المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

التاريخ
عدد المواضيع في هذا القسم 6763 موضوعاً
التاريخ والحضارة
اقوام وادي الرافدين
العصور الحجرية
الامبراطوريات والدول القديمة في العراق
العهود الاجنبية القديمة في العراق
احوال العرب قبل الاسلام
التاريخ الاسلامي
التاريخ الحديث والمعاصر
تاريخ الحضارة الأوربية

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية

Presence/absence method BAM/FDA 2011 for Salmonella in foods
10-3-2016
Categorizing words
1-8-2022
تأهيل الخدمات
7-10-2020
حجية الأحكام المدنية
21-6-2016
Lead-acid cells and batteries
17-4-2021
الاستشراب السائل عالي الاداء (HPLC)
5-4-2021


الملوك الساسانيون  
  
2713   11:39 صباحاً   التاريخ: 17-10-2016
المؤلف : اليعقوبي
الكتاب أو المصدر : تاريخ اليعقوبي
الجزء والصفحة : ص 104-124.
القسم : التاريخ / العهود الاجنبية القديمة في العراق / الساسانيون /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-6-2020 2569
التاريخ: 27-5-2018 7684
التاريخ: 17-10-2016 1412
التاريخ: 17-10-2016 2717

ذكر ملوك الساسانية

وهم الفرس الثانية وأخبارهم

أردشير بن بابك:

كان أول من نسب إليه ملوكهم أردشير بن بابك شاه بن ساسان بن بابك بن ساسن بن بهاوند بن دارا بن ساسان بن بهمن بن إسفنديار بن يستاسف بن بهراسف ، وقيل: إنه أردشير بن بابك بن ساسان لأصغر بن بابك بن ساسان بن بابك بن مهرمس بن ساسان بن بهمن بن إسفنديار بن يستاسف بن بهراسف ولا خلاف بينهم في أن أردشير من ولد منوشهر، وكان مما حفظ من قوله يوم مَلَكَ وقتل أردوان وفرغ من ملوك طوائف ووضع التاج على رأسه أن قال: الحمد لله الذي خضَنا بنعمه، شملنا بفوائده وقسمه، ومهد لنا البلاد، وقاد إلى طاعتنا العباد نحمده حمد من عرف فضل ما آتاه، ونشكره شكر الداري بما منحه واصطفاه، ألا وإنا ساعون في إقامة منازل العدل، وإدرار الفضل، وتشييد المآثر، وعمارة البلاد، والرأفة بالعباد، وَرَم أقطار المملكة، ورَدِّ ما انخرم في سائر الأيام منها، فليسكن طائركم، أيها الناس، فإني أعُمُّ بالعدل القويّ والضعيف، والدنيء والشريف، وأجعل العدل سنة محمودة، وشريعة مقصودة، وستردون في سيرتنا إلى ما تحمدوننا عليه، وتصدق أفعالنا أقوالنا، إن شاء اللّه تعالى، والسلام.

قال المسعودي: وأردشير بن بابك المتقدم في ترتيب طبقات القدماء، وبه اقتدى المتأخرون من الملوك والخلفاء، وكان يرى أن ذلك من السياسة، ومما يدعم عمود الرياسة؛ فكانت طبقات خاصته ثلاثاً: الأولى الأساورة وأبناء الملوك، وكان مجلس هذه الطبقة عن يمين الملك، على نحو من عشرة أذرُعٍ، وهم بطانة الملك وندماؤه ومحدثوه من أهل الشرف والعلم، وكانت الطبقة الثانية على مقدار عشرة أذرع من الأولى، وهم وجوه الْمَرَازبة وملوك الكورا والمقيمون بباب أردشير، والمرازبة وهم الِإصبهبذية ممن كانت مملكة الكور في أيامه، والطبقة الثالثة كانت رتبتها على قدر عشرة أذرع من حد مرتبة الطبقة الثانية، وأهل هذه الطبقة المضحكون وأهل البطالة والهزل، غير أنه لم يكن في هذه الطبقة الثالثة خسيس الأصل، ولا وضيع القدر، ولا ناقص الجوارح، ولا فاحش الطول أو القصر، ولا مَؤُف، ولا مرمي بأبنة، ولا ابن في صناعة دنيئة كابن حائك أو حَجَّام، ولوكان يعلم الغيب أو حوى كل العلوم مثلاً وكان أردشير يقول: ما شيء أضر على نفس ملكٍ أو رئيس أوذي معرفة صحيحة من معاشرة سخيف أو مخالطة وضيع؟ لأنه كما أن النفس تصلح على مخالطة الشريف الأريب الحسيب، كذلك تفسد بمعاشرة الخسيس، حتى يقدح ذلك فيها، ويزيلها عن فضيلتها، ويثنيها عن محمود شريف أخلاقها، وكما أن الريح إذا مرت بالطيب حملت طيباً تحيا به النفوس وتتقوى به جوارحها، كذلك إذا مرت بالنتن فحملته ألمت به النفس، وأضر بأخلاقها إضراراً تاماً، والفساد أسرع إليها من الصلاح. إذ كان الهدم أسرع من البناء، وقد يجد ذو المعرفة في نفسه عند معاشرة السفلة الوضعاء شهراً فسادَ عقِلِه دهراً. وكان أردشير يقول: يجب على الملك أن يكون فائض العدل، فإن في العدل جماع الخير، وهو الحصن الحصين من زوال الملك وتخرِمه، إن أول مخايل الِإدبار في الملك ذهاب العدل منه، وأنه متى خفقَت رايات الجور في ديار قوم كافحتها عقاب العدل فردتها على العقب، ييس أحد ممن يصحب الملوك ويخالطهم أولى باستجماع محاسن الأخلاق و فضائل الآداب وظرائف الملح وغرائب النتف من النديم، حتى إنه ليحْتاج أن يكون له مع شرف الملوك تواضع العبيد، ومع عفاف النُّسّاك مجون الفتاك، ومع وقار الشيوخ مزاح الأحداث، وكل واحدة من هذه الخلال هو مضطر إليها في حال لا يحسن أن يجلب غيرها وإلى أن يجتمع له من قوة الخاطر ما يفهم به ضمير الرئيس الذي ينادمه، على حسب ما يبلوه من خلائقه، وبعلم من معاني لحظه وإشاراته ما يعينه على شهوته، لا يكون نديمأ حتى يكون له جمال ومروءة؛ فأما جماله فنظافة ثوبه، طيب رائحته، وفصاحة لسانه، وأما مروءته فكثرة حيائهِ في انبساطه إلى الجميل، ووفاره في مجلسه، مع طلاقة وجهه في غير سخف، ولا يستكمل المروءة حتى يسلو عن اللذة.

مراتب رجال الدولة:

ورتب أردشير المراتب فجعلها سبعة أفواج: فأولها الوزراء، ثم الموبذان وهو القائم بأمور الدين، وهو قاضي القضاة، وهو رئيس الموابذة، ومعناها القُوَّام بأمور الدين في سائر المملكة، والقضاة المنصوبون للأحكام، وجعل الِإصبهبذيين أربعة: الأول بخراسان، والثاني بالمغرب، والثالث ببلاد الجنوب، والرابع ببلاد الشمال ؛ فهؤلاء الأربعة هم أصحاب تدبير الملك، كل واحد منهم قد أفرد بتدبير جزء من أجزاء المملكة، فكل واحد منهم صاحب ربع منها، ولكل واحد من هؤلاء مَرْزُبَان، وهم خلفاء هؤلاء الأربعة، ورتب أردشير الطبقات الأربعة من أصحاب التدبير ومَنْ إليهم أزِمّةُ الملك وحضور المشورة في إيراد الأمور وإصدارها، ثم رتب طبقات المغنين وسائر المطربين وذوي الصنعة بالموسيقى. فلم يزل على ذلك مَنْ طرأ بعده من ملوك آل ساسان إلى بهرام جور فإنه قرر مراتب الأشراف وأبناء الملوك وَسَدَنة بيوت النيران والنساك والزهاد وطبقات العلماء بالديانة وأنواع المهن الفلسفية على حالها، وغَيًر طبقات المغنين، فرفع مَنْ كان بالطبقة الوسطى إلى الطبقة العليا، والطبقة الدنيئة إلى الوسطى، وَغير المراتب على حسب إعجابه بالمطرب له منهم، وافسد ما رتبه أردشير بن بابك في طبقات الملهين، فسلك مَنْ ورَدَ بعده من ملوكهم هذا المسلك، حتى ورد كسرى أنو شروان فردّ مراتب المغنين إلى ما كانت عليه في عهد أردشير بن بابك. وقد كانت ملوك الأعاجم كلها من عهد أردشير تحتجب عن الندماء، وكان يكون بين الملك وبين أول الطبقات عشرون ذراعاً، لأن الستارة التي على الملك تكون منه على عشرة أذرع، ومن الطبقة الأولى على عشرة أذرع، وكان الموكل بالستارة رجلًا من أبناء الأساورة يُقال له خرام باشن، فإذا غاب هذا الرجل وكل بها آخر من أبناء الأساورة وذوي التحصيل، وسمي بهذا الاسم، وهذا الاسم عام لمن رتَب في هذه الرتبة ووقف هذا الموقف، وتفسير ذلك كن فرحاً مسروراً، وكان خرم باش هذا إذا جلس الملك لنُدمائه ومُعاقريه أمر رجلَاَ أن يرتفع على أرفع مكان في دار الملك، فيرفع عقيرته ويُغَرد بصوت رفيع يسمعه كل من حضر فيقول: يا لسان احفظ رأسك، فإنك تجالس في هذا اليوم الملك، ثم ينزل، وكان ذلك فعلهم في يوم جلوس الملك للهوه وطربه، فيأخذ الندماء مراتبهم خافتةً أصواتُها، غير مشيرة بشيء من جَوَارحها، حتى يطلع الموكل بالستارة، فيقول: غَنِّ أنت يا فلان كذا وكذا، واضرب أنت يا فلان كذا وكذا، من طريقة كذا وكذا، من طرائق الموسيقى، وقد كانت الأوائل من بني امية لا تظهر للندماء، وكذلك الأوائل من بني العباس.

