أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-8-2016
538
التاريخ: 1-6-2020
844
التاريخ: 1-8-2016
672
التاريخ: 24-8-2016
618
|
عقد الشيخ الأعظم لمبحث البراءة فصولاً ثلاثة باعتبار انّ الشبهة تكون إمّا تحريمية أو وجوبية أو مشتبهة بينهما، فهذه مطالب ثلاثة.
ثمّ عقد لكلّ فصل مسائل أربع وذلك، لأنّ منشأ الشكّ في الجميع أحد الأُمور الأربعة.
فقدان النصّ، أو إجماله، أو تعارض النّصين، أو خلط الأُمور الخارجية، وعلى ضوء ذلك فباب البراءة مشتمل على مطالب ثلاثة في اثنتي عشرة مسألة، وبذلك طال كلامه في المقام.
وأمّا ما هو السبب لعقد الفصول الثلاثة على حدة فهو يرجع إلى أمرين:
أ : اختصاص النزاع بين الأُصولي والأخباري بالشبهة الحكمية التحريمية دون الوجوبية ودون الموضوعية منها، ودون دوران الأمر بين الوجوب والحرمة.
ب : اختصاص بعض أدلّة البراءة بالشبهة التحريمية ولا تعم الوجوبية والموضوعية، مثل قوله: «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهى».
لكنّ المحقّق الخراساني أدخل جميع المسائل تحت عنوان واحد وبحث عن الجميع بصفقة واحدة «وهو من لم يقم عنده حجّة على واحد من الوجوب والحرمة وكان عدم نهوض الحجّة لأجل فقدان النصّ أو إجماله أو تعارضه أو خلط الأُمور الخارجية» ولكلّ من السلوكين وجه.
وبما انّا اقتفينا أثر الشيخ الأعظم في الموجز، نمسك عن الاطالة ونعقد للجميع عنواناً واحداً فنقول:
دلّت الأدلة على أنّ الوظيفة العملية فيما إذا أمكن الاحتياط ولكن لم ينهض دليل على العقاب ـ حسب تعبيرنا ـ أو إذا كان الشكّ في التكليف ـ حسب تعبير المشهور ـ هو البراءة وعدم وجوب الاحتياط، فلنذكر ما هو المهم من الأدلة روماً للاختصار:
الاستدلال بالكتاب:
1. التعذيب فرع البيان:
دلّت آيات الذكر الحكيم على أنّه سبحانه لا يعذِّب قوماً على تكليف إلاّ بعد بعث الرسول الذي هو كناية عن بيان التكليف، وقد تواتر ذلك المضمون في الآيات الكريمة نذكر منها ما يلي:
1. قال سبحانه: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]
2. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]
والاستدلال بالآيتين مبني على أمرين:
الأوّل: انّ صيغة «وما كنّا » أو «ما كان» تستعمل في إحدى معنيين: إمّا نفي الشأن والصلاحية لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143] ، أو نفي الإمكان كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: 145]
الثاني: انّ بعث الرسول ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ كناية عن إتمام الحجّة على الناس، وبما انّ الرسول أفضل واسطة للبيان والإبلاغ أُنيط التعذيب بالرسول، وإلاّ يصحّ العقاب ببعث غيره أيضاً لوحدة المناط وحصول الغاية المنشودة.
وعلى ضوء ذلك فلو لم يبعث الرسول بتاتاً، أو بعث ولم يتوفق لبيان الأحكام أبداً، أو توفق لبيان البعض دون البعض الآخر، أو توفق للجميع لكن حالت الحواجز بينه وبين بعض الناس، لقبح العقاب إلاّ في الواصل من التكليف، وذلك لاشتراك جميع الصور في عدم تمامية الحجة.
والمكلف الشاك في الشبهات التحريمية من مصاديق القسم الأخير، فإذا لم يصل إليه البيان لا بالعنوان الأوّلي ولا بالعنوان الثانوي كإيجاب الاحتياط، ينطبق عليه قوله سبحانه: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]) أي نُبيّن الحكم والوظيفة.
ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يعلّق إهلاك القرية على وجود المنذر ويقول: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ} [الشعراء: 208] هذا كلّه حول الآيتين الأُوليين.
3. وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]
4. وقال سبحانه: {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 47]
والاستدلال بهما مبني على أنّه سبحانه استصوب منطق المجرمين ، وهوانّ التعذيب قبل البيان قبيح، فأرسل الرسل لإفحام المشركين ودحض حجتهم يوم القيامة، فلو كان منطقهم ـ عند عدم البيان ـ منطقاً، زائفاً كان عليه سبحانه نقض منطقهم ببيان انّ التعذيب صحيح مطلقاً مع أنّا نرى أنّه سبحانه استصوبه وأرسل الرسل لإتمام الحجّة.
