلك أوّلها الجنة) (17).
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) : (إنّ لله عبادا في الأرض يسعون في حوائج الناس ، هم الآمنون يوم القيامة) (18).
ونجد في الرّوايات معطيات إيجابية يجد ثمراتها الإنسان المؤمن في الدنيا قبل الآخرة كزيادة
الرزق ، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) : (مواساة الأخ في الله تزيد في الرزق) (19).
وفي مقابل ذلك نجد التحذير الكثير لكل من يقصر في حق إخوانه ، ولهذا التحذير والإنذار آثار عملية تتمثّل في المحافظة على الجدار الاجتماعي من أي تصدّع ، وفي الحدّ من التحولات الاجتماعية التي تخل بقواعد العيش المشترك ، وكشاهد على النمط الأخير ـ أي التحذير ـ يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : (من صار إلى أخيه المؤمن في حاجته فحجبه ، لم يزل في لعنة الله إلى أن حضرته الوفاة)(20).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : (أيّما رجل مسلم أتاه رجل مسلم في حاجة ، وهو يقدر على قضائها فمنعه إيّاها ، عيّره الله يوم القيامة تعييراً شديد ، وقال له : أتاك أخوك في حاجة قد جعلت قضاؤها في يدك فمنعته إيّاها زهداً منك في ثوابها ، وعزّتي لا أنظر إليك اليوم في حاجةٍ معذّباً كنت أو مغفوراً لك)(21).
وعن الإمام الكاظم (عليه السلام) : (من قصد إليه رجل من إخوانه مستجيراً به في بعض أحواله ، فلم يجره بعد أن يقدر عليه ، فقد قطع ولاية الله عزّ وجل) (22).
وهنا نجد أيضاً في الروايات معطيات سلبية لمن أخل بمبدأ الأخوة وما يتطلبه من تكافل وتعاون، فعن الإمام الباقر (عليه السلام) : (من بخل بمعونة أخيه المسلم والقيام له في حاجته، ابتلي بمعونة من يأثم عليه ولا يؤجر) (23).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) : (أيّما رجل من شيعتنا أتاه رجل من إخواننا فاستعان به في حاجة فلم يعنه وهو يقدر ، ابتلاه الله (عز وجل) بأن يقضي حوائج عدوّ من أعدائنا يعذّبه الله عليه يوم القيامة) (24).
وعنه (عليه السلام) : (ما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلاّ خذله الله في الدنيا والآخرة) (25).
وفي الوقت الذي تحث تعاليم آل البيت : على التكافل المادي ، نجد أنهم يركزون كذلك على التكافل الأدبي مع الفقراء والمساكين ، ومن الشواهد على ذلك ، قول الرسول (صلى الله عليه واله) : (من استذلّ مؤمناً أو مؤمنة أو حقّره لفقره وقلّة ذات يده ، شهره الله تعالى يوم القيامة ثمّ يفضحه) (26) ، وفي هذا الخصوص يقول الإمام الصادق (عليه السلام) : (من حقّر مؤمنا لقلّة ماله حقّره الله ، فلم يزل عند الله محقورا حتى يتوب ممّا صنع) (27).
ويقول أيضاً : (من حقّر مؤمناً مسكيناً ، لم يزل الله له حاقراً ماقتاً حتى يرجع عن محقّرته إيّاه)(28). وهكذا نجد أن الإسلام يُضفي على توجهاته الاجتماعية صبغة دينية تأخذ شكل الوعد والبشارة أو الوعيد والإنذار.
الأمر الآخر هنا أن آل البيت : يضفون على هذه التوجهات والارشادات والمناشدات صبغة حقوقية لتكون ألزم ، بدليل انه سأل المعلى بن خنيس الإمام الصادق (عليه السلام) : ما حق المؤمن على المؤمن ؟ قال : (سبع حقوق ، ما منها حقّ إلاّ واجب عليه ، إن خالفه خرج عن ولاية الله ، وترك طاعته...
والحقّ الثاني أن تمشي في حاجته ، والحقّ الثالث أن تصله بنفسك ومالك... والحقّ الخامس أن لا تشبع ويجوع ، وتلبس ويعرى ، ولا تروى ويظمأ) (29).
مثالية عالية عمل أهل البيت (عليهم السلام): على صياغة عقد اجتماعي ضمني يرتكز على قاعدة اجتماعية عريضة تقوم على مبدأ الأخوّة ، فبدون ترسيخ هذا المبدأ وإشاعته يغدو البناء الاجتماعي واهناً كالبناء على كثيب من الرَّمل.
من أجل ذلك عمل أهل البيت (عليهم السلام): بدأب على تهيئة الأجواء لترسيخ مبدأ الآخاء لكونه يسهم بصورة ضمنية في مبدأ التكافل ، ونتيجة لذلك أشاعوا بين شيعتهم هذا المبدأ بحيث أصبح المائز أو العلامة التي تُميز شيعتهم عن غيرهم ، فهو ـ إذن ـ أحد مقاييس الاختبار التي تميز أخيار الشيعة عن الآخرين ، وفي هذا الخصوص يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : (اختبروا شيعتي بخصلتين : المحافظة على أوقات الصلاة ، والمواساة لإخوانهم بالمال ، فإن لم تكونا فاعزب ثمّ اعزب) (30).