زهد أردشير:

وكَوَرَ أردشير بن بابك كُوَراً، وَمَدَّنَ مُدُنَاَ، وله عهد في أيدي الناس. ولما خلا من ملكه أربع عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة سنة، واستقامت له الأرض، ومهدها، وصال على الملوك فانقادت إلى طاعته، زهد في الدنيا، وتبين له عَوَارها، وما هي عليه من الغرور والعناء، وقلة المكث، وسرعة الغِيلة منها إلى مَنْ أمنها، ووثق بها، واطمأنَّ إليها، وبان له أنها غرّارة وضَرارة خاتلة زائلة بائدة، وما اعْذَوذبَ منها جانب لامرئ وَحَلاَ إلا تمررَ منها عليه جانب وَأوْبى ورأى أن مَنْ بنى قبله المدائن وحًصّن الحصون وساق الجموع وكان أعظم جيشاً وأشد جنوداً وأتم عديدا قد صار رميماً هشيماً، وتحت التراب مقيماً فآثر التفرد عن المملكة، والتَّرْك لها، واللحاق ببيوت النيران، والانفراد بعبادة الرحمن، والأنس بالوحدة، فنصب ابنه سابور لمملكته، وَتَوًجَه بتاجه، وذلك أنه رآه أرجح ولده حلماً، وأكملهم علماً، وأشدهم بأساً، وأجزلهم مراساً، فعاش بعد ذلك في حال تزهده، وخلوه بربه، وكونه في بيوت النيران سنة، وقيل شهراً، وقيل: أكثر مما ذكرنا. وأقام أردشير اثنتي عشرة سنة يحارب ملوك الطوائف. فمنهم من يكاتبه فينقاد إلى ملكه رهبة من صَوْلته، ومنهم من يمتنع عليه فيسير إلى داره ويأتي عليه، وكان آخر من قتل منهم ملكاً للنبط بناحية سواد العراق اسمه بابا بن بردينا صاحب قصر ابن هبيرة، ثم أردوان الملك، وفي هذ اليوم سمي شاهنشاه، وهو ملك الملوك. وأمُّ ساسان الأكبر من سبايا بني إسرائيل، وهي بنت سانال، ولأردشير ابن بابك أخبار في بدء ملكهَ مع زاهد من زهادهم وأبناء ملوكهم يُقال له بيشر وكان أفلاطوني المذهب على رأي سقراط وأفلاطون، أعرضنا عن ذكرها إذ كنا قد أتينا على جميع ذلك في كتابنا أخبار الزمان وفي الكتاب الأوسط، مع ذكر سيره وفتوحه، وما كان من أمره، ولأردشير بز بابك كتاب يعرف بكتاب الكرنامج فيه ذكر أخباره وحروبه ومسيره في الأرض وسيره.

من وصايا أردشير وكتبه:

وكان مما حفظ من وصية أردشير لابنه سابور عند نصبه إياه للملك أن قال له: يا بني، إن الدين والملك أخوان، ولا غنى لواحد منهما عن صاحبه ة فالدين أس الملك، والملك حارسُه، وما لم يكن له أسر فمهدوم، وما لم يكن له حارس فضائع. وكان مما حفظ من مكاتباته أعني أردشير إلى خواصَ من أنواع رعيته وعماله: من أردشير بن بهمن ملك الملوك، إلى الكتاب الذين بهم تدبير المملكة، والفقهاء الذين هم عماد الدين، والأساورة الذين هم حُمْاة الحرب، وإلى الحرَّاث الذين هم عَمَرَة البلاد، سلام عليكم، نحن بحمد اللّه صالحون، وقد رفعنا إتاوتنا عن رعيتنا بفضل رأفتنا ورحمتنا، ونحن كاتبون إليكم بوصية فاحفظوها لا تستشعروا الحقد فيكم فيدهمكم العدو، ولا تحبُّوا الاحتكار فيشملكم القحط، وكونوا لأبناء السبيل مأوى ترووا غداً في المعاد، وتزوجوا في الأقارب فإنه أمَسُّ للرحم وأقرب للنسب، ولا تركنوا للدنيا فإنها لا تدوم لأحد، ولا تهتموا لها فلن يكون إلا ما شاء اللّه، ولا ترفضوها مع ذلك فإن الآخرة لا تنال إلا بها. وكتب أردشير إلى بعض عماله: بلغني أتك تؤثر اللين على الغلظة، والمودة على الهيبة، والجبن على الجراءة، فليشتد أوَّلُك، وليلن آخرك، ولا تخلين قلباً من هيبة، ولا تعطلنه من مودة، ولا يبعد عليك ما أقول لك فإنهما يتجاوران.

سابور بن أرلحشير وماني الثنوي:

ثم ملك بعد أردشير ابنه سابور، وكان ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة، وكانت له حروب مع كثير من ملوك العالم، وبنى كُوَراً، وَمًصّر مدناً نسبت إليه، كما نسب من الكور والمدن إلى آبائه، والعرب تلقبه سابور الجند، وفي أيامه ظهر ماني، وقال بالاثنين، فرجع سابور عن المجوسية إلى مذهب ماني والقول بالنور والبراءة من الظلمة، ثم عاد بعد ذلك إلى دين المجوسية، ولحق ماني بأرض الهند؟ لأسباب أوجبت ذلك قد أتينا على ذكرها فيما سلف من كتبنا.

بين قيصر وسابور:

وكتب ملكُ الروم إلى سابور بن أردشير: أما بعد، فقد بلغني من سياستك لجندك، وضبطك ما تحت يدك، وسلامة أهل مملكتك بتدبيرك ما أحببت أن أسلك فيه طريقتك، وأركب مناهجك.

فكتب إليه سابور: نِلْتُ ذلك بثمان خصال: لم أهزل في أمر ولا نهي قط، ولم أخلف وعداً ولا وعيداً قط، وحاربت للغني لا للهوى، واجتلبت قلوب الناس ثقة بلا كره، وخوفاً بلا مقت، وعاقبت للذنب لا للغضب، وعممت بالقوت، وحَسَمْتُ الفضول.

من سابور إلى بعض عماله:

ويُقال: إن سابور كتب إلى بعض عماله: إذا استكتبت رجلًا فأسْنِ رزقه، وَشُدَّ بصالح الأعوان عضده، وأطلق بالتدبير يده ففي إسناء رزقه حسم طمعه، وفي تقويته بالأعوان ثقل وطأته على أهل العدوان، وفي إطلاقه بالتدبير ما أخافه عواقب الأمور، ثم قِفهُ من أمره على ماله قدمته ليمثله إماماً ويحفظه كلاماً، فإن وقع أمرَه بما رسمت فأوْلِهِ غرضك، وأوجب زيادته عليك، وإن حَادَ عن أمرك علقته حجتك، وأطلقتَ بالعقوبة عليه يَدكَ، والسلام. وعهد سابور إلى ولده هرمز وَمَنْ تلاه من الملوك بعده، فقال: اجعلوا علو أخلاقكم كعلو أخطاركم، وارتفاع كرمكم كارتفاع هممكم، وفضل سعيكم كفضل جَدِّكم. وقيل: إن ملك سابور كان إحدى وثلاثين سنة ونصفاً وثمانية عشر يوماً.

هرمز وبهرام:

ثم ملك بعد سابور ابنه هرمز بن سابور الملقب بالبطل، وكان ملكه سنة، وقيل: اثنين وعشرين شهراً، وبني مدينة رامهرمز من كُوَر الأهواز. وكتب إلى بعض عماله: لا يصلح لسد الثغور وقَوْد الجيوش وإبرام الامور وتدبير الأقاليم إلا رجل تكاملت فيه خمس خصال: حزم يتيقن به عند موارد الأمور حقائق مصادرها، وعلم يحجبه عن التهوُر في المشكلات إلا عند تجلي فرصتها، وشجاعة لا تنقصها الملمات بتواتر جوائحها، وصدق في الوعد والوعيد يوثَق بوفائه بهما، وجود يهون عليه بتدبير الأموال في حقها. ثم ملك بعده بهرام بن هرمز ثلاث سنين، وكانت له حروب مع ملوك الشرق... .

بهرام بن بهرام:

ثم ملك بعده بهرام، بن بهرام، وكان ملكه سبع عشرة سنة، وقيل غير ذلك، وأقبل في أول ملكه على القَصْف واللذات والصيد والنزهة، لا يفكر في ملكه، ولا ينظر في أمور رعيته، وأقْطَع الضياع لخواصه ومَنْ لاذ به منْ خَدمه وحاشيته، فخربت الضياع، وخلت من عُمَّارها، وسكنوا الضياع المتعززة، فقلت العمارة إلا ما أقطع من الضياع، وسقطت عنهم المطالبة بالخراج بممايلة الوزراء خَوَاص الملك، وكان تدبير الملك مفوضَاَ إلى وزرائه فخربت البلاد، وقلت العمارة وقل ما في بيوت الأموال، فضعف القويُ من الجنود، وهلك الضعيف منهم، فلما كان في بعض الأيام ركب الملك إلى بعض منتزهاته وصيده، فجنه الليل وهو يسير نحو المدائن، وكانت ليلة قَمْراء، فدعا بالموبذان لأمر خطر بباله فلحق به وسايره، وأقبل على محادثته، مستخبراً له عن سير أسلافه، فتوسطوا في مسيرهم خربات كانت من أمهات الضياع قد خربت في مملكته، ولا أنيس بها إلا البوم، وإذا بوم يصيح وآخر يجاوبه من بعض تلك الخربات، فقال الملك للموبذان : أترى أحداً من الناس أعطى فهْمَ منطق هذا الطير المصوت في هذا الليل الهادئ فقال له الموبذان: أنا أيها الملك ممن قد خصه اللّه بفهم ذلك، فاستفهمه الملك عما قال، فأعلمه أن قوله صحيح، فقال له: فما يقول هذا الطائر؟ وما الذي يقول للآخر؟ قال الموبذان هذا بوم ذكر يخاطب بومة، ويقول لها: أمتعيني من نفسك حتى يخرج منا أولاد يسبحون اللهّ، ويبقى لنا في هذا العالم عَقِب يكثرون ذكرنا والترحم علينا فأجابته البومة: إن الذي دعوتني إليه هو الحظ الأكبر، والنصيب الأوفر، في العاجل والآجل، إلا أني أشترط عليك خصالا إن أنت أعطيتنيها أجبتك إلى ما دعوتني إليه، فقال لها الذكر: وما تلك الخصال. قالت: أولها إن أنا أبحتك نفسي وصرت إلى ما إليه دعوتني تضمن لي أن تعطيني من خربات أمهات الضياع عشرين قرية مما قد خرب في أيام هذا الملك السعيد، فقال له الملك: فما الذي قال لها الذكر. قال الموبذان: كان من قوله لها: إن دامت أيامُ هذا الملك السعيد جده أعطيتك مما يخرب من الضياع ألف قرية، فما تصنعين بها. قالت: في اجتماعنا ظهور النسل، وكثرة الولد، فنُقْطِع كل واحد من أولادنا قرية من هذه الخربات، قال لها الذكر: هذا أسهل أمر سألتنيه، وأيسر أمر طلبته مني، وقدمت لك الوعد وأنا مليء بذلك، فهاتي ما بعد ذلك فلما سمع الملك هذا الكلام من الموبذان عمل في نفسه، واستيقظ من نومه، وفكر فيما خوطب به، فنزل من ساعته، وترَجَّلَ للناس، وخلا بالموبذان فقال له:. إيها القيم بالدين، والناصح للملك، والمنبه على ما أغْفلَه من أمور ملكه، وأضاعه من أمر بلاده ورعيته، ما هذا الكلام الذي خاطبتني به. فقد حركت مني ما كان ساكناً، وبعثني على علم ما كنت عنه غائباً، قال الموبذان: صادفت من الملك السعيد جدًّه وقتَ سعدٍ للعباد والبلاد، فجعلت الكلام مثلًا وموقظاً على لسان الطائر عند طلب الملك مني جواب ما سأل، ثم قال له الملك: أيها الناصح، اكْشِف لي عن هذا الغرض الذي إليه رميت، والمعنى الذي له قصدت، ما منه و إلى ماذا يؤول؟ قال الموبذان: أيها الملك السعيد جده إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام للّه تعالى بطاعته، والتصرف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشريعة إلا بالملك، ولا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل، والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الرب وجعل له قيما، وهو الملِك، قال الملك: أما ما وصفت فحق، فأبِنْ لي عما تقصد، وأوضح لي في البيان، قال الموبذان: نعم أيها الملك، عمدت إلى الضياع فانتزعتها من أربابها وعُمَّارها، وهم أرباب الخراج وَمَنْ تؤخذ منهم الأموال، فأقطِعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة وغيرهم، فعمدوا إلى ما تعجل من غرتها، واستعجلوا المنفعة، وتركوا العمارة والنظر في العواقب وما يصلح الضياع، وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك، ووقع الْحَيْف على من بقي من أرباب الخراج وعمار الضياع، فانجلوا عن ضياعهم، ورحلوا عن ديارهمَ، وآووا إلى ما تعزز من الضياع بأربابه فسكنوه، فقلت العمارة، وخربت الضياع، وقلت الأموال، فهلكت الجند والرعية، وطمع في ملك فارس مَنْ أطاف بها من الملوك والأمم لعلمهم بانقطاع المواد التي بها تستقيم دعائم الملك، فلما سمع الملك هذا الكلام من الموبذان أقام في موضعه ذلك ثلاثاً، وأحضر الوزراء والكتاب وأرباب الدواوين، وأحضرت الجرائد فانتزعت الضياع من أيدي الخاصة والحاشية، ورُدَت إلى أربابها، وَجرَوْا على رسومهم السالفة، وأخذوا في العمارة، وقوي من ضعف منهم، فعمرت الأرض، وأخصبت البلاد، وكثرت الأموال عند جباية الخراج. وقويت الجنود، وقطعت مواد الأعداء، وشحنت الثغور، وأقبل الملك يباشر الأمر بنفسه في كل وقت من الزمان، وينظر فى أمر خواصه وعوامه، فحسنت أيامه، وانتظم ملكه، حتى كانت تدعى أيامه أعياداً؛ لما عم الناس من الخصب والإفضال وشملهم من العدل. قيم دعائم الملك، فلما سمع الملك هذا الكلام من الموبذان أقام في موضعه ذلك ثلاثاً، وأحضر الوزراء والكتاب وأرباب الدواوين، وأحضرت الجرائد فانتزعت الضياع من أيدي الخاصة والحاشية، ورُدَت إلى أربابها، وَجرَوْا على رسومهم السالفة، وأخذوا في العمارة، وقوي من ضعف منهم، فعمرت الأرض، وأخصبت البلاد، وكثرت الأموال عند جباية الخراج. وقويت الجنود، وقطعت مواد الأعداء، وشحنت الثغور، وأقبل الملك يباشر الأمر بنفسه في كل وقت من الزمان، وينظر فى أمر خواصه وعوامه، فحسنت أيامه، وانتظم ملكه، حتى كانت تدعى أيامه أعياداً؛ لما عم الناس من الخصب والإفضال وشملهم من العدل.