2. الإضلال فرع البيان:
قال سبحانه {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115])
وجه الاستدلال: انّ التعذيب من آثار الضلالة، والضلالة معلَّقة على البيان في الآية، فيكون التعذيب معلَّقاً عليه، فينتج انّه سبحانه لا يعاقب إلاّ بعد بيان ما يجب العمل أو الاعتقاد به.
فإن قلت: ما هو المراد من إضلاله سبحانه، فانّ الإضلال أمر قبيح فكيف نسب إلى اللّه سبحانه؟
قلت: انّ الإضلال يقابل الهداية، وهي على قسمين، فيكون الإضلال أيضاً مثلها.
توضيحه: انّ للّه سبحانه هدايتين:
هداية عامّة تعم جميع الناس من غير فرق بين إنسان دون إنسان حتى الجبابرة والفراعنة، وهي تتحقق ببعث الرسل وإنزال الكتب ودعوة العلماء إلى بيان الحقائق، مضافاً إلى العقل الذي هو رسول باطني، وإلى الفطرة التي تسوق الإنسان إلى فعل الخير.
هداية خاصّة وهي تختص بمن استفاد من الهداية الأُولى، فعندئذ تشمله الألطاف الإلهية الخفية التي نعبر عنها بالهداية الثانوية أو الإيصال إلى المطلوب.
قال سبحانه: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17]
وقال تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]
وأمّا إذا لم يستفد من الهداية الأُولى، فلا يكون مستحقاً للهداية الثانية، فيضلّ بسبب سوء عمله، فإضلاله سبحانه، كناية عن الضلال الذي اكتسبه بعمله بالإعراض من الاستضاءة بالهداية الأُولى.
قال سبحانه: { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] فإضلاله سبحانه كإزاغته نتيجة زيغهم وإعراضهم وكِبْرهم وتولّيهم عن الحقّ. وبذلك يظهر مفاد كثير من الآيات التي تنسب الضلالة إلى اللّه سبحانه فالمراد هو قبض الفيض لأجل تقصير العبد لعدم استفادته من الهداية الأُولى فيصدق عليه انّه أضلّه اللّه سبحانه . قال سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28] أي يضلّه لأنّه مسرف كذّاب (لم يهتد بالهداية الأُولى فأسرف وكذّب) فاستحق قبض الفيض وعدم شمول الهداية الخاصة له.
وفي آية أُخرى {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ } [غافر: 34] فقوله: «يضلّ» في هذه الآية هو نفس قوله: «لا يهدي القوم الفاسقين» في الآية السابقة فكلاهما يرميان إلى معنى واحد وهو عدم الهداية لقبض الفيض لعدم قابليته للهداية الثانوية لأجل إسرافه وكذبه وارتيابه.
إلى هنا تمّ الاستدلال بالآيات وهناك آيات أُخر تركنا البحث فيها روماً للاختصار.
الاستدلال بالسنّة:
1. حديث الرفع:
روى الصدوق في «التوحيد» و«الخصال» عن أحمد بن محمد بن يحيى، عن سعد بن عبد اللّه، عن يعقوب بن يزيد، عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ قال: قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : «رفع عن أُمّتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون ومالا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة».(1)
ورواه محمد بن أحمد النهدي مرفوعاً عن أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ : «وضع عن أُمّتي تسع خصال: الخطأ، والنسيان، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، وما استكرهوا عليه، والطيرة، والوسوسة في التفكّر في الخلق، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد».(2)
ورواة الحديث الأُولى كلهم ثقات ،والرواية صحيحة.
وأمّا أحمد بن محمد بن يحيى، فهو وإن لم يوثق ظاهراً ولكن المشايخ أرفع من التوثيق فهو من مشايخ الصدوق فهو ثقة قطعاً.
نعم الرواية الثانية مرفوعة، مضافاً إلى انّ محمد بن أحمد النهدي مضطرب فيه، كما ذكره النجاشي في ترجمته.
وتوضيح الاستدلال رهن بيان أُمور:
1. انّ الفرق بين الرفع والدفع هو انّ الأوّل عبارة عن إزالة الشيء بعد وجوده وتحقّقه، كما أنّ الثاني عبارة عن المنع عن تقرر الشيء وتحقّقه بعد وجود مقتضيه، يقول سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] ، فكانت السماء والأرض ملتصقتين فأزالها عن مكانها.
{ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ } [الطور: 7، 8] أي ما له من شيء يمنع عن تحقّقه بعد تعلّق إرادته بالوقوع.
وعلى ذلك فاستعمال الرفع في المقام لأجل تحقّق هذه الأُمور التسعة في صفحة الوجود، فتعلّق الرفع بها باعتبار كونها أُموراً متحقّقة.
