مرت على البشرية قرون وقرون، والاكتئاب بأنواعه ينتشر بين البشر، وقد عانى منه مئات الملايين منهم عبر التاريخ الطويل، وكان الاكتئاب والانعزال عن الناس يعتبر في الازمنة الغابرة ضربا من ضروب التلبس الشيطاني، وسيطرت العفاريت على البشر، وكان ضحايا الاكتئاب يعانون الأمرين، بل وكثيرا ما كانوا ينتحرون بغياب أي امل في العلاج، وخوفا من نظرات الناس، حيث كانت الامم السابقة تعتبر الاكتئاب جنونا ومسّاً عقليا (وهو في الواقع بعيد كل البعد عن هذا المفهوم)، لذلك كانوا أشد الناس شعورا بالأذى، فأصحاب الفصام يقال لهم: مجانين، ولا يدورن معنى تلك الكلمة، اما اهل الاكتئاب فيسمعونها ويعرفونها وتحزن قلوبهم أيضاً..

وكان ابن سينا اول الاطباء العرب الذين تنبهوا الى ان الاكتئاب والسوداوية، وما هي الا حب للعزلة والبكاء، وتعكر في المزاج إلا.. لذا أوصى بالراحة والغذاء الطيب والنوم الكافي وتغيير الجو، وقد جرب الاطباء العرب الكثير من الاعشاب المهدئة والمرخيات، وكانت هناك بعض النتائج الخجولة، ولكن لم يتم معرفة علاج اكيد للاكتئاب حتى اتى عام 1952م، وكان عاما فاصلا في حياة المصابين بالاكتئاب حين لاحظ العالمان (دلاي وبوبسون) تحسنا كبيرا في مزاج المصابين بالتدرن الرئوي الى جانب تبدل حالتهم الصحية وتحسن انذار المرض عندما عالجهم بدواء جديد اسمه (الايبرونيازيد) وهو دواء مضاد للتدرن بالدرجة الاولى، وقد ذكر العالم شكيكوف في المجلة الطبية الامريكية انه شاهد مرضاه المسلولين يرقصون ويمرحون في المصح بعد علاجهم بهذا العقار، رغم ان حالتهم الصحية كانت ما تزال بخطر وفي بداية العلاج، ثم جاء العالم (زنلر) في العام نفسه، واعطى الدواء لغير المسلولين حيث اعطاه للمصابين بالاكتئاب فلاحظ تحسنا مدهشا في حالتهم، مرح وسرور وانتعاش، وزال عنهم التشاؤم والتبرم وتعاظم املهم بالحياة، وطغى عليهم التفاؤل، وتوقفوا عن البكاء والتشكي، واصبحوا يتحدثون عن مشاريع المستقبل، أي : انقشعت عنهم سحابة الاكتئاب بكل المقاييس، وهو الذي بيّن مخبرياً ان الايبرونيازيد يثبط خميرة تعرف بخميرة المونو أمين اوكسيداز (AMO) وهي التي تخرب الأمينات الدماغية الوسطية ضمن مشابك الالتحام مما يعزز من عمل تلك الوسائط حذاء المراكز العاطفية والانفعالية، مما يؤدي الى تحسن مزاج المصابين بالاكتئاب.

وبعد ذلك بخمسة اعوام اكتشف العالم (كلين) مادة ليست مثبطة للمونو اين اوكسيداز، ولا تبدي شبها بالايبرونيازيد هي مادة (الإيميبرامين)، وهو مركب ثلاثي الحلقة، واقل سمية للجلد، واقل تأثيرات جانبية من سابقه.. ففتح عهدا جديدا من العلاج بمضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقة. وفي التسعينيات من القرن الماضي تم اكتشاف مجموعة جديدة من مضادات الاكتئاب تمنع عودة السرتوئين الى نهاية العصبونات لتوفره لمنطقة المشابك العصبية وأهمها عقار (الفلوكسيتين) أو (بروزياك). وقد تبين انها ادوية موثوقة وفعالة ويتم التحسن فيها بسرعة، وقد شاع استعمال الفلوكسيتين على نطاق واسع، ولكن هناك 40-50% من المصابين لا تتحسن عليه، لذا يتم استبداله بعقار اخر.

وما اريد ان اقول هو كما قلت في بحث اسباب الاكتئاب ان الاكتئاب بناء قائم على عدد من الاعمدة (الوراثة، البيولوجية، الظروف والنكبات).. وكذلك علاج الاكتئاب ليس له دواء سحري يأخذه المريض مساء فيستيقظ صباحا سليماً معافى كالصداع والسعال والحرارة..

لكن الاكتئاب،... خلل مزمن وعميق في المراكز العاطفية والانفعالية ونتيجة ظروف اجتماعية

وشخصية معقدة ومعندة، لذلك كان دواؤه يرتكز على عدة قوائم ايضاً هي: العلاج الدوائي، العلاج الروحاني، مكافحة الضغوط والاسترخاء، تغيير العادات الشخصية والاجتماعية، وقد يحتاج الى تغيير طبيعة عمله اضافة الى زرع الامل وكبح اليأس، والمراقبة الدائمة من الطبيب والأهل.