جماعة من ملوك الفرس:

ثم ملك بعده بهرام بن الملك بهرام بن بهرام فكان ملكه إلى أن هلك أربع سنين، وأربعة أشهر ثم ملك بعده نرسي بن بهرام الملك ابن بهرام البطل، وكان ملكه سبع سنين وقيل ونصفاً ثم ملك بعده هرمز بن نرسي بن بهرام، على ما ذكرنا من النسب، وكان ملكه سبع سنين وخمسة أشهر. وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنَى عن عمر كسرى أن كل من ذكرنا من ملوك آل ساسان إلى هذا الملك وهو هرمز بن نرسي كانوا ينزلون جند يسابور من بلاد خوزستان، وقد كان يعقوب بن الليث الصفار أراد سكنى جند يسابور متشبهاً بمن مضى من ملوك ساسان، إلى أن مات بها.

سابور ذو الاكتاف:

ثم ملك بعد هرمز بن نرسي ابنه سابور بن هرمز، وهو سابور ذو الأكتاف، وكان ملكه إلى أن هلك اثنتين وسبعين سنة. وخلفه والده حَمْلاً، فغلبت العرب على سواد العراق، وقام الوزراء بأمر التدبير، وكانت جمهرة العرب ممن غلب على العراق ولد إياد بن نزار، وكان يُقال لها طبق لإطباقها على البلاد، وملكها يومئذ الحارث بن الأغر الإِيادي، فلما بلغ سابور من السن ست عشرة سنة أعدَ أساورتهُ بالخروج إليهم والِإيقاع بهم، وكانت إياد تصيف بالجزيرة وتشتو بالعراق، وكان في حبس سابور رجل منهم يُقال له لقيط، فكتب إلى إياد شعراً ينذرهم به، ويعلمهم خبر من يقصدهم، وهو:

سلام في الصحيفة من لقيط ... على من في الجزيرة من إياد

بأن الليث يأتيكم دلاق ... فلا يحسبكم شوك القَتَاد

أتاكم منهمُ سبعون ألفاً ... يَجُرون الكتائب كالجراد

على خيل ستأتيكم فهذا ... أوانُ هلاككم كهلاك عاد

فلم يعبؤا بكتابه، وسراياه تكر نحو العراق وتُغِير على السواد، فلما تجهز القوم نحوهم أعاد إليهم كتاباً يخبرهم فيه أن القوم قد عسكروا، وتحشَدوا لهم، وأنهم سائرون إليهم، وكتب لهم شعراً أوله.

يا دار عَمْرَةَ من تذكارها الجرعا ... هَيًجْتِ لي الهم والأحزان والوجعا

أبلغ إياداً وحلل في سراتهم ... أني أرى الرأي إن لم أعْصَ قدنصعا

ألا تخافون قوماً لا أبا لكم... مَشَوْا إليكم كأمثال الدَّبى سُرُعا

لو أن جمعهمُ راموا بهدتهَم ... شُمَ الشماريخ من ثَمْلاَن لا نصدعا

فقلِّدوا أمركم لله دركم ... رَحْبَ الذراع بأمر الحرب مضطلعا

فأوقع بهم، فعمهم القتل، فما أفلَتَ منهم إلا نفر لحقوا بأرض الروم، وخلع بعد ذلك أكتاف العرب، فسمي بعد ذلك سابور ذا الأكتاف. وقد كان معاوية بن أبي سفيان راسَلَ مَنْ بالعراق من تميم ليثبوا بعلي ابن أبي طالب (عليه السلام)! فبلغ ذلك علياً (عليه السلام)، فقال قي بعض مقاماته في كلام له طويل:

إن حَيّاً يرى الصلاح فساداً ... أو يرى الغي في الأمور رشادا

لقريب من الهلاك كما... أهلك سابورُ بالسواد أيادا

وقد كان سابور في مسيره في البلاد أتى على بلاد البحرين، وفيها يومئذ بنو تميم، فأمعن في قتلهم، وفرت بنو تميم، وشيخها يومئذ عمروبن تميم بن مر، وله يومئذ ثلثمائة سنة، وكان يعلق في عمود البيت في قفة قد اتخذت له، فأرادوا حمله، فأبى عليهم إلا أن يتركوه في ديارهم، وقال: أنا هالك اليوم أو غداً، وماذا بقي لي من فسحة العمر؟ ولعل اللّه ينجيكم بي من صَوْلة هذا الملك المسلط على العرب، فخلوا عنه، وتركوه على ما كان عليه، فصَبَّحت خيل سابور الديار، فنظروا إلى أهلها وقد ارتحلوا، ونظروا إلى قفة معلقة في شجرة، وسمع عمرو صهيل الخيل ووقعها، وهمهمة الرجال، فأقبل يصيح بصوت ضعيف، فأخذوه، وجاءوا به إلى سابور، فلما وضُع بين يديه نظر إلى دلائل الهرَم ومرور الأيام عليه ظاهرة، فقال له سابور: مَنْ أنت أيها الشيخ الفاني. قال: أنا عمروبن تميم بن مر، وقد بلغت من العمر ما ترى، وقد هرب الناس منك لإِسرافك في القتل وشدة عقوبتك إياهم، وآثرتُ الفناء على يديك ليبقى مَنْ مضى من قومي، ولعل اللّه ملك السماوات والأرض يُجري على يديك فرجهم، ويصرفك عما أنت بسبيله من قتلهم، وأنا سائلك عن أمر إن أذنْتَ لي فيه، فقال له سابور: قل يُسْمع منك، فقال له عمرو: ما الذي يحملك على قتل رعيتك ورجال العرب؟ فقال سابور: أقتلهم لما أرتكبوا من أخذ بلادي وأهل مملكتي، فقال عمرو: فعلوا ذلك ولست عليهم بقيم، فلما بلغت وقفوا عما كانوا عليه من الفساد هيبة لك، قال سابور: أقتلهم لأنا ملوكَ الفرس نجد في مخزون علمنا وما سلف من أخبار أوائلنا أن العرب ستُدال علينا، وتكون لهم الغلبة على ملكنا، فقال عمرو: هذا أمر تتحققه أم تظنه، قال: بل اتحققه ولا بد أن يكون ذلك، قال له عمرو: فإن كنت تعلم ذلك فلم تسيء إلى العرب؟ واللّه لأن تُبْقِي على العرب جميعاً وتحسنَ إليهم فيكافئون عند إدالة الدولة لهم قومَكَ بإحسانك، وإن أنت طالت بك المدة كافأوك عند مصير الملك إليهم، فيبقون عليك وعلى قومك، وإن كان الأمر حقاً كما تقول فهو أحزم في الرأي، وأنفع في العاقبة، وإن كان باطلًا فلم تتعجل الِإثم وتسفك دماء رعيتك؟ فقال سابور: الأمر صحيح، وهو كائن لكم، والرأي ما قلتَ، ولقد صدقتَ في القول، ونصحت في الخطاب، فنادى منادي سابور بأمان الناس، ورفع السيف، والكف عن قتلهم، ويقال: إن عمراً بقي في هذا العالم بعد هذا الوقت ثمانين سنة، وقيل: أقل من ذلك، واللّه أعلم. وسار سابور نحو بلاد الشام، فافتتح المدن، وقتل خلائق من الروم، ثم طالبته نفسُه بالدخول إلى أرض الروم متنكراً ليعرف أخبارهم وسيرهم، فتنكر، وسار إلى القسطنطينية، فصادف وليمة لقيصر قد اجتمع فيها الخاص والعام منهم، فدخل في جملتهم، وجلس جملى بعض موائدهم، وقد كان قيصر أمر مصوراً أتى عسكر سابور فصوَّره له، فلما جاء قيصر بالصورة أمر بها فصورت على آنية الشراب من الذهب والفضة، وأتى من كان على المائدة التي عليها سابور بكأس، فنظر بعض الخدم إلى الصورة التي على الكأس وسابور مقابل له على المائحة، فعجب من اتفاق الصورتين، وتقارب الشكلين، فقام إلى الملك، فأخبره، فأمر به، فمثل بين يديه غ فسأله عن خبره، فقال: أنا من أساورة سابور استحققت العقوبة لأمر كان منِّي، فدعاني ذلك إلى الدخول إلى أرضكم، فلم يقبل ذلك منه، وَقُئدم إلى السيف فأقَرَّ، فجعله في جلد بقرة، وسار قيصر في جنودهِ حتى توسط العراق، وافتتح المدائن، وَشَنَّ الغارات، وَعَضَدَ النخل، وانتهى إلى مدينة جندي يسابور، وقد تحصن بها وجوه فارس، فنزل عليها وحضر عيد لهم في تلك الليلة التي أشرفوا على فتح المدينة في صبيحتها، فأغفل الموكلون أمر سابور، وأخذ الشرابُ منهم، وكان بالقرب من سابور جماعة من أساري الفرس، فخاطبهم أن يحل بعضهم بعضاً، وشجَّعَهم، وأمرهم أن يصبوا عليه زِقَاقَاَ من الزيت كانت هناك ففعلوا، فلَانَ عليه الجلد وتخلص، وأتى المدينة وهم يتحارسون على سورها فخاطبهم، فعرفوه ورفعوه بالحبال إليهم، ففتح أبواب خزائن السلاح، وخرج بهم ففرقهم حول مواضع من الجيش، والروم غارونَ مطمئنون، فكبس الجيش عند ضرب النواقيس، فأتوه بقيصر أسيراً، فاستحياه وأبقى عليه، وضمِ إليه من أفلَتَ من القتل من رجاله، فغرس قيصر بالعراق الزيتون بدلاَ مما عضده من النخل فيها.، ولم يكن يُعهد بالعراق الزيتون قبل ذلك، وبنى شاذروان مدينة تستر لنهرها، والشاذروان هو المسناة العظيمة، والكرمن الحجر والحديد والرصاص، وعمر ما أخْرَب، في أخبار يطول ذكرها، وانصرف قيصر نحو الروم. وقد ذكر في بعض الأخبار أن سابور رَبَقَ قيصر، وقطع أعصاب عقبيه أو رقمها، وأن الروم لا تربق دوابها، ولا تلبس الخفاف المعقبة، وفي ذلك يقول الحارث بن جندة المعروف بالهرمزان: الزيتون قبل ذلك، وبنى شاذروان مدينة تستر لنهرها، والشاذروان هو المسناة العظيمة، والكرمن الحجر والحديد والرصاص، وعمر ما أخْرَب، في أخبار يطول ذكرها، وانصرف قيصر نحو الروم. وقد ذكر في بعض الأخبار أن سابور رَبَقَ قيصر، وقطع أعصاب عقبيه أو رقمها، وأن الروم لا تربق دوابها، ولا تلبس الخفاف المعقبة، وفي ذلك يقول الحارث بن جندة المعروف بالهرمزان:

همُ ملكوا جميع الناس طرا ... وهم رَبَقوا هرقْلاً بالسواد

وهم قتلوا أبا قابوس غصباً ... وهم أخفوا البسيطة من إياد

وفي فعل سابور وتغريره بنفسه في دخوله إلى أرض عدوه متجسسا يقول بعض المتقدمين من شعراء أبناء فارس:

وكان سابور صَفواً في أرومته ... أخْتيرَ عنها فأضحى غير مختار

إِذ كان بالروم جاسوسا يجول به ... حَزْم المنية من في كيد مكار

فاستأسروه وكانت كبوة عجباً ... وزلة سبقت من غير عَثَّار

فأصبح الملِكُ الرومي معترضا ... أرض العراق على هول وأخطار

فراطَنَ الفرس بالأبواب فافترقوا... كما تجاوب أسد الغاب في الغار

فجذ بالسيف أمر الروم فامتحقوا ... للّه لحرك من طَلاَّب أوتار

إِذ يغرسون من الزيتون ما عَضَدوا ... من النخيل وما حفوا بمنشار

إِيوان كسرى:

وغزا سابور بعد ذلك بلاد الجزيرة وامد وغيرها من بلاد الروم، ونقل خلقأ من أهلها، وأسكنهم بلاد السوس وتستر وغيرها من مدن كور الأهواز، فتناسلوا وقَطَنوا تلك الديار، فمن ذلك الوقت صار الديباج التستري وغيره من أنواع الحرير يعمل بتستر، والخز بالسوس، والستور والفرش ببلاد نصيبين، ومكث إلى هذه الغاية، وقد كان مَنْ قبله من ملوك الساسانية وكثير ممن سلف من فارس الأولى يسكن بطيسون، وذلك بغربي المدائن من أرض العراق، فسكن سابور في الجانب الشرقي من المدائن، وبنى هناك الإيوان المعروف بإيوان كسرى إلى هذه الغاية، وقد كان أبرويز بن هرمز أتم مواضع من بناء هذا الإِيوان، وقد كان الرشيد نازلَاَ على دجلة بالقرب من الإيوان، فسمع بعض الخدم من وراء السرادق يقول لآخر: هذا الذي بنى هذا البناء ابن كذا وكذا أراد أن يصعد عليه إلى السماء، فأمر الرشيد بعض الأستاذين من الخدم أن ضربه مائة عَصاً، وقال لمن حضره: إن الملك نسبة، والملوك به إخوة، وإن الغيرة بعثتني على أدبة لصيانة الملك، وما يلحق الملوك للملوك. وذكر عن الرشيد بعد القبض على البرامكة أنه بعث إلى يحيى بن خالد بن برمك، وهو في اعتقاله، يشاوره في هَدْم الِإيوان، فبعث إليه: لا تفعل، فقال الرشيد لمن حضره: في نفسه لمجوسية، والحنو عليها، والمنع من إزالة آثارها، فشرع في هدمه، ثم نظر فإذا يلزمه في هدمه أموال عظيمة لا تضبط كثرة، فأمسك عن ذلك، وكتب إلى يحيى يعلمه ذلك، فأجابه بأن ينفق في هدمه ما بلغ من الأموال، ويحرص على فعله، فعجب الرشيد من تنافي كلامه في أوله وآخره، فبعث إليه يسأله عن ذلك، فقال: نعم، أما ما أشرتُ به في الأول فإني أردت بقاء الذكر لأمة الِإسلام وبُعْدَ الصيت، وأن يكون من يردُ في الأعصار ويطرأ من الأمم في الأزمان يرى مثل هذا البنيان العظيم فيقول: إن أمة هذا بنيانها فأزالت رسومها واحتوت على ملكها، لأمة عظيمة شديحة منيعة، وأما جوابي الثاني فأخبرت أنه قد شرع في هَدمه ثم عجز عنه، فأردت نفي العجز عن أمة الِإسلام؟ لئلا يقول من وصفت ممن يرد في الأعصار: إن هذه الأمة عجزت عن هدم ما بنَتْه فارس، فلما بلغ الرشيد ذلك من كلامه قال: قاتله الله تعالى! فما سمعته قال شيئاً قط إلا صَدق فيه، وأعرض عن هدمه، وسابور هو الذي بنى مدينة نيسابور ببلاد خراسان وغيرها بفارس والعراق.

أردشير:

ثم ملك بعد سابور بن هرمز أخوه أردشير بن هرمز، وكان ملكه إلى أن خلع أربعين سنة، ثم ملك بعده سابور بن سابور، خمس سنين وقيل: وأربعة أشهر، وكانت له حروب كثيرة مع إياد بن نزار وغيرها من العرب وفيه يقول شاعر إياد:

على رغم سابور بن سابور أصبحت ... قبابُ إيادٍ حولها الخيل والنعَمْ

ويقال: إن هذا الشعر قاله نفر قد لحقوا بأرض الروم حين أوقع بهم سابور ذو الأكْتَاف على ما ذكرنا ثم تراجعوا إلى ديارهم، وانضافوا إلى ربيعة من ولد بكر بن وائل، وإن ربيعة كانتَ قد غلبت على السواد، وشَنَّتْ الغارات في ملك سابور بن سابور، فقال شاعر إياد في ذلك ما وصفنا، وهم داخلون في جملة ربيعة، وقيل غير ذلك، والله أعلم بالصحيح منه.

بهرام و يزدجرد:

ثم ملك بعده بهرام بن سابور، وكان ملكه عشر سنين، وقيل: إحدى عشرة سنة. ثم ملك بعده يزدجرد بن سابور، المعروف بالأثيم، وكان ملكه إلى أن هلك إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، وقيل: اثنتين وعشرين سنة غير شهرين.

بهرام جور:

ثم ملك بعده بهرام بن يزدجرد وهو بهرام جور، فكان ملكه ثلاثاً وعشرين سنة وقيل: تسع عشرة سنة وَمَلَكَ وهو ابن عشرين سنة، وغاص هو وفرسه في حومة حمأة في بعض أيام صيده، فجزعت عليه فارس، لما كان عَمَّهَا من عدله، وشملها من إحسانه ورأفته برعيته، واستقامة الأمور في أيامه، وقد كان خرج في أيامه خاقان ملك الترك إلى الصغد، وشن الغارات في بلاده، وقيل: إنه أتى إلى بلاد الري، وإن بهرام كتب أجناده وتنكب الطريق في اليسير من جريدة أصحابه حتى أنى على خاقان في جنوده، وسار نحو العراق برأسه، فهابته ملوك الأرض، وهادنه قيصر، وحمل إليه الأموال، وقد كان بهرام قبل ذلك دخل إلى أرض الهند متنكراً، ولأخبارهم متعرَفاَ، واتصل بشبرمة ملك من ملوك الهند، فأبلى بين يديه في حرب من حروبه، وأمكنه من عدوه، فزوًجه ابنته على أنه بعض أساورة فارس، وكان نشؤه مع العرب بالحيرة، وكان يقول الشعر بالعربية ويتكلم بسائر اللغات، وكان خاتمه مكتوب: بالأفعال تعظم الأخبار. وله أخبار في أخذه الملك بعد أبيه وتناوله التاج والراية. وقد وضعا بين سَبعَين وأخبار غير ذلك. وسير يطول ذكرها. ولأية علة سمي بهرام جور. وما أحدث من الرمي بالنشِاب في أيامه. رمن النظم في داخل القوس وخارجها. وقد أتينا على جميع ذلك في كتابنا أخبار الزمان والكتاب الأوسط. وما قالت الفرس والترك في بنية القوس، وأنها مركبة على الطبائع الأربع كطبائع الِإنسان، وما ذهبوا إليه من أنواع الرمي وكيفيته، ومما حفظ من شعر بهرام جورق قولُه يوم ظفره بخاقان وقتله له:

أقول له لما فضضت جموعه ... كأنك لم تسمع بصولات بَهرَام

فإنِّيَ حامي مُلْكِ فارس كلها... وما خير مُلْكٍ لا يكون له حام؟

وقوله أيضاً؟

لقد علم الأنام بكلِّ أرض... بأنَهُمُ قَد اضحوا لي عبيدا

ملكت ملوكهم، وقهرت منهم ... عزيزهم المسوَّدَ والمسودا

فتلك أسودهم تُقعِي حذاري ... وترهب من مخافتيَ الورودَا

وكنت إذا تشاوس ملك أرض ... عبأت له الكتائب والجنودا

فيعطيني المَقَادةَ أو أوافي ... به يشكو السلاسل والقيودا

وله أشعار كثيرة بالعربية والفارسية أعرضنا عن ذكرها في هذا الموضع طلبَاَ للِإيجاز.