نعم رفع هذه الأُمور التسعة ـ بعد تحقّقها ـ رفع ادّعائي باعتبار رفع آثارها، فتعلّقت الإرادة الاستعمالية برفع نفس هذه الأُمور التسعة المتحقّقة، وتعلّقت الإرادة الجدية برفع آثارها.
2. انّ نسبة الرفع إلى هذه التسعة مع وجودها يحتاج إلى مصحّح ومسوّغ وإلاّ يلزم الكذب، وليس الحديث متفرداً في هذا الباب، بل له نظائر، مثل قوله: «لا ضرر ولا ضرار»، «لا طلاق إلاّ على طهر» ، «لا رضاع بعد فطام»، «لا رهبانية في الإسلام» فمع أنّ هذه الأُمور التي دخلت عليها «لا» النافية، موجودة متحقّقة في صحيفة الوجود لكن الشارع أخبر عن عدمها والمصحح لهذا الإخبار هو سلب آثارها، مثلاً لا يترتب على الرضاع بعد الفطام أثر الرضاعة وهكذا، وعلى ذلك فيلزم تعيين ما هو الأثر المسلوب في هذه التسعة خصوصاً قوله:«ما لا يعلمون» وهذا هو المهم في المقام.
3. انّ لفظة «ما» في قوله :«ما لا يعلمون» موصولة تعمّ الحكم والموضوع المجهولين، لوضوح انّه إذا جهل المكلّف بحكم التدخين، أو جهل بكون المايع الفلاني خلاً أو خمراً ، صدق على كلّ منهما انّه من «مالا يعلمون»، فيكون الحديث عاماً حجّة في الشبهة الحكمية والموضوعية معاً.
وربما يتصوّر أنّ الموصول مختص بالموضوع المجهول لا الحكم المجهول، بشهادة قوله ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ في الفقرات التي أعقبته، أعني: «و ما أُكرهوا عليه» و«مالا يطيقون» و«ما اضطروا إليه»، فإنّ المراد هو الفعل المكرَه عليه، والعمل الخارج عن الإطاقة، والعمل المضطرّ إليه، فيلزم أن يكون المراد من الموصول في «مالا يعلمون» هو العمل المجهول لا الحكم المجهول، فيختصّ الحديث بالشبهات الموضوعية.
يلاحظ عليه: أنّ «ما» الموصولة استعملت في جميع الفقرات في المعنى المبهم، لا في الحكم ولا في الموضوع، وإنّما يعلم السعة (شمولها للحكم والموضوع المجهولين)، والضيق (اختصاصها بالموضوع) من صلتها، والصلة «فيما لا يعلمون» قابل للانطباق على الموضوع والحكم، دون سائر الفقرات، فإنّها لا تنطبق إلاّ على الفعل، ولا يكون ذلك قرينة على اختصاص الفقرة الأُولى بالشكّ في الموضوع.
أضف إلى ذلك: أنّ المرفوع في «الحسد» «والطيرة» و« التفكّر في الوسوسة في الخلق مالم ينطق بشفة» هو الحكم، أي حرمة الحسد والطيرة، وأمّا النسيان والخطأ المرفوعان في الحديث فيتعلّقان بالحكم والموضوع معاً، فيصلحان لكلا الأمرين: نسيان الحكم أو الموضوع ومثله الخطأ.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إنّ الرفع ـ كما عرفت ـ رفع تشريعي، والمراد منه رفع الموضوع بلحاظ رفع أثره، فحينئذ يقع الكلام في تعيين ما هو الأثر المسلوب الذي صار مصحِّحاً لنسبة الرفع إليها، فهنا أقوال ثلاثة:
1. المرفوع هو المؤاخذة .
2. المرفوع هو الأثر المناسب لكلّ واحد من تلك الفقرات، كالمضرّة في الطيرة، والكفر في الوسوسة.
3. المرفوع هو جميع الآثار أو الآثار البارزة.
والظاهر هو الأخير، لوجهين:
الأوّل: أنّه مقتضى الإطلاق وعدم التقييد بشيء من المؤاخذة والأثر المناسب.
الثاني: أنّ فرض الشيء مرفوعاً في لوح التشريع ينصرف إلى خلوّه عن كلّ أثر وحكم، أو عن الآثار البارزة له.(3) فلو كان البعض مرفوعاً دون البعض، فلا يطلق عليه أنّه مرفوع.
وعلى ذلك فالآثار كلّها مرفوعة سواء تعلّق الجهل بالحكم كما في الشبهة الحكمية، أو بالموضوع كما في الشبهة الموضوعية.