ونفس المقياس يستخدمه الإمام الصادق (عليه السلام) وينصح شيعته بالتزامه ، قال : (اختبروا اخوانكم بخصلتين فإن كانتا فيهم وإلاّ فاعزب ثمّ اعزب ، محافظة على الصلوات في مواقيتها ، والبرّ بالإخوان في العسر واليسر) (31).
أراد أئمتنا (عليهم السلام): بذلك ـ من شيعتهم أن يرتقوا إلى مستوى إيماني رفيع يقرن العبادة والمحافظة عليها بالمعاملة الحسنة من أجل بناء محيط اجتماعي سليم.
وبذلك يظهر بأن الإيمان الكامل لا يتحقق على نحو مثالي إلا بالتكافل ، وكلما تكاتف الفرد المسلم مع إخوانه وتعاون معهم ، كلما ارتقى إلى مدارج إيمانية عالية.
لقد سبق أئمتنا (عليهم السلام): علماء الاجتماع في الدعوة إلى تقوية الأواصر الاجتماعية لدى الناس ، وقد ثبت أن ذلك يؤدي إلى ارتقاء الإنسان ، لذلك حثوا شيعتهم على تحقيق أعلى درجة من الاندماج والتعاون ، عن محمد بن عجلان ، قال : كنتُ عند أبي عبدالله (عليه السلام) ، فدخل رجل فسلّم ، فسأله (عليه السلام) : (كيف من خلّفت من اخوانك ؟ قال : فأحسن الثناء وزكى وأطرى ، فقال له : كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم ؟ فقال : قليلة ، قال (عليه السلام) : وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم ؟ قال : قليلة ، قال : فكيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم ؟ فقال : إنّك لتذكر أخلاقا قلّما هي فيمن عندنا ، قال (عليه السلام) : فكيف تزعم هؤلاء أنّهم شيعة؟!)(32).
وعن سعيد بن الحسن ، قال أبو جعفر (عليه السلام) : (أيجيء أحدكم إلى أخيه فيدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه ؟ فقلت : ما أعرف ذلك فينا ، فقال أبو جعفر (عليه السلام) : فلا شيء إذن ، قلت : فالهلاك إذن ! قال : إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد) (33).
وبتعبير آخر أنه يقول له بانكم لن ترتقوا إلى المستوى الاجتماعي المطلوب الذي تغيب فيه الأنا (الذات) وتسود فيه الرّوح الجماعية التعاونية ، إلا بإزالة الحواجز السميكة التي تحول دون ذلك كالأنانية والأثرة. بطبيعة الحال أراد الإمام (عليه السلام) أن يرشدهم إلى الوصول إلى سقف تعاملي أعلى يتناسب مع طموحات أهل العصمة (سلام الله عليهم) ، وإلا فان الوصول إلى مستوى الأئمة في درجة التكافل دونه خرط القتاد.
لقد ترجم أهل البيت (عليهم السلام): أقوالهم إلى سلوك سويّ ، أصبح قدوة حسنة لمن أراد الاقتداء بهم ، فعلى سبيل المثال لا الحصر ، كان الإمام السجاد (عليه السلام) ، حريصاً على التكافل مع الآخرين وإن كانوا من أعدائه ، قال الواقدي : كان هشام بن إسماعيل يؤذي علي بن الحسين في إمارته ، فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للناس ، فقال : ما أخاف إلا من علي بن الحسين وقد وقف عند دار مروان وكان علي قد تقدم إلى خاصته ألاّ يعرض له أحد منكم بكلمة، فلما مر ناداه هشام : الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وزاد ابن فياض في الرواية في كتابه : (أن زين العابدين أنفذ إليه وقال : أنظر إلى ما أعجزك من مال تؤخذ به ، فعندنا ما يسعك ، فطب نفساً منّا ومن كل من يطيعنا. فنادى هشام : الله أعلم
حيث يجعل رسالته) (34).
إن الأئمة (عليهم السلام): يتحركون بدائرة واسعة من المبادئ ، يريدون منّا أن نقتدي بهم حسب المكنة والاستطاعة ، وإلا فمن منا يُسرع إلى قضاء حوائج عدوّه ؟!
ثانياً : قيم التراحم :
وهذه القيم تسهم إسهاماً كبيراً في دفع الناس نحو التكافل بعيداً عن حسابات الربح والخسارة ، وهي قيم تسير في خط متوازٍ مع مبدأ الإخوة وباقي المبادئ والقيم الأخرى التي توقظ في نفوس الناس العاطفة نحو بعضهم البعض ، وتحقيق أعلى درجة من المشاركة والتعاون فيما بينهم.
وفي هذا السياق يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (من لم يرحم الناس منعه الله رحمته)(35). وعنه (عليه السلام) أنّ (رحمة الضعفاء تستنزل الرَّحمة) (36). وفي قول ثالث : (عجبت لمن يرجو رحمة من فوقه ، كيف لا يرحم من دونه) (37).