يزدجرد:

ثم ملك بعده يزدجرد بن بهرام، وكان ملكه تسع عشرة سنة. وقيل: ثمان عشرة سنة وأربعة أشهر وثمانية عشر يوماً وقد كان بنى حائطاً باللِبنِ والطين بناحية الباب والأبواب على حسب ما قممنا فيما سلف من هذا الكتاب في ذكرنا للباب والأبواب وجبل القبخ، وأحضر يزدجرد بن بهرام رجلاً من حكماء عصره كان في أقاصي مملكته آخذاً من أخلاقهم ومقتبس الرأي منه يسوس به رعيته، فقال له يزدجرد وقد مثل بين يديه: أيها الحكيم الفاضل، ما صَلَاح الملك؟ فقال: الرفق بالرعية، وأخذ الحق منهم من غير مشقة، والتودد إليهم بالعدل، وأمن السبل، وإنصاف المظلوم من الظالم، قال:َ فما صلاح أمر الملك. فقال: وزراؤه وأعوانه فإنهم إن صلحوا صلح، وإن فسحوا فسد، وقال له يزدجرد: إن الناس قد أكثروا في أسباب الفتن، فصف لي ما الذي يَشُبها وينشئها، وما الذي يسكنها ويدفنها، قال: يَشُبها ضغائن وينشئها جرأة عامة ولدها استخفاف بخاصة، وأكدها انبساط الألسن بضمائر القلوب، وإشفاق موسر، وأمل مُعْسِر، وغفلة ملتذ، ويقظه محروم، والذي يسكنها أخذ العُدَة لما يُخَاف قبل حلوله، وإيثار الجد حين يلتذ الهزل، والعمل بالحزم في الغضب والرضا. ثم ملك بعده هرمز بن يزدجرد، فنازعه أخوه فيروز، فقتله ووليَ الملك، وهو فيروز بن يزدجرد بن بهرام، وكان ملك فيروز إلىِ أن هلك على يدي ملك الهياطلة أخشنواز بمرو الروذ من بلاد حراسان سبعاَ وعشرين سنة، والهياطلة هم الصغد، وهم بين بخارى وسمرقند. ثم ملك بلاس بن فيروز الملك، وكان ملكه أربع سنين.

ثم ملك قباذ بن فيروز، وفي أيامه ظهر مزدك الزنديق، وإليه تضاف المزدكية، وله أخبار مع قباذ، وما أحدثه في العامة من النواميس والحيل إلى أن قتله أنوشروان في ملكه، وكان ملك قباذ إلى أن هلك ثلاثاً وأربعين سنة.

أنو شروان:

ثم ملك. بعده ولده أنوشروان بن قباذ بن فيروز ثمانياً وأربعين سنة، وقيل: سبعاً وأربعين سنة وثمانية أشهر، وقد كان قباذ خلع من ملكه وأجلس بدله أخ له يقال له جاماسب نحواً من سنتين، لأمر كان من مَزْدك وأصحابه، فظاهر أنوشروان بزر جمهر بن سرحو حتى أعيد قباذ إلى ملكه في خبر طويل، ولما ملك أنوشروان قتل مزدك وأتبعه بثمانين ألفاً من أصحابه، وذلك بين حادر والنهروان من أرض العراق، فسمي من ذلك اليوم أنوشروان، وتفسير ذلك جديد الملوك، وجمع أهل مملكته على دين المجوسية، ومنعهم النظر والخلاف والحجاج في الملل، وسار نحو الباب والأبواب وجبل القبخ لما كان من غارات من هنالك من الملوك على بلاده، فبنى السور في البحر على أزقاق البقر المنفوخة بالصخر والحديد والرصاص، فكلما ارتفع البناء نزلت تلك الأزقاق إلى أن استقرت في قَرَار البحر، وقد ارتفع السور على الماء، وغاصت الرجال حينئذ بالخناجر والسكاكين إلى تلك الأزقاق فشقتها، وتمكن السور على وجه الماء في قرار البحر، وهو باقٍ إلى وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، ويسمى هذا الموضع من السور في البحر الصد مانعاً للمراكب في البحر إن وردت من بعض الأعداء، ثم مد السور في البر ما بين جبل القبخ والبحر، وجعل فيه الأبواب مما يلي الكفار، ثم مد السور على جبل القبخ على ما

قدمنا فيما سلف من الكتاب عند ذكرنا لأخبار جبل القبخ والباب، وكان لأنو شروان خبر مع ملوك الخزر إلى أن تأتى له هذا البناء، وقيل: إنه بتر ذلك بالرهبة وإذعان من هناك من الأمم له. وانصرف أنوشروان إلى العراق، ووفدت عليه رسل الملوك وهداياها والوفود من الممالك، وكان فيمن وفد إليه رسول لملك الروم قيصر بهدايا وألطاف، فنظر الرسول إلى إيوانه وحسن بنيانه واعوجاج في ميدانه. فقال: كان يحتاج هذا الصحن أن يكون مربعاً، فقيل له: إن عجوز لها منزل من جانب الأعوجاج منه، وإن الملك أرادها على بيعه. وأرغبها، فأبَتْ، فلم يكرها الملك، وبقي الاعوجاج من ذلك على ما ترى، فقال الرومي: هذا الاعوجاج الان أحسن من الاستواء. وسار أنوشروان في بلاده، ودار مملكته، فأحكم البنيان، وشيد القلاع والحصون، ورتب الرجال وغدر بقيصر، فسار نحو الجزيرة، فافتتح ما هنالك من المدن، وانتهى إلى الفرات فعبر إلى الشام فافتتح بها المدن، وكان مما افتتح بلاد حلب وَقِنَّسْرِين وحمص وفامية، وهي بين أنطاكية وحمص، وسار إلى أنطاكية وحاصرها، وفيها ابن أخِتِ لقيصر فافتتحها، وافتتح مدينة عظيمة كثيرة العمران عجيبة البنيان كانت في ساحل أنطاكية رسومها بينة إلى هذه الغاية، وأثرها قائم، تدعى سَلُوقية، وأقبل يفتتح المدائن بالشام وأرض الروم، ويغنم الغنائم والجواهر والأموال وَبَذَل السيف، وبث عساكره وسراياه، فهادنه قيصر، وحمل إليه الخراج والجزية، فقبل ذلك منه، ونقل من الشام المرمر والرخام وأنواع الفسيفساء والأحجار، والفسيفساء: هي شيء يطبخ من الزجاج والأحجار ذو بهجة وألوان يدخل فيما فرش من الأرض والبنيان كالفصوص، ومنه على هيئة الجامات شاف، وحمل ذلك إلى العراق، فبنى مدينة نحو المدائن وسماها برومية، وجعل ببيانها وما داخَلَ سورها بما ذكرنا من أنواع الأحجار، يحكي بذلك أنطاكية وغيرها من المدن في الشام، وهذه المدينة سورها من طين قائم إلى هذا الوقت خراب، وباقٍ يعرف بما ذكرنا، وَزوَجه خاقان ملك الترك بابنته وابنة أخيه، وهادنته ملوك السند والهند والشمال والجنوب وسائر الممالك، وحملت إليه الهدايا، ووفدت إليه الوفود خوفاً من صولته وكثرة جنوده وعظم مملكته، ولما ظهر من فعله بالممالك، وقتله الملوك، وانقياده إلى العدل، وكتب إليه ملك الصين: من فغفور ملك الصين صاحب قصر الدر والجوهر، الذي يجري في قصره نهران يسقيان العود والكافور الذي توجد رائحته على فرسخين، والذي تخدمه بنات ألف ملك، والذي في مربطه ألف فيل أبيض إلى أخبه كسرى أنو شروان، وأهدى إليه فرساً من در منضداً، عينا الفارس والفرس من ياقوت أحمر، وقائم سيفه من زمرد منضد بالجوهر، وثوب حرير صيني عسجدي فيه صورة الملك جالساً في أيوانه، وعليه حليته وتاجه، وعلى رأسه الخدم، وبأيديهم المذابُّ، والصورة منسوجة بالذهب، وأرض الثوب لازورد، في سفط من ذهب، تحمله جارية تغيب في شعرها، تتلألأ جمالَاَ، وغير ما ذكرنا من عجائب ما يحمل من أرض الصين وتهديه الملوك إلى أكْفائها، وكتب إليه ملك الهند: من ملك الهند، وعظيم أراكنه المشرق وصاحب قصر الذهب وأبواب الياقوت والدر. إلى أخيه ملك فارس وصاحب التاج والراية كسرى أنو شروان، وأهدى إليه ألف مَنً من عود هندي يذوب في النار كالشمع، ويختم عليه كما يختمِ على الشمع فتبين فيه الكتابة، وجاما من الياقوت الأحمر فتحه شبر مملوء دراً، وعشرة أمنان كافور كالفستق وأكبر من ذلك، وجارية طولها سبعة أذرع تضرب أشفار عينيها خدها، وكأن بين أجفانها لمعان الرق من بياض مقلتيها مع صفاء لونها ودقة تخطيطها وإتقان تشكيلها مقرونة الحاجبين لها ضفائر تجرها وفرشاً من جلود الحيات ألين من الحرير وأحسن من الوَشْي، وكان كتابه في لحاء الشجر المعروف بالكاذي، مكتوب بالذهب الأحمر، وهذا الشجر يكون بأرض الهند والصين، وهو نوع من النبات عجيب ذو لون حسن وريح طيب، لحاؤهُ أرق من الورق الصيني، تتكاتب فيه ملوك الصين والهند. وورد عليه وهو في عسكره محارباً لبعض أعدائه كتاب ملك التبت: من خاقان ملك تبت ومشارق الأرض المتاخمة للصين والهند إلى أخيه المحمود في السيرة والقدر، ملك المملكة المتوسطة للأقاليم السبعة. وأهدى إليه أنواعاً من العجائب التي تحمل من أرض تبت منها مائة جوشن تبتية، ومائة قطعة تجافيف، ومائة ترس تبتية مذهبة، وأربعة آلاف منٍّ المسك الخزائني في نوافج غزلانه. وقد كان أنو شروان سار إلى ماوراء نهر بَلْخَ، وانتهى إلى ختلان، وقتل أخشنواز ملك الهياطلة بجده فيروز، وملك مملكته فأضافها إلى مُلْكه. مذهبة، وأربعة آلاف منٍّ من المسك الخزائني في نوافج غزلانه. وقد كان أنو شروان سار إلى ماوراء نهر بَلْخَ، وانتهى إلى ختلان، وقتل أخشنواز ملك الهياطلة بجده فيروز، وملك مملكته فأضافها إلى مُلْكه.

وقد كان نقل إليه من الهند كتاب كليلة وثمنه والشطرنج، والخضاب الأسود المعروف بالهندي، وهو الخضاب الذي يلمع سواده فيما يظهر من أصول الشعر سنة كاملة بصبغة سوداء، ولا ينصل منه شيء. ويحكي أن هشام بن عبد الملك بن مروان كان يخضب بهذا الخضاب.