وإن شئت قلت: إنّ وصف الشيء بكونه مرفوعاً في صفحة التشريع إنّما يصحّ إذا كان الشيء فاقداً للأثر مطلقاً فيصحّ للقائل أن يقول بأنّه مرفوع، وإلاّ فلو كان البعض مرفوعاً دون بعض لا يصحّ ادّعاء كونه مرفوعاً، من غير فرق بين الآثار التكليفية كحرمة شرب الخمر ووجوب جلد الشارب، أو الوضعية كالجزئية والشرطية عند الجهل بحكم الجزء والشرط أو نسيانهما وكالصحة في العقد المكره.
ويؤيد عموم الآثار ما رواه البرقي، عن صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي جميعاً، عن أبي الحسن ـ عليه السَّلام ـ في الرجل يُستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال: «لا، قال رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ـ : وضع عن أُمّتي ما أُكرهوا عليه وما لم يطيقوا وما أخطأوا».(4)
وقد تمسّك الإمام بالحديث على بطلان الطلاق ورفع الصحة، فيكشف عن أنّ الموضوع أعم من المؤاخذة والحكم التكليفي والوضعي.
المراد من الآثار الموضوعة، هي الآثار المترتبة على المعنون، أي ما تعلّق به النسيان أو الخطاء أو الجهل، لا آثار هذه العنوانات مثلاً دلّال دليلا لاجتهادي على وجوب سورة تامّة في الصلوات الواجبة كما في قوله ـ عليه السَّلام ـ «لا تقرء في المكتوبة بأقلّ من سورة ولا بأكثر».(5) واطلاقه يعم حالتي الذكر والنسيان فالوجوب الضمني ثابت في الحالتين مع قطع النظر عن حديث الرفع وأمّا معه فهو حاكم عليه، حيث يرفع وجوبها في حالة النسيان، ويخصّه بحالة الذكر.
وأمّا ما دلّ على جوب سجدتي السهو عند نسيان الجزء كما في قوله ـ عليه السَّلام ـ :«تسجد سجدتي السهو في كلّ زيادة ونقصان تدخل عليك أو نقصان»(6) فهو غير مرفوع لأنه أثر نفس النسيان، لا أثر المنسي أعني وجوب السورة.
و مثله إذا قتل إنساناً فخطاءً، فالمرفوع هو أثر القتل أعني القصاص الوارد في قوله سبحانه:(وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنَّ النَّفْسَ بِالنّفسِ والعَيْنَ بِالعَيْنِ)( مائدة: 45)الشامل اطلاقه حالتي العمد والخطأ.
وأمّا الأثر المترتّب على عنوان الخطأ ـ كالدية ـ الّتي دلّ عليها قوله سبحانه {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فهي غَيْرُ مرفوعة.
2. مرسلة الصدوق:
روى الصدوق مرسلاً في «الفقيه» وقال: قال الصادق ـ عليه السَّلام ـ : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي».(7)
والحديث وإن كان مرسلاً، ولكن الصدوق يُسنده إلى الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ بصورة جازمة، ويقول: قال الصادق ـ عليه السَّلام ـ ، وهذا يعرب عن يقينه بصدور الحديث عن الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ ، نعم لو قال رُوي عن الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ كان الاعتماد على مثله مشكلاً.
أمّا كيفية الاستدلال: فقد دلّ الحديث على أنّ الأصل في كلّ شيء هو الإطلاق والإرسال حتى يرد فيه النهي بعنوانه، فإنّ الضمير في قوله: «يرد فيه» يرجع إلى الشيء بما هو هو، كأن يقول: الخمر حرام، أو الرشوة حرام، فما لم يرد النهي عن الشيء بعنوانه يكون محكوماً بالإطلاق والإرسال، وبما أنّ التدخين لم يرد فيه النهي بعنوانه الأوّلي فهو مطلق، وعلى هذا فلا يكفي في رفع الإطلاق ورود النهي بعنوانه الثانوي كأن يقول: إذا شككت فاحتط، بل هو باق على إطلاقه حتى يرد النهي فيه بالعنوان الأوّلي، فتكون الشبهات البدوية ـ التي لم يرد النهي فيها بعنوانها الأوّلي ـ محكومة بالإطلاق والحليّة.
وعلى هذا لو تمّ دليل الأخباري بورود النهي عن ارتكاب الشبهات التحريمية بالعنوان الثانوي (الشبهة) وقع التعارض بينه وبين دليله.
نعم لو قلنا بأنّ المراد من قوله «حتى يرد فيه نهي» هو الأعم من ورود النهي بعنوانه الأوّلي أو بعنوانه الثانوي، يكون دليل الأخباري مقدّماً عليه، لأنّ الإطلاق في المقام معلّق على عدم ورود النهي مطلقاً، لا بالعنوان الأوّلي ولا الثانوي، والأخباري يدّعي ورود النهي بعنوانه الثانوي وحصول المعلّق عليه.
