المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 8091 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
غزوة الحديبية والهدنة بين النبي وقريش
2024-11-01
بعد الحديبية افتروا على النبي « صلى الله عليه وآله » أنه سحر
2024-11-01
المستغفرون بالاسحار
2024-11-01
المرابطة في انتظار الفرج
2024-11-01
النضوج الجنسي للماشية sexual maturity
2024-11-01
المخرجون من ديارهم في سبيل الله
2024-11-01



استدلال الأخباري على وجوب الاحتياط  
  
738   09:16 صباحاً   التاريخ: 1-8-2016
المؤلف : تقريرا لبحث السيد الخميني - بقلم الشيخ السبحاني
الكتاب أو المصدر : تهذيب الأصول
الجزء والصفحة : ج3. ص.94
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / الاصول العملية / الاحتياط /

..قد استدلّوا بوجوه :

الاستدلال بالآيات:

منها الآيات ; وهي على طوائف :

منها : ما دلّ على حرمة الإلقاء في التهلكة ، كقوله تعالى : {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].

وفيه : أنّ ملاحظة سياق الآيات يرشدنا إلى المرمي منه ; فإنّها نازلة في مورد الإنفاق للفقراء وسـدّ عيلتهم وأداء حـوائجهم بإعطاء الـزكاة والصدقات ; حتّى يتحفّظ بذلك نظم الاجتماع ، ويتوازن أعدال المجتمع ، ولا ينفصم عروة المعيشة لأرباب الأموال بالثورة على ذوي الثروة ; فإنّ في منعهم عـن حقّهم إلقاء لنفوسهم إلى التهلكة .

أو في مورد الإنفاق في سبيل الجهاد ; لأنّ في ترك الإنفاق مظنّة غلبة الخصم . إلى غير ذلك من محتملات .

وأمّا مورد الشبهة : فليس هاهنا أيّة هلكة ; لا اُخروية بمعنى العقاب لقيام الأدلّة على جواز الارتكاب ، ولا دنيوية ; إذ لا يكون في غالب مواردها هلكة دنيوية .

ومنها : ما دلّ على حرمة القول بغير علم ، كقوله تعالى : {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ } [النور: 15] ، وقوله تعالى : {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [الأعراف: 28]

وجه الدلالة : أنّ الحكم بجواز الارتكاب تقوّل بلا علم وافتراء عليه تعالى .

قال الشيخ الأعظم : ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ; لأنّهم لا يحكمون بالحرمة ، بل يتركون لاحتمالها . وهذا بخلاف الارتكاب ; فإنّه لا يكون إلاّ بعد الحكم بالرخصة والعمل على الإباحة.

والظاهر منه : ارتضاؤه بهذا الفرق ; ولهذا أجاب عن الإشكال بأنّ فعل الشيء المشتبه حكمه ـ اتّكالاً على قبح العقاب بلا بيان ـ ليس من ذلك(1) .

وأنت خبير : بأنّ النزاع بين الأخباري والاُصولي في وجوب الاحتياط وعدمه لا في الترك وعدمه ; فالأخباري يدّعي وجوب الاحتياط ويحكم به ، والاُصـولي ينكر وجوبـه ويقول بالبراءة والإباحـة . فكلّ واحـد يـدّعي أمـراً ويقيم عليه أدلّة .

والجواب عن أصل الاستدلال : أنّه سيوافيك في مباحث الاستصحاب أنّ المراد من العلم واليقين في الكتاب والسنّة ـ إلاّ ما شذّ ـ هو الحجّة لا العلم الوجداني(2) ، والمنظور من الآيات هو حرمة الفتوى بلا حجّة والتقوّل بلا دليل من الكتاب والسنّة والعقل .

وعليه : فليس الاُصولي في قوله بالبراءة متقوّلاً بغير الدليل ; لما سمعت من الأدلّة المحكمة الواضحة .

ومن الآيات : ما دلّ على وجوب الاتّقاء حسب الاستطاعة والتورّع بمقدار القدرة ، مثل قوله سبحانه : {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] ، وقوله عزّ اسمه : {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ......} [الحج: 78] الآية ، وقوله عزّ شأنه : { اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102].

 

وأجاب عنه شيخنا العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ بأنّ الاتّقاء يشمل المندوبات وترك المكروهات ، ولا إشكال في عدم وجوبهما . فيدور الأمر بين تقييد المادّة بغيرهما وبين التصرّف في الهيئة بحملها على إرادة مطلق الرجحان ; حتّى لا ينافي فعل المندوب وترك المكروه . ولا إشكال في عدم أولوية الأوّل ، إن لم نقل بأولوية الثاني ; من جهة كثرة استعمالها في غير الوجوب ; حتّى قيل : إنّه صار من المجازاة الراجحة المساوي احتمالها مع الحقيقة(3) ، انتهى .

وفيه أمّا أوّلاً : فإنّ شمول الاتّقاء لفعل المندوب وترك المكروه مورد منع ; فإنّ التقوى عبارة عن الاحتراز عمّا يوجب الضرر ، أو يحتمل في فعله أو تركه الضرر ، وليس المندوب والمكروه بهذه المثابة . وأمّا شموله لمشتبه الحرمة أو الوجوب فلاحتمال الضرر في فعله أو تركه . ويشهد على المعنى المختار الاستعمالات الرائجة في الكتاب والسنّة .

وأمّا ثانياً : فلو سلّم كون استعمال الهيئة في غير الوجوب كثيراً ، إلاّ أنّ تقييد المادّة أكثر ، بل قلّما تجد إطلاقاً باقياً على إطلاقه ، وهذا بخلاف هيئة الأمر ; فهي مستعملة في الوجوب واللزوم في الكتاب والسنّة إلى ما شاء الله .

أضف إلى ذلك : أنّ ترجيح التصرّف في الهيئة على التصرّف في المادّة يوجب تأسيس فقه جديد ، ولا أظنّ أنّه ـ قدس سره ـ كان عاملاً بهذه الطريقة في الفروع الفقهية ; وإن تكرّر منه القول بترجيح التصرّف في الهيئة على المادّة في مجلس درسه .

نعم ، يتعيّن في المقام التصرّف في الهيئـة دون المادّة ، لا لكون ذلك قاعـدة كلّية ، بل لخصوصيـة في المقام ; لأنّ الآيـة شاملـة للشبهات الموضوعية والوجوبية الحكمية . ولو حملنا الآية على الوجوب بلا تصرّف في مفاد الهيئة يستلزم تقييد الآية وإخراج بعض الأقسام ، مع أنّ لسانها آبية عن التقييد . بل التقييد يعدّ أمراً بشيعاً .