وغنيّ عن البيان أن الرَّحمة هنا عامة ، ومن أجلى مصاديقها مدّ يد العون للضعفاء وغير القادرين مادياً كالمساكين ، وبذلك تكون الدعوة إلى التراحم تصب في مجرى التكافل بطبيعة الحال ، ومن مصاديق ذلك قول الإمام الصادق (عليه السلام): ( إنّي لأرحم ثلاثة ، وحقّ لهم أن يرحموا : عزيزٌ أصابته مذلّة ، وغنيّ أصابته حاجة بعد الغنى ، وعالم يستخفّ به أهله والجهلة)(38).
فالإمام هنا يذهب إلى أبعد من التكافل المادي ، كما في حالة الغني الذي أصابته الفاقة ، فيرى ضرورة التكافل المعنوي مع العزيز الذي ألمّت به الذلّة ، والعالِم الذي يستخف به قرابته أو الجهلة المحيطون به. فهذا الحديث يفتح لنا أفقاً واسعاً حتى لا تضيق عدسة الرؤية لدينا فننظر فقط إلى التكافل في شكله المادي البحت ، بل علينا أن نولي عناية بالجانب المعنوي من التكافل،
ويطلق عليه بعض الباحثين تسمية (التكافل الأدبي) ، فهؤلاء يرون أن مفهوم التكافل الاجتماعي في الإسلام واسع ، لا يقتصر على الجانب المادي ، بل يشمل التكافل الأدبي : وهو أن يشعر الإنسان باحترام الآخرين وحبهم له.
ثالثاً : التعاون والإحسان :
في الإسلام رصيد معرفي ضخم يدعو إلى قيم التعاون والإحسان في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد ، الأمر الذي يرسي أساس التكافل ويعمّق من مساره ، فالقرآن وهو المصدر المعرفي الأساسي يحثّ في آيات عديدة على التعاون ، يقول في هذا الصدد :{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}[المائدة: 2].
وقال الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) : (من مشى في عون أخيه ومنفعته ، فله ثواب المجاهدين في سبيل الله) (39).
تجدر الإشارة إلى أن الإنسان خلق وحده ضعيفاً لا يقدر على شيء إلاّ إذا توفرت له ظروف التعاون مع غيره ، والقليل إلى القليل كثير ، والضعيف إذا ساند الضعيف قوى ، فالحياة الاجتماعية ما هي إلا تعاون أفراد المجتمع في سبيل توفير الطمأنينة النفسية لأفراده الذين يقعون تحت تأثير الحاجة أو الفزع أو القلق أو الاضطراب أو العجز عن تهيئة الامكانيات التي تعيد الطمأنينة النفسية إليهم ، من هنا تظل الحاجة إلى التعاون ماسة عبر الزمن.
يروي إسحاق بن عمّار أنّه سمع الإمام الصادق (عليه السلام) يقول : (يأتي على الناس زمان من سأل الناس عاش ، ومن سكت مات ، قلت : فما أصنع إنّ أدركت ذلك الزمان ؟ قال : تعينهم بما عندك ، فإن لم تجد فبجاهك) (40).
فالدعوة إلى التعاون ـ إذن ـ لازمة مهما تغير الزمان ، وتعاقبت الأجيال ، وتغيرت العادات والتقاليد واختلفت الظروف.
أما الإحسان فهو قيمة عليا تؤدي إلى تنمية روح التكافل ، وتطلق الفرد من عقال الأنا أو (الذات) إلى مدارات إجتماعية رحبة ، وتجعله متضامناً مع إخوته وأبناء جنسه. وحقيقة الإحسان : هي التطوع بأعمال الخير التي لم يلزم بها الشارع المقدس.
إن الإنسان المحسن هو الذي يمارس العطاء المالي ، أو يبذل جهوداً إضافية في خدمة الناس ، والقرآن يحثّ على ذلك بقوله :{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}[النحل: 90] فنجد العطاء هنا مقروناً بالإحسان ، ونجد دائرة القرابة هي الأقرب من حيث الاستحقاق.
ويقول الإمام علي (عليه السلام): (رأس الإيمان الإحسان إلى الناس)(41).
وينبغي التنويه على أن الحضارة المادية قد جعلت مقابل أيّ إحسان ثمناً مادياً يتلقّاه المحسن مقابل إحسانه ، أما الإسلام فلا يرى ذلك سليماً ، لأنّه يدعو إلى إسقاط قيم الإيمان بالله ورجاء ثوابه في اليوم الآخر ، ويؤدي إلى تضييع فكرة الإخوّة ، من هنا فقد جعل الإسلام معايير خاصة لتثمين جهود المحسن من خلال الدعوة إلى احترامه في وسط المجتمع ، وتقديره لإحسانه ، وفوق ذلك الثواب الجزيل الذي ينتظره في دار المعاد ، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (نِعمَ زاد المعاد الإحسان إلى العباد) (42).
وكان آل البيت (عليهم السلام): يحثون أتباعهم على الإحسان بقدر الاستطاعة انطلاقا من حرصهم الدائم على توفير الأجواء المعيشية الكريمة بعيداً عن مبدأ الرّبح والخسارة الذي يشكل حجر الزاوية في الحضارة المادية المعاصرة.