ولكن تفسير الحديث بهذا النحو الأعم خلاف الظاهر، لأنّ ظاهر قوله:« حتى يرد فيه» أي يرد النهي في نفس الشيء بما هو هو.
إلى هنا تمّ الاستدلال على البراءة بالكتاب العزيز والسنّة المطهّرة، بقي الكلام في الاستدلال عليها بالعقل.
الاستدلال بحكم العقل:
استدلّ القائل بالبراءة بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف بعد إعمال العبد ما تقتضيه وظيفتُه من الفحص عن حكم الشبهة واليأس عن الظفر به في مظانّه، وانّ وجود التكليف ـ في الواقع ـ مع عدم وصوله إلى المكلّف غير كاف في صحّة التعذيب، وانّ وجوده بلا وصول إلى المكلّف كعدمه في عدم ترتب الأثر، وذلك لأنّ فوت المراد مستند إلى المولى في كلتا الصورتين التاليتين:
1. ما إذا لم يكن هناك بيان أصلاً فحاله معلوم.
2. ما إذا كان هناك بيان صادر من المولى لكنّه غير واصل إلى العبد، فلأنّ الفوت أيضاً مستند إلى المولى إذ في وسعه إيجاب الاحتياط على العبد، في كلّ ما يحتمل وجود التكليف، ومع تركه يكون ترك المراد مستنداً إلى المولى وذلك لأنه اقتصر في طلب المقصود، بالحكم على الموضوع بالعنوان الواقعي، ولو كان مريداً للتكليف حتى في ظرف الشك فيه وعدم الظفر به بعد الفحص، كان عليه استيفاء مراده بإيجاب التحفّظ، ومع عدمه يحكم العقل بالبراءة وانّ العقاب قبيح، ويشكَّل قياساً بالشكل التالي:
العقاب على محتمل التكليف ـ بعد الفحص التام وعدم العثور عليه في مظانّه لا بالعنوان الأوّلي ولا بالعنوان الثانوي ـ عقاب بلا بيان.
والعقاب بلا بيان مطلقاً أمر قبيح.
فينتج انّ العقاب على محتمل التكليف أمر قبيح.
الإشكال على كبرى البرهان:
ثمّ إنّ السيد الشهيد الصدر(قدَّس سرَّه) استشكل على كبرى هذا البرهان وأنكر قبح العقاب بلا بيان بتأسيس مسلك «حق الطاعة للّه سبحانه»، فقال:
والذي ندركه بعقولنا انّ مولانا سبحانه وتعالى، له حقّ الطاعة في كلّ ما ينكشف لنا من تكاليفه بالقطع أو بالظن أو بالاحتمال، ما لم يرخص هو نفسه في عدم التحفّظ.
وعلى ذلك فليست منجّزية القطع ثابتة له بما هو قطع بل بما هو انكشاف وانّ أيّ انكشاف، منجِّز، مهما كانت درجته ما لم يحرز ترخيص الشارع نفسه في عدم الاهتمام به .
نعم كلما كان الانكشاف بدرجة أكبر كانت الإدانة وقبح المخالفة أشد، فالقطع بالتكليف يستتبع لا محالة مرتبة أشدّ من التنجز والإدانة، لأنّها المرتبة العليا من الانكشاف، وبهذا يظهر انّ القطع لا يتميز عن الظن والاحتمال في أصل المنجزية، وإنّما يتميز عنهما في عدم إمكان تجريده عن تلك المنجزية (بأن يرخص على خلاف ما قطع) لانّ الترخيص في مورده مستحيل، وليس كذلك في حالات الظن والاحتمال، فانّ الترخيص الظاهري فيها ممكن لأنّه لا يتطلب أكثر من فرض الشك والشكّ موجود.
ومن هنا صحّ أن يقال بأنّ منجزية القطع غير معلقة بل ثابتة على الإطلاق وانّ منجزية غيره من الظن والاحتمال معلقة لأنّها مشروطة بعدم إحراز الترخيص الظاهري في ترك التحفظ.(8)
يلاحظ عليه أوّلاً: أنّ القول بأنّ احتمال التكليف منجِّز للواقع عند العقل وإن لم يستوف المولى البيان الممكن غير تام، وذلك لأنّ الاعتمادَ في التعذيب والمؤاخذة على مثل هذا الحكم العقلي، إنّما يصحّ إذا كان ذلك الحكم من الأحكام العقلية الواضحة لدى العقلاء حتى يعتمد عليه المولى سبحانه في التنجيز والتعذيب ولكن المعلوم خلافها إذ لو كان حكماً واضحاً لما أنكره العلماء من غير فرق بين الأُصولي والأخباري لما ستعرف من أنّ الأخباري لا ينكر الكبرى وإنّما ينكر الصغرى أي عدم البيان ويقول بورود البيان بالعنوان الثانوي كوجوب الاحتياط والتوقّف في الشبهات.