وكيف يقبل الطبع أن يقال : اتّقوا الله حقّ تقاته إلاّ في مورد كذا وكذا ؟ فلا مناص عن التصرّف في مفاد الهيئة بحمل الطلب على مطلق الرجحان حتّى يتمّ إطلاقها ، ولا يرد عليها تقييد أو تخصيص . وليس الاُصولي منكراً لرجحان الاحتياط أبداً .

أضف إلى ذلك : أنّ الآيات شاملة للمحرّمات والواجبات المعلومة ، ولا إشكال في امتناع تعلّق الأمر التعبّدي بوجوب إطاعتهما ، فيجب حمل الأوامر فيها على الإرشاد ، فتصير تابعة للمرشد إليه .

فلو حكم العقل أو ثبت وجوبه أو حرمته يتعيّن العمل على طبق المرشد إليه ، وإن لم يثبت وجوبه أو حرمته أو ثبت خلافه لابدّ من العمل أيضاً على طبقه .

الاستدلال على وجوب الاحتياط بالسنّة وهي على طوائف :

الطائفة الاُولى : ما دلّ على حرمة القول أو الإفتاء بغير علم(4) .

وقد أوضحنا المراد من تلك الطائفة عند البحث عن الآيات الدالّة على حرمة القول بغير علم ، فراجع .

الطائفة الثانية : ما دلّت على الردّ على الله ورسوله والأئمّة من بعده ، وإليك نماذج من تلك الطائفة :

منها : رواية حمزة الطيّار : أنّه عرض على أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ بعض خطب أبيه ; حتّى إذا بلغ موضعاً ، منها : قال له : «كفّ واسكت» ، ثمّ قال أبو عبدالله ـ عليه السلام ـ : «إنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ، ويجلو عنكم فيه العمى ، ويعرّفوكم فيه الحقّ ، قال الله تعالى {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43](5)  .

وفيه : أنّ الظاهر من الأمر بالكفّ اشتمال الخطبة على المطالب الاعتقادية ، فإذن النهي راجع إلى التقوّل فيها بلا رجوع إلى أهل الذكر . ولو سلّم كونها أعمّ من الاعتقادية فالنهي حقيقة راجع إلى الإفتاء فيها بلا رجوع إلى أهل الذكر ، فلا ترتبط بالمقام ; فإنّ الاُصولي إنّما أفتى بالبراءة بعد الرجوع إلى الكتاب والسنّة .

ومنها : رواية جميل بن صالح عن الصادق ـ عليه السلام ـ قال : «قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في كلام طويل» إلى أن قال : «وأمر اختلف فيه ، فردّه إلى الله»(6) .

ومنها : رواية الميثمي عن الرضا ـ عليه السلام ـ في اختلاف الأحاديث ، قال : «وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم ، وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف ، وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا»(7) .

 

 

ومنها : رواية سليم بن قيس الهلالي في كتابه : أنّ علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ قال لأبان بن أبي عيّاش : «يا أخا عبد قيس ، إن وضح لك أمر فاقبله ، وإلاّ فاسكت تسلم ، وردّ علمه إلى الله فإنّك أوسع ممّا بين السماء والأرض»(8) .

ومنها : رواية جابر عن أبي جعفر ـ عليه السلام ـ في وصية له لأصحابه ، قال : «إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا»(9) .

ومنها : رواية عبدالله بن جندب عن الرضا ـ عليه السلام ـ في حديث : «إنّ هؤلاء القوم سنح لهم شيطان اغترّهم بالشبهة ، ولبّس عليهم أمر دينهم» إلى أن قال : «والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحيّر ، وردّ ما جهلوه من ذلك إلى عالمه ومستنبطه»(10) .

والجواب عن الكلّ : بأنّ شيئاً منها غير مربوط بالمقام ، بل إمّا مربوط بالتقوّل بلا رجوع إلى أئمّة الدين ، أو مربوط بالفتوى بالآراء والأهواء ، من غير الرجوع إليهم . والاُصولي لا يفتي في أيّة واقعة من دون الرجوع إلى أئمّة الحقّ .

وبالجملة : أدلّة الحلّ مستندة للأصولي في الفتوى بالحكم الظاهري ، وأدلّة البراءة المؤيّدة بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان مستند له في الفتوى بعدم وجوب الاحتياط ، فتلك الأدلّة واردة على تلك الروايات .

الطائفة الثالثة : ما دلّ على التوقّف بلا تعليل :

منها : مرسلة موسى بن بكر ، قال أبو جعفر لزيد بن علي : «إنّ الله أحلّ حلالاً وحرّم حراماً» إلى أن قال : «فإن كنت على بيّنة من ربّك ويقين من أمرك وتبيان من شأنك فشأنك ، وإلاّ فلا ترومنّ أمراً»(11) .

ومنها : رواية زرارة عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ : «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا»(12) .

وفيه : أنّ الرواية ناظرة إلى الإنكار بلا دليل وستر الحقّ بلا جهة ، وأين هي من الدلالة على ردّ البراءة المستفادة من الكتاب والسنّة ؟ ! وهذه الرواية مربوطة بالاُصول وشبهات أهل الضلال .

ومنها : كتاب أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ إلى عثمان بن حنيف : «فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه ، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه»(13) .

وفيه : أنّها راجعة إلى الشبهة الموضوعية ،كما هو غير خفي على من لاحظ الكتاب .

ومنها : كتابه إلى مالك الأشتر : «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممّن لا تضيق به الاُمور» إلى أن قال «أوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصم وأصبرهم على تكشّف الاُمور»(14) .

وفيه : أنّه راجع إلى أدب القاضي في المرافعات التي لا تخرج عن حدود الشبهة الموضوعية ، فكيف يستدلّ على المقام ؟ مع أنّه سوف يوافيك عن الجميع جواباً آخر ، فانتظر .

ومنها : خطبة منه ـ عليه السلام ـ : «فيا عجبا ، وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها ، لا يقتفون أثر نبي ، ولا يقتدون بعمل وصي» إلى أن قال : «يعملون في الشبهات»(15) .

وفيه : أنّها راجعة إلى المارقين أو القاسطين من الطغاة الخارجين عن بيعته ، المحاربين لإمام عصرهم .

ومنها : وصيته ـ عليه السلام ـ لابنه الحسن ـ عليه السلام ـ : «يا بنيّ دع القول فيما لا تعرف»(16) .

ومنها : وصية اُخرى له : «لا تخرج عن حدود الاُولى»(17) .