ومن الشواهد ذات الدلالة على تنمية أهل البيت (عليهم السلام): للشعور الاجتماعي تجاه المؤمنين ، ما قاله الإمام الصادق (عليه السلام) : (لأن أطعم مؤمناً محتاجاً أحبّ إليّ من أن أزوره ، ولأن أزوره أحبّ إليّ من أن أعتق عشر رقاب) (43).
إذن هنالك أولوية وتقدم رتبي لبعض أعمال الإحسان على بعض ، وإنّ لكلِّ عمل خيري ثوابه الخاص به حسب أهميته وبمقدار ما يدخله من نفع أو خدمة على المؤمنين ، والمثير في الأمر هنا أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) ينظر إلىٰ قضية الإحسان من منظار أعمق وأرحب ، فهو يرى أنّ فضل المحتاجين عند الإحسان إليهم يكون أعظم من فضل المحسنين أنفسهم !. تمعّن جيداً في المحاورة التالية : عن حسين بن نعيم الصحّاف قال : قال أبو عبدالله (عليه السلام) : (أتحبّ إخوانك يا حسين ؟ قلت : نعم ، قال : تنفع فقراءهم ؟ قلت : نعم ، قال : أما إنه يحقّ عليك أن تحبّ من يحبّ الله ، أما والله لا تنفع منهم أحدا حتى تحبه. أتدعوهم إلى منزلك ؟ قلت : نعم ، ما آكل إلاّ ومعي منهم الرجلان والثلاثة والأقلّ والأكثر ، فقال أبو عبدالله : أما إنّ فضلهم عليك أعظم من فضلك عليهم ، فقلت : أطعمهم طعامي وأوطئهم رحلي ويكون فضلهم عليّ أعظم ؟! قال : نعم ، إنّهم إذا دخلوا منزلك دخلوا بمغفرتك ومغفرة عيالك ، وإذا خرجوا من منزلك خرجوا بذنوبك وذنوب عيالك) (44).
رابعاً : مبدأ المسؤولية العامة :
يسعى الإسلام إلى تنمية مبدأ المسؤولية في البيئة الاجتماعية ، فبدون هذا المبدأ يغدو كل جهد إصلاحي من قبيل الحرث في البحر ، وعليه نجد الرسول وأهل بيته (عليهم السلام): يعملون على تأصيل فكرة المسؤولية في محاولتهم الحثيثة لإعادة تشكيل الإنسان السويّ ، فكان رسول الله (صلى الله عليه واله) يكرّر مقولة : (... أنا مسؤول ، وإنّكم مسؤولون) (45).
لقد زرع أهل البيت (عليهم السلام): في وعي الأمّة فكرة المسؤولية العامة لكي ترتقي من خلالها إلى مستوى التكافل الاجتماعي المطلوب ، في أكثر من اتجاه وعلى أكثر من صعيد ، ففي الاتجاه السياسي يضطلع الحاكم بأيّ شكل جاء إلى السلطة بمستوى عالٍ من المسؤولية ، لكونه يتحكم في مصائر البشر ، ومستأمن على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم ، وعلى الصعيد الأسري فالرجل مسؤول عن أهل بيته ، من حيث الرّعاية والإعالة ، فالمسؤولية ـ اذن ـ شمولية من أعلى السلّم الاجتماعي إلى قاعدته.
وكما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : (كلّ أمرئ مسؤول عمّا ملكت يمينه وعياله) (46). ثم يبعد نظرنا إلى سعة وشمول هذه المسؤولية فيقول (عليه السلام) : (... اتّقوا الله في عباده وبلاده ، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم) (47).
وبطبيعة الحال تكون المسؤولية الكبرى أمام الله تعالى الخبير بعباده والمطلع على أعمالهم وسرائرهم.
خامساً : الإيثار :
وهو قيمة أخلاقية عالية تدفع الفرد إلى تفضيل وتقديم مصلحة ومنفعة غيره على نفسه ، وكل من يتصف بهذه الفضيلة تتقد روح التكافل في داخله ، فيسعى إلى تقديم المساعدة والعون أو الخدمة لغيره. ومن خلال الإيثار يكون الفرد مشدوداً برباط الودّ مع العباد يسعى لتلبية حوائجهم ويتصدق عليهم بأحب الأشياء إليه.
وقد حدد الإمام الصادق (عليه السلام) مواصفات خيار الناس وشرارهم قال : (خياركم سمحاؤكم ، وشراركم بخلاؤكم ، ومن خالص الإيمان البرّ بالإخوان ، والسعي في حوائجهم ، وإنّ البار بالإخوان ليحبّه الرحمن... ثم قال لجميل بن دراج : يا جميل ، أخبر بهذا غرر أصحابك ، قلت : جعلت فداك من غرر اصحابي ؟ قال : هم البارون بالإخوان في العسر واليسر ، ثم قال : يا جميل ، أما إن صاحب الكثير يهون عليه ذلك ، وقد مدح الله عزّ وجل صاحب القليل ، فقال في كتابه : {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: 9] ) (48). فالإيثار قيمة أساسية تسهم في تفعيل مبدأ التكافل.