وثانياً: أنّ اتفاق العقلاء على قبح العقاب بلا بيان نابع عن حكم العقل بأنّ العبد إذا قام بوظيفته في الوقوف على مقاصد المولى ولم يجد بياناً بأحد العنوانين، يُعدُّ العقاب بحكم وحي الفطرة أمراً قبيحاً وإلاّ يعود بناء العقلاء إلى أمر تعبدي وهو كما ترى.
وثالثاً: انّ الظاهر من الذكر الحكيم كون المسألة من الأُمور الفطرية حيث يستدلُّ بها الوحي على الناس ويقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [الإسراء: 15] ويذكر في آية أُخرى انّه سبحانه أبطل ببعث الرسل، حجّة الكفار والعصاة حيث قال: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134] فتبين بذلك انّ الكبرى من الأحكام الواضحة لدى العقل والعقلاء بشرط التقرير على نحو ما ذكرناه.
الإشكال على صغرى البرهان:
قد عرفت حال الإشكال على الكبرى، ولكنّ هناك إشكالاً آخر يتوجه إلى الصغرى تعرّض إليه المحقّقون، وحاصل الإشكال انّه يكفي في مقام البيان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل، الموجود في مورد الشبهة التحريمية الحكمية، ويكون شكل القياس بالنحو التالي:
في المشتبه التحريمي ضرر محتمل.
وكل ما فيه ضرر محتمل يلزم تركه.
فينتج المشتبه التحريمي يجب تركه.
يلاحظ عليه: انّ المراد من الضرر في القاعدة أحد الأُمور الثلاثة:
أ. العقاب الأُخروي.
ب. الضرر الدنيوي الشخصي.
ج. المصالح والمفاسد الاجتماعية.
أمّا الأوّل: أي العقاب الأُخروي فهو بين قطعيّ الإحراز، وقطعيّ الانتفاء، وليس هنا ضرر محتمل، فالأوّل كما في مورد العلم الإجمالي بحرمة أحد الأمرين أو وجوبه، فينطبق الكبرى على الصغرى ولذلك أطبق العلماء على وجوب الموافقة القطعية.
وأمّا الثاني: أي قطعي الانتفاء كما في المقام، فانّ الضرر بمعنى العقاب قطعي الانتفاء بحكم العقل على قبح العقاب بلا بيان، ومع العلم بعدمه لا يصحّ الاحتجاج بالكبرى المجردة عن الصغرى، وبذلك يعلم انّه لا تعارض بين الكبريين «قبح العقاب بلا بيان» و«وجوب دفع الضرر المحتمل» وانّ لكلّ موضعاً خاصاً، فمورد الأُولى هو الشبهة البدوية، كما أنّ موضع الثانية إنّما هو صورة العلم بالتكليف إجمالاً أو تفصيلاً.
وهذا يعرب عن أنّ ما اشتهر من ورود القاعدة الأُولى على الثانية أمر غير صحيح، فانّ الورود فرع التعارض ولا معارضة بينهما بل كلّ يطلب لنفسه مورداً خاصاً غير ما يطلبه الآخر لنفسه، فمورد قاعدة القبح هو ما إذا لم يكن من المولى أيّ بيان، كما أنّ مورد القاعدة الثانية ما إذا تم البيان وإن جهل المتعلّق.
هذا كلّه حول العقاب الأُخروي وأمّا الضرر الدنيوي الشخصي فالإجابة عنه واضحة، لأنّ الأحكام الشرعية لا تدور مدار الضرر أو النفع الشخصيين حتى يكون احتمال الحرمة ملازماً لاحتمال الضرر الشخصي على الجسم والروح بل الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد نوعية، وربما تكمن المصلحة النوعية في الضرر الشخصي كما في ترك الربا وترك الظلم على الناس.
نعم ربما يجتمع الضرر الشخصي مع المفسدة النوعية كشرب المسكر لكنّه ليس ضابطة كلية.
سلّمنا انّ في ارتكاب المشتبه احتمالَ ضرر دنيوي لكن إنّما يجب دفعه إذا لم يكن في تجويز الارتكاب مصلحة كما هو المقام، لأنّ في الترخيص دفعَ عسر الاحتياط.
وأمّا الثالث: أي المصالح والمفاسد النوعية فحكم الشارع بالبراءة يكشف عن أحد الأمرين: إمّا عدم الأهمية، وإمّا لوجود المصلحة الغالبة على المفسدة الحاصلة.
أدلة الأخباري على وجوب الاحتياط:
استدلّ الأخباري على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية بالأدلة الثلاثة: الكتاب والسنة والعقل، وبما انّا استقصينا ذكر أدلّتهم وأجوبتها في الموجز فلا حاجة إلى التكرار.(9)
تنبيهات:
إنّ في المقام أُموراً يلزم التنبيه عليها، لأنّ لها دوراً هاماً في استنباط الأحكام.