 

وملخّص الجواب عن هذه الطائفة ـ مع ما عرفت من المناقشة في أكثرها ـ أنّها ممّا تلوح منها الاستحباب ; فإنّ كلمات الأئمّة ـ لاسيّما أميرالمؤمنين ـ عليه السلام ـ ـ مشحونة بالترغيب إلى الاجتناب عن الشبهات .

وبهذه الطائفة تفسّر الروايات التي يستشمّ منها الوجـوب ، مثل ما رواه الشهيد في «الذكرى» ، قال : قال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»(18) ، مـع احتمال أن يكـون المراد منـه ردّ ما يريبك ـ أي المشتبـه ـ إلى غيره حتّى يتّضح معناه .

وفي وزان ما تقدّم من تلك الطائفة قوله ـ عليه السلام ـ : «أورع الناس من وقف عند الشبهة»(19) ، وقوله ـ عليه السلام ـ : «لا ورع كالوقوف عند الشبهة»(20) ; فإنّ الروايتين وما قارنهما من الروايات في المعنى أقوى شاهد على الحمل على الاستحباب .

الطائفة الرابعة : أخبار التثليث :

منها : رواية النعمان بـن بشير ، قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول : «إنّ لكلّ ملك حمى ، وإنّ حمى الله حلاله وحرامه ، والمشتبهات بين ذلك ، كما لو أنّ راعياً رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن تقع في وسطه ، فدعوا المشتبهات»(21) .

ومنها : رواية سلام بن المستنير عن أبي جعفر الباقر ـ عليه السلام ـ قال : «قال جدّي رسول الله : أيّها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة ، وحرامي حرام إلى يوم القيامة» إلى أن قال : «وبينهما شبهات من الشيطان وبدع بعدي ، من تركها صلح له أمر دينه ، وصلحت له مروّته وعرضه ، ومن تلبّس بها وقع فيها واتبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى ، ومن رعى ماشيته قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعاها في الحمى»(22) .

أقول : هذه الروايات صريحة في الاستحباب ; ضرورة أنّ الرعي حول الحمى لم يكن ممنوعاً، غير أنّ الرعي حوله ربّما تستوجب الرعي في نفس الحمى ، فهكذا الشبهات ; فإنّها ليست محرّمة ، غير أنّ التعوّد بها كالتعوّد بالمكروهات ربّما يوجب تجرّي النفس وجسارته لارتكاب المحرّمات ، بل في هذه الروايات شهادة على التصرّف في غيرها ، لو سلّمت دلالتها .

الطائفة الخامسة : ما دلّ على التوقّف ; معلّلاً بأنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات ، كما عن السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي ـ عليهم السلام ـ قال : «الوقوف في الشبهة خيرٌ من الاقتحام في الهلكة»(23) ، وفي رواية جميل بن درّاج عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ، إنّ على كلّ حقّ حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه»(24) .

ولا يقصر عنها مقبولة عمر بن حنظلة التي سيوافيك بطولها في التعادل والترجيح(25) ، وفيها بعد ذكر المرجّحات : «إذا كان كذلك فارجه حتّى تلقى إمامك ; فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات»(26) .

وإليك الجواب : إنّ في تلك الروايات آثار الإرشاد ; ولو كان فيها ما يتوهّم فيه الدلالة على الوجوب يجب التصرّف فيه بالشواهد التي في غيرها ، بل الظاهر عدم استعمال هذا التعليل في شيء من الموارد في الوجوب ; وإن ذهب الشيخ(27) ـ وتبعه غيره(28) ـ إلى استعماله في رواية جميل والمقبولة في الوجوب ، لكنّه غيرتامّ ; فإنّ الكبرى المذكورة في رواية جميل بن درّاج ـ أعني قوله : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» ـ لا تنطبق على ما ذكره بعده ـ أعني قوله : «وما خالف كتاب الله فدعوه» ـ لأنّ مخالف الكتاب ليس ممّا يجب فيه الوقف أو يستحبّ فيه التوقّف ، بل يجب طرحه وسلب إسناده إلى الأئمّة ـ عليهم السلام ـ .

وحينئذ : فلابدّ أن تحمل الكبرى المذكورة على غير هذا المورد ، بل تحمل على الأخبار التي ليس مضامينها في القرآن ; لا على نحو العموم ولا الخصوص . ولو لم تحمل على هذا فلابدّ أن تحمل إمّا على الموافق للقرآن أو مخالفه صريحاً ، وكلاهما خارجان عنها : أمّا الموافق فيجب الأخذ به ، وأمّا المخالف فيجب طرحه لا التوقّف فيه .

 

فانحصر حمله على الروايات التي لا تخالف القرآن ولا توافقه . وعلى هذا فلو حملنا الأمر بالوقوف على الاستحباب في مورد الشبهة ثبت المطلوب ، وإن حملناه على الوجوب فلا تجد له قائلاً ; فإنّ الأخباري والاُصولي سيّان في العمل بالأخبار التي لا تخالف القرآن ولا توافقه ، ولم يقل أحد بوجوب الوقوف أصلاً ; وإن كان التوقّف والعمل على طبق الاحتياط أولى وأحسن .

وأمّا المقبولة فسيوافيك الكلام في مفادها عند نقل الروايات الواردة في مرجّحات الأخبار عند التعارض(29) ، وما نذكره هنا قليل من كثير ، فنقول : بعدما فرض الراوي تساوي الحكمين في العدالة ، وكونهما مرضيين عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على الآخر قال ـ عليه السلام ـ : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به من حكمهما(30) ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ; فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الاُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله . . .»(31) إلى آخره .

وحاصل الجواب : هو إرجاع الراوي عند تساوي الحكمين إلى النظر في مدرك الحكمين ، فما كان مجمعاً عليه بين الأصحاب يؤخذ به ; لكونه لا ريب فيه ، وما كان شاذّاً متروكاً لا يعمل به ويترك .

وعليه : فليس المراد من الشهرة في المقام هو الشهرة الروائية المجرّدة بين أصحاب الجوامع والحديث وإن لم يكن مورداً للفتوى بينهم ; إذ أيّ ريب ووهن أولى وأقوى من نقل الحديث وعدم الإفتاء بمضمونه ; فإنّ هذا يوجب وهناً في الرواية بما لا يسدّ بشيء .

بل المراد هو الشهرة الفتوائية ; بأن يكون الرواية مورداً للفتوى ، وقد اعتمد عليه أكابر القوم من المحدّثين والفقهاء ; مذعنين بمضمونه . وهذا هو الذي يجعل الرواية ممّا لا ريب فيه ; لأنّ أهل البيت أدرى بما في البيت ، كما تجعل تلك الشهرة ما يقابلها من الرواية الشاذّة ممّا لا ريب في بطلانها .