وقد أحدثت تعليمات وقيم الإسلام انقلاباً اجتماعياً هائلاً ، فبعد ان كان الإنسان الجاهلي أنانياً تتصدر مصلحته ومنفعته الأولوية ، يئد بناته خشية الإملاق والفقر ، أخذ يؤثر الآخرين على نفسه ولوكان يعاني من ضيق ذات اليد ، وهي ظاهرة اجتماعية ملفتة للنظر وتستدعي الاعتبار.
جاء رجلٌ إلى النبي (صلى الله عليه واله) فشكا إليه الجوع ، فبعث رسول الله (صلى الله عليه واله) إلى بيوت أزواجه فقلن : (ما عندنا إلاّ الماء ، فقال رسول الله (صلى الله عليه واله) : من لهذا الرجل اللّيلة ؟ فقال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) : أنا له يا رسول الله ، وأتى فاطمة (عليها السلام) فقال لها : ما عندك يا ابنة رسول الله ؟ فقالت : ما عندنا إلاّ قوت العشيّة لكنّا نؤثر ضيفنا ، فقال (عليه السلام): يا ابنة محمّد (صلى الله عليه واله) نوّمي الصبية وأطفئي المصباح ، فلمّا أصبح عليّ (عليه السلام) غدا على رسول الله (صلى الله عليه وسلم)وسلم فأخبره الخبر فلم يبرح حتّى أنزل الله عزّ وجلّ ( وَيُؤْثِرُوْنَ ... ) ».
وقدّمت السيرة المطهّرة القدوة الحسنة في هذا المقام ، فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنّه ما شبع ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا ، ولو شاء لشبع ، ولكنه كان يؤثر على نفسه (49).
وتبدو قيمة الإيثار جلّية في سلوك أئمة أهل البيت (عليهم السلام): حيث تجد الروح الفياضة بالعطاء ، فمن المواقف المحفورة في ذاكرة التاريخ والتي تختزن في أعماقها دلالات كبيرة أن أمير المؤمنين (عليه السلام) (اشترى ثوبا فأعجبه فتصدق به) (50).
كلّ ذلك لأنه كان (عليه السلام) يؤثر على نفسه ، ويفضّل مصلحة غيره على مصلحته.
وعليه فالإيثار بمثابة حجر آخر في بناء أسس مبدئية تسهم في تفعيل مبدأ التكافل.
سادساً : الخدمة المتبادلة :
وهي ضرورة لا مندوحة عنها في اطار العيش المشترك وتسهم إسهاماً فعّالاً في خلق حالة من التكافل بين أفراد المجتمع الفاضل الذي يطمح إليه الإسلام.
من هنا نجد مبدأ الخدمة المتبادلة يحتل موقع الصدارة في توجهات الإسلام الاجتماعية ، قال رسول الله (صلى الله عليه واله) : (أيّما مسلم خدم قوماً من المسلمين إلاّ أعطاه الله مثل عددهم خدّاماً في الجنّة) (51). وعن حفيده الإمام الصادق (عليه السلام) يوضح لجميل وقد سمعه يقول: (المؤمنون خدم بعضهم لبعض ، قلت ـ أي جميل ـ وكيف يكونون خدماً بعضهم لبعض ؟ قال : يفيد بعضهم بعضاً ) (52).
والفائدة المتبادلة في أوسع معانيها تشمل التكافل بطبيعة الحال.
على أن الإمام الصادق (عليه السلام) يميز بين الخدمة والاستخدام ، فالخدمة حالة حضارية إيجابية تستتبع الفائدة والمنفعة ، بينما الاستخدام يفيد الاستغلال والاستهانة بالطرف المقابل ، فالخدمة مطلوبة ومندوبة بينما الاستخدام مذموم.
قال (عليه السلام) : (اخدم أخاك ، فإن استخدمك فلا وكرامة) (53).
سابعاً : السيادة والسماحة :
وهما قيمتان أساسيتان تحثان على التكافل بصورة علنية أو ضمنية.
ورسولنا الأكرم (صلى الله عليه واله) قد حدد لنا المقياس السليم الذي رسمه الإسلام للسيادة بقوله : (سيّد القوم خادمهم) (54) ، فالخدمة... تحمل في أحشائها دعوة ضمنية إلى التكافل ، أما الدعوة العلنية إلى التكافل فتظهر واضحة في مفهوم أمير المؤمنين (عليه السلام) للسيادة الذي يتضمن أبعاداً اجتماعية تكافلية ، قال (عليه السلام) : (السيّد من تحمّل المؤونة وجاد بالمعونة) (55). وعنه (عليه السلام) : (السيّد من تحمّل أثقال إخوانه) (56). فأمير المؤمنين (عليه السلام) ينفي السيادة الاجتماعية ـ وليس السيادة النسبية لمن أنتسب لرسول الله (صلى الله عليه واله) وأهل بيته الأطهار ـ عن الأفراد الذين يتمحورون حول ذواتهم ومنافعها ، ولا يشاركون غيرهم في النوائب والمصائب ، ولا ينظرون بعين العطف إلى المساكين والمحتاجين، فهؤلاء لا يستحقون وسام السيادة وإن ادّعوها ، قال (عليه السلام) : (ما ساد من احتاج إخوانه إلى غيره) (57).