التنبيه الأوّل: في حكومة الأصل الموضوعي على البراءة والحلية:
من المعروف انّ الأُصول الموضوعية التي تجري في الموضوع وتُنقّح حاله مقدمة على الأُصول الحكمية كأصالة البراءة والحلّية بيانه:
إنّ موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان، وموضوع البراءة الشرعية هو الشكّ في الحكم الشرعي، فلو كان هناك أصل آخر يصلح لأن يكون بياناً أو رافعاً للشكّ تعبّداً فلا يبقى موضوع لأصل البراءة، ولهذا اشتهر أنّ الأصل المنقِّح للموضوع، حاكم على أصل البراءة، أو أصالة الحلّية.
فمثلاً: إذا شككنا في تذكية حيوان على النحو الوارد في الشرع فمقتضى الأصل الحكمي هو الحليّة، لدخوله تحت قوله: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف انّه حرام بعينه» ، ولكنّه محكوم بأصل موضوعيّ آخر أعني أصالة عدم التذكية، وهو أصل موضوعي ينقِّح حال الموضوع، ويُحرِز انّه غير مذكى، وبطبع الحال يكون محرّماً لا حلالاً، وهذا الأصل عبارة عن استصحاب عدم التذكية، لأنّه حينما كان حيّاً لم يكن مذكى، وبعد زهوق روحه نشكّ في تذكيته، فاستصحاب عدم التذكية مقدّم على أصالة الحل، وذلك لأنّ الشكّ في الحليّة مُسَبب عن الجهل بحال الموضوع وأنّه هل وردت عليه التذكية أو لا؟ فإذا ثبت حال الحيوان بالاستصحاب، وحكم عليه بعدم التذكية، لا يبقى الشكّ في حرمته، وهذا ما يعبر عنه بتعبيرين:
أ. حكومة الأصل الموضوعي (عدم التذكية) على الأصل الحكمي (الحلية).
ب. حكومة الأصل السببي (عدم التذكية ) على الأصل المسببي (الحلية).
مثال آخر: لو افترضنا دلالة الدليل الاجتهادي على جواز مسّ المرأة بعد النقاء وقبل الاغتسال، ولكن وقع الشكّ في حصول النقاء، فاستصحاب كونها حائضاً حاكم على أصالة الحلية لأنّه بيان، فيرتفع موضوع البراءة العقلية، ورافع أيضاً للشك في الظاهر فيكون رافعاً لموضوع البراءة الشرعية.
التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط:
لا شكّ في حسن الاحتياط (بشرط أن لا يخل بالنظام عقلاً، أو لا ينجرّ إلى العسر والحرج شرعاً)، ولكن الظاهر من الشيخ الأعظم اتّفاق الفقهاء على لزوم الاحتياط في الموارد الثلاثة: النفوس، والأعراض، والأموال مطلقاً، فيجب الاحتياط لكون المحتمل ذا أهميّة حتّى وإن كان الاحتمال ضعيفاً، مع كون الشبهة موضوعية.
والظاهر انّ اتّفاقهم على وجوب الاحتياط فيها مبنيّ على قاعدة مضى الإيعاز إليها في مبحث العام والخاص(10) وهي انّ كلّ موضوع كانت الحرمة والفساد هو الحكم الأصلي فيه، يجب الاجتناب عنه حتى في الشبهة الموضوعية، ولذلك حكم الفقهاء بالاحتياط وراء الموارد الثلاثة أيضاً، كما إذا ترددت المرأة بين كونها ممّن يجوز النظر إليها أو غيرها، أو تردّد بيع الوقف بين احتمال وجود المسوِّغ فيه وعدمه، أو تردّد تصرف غير الولي في مال اليتيم بين وجود الغبطة فيه، وعدمه، ففي هذه الموارد يحمل على الحرمة والفساد، لأنّ طبيعة الموضوع تقتضي الحرمة والفساد إلاّ ما خرج بالدليل.
التنبيه الثالث: قاعدة التسامح في أدلّة السنن:
اشتهر بين الأصحاب قاعدة «التسامح في أدلّة السنن» ويراد منها انّه لا يعتبر في ثبوتها والعمل بها ما يشترط في ثبوت غيرها كالواجبات والمحرمات من كون الراوي ثقة، ضابطاً، بل يكفي وروده ولو عن طريق ضعيف، والمسألة معنونة في كلمات الفريقين، غير انّ أهل السنة يعبِّرون عن المسألة بقولهم: العمل بالخبر الضعيف في فضائل الأعمال.(11)
وقد ورد عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم السَّلام ـ روايات متعددة في ذلك المضمار وربما يناهز عددها إلى خمسة بعد توحيد بعضها مع بعض.(12)
وقد اختلفت كلمة الأُصوليّين في تفسير هذه الروايات، ونحن نذكر بعض الروايات ثمّ نبحث في مدلولها.