وبذلك تقف على أنّ الرواية المشهورة بالمعنى المختار داخلة في الاُمور التي هي بيّن الرشد ، كما أنّ الشاذّة ممّا هي بيّن الغيّ ; لكون المشهور ممّا لا ريب فيه ، كما أنّ الشاذّ ممّا لا ريب في بطلانه ، فيدخل كلّ فيما يناسبه .

واحتمال أنّ الشاذّ ممّا فيه ريب لا ممّا لا ريب في بطلانه ، فلا يدخل تحت بيّن الغيّ ، بل يكون مثالاً للأمر المشكل الذي يردّ حكمه إلى الله ، مدفوع بأنّ لازم كون إحدى الروايتين المتضادّتين ممّا لا ريب في صحّتها كون الاُخرى ممّا لا ريب في بطلانها ; ضرورة عدم إمكان كون خبرين مخالفين : أحدهما لا ريب فيه ، والآخر ممّا فيه ريب ويعدّ مشتبهاً .

فإنّ وجوب صلاة الجمعة إذا كان ممّا لا ريب فيه فلا يمكن أن يكون عدم وجوبها ممّا فيه ريب، بل لا ريب في بطلانه وفساده ; لأنّ الحقّ واحد ليس غير .

وعلى ذلك : فلم يذكر الإمام ـ عليه السلام ـ مثالاً للأمر المشكل الذي ذكره عند تثليث الاُمور ، لكن يعلم من التدبّر فيما سبق من المثالين ; فإنّ غير المجمع عليه وغير الشاذّ من الاُمور هو المشكل الذي يردّ حكمه إلى الله ورسوله ، وهذا هو الذي عبّر عنه الإمام ـ عليه السلام ـ في رواية جميل بن صالح بأمر اختلف فيه ; حيث نقل الراوي عن الصادق ـ عليه السلام ـ عن آبائه ـ عليهم السلام ـ أنّه : «قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : الاُمـور ثلاثـة : أمـر تبيّن لك رشده فاتّبعـه ، وأمـر تبيّن لك غيّه فاجتنبه ، وأمـر اختلف فيه فردّه إلى الله عزّوجلّ»(32) .

لا يقال : لو كان المراد من الشهرة هي الفتوائية ـ أعني الفتوى على طبقها ـ فما معنى قول الراوي بعد الفقرات الماضية قال : قلت فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم . قال : «ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة . . .» إلى آخـره ; إذ لا معنى لكون كلّ واحـد مـن الخبريـن مشهوراً مجمعاً عليه بحسب الفتوى ; فإنّ كـون أحـدهما مجمعاً عليه يستلزم اتّصاف الآخـر بالشذوذ والندرة .

 

وهذا بخلاف ما إذا حملناها على الشهرة الروائية ، فيمكن أن يكون كلّ واحد مشهوراً حسب النقل ، بل نقلهما الثقات وأصحاب الجوامع ; وإن لم يكن الفتوى إلاّ على طبق واحد منهما .

لأنّا نقول : إنّ المراد من المجمع عليه هو مقابل الشاذّ النادر ممّا يطلق عليه «المجمع عليه» عرفاً .

وبذلك يتّضح معنى قوله : «فإن كان الخبران عنكم مشهورين . . .» إلى آخره ; لإمكان اشتهار فتوائين بين الأصحاب ، لكن لا بمعنى كون أحدهما شاذّاً نادراً ، بل بعد عرفان حكم المشهور والشاذّ ، أنّ إحدى الروايتين ليست نادرة بحسب الفتوى ، بل مساوية مع صاحبها في أنّ كليهما مورد فتوى لجمع كثير منهم ، وأنّ الحكمين معروفان بينهم ، هذا فقه الحديث .

وأمّا عدم دلالته على مدّعى الأخباريين : فلما علم أنّ المراد من الأمر المشكل الذي أمر فيه بالردّ إلى الله ورسوله هو القسم الثالث الذي ليس بمجمع عليه ولا شاذّ ، بل ممّا اختلف فيه الرأي .

ولا أظـنّ أنّ الأخباري ممّن يلتزم فيه بوجـوب التوقّف والـردّ إلى الله تعالى ; فإنّ الأخباري لا يجتنب عـن الرأي والإفتاء في المسائل التي اختلفت فيها كلمـة الأصحاب ، بل نراه ذات رأي ونظر في هـذه المسائل ، مـن دون أن يتوقّف ويردّ حكمها إلى الله ورسوله ; وإن كان الأرجح عقلاً هو التوقّف والاحتياط فيما ليس بيّن الرشد المجمع عليه ، ولا بيّن الغيّ الشاذّ النادر ، وإرجاع الأمر فيه إلى الله .

وبما ذكرنا يظهر : حال التثليث الواقع في كلام رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ; حيث استشهد الإمام به ; حيث قال : «حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن اجتنب الشبهات نجى عن المحرّمات . . .»(33) إلى آخره ; فإنّ الحلال البيّن والحرام البيّن ما اجتمعت الاُمّة على حلّيته وحرمته ، والمشتبه ليس كذلك ، فهي ممّا يترجّح فيه الاحتياط بالاجتناب .

ويشهد على أنّ الاحتياط ممّا هو راجح في المقام تعليله ـ عليه السلام ـ بأنّ الأخذ بالشبهات أخذ بالمحرّمات ; بمعنى أنّ النفس مهما تعوّدت على ارتكاب المشتبه فلا محالة تحصل فيه جرأة الارتكاب بالمحرّمات ، فارتكاب الشبهات مظنّة الوقوع في المحرّمات والهلاك من حيث لا يعلم سرّه .

وما أحسن وأبلغ قوله ـ عليه السلام ـ في بعض الروايات ; حيث شبّه مرتكب الشبهات بالراعي حول الحمى لا يطمئنّ عن هجوم القطيعة على نفس الحمى(34) ، وإلاّ فالرعاية حول الحمى من دون تجاوز إليه ليس أمراً محرّماً بلا إشكال .

وبذلك يظهر : أنّ مفاد قوله ـ عليه السلام ـ في آخر المقبولة : «فارجه حتّى تلقى إمـامك» هـو الرجحان والاستحباب ; لصيرورة الصـدر قـرينة على الـذيل ، كما هـو واضح .

ولو سلّم ظهوره في الوجوب يقع التعارض بينه وبين ما دلّ على التخيير في الخبرين المتعارضين ، كرواية ابن جهم(35) والحارث بن مغيرة(36) ، والجمع العرفي يقتضي حمل الأمر على الاستحباب ; تحكيماً للنصّ على الظاهر ، مع ما مرّ من القرائن المتقدّمة وغيرها ممّا سيوافيك بيانه في التعادل والترجيح(37) .