وكان لأنو شروان مائدة من الذهب عظيمة عليها أنواع من الجواهر مكتوب عليها من جوانبها: ليهنه طعامه مَنْ أكله من حِلِّه، وعاد على ذوي الحاجة من فضله، ما أكلته وأنت تشتهيه فقد أكلته، وما أكلته وأنت لا تشتهيه فقد أكلك، وكان له خواتم أربعة: خاتم للخراج فصه من العقيق ونقشه العدل، وخاتم للضياع فصه فيروزج نقْشه العمارة، وخاتم للمعونة فصه ياقوت كحلي نقشه التأني، وخاتم للبريد فصه ياقوت أحمر يتقد كالنار نقشه الرجاء، وَوَضع أنو شروان على العراق وضائع الخراج فألزم كل جريب من السواد من مزارع الحنطة والشعير درهماً، والأرز نصفاً وثلثاً، ولكل أربع نخلات فارسية ثرهماً، وكل ست نخلات دقل درهماً، وكل ست أصول زيتون درهماً، والكرم ثمانية دراهم، والرطب سبعة دراهم، فهذه سبعة أنواع من الغلات، وترك ما عداها إذ كانت لقضم الناس والبهائم، وكان أنو شروان يدعى كسرى الخير، وقد ذكرته الشعراء في أشعارها، ففي ذلك يقول عدي بن زيد العبادي من كلمة:

أين كسرى خير الملوك أنوشرو ... ان؟ أم أين قبله سابور؟

لم يَهَبْه ريب المنون، فولّى الملك عنه، فبابه مهجور

حين ولِّوْا كأنهم ورق جف فألْوَتْ به الصبا والدبور

وجلس أنوشروان يوماً للحكماء ليأخذ من آدابهم فقال لهم وقد أخذوا مراتبهم في مجلسه: دُلُّوني على حكمة فيها منفعة لخاصة نفسي وعامة رعيتي، فتكلم كل واحد منهم بما حَضَره من الرأي، وأنو شروان مطرق يتفكر في أقاويلهم، فانتهى القول إلى بزرجمهر بن البختكان، فقال أيها الملك أنا جامع لك ذلك في اثنتي عشرة كلمة، فقال: هات، فقال: أولهن تقوى الله في الشهوة والرغبة والرهبة والغضب والهوى، فاجعل ما عرض من ذلك كله للّه لا للناس، والثانية الصدق في القول والعمل والوفاء بالعِدَاتِ والشروط والعهود والمواثيق، والثالثة مَشُورة العلماء فيما يحدث من الأمور، والرابعة إكرام العلماء والأشراف وأهل الثغور والقواد والكُتَّاب والخول بقدر منازلهم، والخامسة التعهد للقُضَاة والفحص عن العمال محاسبة عادلة، ومجازاة المحسن منهم بإحسانه والمسيء على إساءته، والسادسة تعهد أهل السجون بالعَرْض لهم في الأيام لتستوثق من المسيء وتطلق البريء، والسابعة تعهُّد سبيل الناس وأسواقهم وأسعارهم وتجارتهم، والثامنة حسن تأديب الرعية على الجرائم وإقامه الحدود، والتاسعة إعداد السلاح وجميع آلات الحرب، والعاشرة إكرام الولد والأهل والأقارب وتفقد ما يصلحهم، والحادية عشرة إذكاء العيون في الثغور ليعلم ما يتخوف فيؤخذ له أهبته قبل هجومه، والثانية عشرة تفقد الوزراء والخول والاستبدال بذي الغش والعجز عنهم، فأمر أنوشروان أن يكتب هذا الكلام بالذهب، وقال: هذا كلام فيه جوامع أنواع السياسات الملوكية. وكان مما حفظ من كلام أنوشروان وحكمته أنه سئل: ما أعظم الكنوز قدراً، وأنفعها عند الاحتياج إليها؟ فقال: معروف أودعته الأحرار، وعلم تورِثه الأعقاب. وقيل لأنو شروان: مَنْ أطول الناس عمراً؟ فقال: من كثر علمه فتأدب به من بعده أو معروفه فيشرف به عقبه. وأنو شروان الذي يقول: الِإنعام لِقَاحٌ، والشكر ولادة، والمنعم هو الجاعل. للشاكر إلى شكره سبيلاً. وهو الذي يقول: لا تعدنَّ الحرصاء في الأمناء، ولا الكذابين في الأحرار. وقال أنوشروان يوماً لبزرجمهر: مَنْ يصلح من ولدي للملك فأظهر ترشيحه والإيماء إليه، فقال: لا أعرف ولدك، ولكني أصف لك من يصلح للملك: أسماهم للمعالي، وأطلبهم للأدب، وأن جزعهم من العامة، وأرأفهم بالرعية، وأوصلهم للرحم، وأبعدهم من الظلم فمن كانت هذه صفته فهو حقيق بالملك. قال المسعودي: وقد ذكرنا في كتاب الزلف، الخصالَ التي يستحق بها المُلْكَ مَنْ وجدت فيه، وما ذكرنا عن حكماء الفرس وأسلافها في ذلك وغيرها من حكماء اليونانيين كأفلاطون، وما ذكره في كتاب السياسة المدنية وغيره ممن تأخر عن عصره. وذكر عن بزرجمهر أنه قال: رأيت من أنو شروان خصلتين متباينتين لم أر مثلهما منه؟ جلس يوماً للناس فدخل رجل من خاصة أهله فنَحّاه وزيره، فأمر به أن يقام ويحجب عنه سنة لتعديه المرتبة التي رسمت له، وازدياده فيها عن مرتبة غيره في المجلس، ثم رأيته يوماً ونحن عنده في سر من تدبير شيء من المملكة، وَخَدمُه خلف فراشه وسرير ملكه يتحدثون، فارتفعت أصواتهم حتى شغلونا عن بعض ما كنا فيه، فقلت له وأخبرته بتفاوت ما بين الحالتين، فقال لي: لا تعجب فنحن ملوك على رعيتنا، وخدمنا ملوك على أرواحنا ينالون منا في خَلوتنا مالا حيلة لنا معه في الحرز منهم وكان أنو شروان يقول: الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل بإصلاح العمال، وإصلاح العمال باستقامة الوزراء، ورأس الكل تفقُّد الملك أمورَ نفسه واقتداره على تأديبها حتى يملكها ولا تملكه. وكان يقول: صلاح أمر الرعية أنْصَرُ من كثرة الجنود، وعدل الملك أنفع من خصب الزمان. وكان يقول: أيام السرور كلمح البصر، وأيام الحزن تكاد تكون شهوراً. قال المسعودي: ولأنو شروان سير وأخبار حسان ، وما كان منه في مسيره في سائر أسفاره، وما بني من المدن والحصون، ورتب من المَقاتلة في الثغور.

ملك هرمز:

ثم ملك بعده هرمز بن أنوشروان بن قباذ، وأمه فاقم بنت خاقان ملك الترك، وقيل: بل ملك ملوك الخزر مما يلي الباب والأبواب، فكان ملكه اثنتي عشرة سنة، وكان متحاملًا على خواص الناس، مائلاً إلى عوامهم مقوياً لهم. مؤثراً للروبصية، وتوابع العوام، مغرياً لهم بخواص الناس، وقيل: إنه قتل في مدة ملكه من خواص فارس ثلاثة عشر ألف رجل مذكور.

ولاثنتي عشرة سنة من ملكه تَخَرم عليه الملك، وتداعت أركانه، وزحفت إليه الأعداء، وكثرت عليه الخوارج، وقد كان أزال أحكام الموابذان. فخربت بذلك السنة المحمودة والشريعة المعهودة، وغير الأحكام، وأزال الرسوم، وكان ممن سار إليه سابة بن شب عظيم من ملوك الترك في أربعمائة ألف، فنزل نحو بلاد هَرَاة وبدغيس وبوشنج من أرض خراسان، وسار إليه من أطارف أرضه طراخنة من الخزر في جيش عظيم، فشنوا الغارات فيما بين ذلك الصقع بخيل أوقعت، وملوك تهادنت، وتواهبت ما كان بينها من الحماء مما يلي جبل القبخ، وسار بَطْريق لقيصر في ثمانين ألفاَ مما يلي الجزيرة، وسار مما يلي اليمن جيش عظيم للعرب من قحطان ومعد، وعليهم العباس المعروف بالأحول وعمرو الأفوه، فاضطرب على هرمز أمره وأحضر الموابذة وذوي الرأي منهم من بعد إخماله لهم وشاوَرَهم، فكان من نتيجة رأيهم موادعة الوجوه الثلاثة وإرضاؤهم والإِقبال على شابة بن شاب، فانتدب لحربه بهرام جوبين مرزبان الري، وكان بهرام هذا من ولد جوبين بن ميلاد من نسل أنوش المعروف بالرام فسار في اثني عشر ألفاً، وشابة في أربعمائة ألف، فكانت لبهرام معه خطوب ومراسلات من ترغيب وترهيب وحيل في الحرب، إلى أن قتله بهرام، واستباح عسكره، واستولى على خزانته وأمواله، وبعث إلى هرمز برأسه، وقد كان برمودة بن شابة ولده تحصن في بعض القلاع من بهرام، فنزل عليه بهرام، فنزل برمودة على حكم هرمز، وسار إليه، وحمل بهرام حملًا من الغنائم وما كان أخذه من شابة مما كان معه من تركات الملوك، مثل ما كان في خزائن فراسياب من الأموال الجواهر التي كان أخذها من سياوخش، وما كان بأيدي الترك من تركات بهراسف ملك الترك مما أخذه من خزائن يستاسف من مدينة بلخ وغيرها من ذخائر ملوك الترك السالفة، فلما انتهى ما وصفنا من الأموال والجواهر وغير ذلك من الغنائم من قبل بهرام حسده وزير هرمز أريخسيس الخوري، وقد نظر إلى إعجاب هرمز بما حمل إليه بهرام وسروره به، فقال: أعظم هذه زلته، وعرض لهرمز بخيانة بهرام، واستبداده بأكثر الجواهر والأموال والغنائم، وأغراه به، فعصاه بهرام، ثم احتال بهرام بدراهم ضرب عليها اسم كسرى أبرويز، ودَسَّ أناساً من التجار فأنفقوها بباب هرمز، فتعامل بها الناس، وكثرت في أيديهم، وعلم بها هرمز، فلم يشك في أن أبرويز ضربها طلباً للملك، فهمَّ به هرمز وهولا يشك أن ذلك من فعله، ولم يعلم أن الحيلة في ذلك من بهرام، فهرب أبرويز من أبيه لتغيره عليه، ولحق ببلاد أذربيجان وأرمينية والران والبيلقان، وحبس هرمز خالي أبرويز بسطام وبندويه، فأعملا الحيلة في محبسهما وخرجا فانضاف إليهما خلق من الجيش فدخلا على هرمز فسَملَا عينيه وأعمياه،. فلما نمي ذلك إلى أبرويز سار إلى أبيه فدخل عليه وأخبره أنه لا ذنب له في ذلك، وإنما هرب خوفاً على نفسه منه، فتَوَّجه هرمز وسلَّم الملك إليه، ونمي ذلك إلى بهرام جوبين فسار في عساكره يؤم الباب ودار الملك، فخرج إليه أبرويز، فالتقَيَا على شاطىء النهروان، والنهر بينهما، فتواقعا، وكان لهما خطب طويل من تقاذف وتشاتم، ثم كانت بينهما حروب انكشف فيها أبرويز لتخلف أصحاب عنه وميلهم إلى بهرام، فقام تحته فرسه المعروف بشبدار وهو المصور في الجبل، وهو ببلاد قرماسين من أعمال الدينور من ماء الكوفة هو وأبرويز وغير ذلك من الصور، وهذا الموضع من إحور عجائب العالم، وغرائب ما فيه من الصور العجيبة المنقورة في الصخر، والفرْسُ تذكر في أشعارها وغيرها من العرب هذا الفرَسَ المعروف بشبدار، وقد كان أبرويز على شبدار في بعض الأيام فانقطع عِنَانُه، فدعا بصاحب سروجه ولجمه، فأراد ضرب عنقه لما لم يتعهد العِنَانَ، فقال: أيها الملك، ما بقي سير يحيد به ملك الِإنس وملك الخيل، فأطلقه، وأجازه، ولما بلح هذا الفرس تحت أبرويز وقصر طلب إلى النعمان في المعركة أن يمن عليه بفرسه المعروف باليحموم، فأبى عليه، ونجا عليه بنفسه، ونظر حسان بن حنظلة بن حية الطائي إلى أبرويز وقد خانته الرجال وأشرف على الهلاك، فأعطاه فرسه المعروف بالصبيب، وقال له: أيها الملك، انج على فرسي فإن حياتك للناس خير من حياتي، وأعطاه أبرويز فرسه شبدار فنجا عليه في جملة الناس، ومضى أبرويز إلى أبيه؟ ففي ذلك يقول حسان بن حنظلة الطائي:

وأعطيت كسرى ما أراد، ولم أكن ... لأتركه في الخيل يعثر راجلا

بذلْتُ له ظهر الصبيب وقد بدت ... مُسَوَّمة من خيل ترك ووائل

فكافأه أبرويز بعد ذلك، وعرف له ما صنع، ولما سار أبرويز من الهزيمة إلى أبيه هرمز أشار عليه أن يلحق بقيصر ويستنجده فإن الملوك إذا استُنْجِدت في مثل هذه الحالة أنجدت، في خطب طويل جرى بينه وبين أبيه، فمضى أبرويز وتبعه غيره من الخواص، وخالاه بسطام وبندويه، وعَبَرَ دجلة، وقطع الجسر خوفاً من خيل بهرام، ونظر في مسيره ذلك اليوم إلى خالَيْهِ، وقد تأخرا عنه، فاستراب بهما وبمن أنضاف إليهما ممن كان معهم، فسألهما عن السبب، فقالا: لسنا بآمنين أن يدخل بهرام إلى أبيك هرمز فيضع تاج المملكة على رأسه، وإن كان أعمى، ويصير هو الهرمزان، وتفسير ذلك أمير الأمراء، والروم تسمي صاحب هذه الموتبة الدمستق، فيكتب بهرام عن أبيك هرمز إلى قيصر: إن ابني أبرويز وجماعة انضافوا إليه وثبوا بي وسملوا عيني، فاحمله إلي، فيحملنا قيصر إليه، فيأتي علينا بهرام، ولا بد لنا من الرجوع إلى أبيك وقتله، فناشدهما الله أن لا يفعلا ذلك، وأظهر فيما ذكر عنه، البراءة من فعلهما، فرجعا من فورهما، وَمَنْ تسرَّع معهما إلى المدائن وقد صاروا على أميال منها فدخلا على هرمز فخنقناه، ولحقا بأبرويز، ولحقتهم خيل بهرام، وكانت بينهم حملة في بعض الديارات إلى أن تخلصوا من تلك الخيل، وسار أبرويز ففي هرمز يقول ورقة بن نوفل :

لم يغن هرمز شيء من خزائنه ... والخلد قد حاولت عادٌ فما خَلَدوا

ولا سليمان إذ تجري الرياح له... والجن والإِنس تجري بينها البُرد

وأسرع بهرام جوبين إلى المدائن من النهروان، حين بلغه قتل هرمز فاحتوى على الملك، ولحق أبرويز بالرها فنزلها، وكاتب ملك الروم، و موريقس مع خاله بسطام وجماعة ممن كانوا معه، يسأله النصرة على عدوه، ويضمن له الوفاء بما ينفقه من أمواله، والِإحسان إلى جنده، وأنه يؤدي إليه ديات مَنْ يقتل من رجاله، وغير ذلك من الشروط، وأهدى إليه هدايا كثيرة: منها مائة غلام من أبناء أراكنة الترك في نهاية الحسه والجمال واستقامة الصور، في آذانهم أقراط الذهب فيها الدر واللؤلؤ ومائدة من العنبر فتْحَها ثلاثة أذرع على ثلاث قوائم من الذهب مفصلة بأنواع الجواهر أحد الأرجل ساعد وكف أسد والآخر ساق وَعِلٍ بظلفة والثالث كف عقاب بمخلبه، وفي وسطها جام جزع يماني فاخر فتْحته شبر مملوء حجارة ياقوت أحمر، وسفط من ذهب فيه مائة درة وزنُ كل درة مثقال أرفع ما يكون، فحمل إليه موريقس ملك الروم ألف دينار، ومائة ألف فارس، بعث بهم مع هديته، وألف ثوب من الديباج الخزائني المنسوج بالذهب الأحمر وغيره من الألوان، وعشرين ومائة جارية من بنات ملوك برجان والجلالقة والصقالبة والوسكنس وغيرهم من الأجناس المجاورة لملك الروم على رؤوسهن أكاليل الجوهر، وزَوَّجه بابنته مارية وحملها إليه مع أخيه تندوس، واشترط ملك الروم على أبرويز شروطاً كثيرة: منها النزول عن الشام ومصر مما كان غلب عليه أنوشروان، وترك التعرض ذلك، فأجابه إلى ذلك، وقد كانت ملوك الفرس تتزوج إلى سائر مَنْ جاورها من ملوك الأمم ولا تزوجها لأنهم أحرار وأنجاد، وللفرس في هذا خطب طويل كفعل قريش وتركها السنن وتحمسها؟ فكانوا يقفون بمزدلفة، هو يوم الحج الأكبر، ويقولون: نحن الْحُمْسُ، وقد قال النبي صلى الله عليه [وآله]وسلم للأنصار أنا رجل أحْمَسِيٌّ ولما اجتمع لأبرويز ما وصفنا سار إلى بلاد أذر بيجان، فاجتمع إليه هناك من كان من العساكر بها، وانضاف إليه كثير من الجنود والأمم، وبلغ بهرام جوبين ما قد عزم عليه فسار إليه فيمن كان معه من عساكره، فالتقى الجيشان جميعاً، فتوجهت على بهرام، فانكشف في نفر من أصحابه، وانتهى إلى أطراف خراسان، وكاتب خاقان ملك الترك فأمنه وسار إلى ملكه هو ومن خَف معه من أصحابه وأخته كردية، وكانت في الشجاعة والفروسية نحوه، وعليها كان يعول في كثير من حروبه، ومضى كسرى أبرويز إلى دار مملكته، وأمر لجنود موريقس بالأموال والمراكب والكساوي، وكافأهم على ما كان منهم في معونته، جمل إليه ألفي دينار؛ وَقَرَنَ ذلك بهدايا كثيرة وأموال عظيمة من آلات الذهب والفضة، ووفى له بكل ما وعده، وخرج من كل ما أوجبه على نفسه، واحتال أبرويز في قتل بهرام في أرض الترك، فقتل هناك غِيلَةً، في ذكر أن رأسه حمل بعد أن احتيل عليه وأخرجه من الناووس الذي كان خاقان ملك الترك دفنه فيه، وحمله إليه رجل تاجر فارسي فنصب على باب أبرويز في رحبة قصره، وخرجت كردية فيمن كان معها من أصحاب بهرام من أرض الترك، وقد كان لها أخبار في الطريق مع ابن خاقان، وكاتبها أبرويز في قتل خاله بسطام، وكان مرزبان الديلم وخراسان فقتله، وقتل خاله الآخر بأبيه هرمز، ثم صارت كردية إليه فتزوجها. وللفرس كتاب مفرد في أخبار يهرام جوبين، وما كان من مكايده ببلاد الترك حين سار إليها، واستنكافه لابنه ملك الترك من حيوان اسمه السمع نحو العنز الكبير كان قد احتملها من بين جواريها وعلابها وقد خرجت لبعض متنزهاتها، وما كان من بَدء حاله إلى مقتله ونسبه.

بين أبرويز وبزرجمهر:

وكان وزير أبرويز، والغالب عليه، والمدبر لأمره حكيمٌ من حكماء الفرس وهو بزرجمهر بن البختكان، فلما خلا من ملكه ثلاث عشرة سنة اتهمه بالميل إلى بعض الزنادقة من الثَّنَوِية، فأمر بحبسه، وكتب إليه: كان من ثمرة علمك ونتيجة مِا أداك إليه عقلك، أن صرت أهلًا للقتل. وموضعاً للعقوبة، فكتب إليه بزرجمهر: أما إذ كان معي الجد فقد كنت أنتفع بثمرة عقلي، فالى الآن إذ لا جَدَّ معي فقد أنتفع بثمرة الصبر، وإذ قد فقدت كثير الخير فقد استرحت من كثير من الشر، وأغرى أبرويز ببزرجمهر، فدعا به، وأمر بكسر أنفه وفمه، فقال بزرجمهر: فمي لأهل لما هو شر من هذا، فقال أبرويز: ولم يا عدو اللّه المخالف. فقال لأني كنت أصِفكَ لخواص الناس وعوامهم بما ليس فيك، وأقربك مل قلوبهم، وأرفع من محاسن أمورك ما لم تكن عليه، اسمع مني يا شر الملوك نفساً، وأخبثهم فعلًا، وأسوأهم عشرة، أتقتلني بالشك وترفع به اليقين الذي قد علمته مني من التمسك بالشريعة؟ من ذا الذي يرجو عدلك يثق بقولك ويطمئن إليك. فغضب أبرويز، وأمر به فضرب عنقه، ولبزرجمهر في أيدي الناس قضايا وحكم ومواعظ وكلام كثير في الزهد غيره، وندم أبرويز على قتله، وتأسف، ودعا بخير اريس الوزير الثاني، كانت مرتبته دون مرتبة بزرجمهر، فلما رأى بزرجمهر قتيلاً أسف عليه، علم أنه لا ينجو، فأغلظ لأبرويز في الكلام، فأمر به فقتل وأغرق في دجلة، فلما عدم هذين الرجلين وما كان عليه من الكفاية وتدبير الملك استوحش من شريعة العدل وواضحة الحق فعدل إلى الجور والعَسْف بخواص رعيته وعوامها، وحملها على ما لم تكن تعهد، وأوردهم إلى ما لم يكونوا يعرفونه من الظلم، فوثب بطريق من بطارقة الروم يقال له فوقاس فيمن اتبعه على موريقس ملك الروم حَمِي أبرويز ومنجده فقتلوه، ومَلَّكوا فوقاس، ونمى ذلك إلى أبرويز فغضب لحميه، وسير إلى الروم الجيوش كانت له في ذلك أخبار يطول ذكرها، وسير شهريار مرزبان المغرب إلى حرب الروم، فنزل أنطاكية، فكانت له مع الروم وأبرويز أخبار ومكاتبات حيل إلى أن خرج ملك الروم إلى حرب شهريار، وقدم خزائنه في البحر، ألف مركب، فألقتها الريح إلى ساحل أنطاكية، فغنمها شهريار، حملها إلى أبرويز، فسميت خزائن الريح، ثم فسدت الحال بين أبرويز وشهريار، ومايل شهريار ملك الروم، فسيره شهريار نحو العراق إلى أن انتهى إلى النهروان، فاحتال أبرويز في كتب كتبها مع بعض أساقفة النصرانية ممن كان في ذمته حتى رده إلى القسطنطينية وأفسد الحال بينه بين شهريار.

يوم ذي قار:

وفي ملك أبرويز كانت حروب ذي قار، وهو اليوم الذي قال فيه النبي صلى الله عليه[وآله] وسلم هذا أوَل يوم انتصفت فيه العرب من العجم، ونُصِرَتْ عليهم، وكانت وقعة ذي قار لتمام أربعين سنة من مولد رسول اللّه صلى الله عليه[وآله]  وسلم وهو بمكة بعد أن بعث، وقيل: بعد أن هاجر، وفي رواية أخرى أنها كانت بعد وقعة بحر بأشهر، ورسول اللّه صلى الله عليه[وآله]  وسلم بالمدينة، وكانت هذه الوقعة بين بكر بن وائل والهرمزان صاحب كسرى أبرويز.