فالسيادة تتطلب درجة عالية من المشاركة الاجتماعية ، وتنبثق من شعور تكافلي عميق نحو الآخرين.
أما السماحة فحسب تفسير أهل البيت (عليهم السلام): هي البذل وهو ـ كما معروف ـ طريق للتكافل. بدليل أن الإمام الحسن (عليه السلام) لمّا سأله أمير المؤمنين (عليه السلام) عن تفسير السماحة : (يا بني ما السماحة ؟ قال : البذل في العُسر واليسر) (58). وفي خبر آخر : (إجابة السائل وبذل النائل) (59).
ثامناً : الجود والإنفاق :
أراد الإسلام أن يتحسس المسلم مشاكل الناس ، وخاصة أولئك الذين تضيق في وجوههم سُبل العيش المشروع ، لذلك مجّد الجود وشجع على البذل والإنفاق كأسلوب تكافلي لابد منه. وكان أهل البيت (عليهم السلام): يتسلّقون ذرى المجد في الجود ، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : (إنّي لأرفع نفسي أن تكون حاجةٌ لا يسعُها جودي) (60). فالجود ـ إذن ـ يقود إلى البذل بالموجود ، وأفضله في مقاييس مدرسة أهل البيت : ما كان عن عسرةٍ ، لكي يُخرج المسلم من شرنقة الشح والبخل إلى فضاء العطاء والبذل ، وفي هذا الصَّدد يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) : (أفضل الجود بذل الموجود) (61) وعنه (عليه السلام) : (أفضل الجود ما كان عن عسرة) (62).
إضافة لما تقدّم ينبغي أن يكون البذل للمستحق وإلاّ كان عبثا لا طائل منه ، أو كان لأجل السمعة الفارغة ومن أجل التباهي والرياء ليس إلاّ ، وفي هذه الحالة يفقد غايته الأساسية كأسلوب تكافلي.
على أن الأكثر إثارة في هذا الصدد أن مدرسة أهل البيت (عليهم السلام): تضع شرطاً ثالثاً لتحقق مفهوم الجود ، وهو أن للآخذ من الشكر أكثر مما للباذل ، لكونه قَبِل العطاء ، وهي تريد بذلك صون ماء وجه الأول ، وطرد شبح المنّ أو الغرور من نفس الثاني أو المعطي. وهذا الشرط فيه دلالة عميقة تعكس عمق توجهات هذه المدرسة المقدسة ، وسموّ مفاهيمها وسعة أفقها ، وفي هذا الجانب قال الإمام الصادق (عليه السلام) : (لا يكون الجواد جواداً إلاّ بثلاثة : يكون سخيّاً بماله على حال اليسر والعسر ، وأن يبذله للمستحقّ ، ويرى أنّ الذي أخذه من شكر الذي أسدى إليه أكثر مما أعطاه) (63).
وعموماً فالإنفاق أو العطاء هو من أعظم ما يعتني بأمره الإسلام ، وقد توسل إليه بطرق مختلفة كالزكاة والخمس والكفارات المالية وأقسام الفدية ، وعن طريق الوقف والوصايا والهبة وما إلى ذلك. وإنما يريد بذلك من المسلمين أن يواسوا إخوانهم وأن لا يدفنوا رؤوسهم في رمال اللامبالاة بالآخرين. والقرآن في عشرات الآيات يحثّ على الإنفاق ويمتدح الذين يمارسونه في السّر والعلن ، وينوّه بمعطياته الاجتماعية. ومن هذه الآيات قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }[البقرة: 267].
والقرآن يمتدح الإنفاق المؤدي إلى النفع ويذمه إذا أدى إلى المنّ أو الضَّرر ، لأنه لا يؤدي غايته التكافلية المطلوبة ، قال تعالى :{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: 262].
والإنفاق الخالص لوجه الله تعالى محمود في جميع الأوقات والحالات ، فهو يمتد كخيط متين لربط أفراد المجتمع فيما بينهم ويستأصل شأفة الفقر كأكبر آفة اجتماعية ، قال تعالى :{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: 274].
ويرى العلامة الطباطبائي ; بأنّ استيفاء الأزمنة والأحوال في الإنفاق للدلالة على اهتمام هؤلاء المنفقين في استيفاء الثواب ، وإمعانهم في ابتغاء مرضاة الله ، وإرادة وجهه ، فوعدهم الله تعالى وعدا حسناً بلسان الرأفة والتلطف (64).
وعن ابن عباس : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب (عليه السلام) ؛ كانت معه أربعة دراهم ، فتصدق بواحد ليلاً وبواحد نهاراً وبواحد سراً وبواحد علانية ، قال الطبرسي : وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليهما السلام) (65).
وكان المؤمنون لما نزلت آيات الإنفاق على إطلاقها ينفقون كل ما يقع تحت أيديهم بحيث وصل البعض منهم إلى حالة من العسر بعد يساره بفضل روح التكافل التي راحت تتقد في داخلهم ، إذ كان نطاق الإنفاق على أوسع مدى ، فأخذ البعض منهم يسأل الرسول (صلى الله عليه واله) عن مقدار الإنفاق وحدوده. فكان الجواب القرآني هو التالي :{وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}[البقرة: 219].