ولو أغمضنا النظر عن كلّ ما ذكر فالأمر دائر بين حمل الأمر على الاستحباب أو تخصيص قوله : «الوقوف عند الشبهات» بالشبهة الموضوعية . ولا إشكال أنّ الأوّل هـو المتعيّن ; لإباء الكبرى المذكورة عـن التخصيص ، كما تقدّم بيانه(38) .

وأمّا ما أفاده شيخنا العلاّمة من ترجيح حمل الأمر على الاستحباب ; معلّلاً بأنّ التصرّف في الهيئة أهون من التصرّف في المادّة فقد مرّ عدم وجاهته(39) .

فتبيّن ممّا ذكرنا : عدم دلالة هذه الطائفة من الأخبار على مقالة الأخباريين .

الطائفة السادسة : ما دلّت على الاحتياط ، وإليك نبذ من تلك الطائفة :

منها : صحيحة عبد الرحمان بن الحجّاج ، قال : سألت أبا الحسن ـ عليه السلام ـ عن رجلين أصابا صيداً ، وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما جزاء ؟

 

قال : «لا ، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما جزاء الصيد» . فقلت : إنّ بعض أصحابنا سألني من ذلك ، فلم أدر ما عليه . قال : «إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم الاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا»(40) .

قلت : الاحتمالات في الرواية كثيرة ; لأنّ قوله : «إذا أصبتم بمثل هذا» إمّا إشارة إلى حكم الواقعة ، أو إلى نفس الواقعة . وعلى كلا الفرضين : فإمّا أن يراد من المثل مطلق المماثلة ، أو المماثل في كون الشبهة وجوبية مطلقاً أو كونها وجوبية دائرة بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليين ـ إن قلنا بلزوم القيمة في جزاء الصيد ـ أو الارتباطيين ، بناءً على وجوب البدنة ، فمع هذه الاحتمالات يستدلّ بها على لزوم الاحتياط في خصوص الشبهة التحريمية مع كونها بمراحل عن مورد الرواية ؟ !

ثمّ إنّه لو قلنا بكون المشار إليه هو حكم الواقعة : إمّا أن يراد من قوله : «فعليكم الاحتياط» الاحتياط في الفتوى ، أو الفتوى بالاحتياط ، أو الفتوى بالطرف الذي هو موافق للاحتياط .

ومع ذلك فبما أنّه ـ عليه السلام ـ ذيّل قوله : «فعليكم الاحتياط» بعد قوله : «فلم تدروا» ، بقوله: «حتّى تسألوا عنه فتعلموا» فالمتبادر من الأمر بالاحتياط هو الاحتياط في الفتوى وعدم التقوّل على الله تعالى . ولأجل ذلك يترجّح حمل الرواية على الفتوى قبل الفحص مع إمكان التفحّص عن مورده ، كما هو مفروضها .

ودلالتها على مقالة الأخباري يتوقّف على حملها على مطلق الشبهات ; تحريمية أو وجوبية ، ثمّ إخراج الوجوبية منها لقيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها ، مع أنّه من قبيل إخراج المورد المستهجن ، كما لا يخفى .

ومنها : رواية عبدالله بن وضّاح قال : كتبت إلى العبد الصالح : يتوارى عنّا القرص ويقبل الليل ويزيد الليل ارتفاعاً ويستتر عنّا الشمس ويرتفع فوق الجبل حمرة ويؤذّن عندنا المؤذّنون فاُصلّي حينئذ وأفطر إن كنت صائماً ، أو أنتظر حتّى تذهب الحمرة التي فوق الجبل ؟

فكتب : «أرى لك أن تنتظر حتّى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك»(41) .

ووصفها الشيخ الأعظم بالموثّقة(42) ، مع اشتمال سنده على سليمان بن داود ، المردّد بين الخفاف والمروزي المجهولين ، والمنقري الذي وثّقه النجاشي(43) ، والمظنون أنّه المنقري .

وعلى أيّ حال : فالظاهر أنّ السؤال عن الحمرة المشرقية ; إذ هي التي ترتفع فوق الجبل ، وأمّا المغربية فلا ترتفع ، بل تنخفض إلى أن ينتهي إلى فوق الجبل .

وعلى ذلك : فالرواية واردة مورد التقيّة ; فإنّ المشهور هو لزوم زوال الحمرة المشرقية فتوى ودليلاً . وعليه : فالأمر بالانتظار والأخذ بالحائط للدين لأجل إفادة الحكم الواقعي بهذه العبارة ، وعلى ذلك : فلا يدلّ على لزوم الاحتياط مطلقاً وفي عامّة الشبهات ، كما لا يخفى .

وبقي في المقام روايات كثيرة تلوح منها الاستحباب ، كقوله ـ عليه السلام ـ : «أخوك دينك فاحتط لدينك»(44) ، وقس عليه كلّ ما مررت عليه ; فإنّ مفادها الاستحباب بلا إشكال .

الاستدلال على وجوب الاحتياط بالدليل العقلي (العلم الإجمالي)

استدلّ الأخباري على لزوم الاحتياط بالعلم الإجمالي(45) ; قائلاً بأنّا نعلم بوجود محرّمات كثيرة في الشريعة الغرّاء ، فيجب علينا الخروج عن تبعاتها ،ولا يحصل إلاّ بترك كلّ ما علم حرمته أو شكّ فيها ; حتّى يحصل العلم القطعي بالامتثال ، أو يرد من الشارع الترخيص ، ومعه يحصل الأمن من العقاب .

وخلاصة هذا البرهان ادّعاء قطعين : الأوّل القطع بوجود محرّمات كثيرة في الشريعة ، الثاني القطع بعدم رضاء الشارع بارتكابها ; كائنة ما كانت .

ومن المعلوم ـ حينئذ ـ لزوم الاجتناب إلى أن يحصل اليقين بالبراءة ، وهذا اليقين لا يحصل إلاّ بترك معلوم الحرمة ومشكوكها .

قلت : وبما أنّ الأجوبة المذكورة في المقام يدور حول القول بانحلال العلم الإجمالي بالمراجعة إلى الأدلّة فلا بأس من التعرّض لميزان الانحلال وأقسامه ; حتّى يكون كالضابط لعامّة الأجوبة:

 

فنقول : إنّ ما به ينحلّ العلم الإجمالي : تارة يكون قطعاً واُخرى يكون غيره من الأمارات والاُصول الشرعية كالاستصحاب ، أو العقلية كالاشتغال . وعلى التقادير : تارة يكون العلم الإجمالي مقدّماً لقيام الطريق واُخرى مؤخّراً وثالثة مقارناً ، وعلى التقادير : تارة يكون المؤدّى بالعلم الإجمالي مقدّماً على المؤدّى بالطريق التفصيلي واُخرى مؤخّراً وثالثة مقارناً .