1. روى الكليني بسند صحيح عن ابن أبي عمير، عن حسن بن سالم، عن أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ قال: «من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له، وإن لم يكن على ما بلغه».
رواه البرقي عن هشام بن سالم بمتن آخر وهو:
«من بلغه عن النبي شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول اللّه ـ عليه السَّلام ـ لم يقله».
2. روى صفوان، عن أبي عبد اللّه ـ عليه السَّلام ـ قال: «من بلغه شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به كان له أجر ذلك وإن كان رسول اللّه لم يقله».
إلى غير ذلك من الروايات.
فذهب الشيخ الأنصاري إلى أنّ هذه الأخبار لا تدلّ إلاّ على ثبوت الأجر للعامل ولا يدلّ على استحباب نفس العمل، وبالتالي لا يمكن تصحيح العمل العبادي المردد بين الاستحباب وغير الوجوب، بهذه الأخبار.
وقال صاحب العناوين: إنّ مفادها هو انّه لا يعتبر في الخبر الوارد في المستحبات ما يشترط فيما دلّ على الحكم الإلزامي، ويكون مفاد هذه الأخبار إضفاء الحجية للخبر الضعيف في مجال خاص وبالتالي بكون الفعل مستحباً بالذات، مضافاً إلى ترتب الثواب.(13)
والحقّ مع النظرية الأُولى، لأنّ لسانها غير لسان إعطاء الحجية للخبر الضعيف، وذلك لأنّ لسان الحجية هو إلغاء احتمال الخلاف والبناء على أنّ مؤدّى الطريق هو الواقع كما في قوله: «العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي» (14) ،لا الأخذ به مع احتمال عدم ثبوت المؤدّى في الواقع كما هو الحال في روايات هذا الباب حيث يقول: «وإن كان رسول اللّه لم يقله»، فهذا اللسان غير مناسب لإعطاء الحجية ولا يصلح لها.
ثمرات القاعدة:
وتظهر الثمرة في عدّة موارد منها:
1. لو ورد خبر غير معتبر بالأمر بالوضوء في وقت خاص كدخول المسجد، فعلى القول الأوّل لا يترتب عليه إلاّ الثواب، وعلى الثاني يعامل معه معاملة المستحب بالذات فيكون رافعاً للحدث.
2. لو ورد خبر ضعيف يدل على استحباب غسل اللحية المسترسلة، فلو قلنا باستفادة الاستحباب يجوز المسح ببلله إذا جفّت يده، دون ما إذا قلنا بالنظرية الأُولى.
وفي بعض هذه الثمرات نظر ذكرناه في محاضراتنا الأُصولية(15).
_____________
1. الوسائل: 11، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.
2. الوسائل: 11، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، الحديث 3.
3. كما في قول الإمام علي ـ عليه السَّلام: «يا أشباه الرجال ولا رجال» هذا إذا كان الأثر منقسماً إلى بارز وغيره، وأمّا إذا كان الجميع على حد سواء، فالمرفوع هو جميع الآثار كما في المقام.
4. الوسائل:16، الباب 12من أبواب الأيمان، الحديث 12، نقلاً عن المحاسن.
5. الوسائل: 5، الباب 32 من أبواب الخلل، الحديث 3.
6. الوسائل: 4، الباب 4 من أبواب القرائة في الصلاة، الحديث 2.
7. الوسائل: الجزء 18، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 60.
8. دروس في علم الأُصول: الحلقة الثانية:32ـ 33.
9. الموجز:186ـ 193.
10. راجع الوسيط :الجزء الأوّل ص 208.
11. وقد ألمع إليها الشهيد الأوّل (734ـ 786هـ) في الذكرى، وابن فهد الحلي (المتوفّـى 841هـ) في عدة الداعي، والشهيد الثاني(المتوفّـى 966هـ) في درايته، وبهاء الدين العاملي(المتوفّـى1030هـ) في أربعينه، إلى ان وصلت النوبة للشيخ الأنصاري فألف رسالة مستقلة فيها طبعت في ذيل كتاب المتاجر له قدَّس سرَّه وأدرجها تلميذه الشيخ موسى التبريزي في حاشيته على الفرائد، باسم «أوثق الوسائل» فلاحظ.
12. الوسائل:1، الباب 18 من أبواب مقدّمات العبادات ،بعد توحيد بعضها مع بعض.
13. العناوين:1: العنوان 151، قاعدة التسامح:420.
14. الوسائل :الجزء 18، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث4.
15. لاحظ إرشاد العقول:1/443ـ 444.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|