والعفو ما زاد عن الحاجه ، فالإسلام دين يسر وسماحة لا يكلف الإنسان فوق طاقته وقدرته.
من جانب آخر سعى الإسلام إلى إزالة الحواجز النفسية التي تحول دون الإنطلاق في مسيرة الإنفاق ، وحاول طمأنة الخواطر التي تخشى من حالة الفقر إذا ما أقدمت على البذل والعطاء ، قال تعالى مُطَمْئِناً المؤمنين :{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[سبأ: 39].
هذا الوعد بالتعويض بالدنيا ، أما في الآخرة فيظهر من قوله تعالى :{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272].
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الصدد : (من يُعط باليد القصيرة يُعط باليد الطويلة أي ما ينفقه المرء من ماله في سبيل الخير وان كان يسيراً ، فان الله يجعل الجزاء عليه عظيما كثيرا) (66).
ودعا المؤمنين إلى التوقي من حالة الشُح في نفوسهم ، وهي حاجز نفسي يحول دون إقدامهم على البذل والعطاء ، قال عزَّ من قائل :{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[التغابن: 16].
ويتبع القرآن أسلوب الترغيب واعداً بالثواب الجزيل الذي ينتظر المنفقين ، قال تعالى :{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7].
أراد القرآن من المسلمين أن يرتقوا إلى مستوى أسمى من العطاء بحيث ينفقون ممَّا يُحبُّون ، ولا يقتصر الإنفاق على الأشياء الزائدة عن الحاجة وغير المرغوبة أو الرديئة الجودة ، أو تلك التي لا تميل النفس إلى الاحتفاظ بها قال تعالى :{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}[آل عمران: 92].
وكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) يزرع في وعي المسلمين مفهوم السخاء السليم البعيد عن الرّياء والبذخ والإسراف ، والمرتكز على طاعة الله وفي سبيله ، قال (صلى الله عليه واله): (ولا يسمى سخياً إلا الباذل في طاعة الله ولوجهه ، ولو كان برغيف أو شربة ماء)(67). وكان مفهوم السخاء في الجاهلية يرتكز على الأنانية والإسراف وتتحكم فيه الأهواء والمصالح الذاتية ، فصحح النبي (صلى الله عليه واله) هذا المفهوم بحيث يقوم على طاعة الله ويحقق الهدف التكافلي المطلوب منه كإطعام الطعام للجياع أو سقي الماء للعطاشىٰ ، قال النبي (صلى الله عليه واله) : (من أدّى ما افترض الله عليه فهو أسخى النّاس) (68).
وهناك أحاديث عديدة عن أهل بيت العصمة (سلام الله عليهم): تحث على الإنفاق ولو كان قليلاً، وتحذر من البخل وما يتركه من آثار تدميرية على بنية المجتمع وعواقب اُخروية تطال الفرد ، منها إثارة سخط الله. قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : (لا تستحِ من إعطاء القليل فإنّ الحرمان أقل منه) (69).
وعن العواقب غير المحمودة لمن بخل بالنفقة يحدثنا الإمام الباقر (عليه السلام) بقوله : (ما من عبد يبخل بنفقة ينفقها فيما يُرضي الله إلاّ ابتلى بأن ينفق أضعافها فيما أسخط الله) (70).
نستخلص مما تقدم أن في مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) : أُسساً للتكافل الاجتماعي تقوم عل هرم من المبادئ والقيم الحضارية التي تدفع الإنسان لكي يواسي إخوانه ويمدّ يد العون لهم. وهذه القيم بمثابة النجم الذي يهتدون به ويسيرون وراء خيوط الضوء المنبعثة عنه.
___________
1ـ من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصّدوق 2 : 190 ، الناشر : جماعة المدرسين ، قم ـ ط 2 1404 ه.
2- الأمالي / الشيخ الطوسي : 481 / المجلس السابع عشر.
3- ثواب الأعمال / الشيخ الصدوق : 288 ، منشورات الرضي ـ قم ، ط 2 ـ 1368 ه.
4- الخصال / الشيخ الصدوق : 614 ، نشر جماعة المدرسين في الحوزة العلمية ، قم.
5- غرر الحكم / الآمدي 1 : 350 / ح 3 ، الفصل (29) ، مؤسسة الأعلمي ، ط 1.
6- عيون الحكم والمواعظ / علي بن محمد الليثي الواسطي: 238، دار الحديث، ط 1ـ 1376هـ.
7- عيون الحكم والمواعظ : 239.
8- ثواب الأعمال : 135.
9- أصول الكافي 2 : 193 / 1 باب قضاء حاجة المؤمن من كتاب الإيمان والكفر.
10- الأمالي / الشيخ الطوسي : 97 / 147 المجلس الرابع.
11- مشكاة الأنوار / الطبرسي : 148 ، المطبعة الحيدرية بالنجف ، ط 2.
12- الأمالي / الشيخ الطوسي : 97 / المجلس الرابع.
13- الكافي 2 : 195 / 11 باب قضاء حاجة المؤمن من كتاب الإيمان والكفر.
14- الكافي 2 : 195 / 10 من الباب المتقدم.