وعلى التقادير أنّ ما به ينحلّ : إمّا أن يكون أمراً تفصيلياً ; سواء كان علماً أو حجّة ، وإمّا يكون أمراً إجمالياً ، كما لو علم إجمالاً بتكاليف بين جميع الشبهات ، وعلم بوجود تكاليف أيضاً بين الطرق والأمارات ، مع إمكان انطباقهما .

ثمّ إنّه لو علم أنّ ما هو المعلوم تفصيلاً عين ما هو المعلوم بالإجمال ، ووقف على انطباق المعلومين انطباقاً قطعياً فلا إشكال في الانحلال . ومثله ما إذا قطع بأنّ ما في دائرة العلم الإجمالي الكبير عين ما هو في دائرة الصغير ; إذ مع هذا ينحلّ العلم في الكبير ويبقى في الصغير فقط .

وأمّا إذا احتمل الانطباق فهل ينحلّ العلم الإجمالي حينئذ حقيقة أو حكماً ، أو لا ينحلّ مطلقاً ؟

فيظهر من بعضهم : أنّه ينحلّ حقيقة ، وأفاد في وجهه : بأنّ العلم الإجمالي قد تعلّق بأمر غير معنون ولا متعيّن ، والتفصيلي تعلّق بالمعيّن ، وانطباق اللامعيّن على المعيّن قهري ; لأنّ عدم الانطباق إمّا لأجل زيادة الواقعيات المعلومة بالإجمال عن المعلوم بالتفصيل ، أو من جهة تعيّن الواقعيات المعلومة بالإجمال بنحو تأبى عن الانطباق ، أو تنجّز غير الواقعيات بالأمارات ، والكلّ خلف(46) ، انتهى .

قلت : إنّ وجه عدم الانحلال لأجل احتمال انطباق المعلوم بالإجمال على غير المعلوم بالتفصيل.

وما ادّعى ـ قدس سره ـ من أنّ انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل قهري غير مسموع ; فإنّ المعلوم بالإجمال لمّا كان أمراً غير متعيّن فيحتمل أن يكون عين ما تعيّن بالعلم التفصيلي ، ويمكن أن يكون غيره ، ومع هذا فكيف يمكن أن يقال بالانطباق القهري ؟ ! والحاصل : أنّ لازم الانطباق القهري العلم بأنّ المعلوم بالإجمال هو عين ما علم بالتفصيل ، ولكنّه مفقود ; لقيام الاحتمال بالمغايرة بعد .

والتحقيق أن يقال : إنّ ميزان الانحلال لو كان قائماً باتّحاد المعلومين مقداراً ، مع العلم بأنّ المعلوم بالتفصيل هو عين ما علم بالإجمال لكان لعدم الانحلال وجه ، إلاّ أنّ الميزان هو عدم بقاء العلم الإجمالي في لوح النفس ، وانقلاب القضية المنفصلة الحقيقية أو المانعة الخلوّ إلى قضية بتّية ومشكوكة فيها ، أو إلى قضايا بتّية وقضايا مشكوكة فيها .

فلو علم بوجود واجب بين أمرين ; بحيث لا يحتمل الزيادة حتّى يكون القضية منفصلة حقيقية ، أو مع احتمال الزيادة حتّى يكون مانعة الخلوّ فمع العلم التفصيلي بوجوب بعض الأطراف أو واحد من الطرفين ينقلب القضية إلى قضية بتّية ; أي إلى وجوب واحد معيّناً ، وإلى مشكوكة فيها .

فلا يصحّ أن يقال : إمّا هذا واجب أو ذاك ، بل لابدّ أن يقال : هذا واجب بلا كلام ، والآخر مشكوك الوجوب ، وهذا ما ذكرنا من ارتفاع الإجمال الموجود في لوح النفس .

وإن شئت قلت : لا يصحّ عقد قضية منفصلة على نحو الحقيقية ، ولا على نحو المانعة الخلوّ .

ولو قيل : إنّ القضية المنفصلة لا تنافي مع كون أحد الطرفين جزمي الحكم فلا مشاحة في الاصطلاح ، ولكن لا يحكي عن تردّد في النفس وإجمال في الذهن ، بل ينحلّ المعلوم بالإجمال إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي لا يعدّ طرفاً للعلم .

واحتمال كون المعلوم بالإجمال عين المشكوك فيه الذي خرج عن الطرفية غير مضرّ ; لأنّ المعلوم بنعت المعلومية الفعلية غير محتمل الانطباق ، وإنّما المحتمل انطباق ما كان معلوماً سابقاً مع زوال وصف العلم بالفعل على الطرف الآخر ; لأنّ المعلومية الإجمالية الفعلية ملازم للعلم الإجمالي ، ومع زوال العلم لا معنى لوجود المعلوم بالفعل ، فتدبّر .

 

ثمّ إنّ بعـض محقّقـي العصـر ـ قدس سره ـ قـد حكـم ببقاء العلم الإجمالـي وعـدم انحلاله حقيقةً ، وحاصل ما أفاد : أنّ احتمال انطباق المعلوم بالإجمال علـى المعلوم بالتفصيل وعلى الطرف الآخـر كاشف قطعي عـن بقاء العلم الإجمالي ; لكونه مـن لوازمه .

ودعوى : أنّه يستلزم محذور تعلّق العلمين بشيء واحد بتوسيط العنوانين الإجمالي والتفصيلي ; وهو من قبيل اجتماع المثلين ، مدفوعة بأنّه لا يزيد عن التضادّ الموجود بين الشكّ والعلم . مع أنّه يمكن أن يتعلّق العلم والشكّ بشيء واحد بعنوانين ، كما في أطراف العلم الإجمالي .

وعليه : فلا مجال للإشكال في تعلّق العلمين بشيء بتوسيط عنوانين الإجمالي والتفصيلي(47) ، انتهى .

وفيه : أنّ ما ذكره خلط بين احتمال انطباق المعلوم بالإجمال فعلاً واحتمال انطباق المعلوم بالإجمال سابقاً ، وقد زال عنه العلم فعلاً . والمفيد لما ادّعاه هو الأوّل ، مع أنّه غير واقع ; ضرورة ارتفاع العلم الإجمالي عن مركزه ; فإنّ العلم بكون هذا واجباً أو خمراً لا يجتمع مع التردّد في كونه واجباً أو عدله ، أو كونه خمراً أو الآخر ; فإنّ الإجمال متقوّم بالتردّد ، وهو ينافي العلم التفصيلي ولا يجتمع معه .