إرهاصات النبوة ببلاد فارس:

وفي أيام أبرويز كانت حوادث تنذر بالنبوة وتبشر بالرسالة، وأنفذ أبرويز عبد المسيح بن بقيلة الغساني إلى سطيح الكاهن، فأخبره برؤيا الموبذان وارتجاج الِإيوان، وغير ذلك من أخبار فيض، وادي السماوة وما كان من بحيرة ساوة. وكان لأبرويز تسعة خواتم تمور في أمر الملك: منها خاتم فضة فصُّه ياقوت أحمر نقشه صورة الملك وحوله مكتوب صفة الملك وحلقته ماس تُخْتم به الرسائل والسجلات، والخاتم الثاني فصه عقيق نقشه خراسان حرة وحلقته ذهب تختم به !التذكرات، والخاتم الثالث فصُّه جزع نقشه فارس يركض وحلقته ذهب منقوش فيه الْوَحَا يختم به أجوبة البريد، والخاتم الرابع فصه ياقوت مورد نَقْشُه بالمال ينال الفرح وحلقته ذهب يختم به البراوات والكتب في التجاوز عن العصاة والمذنبين، والخاتم الخامس فصه ياقوت بهرمان، وهو أحسن ما يكون من الحمرة وأصفاها وأشرفها، نقشه حره وخرم أي بهجة وسعادة حافتاه لؤلؤ وماس، يختم به خزائن الجوهر وبيت مال الخاصة وخزانة الكسوة وخزانة الحلي، والخاتم السادس نقشه عقاب يختم به كتب الملوك إلى الآفاق وفصه حديد حبشي، والخاتم السابع نقشه ذباب يختم به الأدوية والأطعمة والطيب فصه بادزهر، والخاتم الثامن فصه جُمَان نقشه رأس خنزير يختم به أعناق من يؤمر بقتله وما ينفذ من الكتب في الدماء، والخاتم التاسع حديد يلبسه عند دخول الحمام وفصه ابزن.

عدد أبرويز:

وكان على مربطه خمسون ألف دابة وسروج ذهب مكلّلة بالدر والجوهر على عدد ما لركابه من الخيل، وكان على مربطه ألف فيل، منها أشهب أشد بياضَاَ من الثلج، ومنها ما ارتفاعه اثتا عشر ذراعاً، وفي النادر ما يوجد من الفيلة الحربية ما ارتفاعه هذا القدر، وأكثر ما يوجد من ارتفاع الفيلة من التسعة الأذرع إلى العشرة، وملوك الهند تبالغ في أثمان ما عظم من الفيلة، وارتفع من الأرض، وقد يكون من الوحشية في أرض الزنج من الفيلة ما هو أعظم سمكاً مما وصفنا بأفرع كثيرة على حسب ما تحمل من قرونها المسماة بالأنياب ما وزن الناب منها خمسون ومائة مَنٍّ إلى المائتين، والمن رطلان بالبغدادي، وعلى قدر عظم الناب عظم جسد الفيل.

تدريب الفيلة:

وقد كان أبرويز خرج في بعض الأعياد وقد وصفت له الجيوش والعدد والسلاح وفيما وصف له ألف فيل، وقد أحدقت به خمسون ألف فارس دون الرجالة، فلما نظرته الفيلة سجدت له فما رفعت رؤوسها وَبَسْطها لخراطيمها حتى جذبت بالمحاجن، وراطنها الفيالون بالهندية، فلما بصر بذلك أبرويز تأسف على ما خص به أهل الهند من فضيلة الفيلة، وقال: ليت أن الفيل لم يكن هندياً وكان فارسياً، انظروا إليها وإلى سائر الدواب وفضلوها بقدر ما ترون من معرفتها وأدبها، وقد افتخرت الهند بالفيلة وعظم أجسامها، وحسن طاعتها، وقبولها الرياضات، وفهمها المزادات، وتمييزها بين الملك وغيره، وأن غيرها من الدواب لا يفهم شيئاً من ذلك ولا يفصل بين شيئين، وسنورد فيما يرد من هذا الكتاب جملاَ من الفصول في أخبار الفيلة وما قالته الهند وغيرهم في ذلك وتفضيلها على سائر الدواب.

شيرويه بن أبرويز:

فكانت مدة ملك أبرويز إلى أن خلع وسملت عيناه وقتل ثمانيَاَ وثلاثين سنة ثم ملك بعده ولده قباذ المعروف بشيرويه القابض على أبيه، والجاني عليه، والقاتل له، والفرس تسميه المشؤوم، وفي أيامه كان الطاعون بالعراق وغيرها من الأقاليم، فهلك مائتا ألف من الناس، فالمكثر يقول: هلك نصف الناس، والمقل يقول: الثلث، وكان ملك شيرويه إلى أن هلك سنة وستة أشهر، وقيل: أقل من ذلك. ولكسرى أبرويز ولابنه شيرويه أخبار عجيبة ومراسلات عديدة.

أردشير:

ثم ملك بعد شيرويه ولده أردشير ولي عهد الملك، وهو ابن سبع سنين، فسار إليه من أنطاكية من بلاد الشام شهريار مرزبان المغرب المقدم ذكره مع أبرويز وملك الروم فقتله، فكان ملكه خمسة أشهر.

شهريار:

ثم ملك شهريار نحوا من عشرين يوماً، وقيل: شهرين، وقيل غير ذلك، واغتالته ابنة لكسرى أبرويز يقال لها أرزمي دخت فقتلته.

كسرى:

ثم ملك كسرى بن قباذ بن أبرويز، وقيل: إنه ابن لأبرويز، وكان بناحية الترك، فسار يريد دار الملك، فقتل فى الطريق بعد ملكه ثلاثة أشهر.

بوران:

ثم ملكت بعده بوران بنت كسرى أبرويز، فكان ملكها سنة ونصفا. ثم ملك رجل من أهل بيت الملك من ولد سابور بن يزدجرد الأثيم. يقال له فيروز خشنشده فكان ملكه شهرين. ثم ملكت ابنة لكسرى أبرويز يقال! لها أرزمي دخت فكان ملكها سنة وأربعة أشهر. ثم ملك فرحاد خسرو بن كسرى أبروبز، وهو طفل، فكانت مدة ملكه شهراً، وقيل أشهراً.

يزدجرد:

ثم ملك يزدجرد بن شهريار بن كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن بهرام بن يزدجر بن سابور بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك بساسان. وهو أخر ملوك الساسانية فكان ملكه إلى أن قتل بمرو من بلاد خراسان عشرين سنة وذلك لسبع سنين ونصف خلت من خلافة عثمان بن عفان. وهي سنة إحدى وثلاثين من الهجرة، وقيل غير ذلك مقدار ملكه وخبر مقتله.

إحصاء بعدة ملوك الفرس:

قال المسعودي: وذهب الأكثر من الناس ممن عني بأخبار الفرس وأيامهم إلى أن جميع من ملك من آل ساسان من أردشير بن بابك إلى يزدجرد بن شهريار من الرجال والنساء ثلاثون ملكاً: امرأتان، وثمانية وعشرون رجلاً. ووجدت في بعض التواريخ أن عمد ملوك الساسانية اثنان وثلاثون ملكاً، وعمد الملوك الأولى وهم الفرس الأوَل من كيرمرث إلى دارا بن دارا تسعة عشر ملكاً، منهم امرأة وهي حماية بنت بهمن، وفراسياب التركي، وسبعة عشر رجلًا، وعدد ملوك الطوائف النين قدمنا ذكرهم من مقتل دارا إلى أن ظهر أردشير بن بابك أحد عشر ملكاً. وهم ملوك الشيز والران. ومن أجلهم سمي سائر ملوك الطوائف الأشغان. فجميع الملوك من كيومرث بن آدم وهو أول ملوك بني أدم عندهمِ، على ما ذكرت الفرس إلى يزدجرد بن شهريار بن كسرى ستون ملكاَ: منهم ثلاث نسوة. ومدة ما ملكوا من السنين أربعة آلاف سنة وأربعمائة سنة وخمسون سنة. وقيل: إن عدة الملوك من كيومرث إلى يزدجرد ثمانون ملكاً.

رأيت جماعة من الأخباريين وأصحاب السير وأرباب الكتب المصنفة في التواريخ وغيرها يذهبون إلى أن سني الفرس إلى الهجرة ثلاث آلاف سنة وستمائة وتسعون سنة: منها كيومرث إلى انتقال الملك إلى منوشهر ألف وتسعمائة واثنتان وعشرون سنة. ومن منوشهر إلى زرادشت خمسمائة وثلاث وثمانون سنة. ومن زرِادشت إلى الِإسكندر مائتان وثمان وخمسون سنة، وملك الإسكندر خمس سنينِ. ومن الِإسكندر إلى ملك أردشير خمسمائة سنة وسبع عشرة سنة. ومن أردشير إلى الهجرة أربعمائة سنة وأربع سنين.

 




العرب امة من الناس سامية الاصل(نسبة الى ولد سام بن نوح), منشؤوها جزيرة العرب وكلمة عرب لغويا تعني فصح واعرب الكلام بينه ومنها عرب الاسم العجمي نطق به على منهاج العرب وتعرب اي تشبه بالعرب , والعاربة هم صرحاء خلص.يطلق لفظة العرب على قوم جمعوا عدة اوصاف لعل اهمها ان لسانهم كان اللغة العربية, وانهم كانوا من اولاد العرب وان مساكنهم كانت ارض العرب وهي جزيرة العرب.يختلف العرب عن الاعراب فالعرب هم الامصار والقرى , والاعراب هم سكان البادية.



مر العراق بسسلسلة من الهجمات الاستعمارية وذلك لعدة اسباب منها موقعه الجغرافي المهم الذي يربط دول العالم القديمة اضافة الى المساحة المترامية الاطراف التي وصلت اليها الامبراطوريات التي حكمت وادي الرافدين, وكان اول احتلال اجنبي لبلاد وادي الرافدين هو الاحتلال الفارسي الاخميني والذي بدأ من سنة 539ق.م وينتهي بفتح الاسكندر سنة 331ق.م، ليستمر الحكم المقدوني لفترة ليست بالطويلة ليحل محله الاحتلال السلوقي في سنة 311ق.م ليستمر حكمهم لاكثر من قرنين أي بحدود 139ق.م،حيث انتزع الفرس الفرثيون العراق من السلوقين،وذلك في منتصف القرن الثاني ق.م, ودام حكمهم الى سنة 227ق.م، أي حوالي استمر الحكم الفرثي لثلاثة قرون في العراق,وجاء بعده الحكم الفارسي الساساني (227ق.م- 637م) الذي استمر لحين ظهور الاسلام .



يطلق اسم العصر البابلي القديم على الفترة الزمنية الواقعة ما بين نهاية سلالة أور الثالثة (في حدود 2004 ق.م) وبين نهاية سلالة بابل الأولى (في حدود 1595) وتأسيس الدولة الكشية أو سلالة بابل الثالثة. و أبرز ما يميز هذه الفترة الطويلة من تأريخ العراق القديم (وقد دامت زهاء أربعة قرون) من الناحية السياسية والسكانية تدفق هجرات الآموريين من بوادي الشام والجهات العليا من الفرات وتحطيم الكيان السياسي في وادي الرافدين وقيام عدة دويلات متعاصرة ومتحاربة ظلت حتى قيام الملك البابلي الشهير "حمورابي" (سادس سلالة بابل الأولى) وفرضه الوحدة السياسية (في حدود 1763ق.م. وهو العام الذي قضى فيه على سلالة لارسة).