15- الكافي 2 : 197 / 6 باب السعي في حاجة المؤمن من كتاب الإيمان والكفر.
16- أصول الكافي 2 : 197 / 6 من الباب المتقدم.
17- أصول الكافي 2 : 193 / 1 باب قضاء حاجة المؤمن من كتاب الإيمان والكفر.
18- أصول الكافي 1 : 197 / 2 باب السعي في حاجة المؤمن من كتاب الإيمان والكفر.
19- مشكاة الأنوار / الطبرسي : 230.
20 الاختصاص / منسوب إلى الشيخ المفيد : 31 ، طبع جماعة المدرسين في الحوزة العلمية.
21- الأمالي / الشيخ الطوسي : 99 / المجلس الرابع.
22- أصول الكافي 2 : 366 / 4 باب من استعان به أخوه فلم يعنه من كتاب الإيمان والكفر.
23- أصول الكافي 2 : 366 / 1 من الباب المتقدم.
24- ثواب الأعمال : 249.
25- المحاسن / البرقي 1 : 99 ، دار الكتب الإسلامية.
26- مشكاة الأنوار / علي الطبرسي : 228.
27- المصدر السابق : 120.
28- المصدر السابق : 555.
29- الأمالي / الشيخ الطوسي : 98 المجلس الرابع.
30- تصنيف نهج البلاغة / لبيب بيضون : 297 ، الطبعة الثانية.
31- أصول الكافي 2 : 672 / 7 باب النوادر من كتاب العشرة.
32- أصول الكافي 2 : 173 / 10 ، باب حق المؤمن على أخيه وأداء حقه من كتاب الإيمان والكفر.
33- أصول الكافي 2 : 173 / 13 ، من الباب المتقدم.
34- مناقب آل أبي طالب 3 : 301.
35- عيون الحكم المواعظ ، الليثي الواسطي : 428.
36- عيون الحكم والمواعظ : 270.
37- عيون الحكم والمواعظ : 330.
38- من لا يحضره الفقيه 4 : 394 / 5837 ، الخصال / الشيخ الصدوق : 87 / 18.
39- ثواب الأعمال / الشيخ الصدوق : 288.
40- الكافي 4 : 46 / 1 ، باب النوادر من كتاب الزكاة.
41- عيون الحكم والمواعظ : 264.
42- عيون الحكم والمواعظ : 494.
43- اُصول الكافي 2 : 203 / 18 ، باب إطعام المؤمن من كتاب الإيمان والكفر.
44- اُصول الكافي 2 : 201 ـ 202 / 8 ، باب إطعام المؤمن من كتاب الإيمان والكفر.
45- أُصول الكافي 1 : 290 / 6 ، باب ما نص الله (عز وجل) ورسوله على الأئمة : واحداً فواحداً من كتاب الحجة ، و 2 : 606 / 9 ، باب فضل حامل القرآن من كتاب فضل القرآن.
46- عيون الحكم والمواعظ : 396.
47- شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد 9 : 288.
48- من لا يحضره الفقيه 2 : 61 ، الكافي 4 : 41 / 15 ، باب معرفة الجود والسخاء من كتاب الزكاة.
49- تفسير نور الثقلين 5 : 286 / 60 ، تفسير الآية (9) من سورة الحشر.
50- تنبيه الخواطر / للأمير ورّام 1 : 172 باب الإيثار.
51- مناقب آل أبي طالب 1 : 366.
52- أصول الكافي 2 : 207 / 1 ، باب في خدمة المؤمن من كتاب الإيمان والكفر.
53- أصول الكافي 2 : 167 / 9 ، باب أخوَّة المؤمنين بعضهم لبعض من كتاب الإيمان والكفر.
54- الاختصاص ، / الشيخ المفيد : 243 ، جماعة المدرسين في الحوزة العلمية ، قم.
55- مكارم الأخلاق / الطبرسي : 251 ، منشورات الشريف الرضي ، ط 6 / 1392 ه.
56- عيون الحكم والمواعظ : 48.
57- عيون الحكم والمواعظ : 60.
58- عيون الحكم والمواعظ : 482.
59- مشكاة الأنوار / علي الطبرسي : 407.
60- معاني الأخبار / الشيخ الصدوق : 401 ، انتشارات إسلامي ، طبعة 1361 ش.
61- عيون الحكم والمواعظ : 169.
62- عيون الحكم والمواعظ : 119.
63- عيون الحكم والمواعظ : 111.
64- تحف العقول / ابن شعبة الحراني : 318 ، مؤسسة النشر الإسلامي ، ط 2 / 1404 ه.
65- انظر : تفسير الميزان 2 : 400 ، تفسير الآية (274) من سورة البقرة.
66- انظر : مجمع البيان / الطبرسي 2 : 204 ، تفسير الآية (274) من سورة البقرة.
67- تصنيف نهج البلاغة / بيضون : 731.
68- مصباح الشريعة / المنسوب للإمام الصادق (عليه السلام) : 83 ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت ط 1 ـ 1400 ه.
69- مكارم الأخلاق / الشيخ الطبرسي: 136، منشورات الشريف الرضي ، ط 6 ـ 1392 هـ.
70- نهج البلاغة ، الحكمة 67.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|