وأمّا ما ذبّ به عن الدعوى في قياس اجتماع العلم الإجمالي والتفصيلي باجتماع الشكّ والعلم الإجمالي ففي غاية الضعف ; إذ لا مانع من اجتماع العلم الإجمالي والشكّ ، بل هو متقوّم به أبداً ; إذ لا منافاة بين تعلّق العلم بكون أحدهما خمراً ، وبين الشكّ في كون الآخر معيّناً خمراً .

وهذا بخلاف المقام ; فإنّ تعلّق العلم الإجمالي والتفصيلي بشيء واحد بتوسيط عنوانين معناه كون هذا معيّناً خمراً ، والشكّ في كونه خمراً ، وهما لا يجتمعان أصلاً .

وإن شئت قلت : فرض تعلّق العلم الإجمالي بكون أحدهما خمراً فرض الترديد في كلّ واحد بعينه ، وفرض العلم التفصيلي بكون واحد منهما بعينه خمراً فرض اللاترديد ، وهذا اجتماع النقيضين .

فتحصّل : أنّ الانحلال إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي في الموارد المزبورة هو الحقّ القراح ، غير أنّه يمكن أن يقال : إنّ إطلاق الانحلال في هذه الموارد لا يخلو عن مسامحة ; لأنّ الانحلال فرع مقارنة العلم التفصيلي والإجمالي ، وهما غير مجتمعين . وكيف كان : فالحقّ ما مرّ .

وربّما يقال : بالانحلال الحكمي ; بمعنى بقاء العلم الإجمالي مع وجود العلم التفصيلي ، أو قيام الأمارة أو الأصل على بعض الأطراف بمقدار المعلوم بالإجمال ممّا يحتمل انطباق مؤدّاه على المعلوم بالإجمال .

وقد اُفيد في تقريره وجوه :

منها : ما أشار إليه بعض محقّقي العصر ; حيث أفاد : أنّه مع قيام المنجّز في أحد طرفي العلم الإجمالي ـ علماً كان أو أمارةً أو أصلاً ـ يخرج العلم الإجمالي عن تمام المؤثّرية في هذا الطرف لما هو المعلوم من عدم تحمّل تكليف واحد للتنجيزين .

وبالجملة : معنى منجّزية العلم الإجمالي كونه مؤثّراً مستقلاًّ في المعلوم على الإطلاق ، وهذا المعنى غير معقول بعد خروج أحد الأطراف عن قابلية التأثّر ، فلا يبقى في البين إلاّ تأثيره على تقدير خاصّ ، وهو أيضاً مشكوك من الأوّل .

والحاصل : أنّ الجامـع المطلق القابل للانطباق على كلّ واحـد غير قابل التأثّر مـن قبل العلم الإجمالي ، والجامـع المقيّد بانطباقـه على الطرف الآخـر لا يكون معلوماً من الأوّل(48) .

وفيه : أنّه يظهر النظر فيه ممّا يأتي في الجواب عن المحقّق الخراساني من الخلط بين العلم الوجداني وغيره .

منها : ما أفاده المحقّق الخراساني ـ قدس سره ـ من انحلال العلم الإجمالي بثبوت طرق واُصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار المعلوم بالإجمال أو أزيد ، وأنّ حجّية الأمارات شرعاً وإن كانت بتنجيز ما أصابه والعذر عمّا أخطأ عنه ـ كما في الطرق العقلية ـ إلاّ أنّ نهوض الحجّة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف يكون عقلاً بحكم الانحلال ، وصرف تنجّزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر عمّا إذا كان في سائر الأطراف(49) ، انتهى .

وفيه : أنّه خلط بين العلم الوجداني الإجمالي بوجود تكاليف في البين ; بحيث لا يرضى المولى بتركه أصلاً ، والعلم بالخطاب ، أو العلم بقيام الأمارة إجمالاً .

فلو كان من قبيل الأوّل ـ أعني العلم بالتكليف الفعلي ـ فلا يعقل عدم تنجّزه في أيّ طرف كان ، ولا يعقل صرف تنجّزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر عمّا إذا كان في سائر الأطراف .

كما لا يعقل الترخيص ; فإنّ ترخيص بعض الأطراف المحتمل كونه هو المعلوم بالإجمال أو غيره لا يجتمع مع بقاء العلم بفعليته ، بل لو قامت الأمارة على كون المؤدّى هو المعلوم بالإجمال يجب عقلاً رفع اليد عن الأمارة والعمل بما هو مقتضى العلم الوجداني الفعلي .

وإن شئت قلت : إنّ الترخيص ، بل احتماله مع العلم الوجداني الفعلي بالتكليف من الاُمور المتنافية ، لا يجتمعان أصلاً ; لأنّ احتمال الترخيص مع احتمال كون التكليف في طرفه مع القطع بالتكليف الفعلي مطلقاً متناقضان .

نعم ، يصحّ ما ذكره وكلّ ما ذكره الشيخ الأعظم ـ قدس سره ـ ، في العلم بالخطاب أو العلم بقيام الأمارة إجمالاً ، كما تقدّم إجمالاً وسيجيء توضيحه في مباحث الاشتغال(50) .

ومنها : ما أفاده بعض الأعيان المحقّقين في تعليقته : من أنّ العلم الإجمالي يتعلّق بوجوب ما لا يخرج عن الطرفين لا بأحدهما المردّد ، فلا ينجّز إلاّ بمقداره ، وتنجّز الخصوصية المردّدة به محال .

ففي كلّ طرف يحتمل الحكم المنجّز ، لا أنّه منجّز ، وذاك الاحتمال هو الحامل على فعل كلّ من المحتملين ; لاحتمال العقاب .

وأمّا الحجّة القائمة على وجوب الظهر بخصوصها فهي منجّزة للخاصّ بما هو خاصّ ، وليس لها في تنجيز الخاصّ مزاحم ، فلا محالة تستقلّ الحجّة في تنجيز الخاصّ .

وتنجيز الخاصّ الذي لا مزاحم له يمنع عن تنجّز الوجوب الواحد المتعلّق بما لا يخرج عن الطرفين ; إذ ليس للواحد إلاّ تنجّز واحد ، وإذا دار الأمر بين منجّزين : أحدهما يزاحم الآخر بتنجيزه ـ ولو بقاءً ـ والآخـر لا يزاحمـه في تنجيزه ـ ولو بقاءً ـ لعدم تعلّقه بالخاصّ حتّى ينجّزه فلا محالة يكون التأثير للأوّل(51) ، انتهى ملخّصاً .

وفي ما ذكره مواقع للنظر :

أمّا أوّلاً : فلأنّ القول بأنّ العلم قد تعلّق بوجوب ما لا يخرج عن الطرفين لا بأحدهما المردّد خلاف الوجدان ، فإنّ الوجدان أقوى شاهـد على أنّ العلم متعلّق بوجوب أحـدهما ; بمعنى أنّ الشخص واقف على أنّ الواجب هـو الجمعـة بما لها مـن الخصوصية ، أو الظهر كـذلك . وتأويل ذلك العلم إلى أنّـه متعلّق بما لا يخرج عن الطرفين تأويل بعد تعلّق العلم ، ولا يلتفت على ذلك التأويل إلاّ عند التوجّه الثانوي(52) .

وثانياً : أنّ معنى منجّزية الأمارة ليس إلاّ أنّ المؤدّى على فرض كونـه تكليفاً واقعياً وموافقتـه للواقـع يكون تخلّفها موجباً لاستحقاق العقوبـة ، فلا تكون الأمـارة منجّزة للتكليف إلاّ على سبيل الاحتمال ، كما أنّ العلم الإجمالي كـذلك ، فأيّ فرق بينه وبين الأمارة ؟ !

وما أفاد من أنّ طرف العلم الإجمالي يحتمل وجود الحكم المنجّز فيه لا أنّه منجّز ، بخلاف الأمارة فإنّها منجّزة للخاصّ ، في غير محلّه ; لأنّ التنجيز في كليهما بمعنىً واحد ، وحكم العقل في كليهما على نسق واحد ; وهو لزوم الاتّباع لاحتمال التكليف المنجّز الموجب لاستحقاق العقوبة .

لا يقال : إنّ لسان أدلّة حجّية الأمارات أو لسان نفسها هو أنّ المؤدّى نفس الواقع وأنّه منجّز عليك ، لا أنّ المؤدّى على فرض مطابقته للواقع منجّز وموجب للعقوبة ، وكم فرق بينهما ؟ ! وعليه يحصل الفرق بين تنجيز الأمارة والعلم الإجمالي .

 

لأنّا نقول : والأمارة وإن قامت على الخصوصية لكن لم تكن منجّزة على أيّ حال ، بل على فرض المطابقة للواقع . والعلم الإجمالي أيضاً منجّز للتكليف بخصوصيته في أيّ طرف كان ; بمعنى أنّه مع العلم الإجمالي بوجوب الظهر أو الجمعة إذا تركهما المكلّف ، وكان الظهر واجباً بحسب الواقع يستحقّ العقوبة على الظهر بخصوصيته .

وثالثاً : سلّمنا أنّ متعلّق العلم إنّما هو وجوب ما لا يخرج عن الطرفين ، ولكنّه يستلزم تنجيز ما هو المنطبق ـ بالفتح ـ لهذا العنوان ; أعني نفس التكليف الواقعي .

وعلى هذا : فلو فرض صحّة الأمارة وتطابقها للواقع يكون مؤدّاها نفس التكليف الواقعي ، فلا محالة يقع التنجيز على شيء واحد معيّن واقعي ، ويكون التنجيز مستنداً إلى العلم الإجمالي والأمارة ، لا إلى الأمارة فقط ، لو لم نقل باستناده إلى العلم الإجمالي فقط ; لسبقه وتقدّمه . وعليه : فما أفاد من أنّ الأمارة في تنجيزها بلا مزاحم غير صحيح .

فظهر : أنّه لا صحّة للقول بالانحلال الحكمي مع حفظ العلم الإجمالي ، كما تقدّم .

التحقيق في الجـواب : ما تقدّم منّا على الوجـه الكلّي(53) مـن أنّ الميزان لانحلال العلم هـو ارتفاع الترديد ، وانقلاب القضيـة المنفصلـة الحقيقيـة أو المانعـة الخلـوّ إلى قضيـة بتّيـة ومشكوكة ، ولا يلزم العلم بكـون المعلوم تفصيلاً هـو المعلوم إجمالاً .

وعلى هذا فما أشار إليه المحقّق الخراساني في بعض كلماته(54) يمكن أن يكون وجهاً للانحلال الحقيقي ، وحاصله : تحقّق العلم الوجداني بوجود تكاليف واقعية في مؤدّى الطرق والأمارات والاُصول المعتبرة بمقدار المعلوم بالإجمال ، ومعه ينحلّ العلم الإجمالي الكبير في دائرة العلم الإجمالي الصغير .

وبعبارة أوضح : أنّ العلم بوجود تكاليف بسبب الأمارات والاُصول يرفع الترديد الموجود في دائرة العلم الإجمالي الكبير .

وإن شئت فأوضح المقام بما يلي : لو علم إجمالاً بكون واحد من الإنائات الثلاثة خمراً ، واحتمل الزيادة ، ثمّ علم جزماً بأنّ واحداً من هذين الإنائين خمرٌ فلا يعقل بقاء العلم الأوّل ; لعدم إمكان الترديد بين أحد الإنائين وبين الآخر ; فإنّه ينافي العلم الإجمالي ، فلا يمكن تعلّق علمين بواحد من الإنائين وواحد من الثلاثة .

نعم ، يمكن تعلّق العلمين بسببين للتكليف أو الوضع ، كما لو علم إجمالاً بوقوع قطرة من الدم في واحـد مـن الإنائين ، وعلم بوقوع قطرة اُخـرى مقارناً لوقوع الأوّل في أحدهما أو إناء آخر ; فإنّ العلمين تعلّقا بالقطرتين والسببين لا بالنجاسة .

وهذا نظير العلم بوقوع قطرة بول أو دم فـي إناء معيّن ; فإنّ العلم تعلّق بوقـوع القطرتين ، فكلّ منهما معلوم ، وأمّا النجاسة المسبّبة فلم تكن معلومة مرّتين ; لعدم تعقّل ذلك .

وهاهنا وجه آخر في ردّ مقالة الأخباري ، وحاصله : منع تعلّق العلم الإجمالي على وجود تكاليف فعلية لا يرضى الشارع بتركها . كيف ، وجعل الحجّية للأمارات والاُصول أو إمضاء حجّيتها مع إمكان مخالفتها للواقع أدلّ دليل على عدم فعليتها مطلقاً ورضاء الشارع بتركها في موارد قيام الأمارة على الخلاف ; إذ فعليتها مطلقاً تستلزم وجوب العمل بالاحتياط حتّى في موارد قيام الأمارات والاُصول .

وعلى هذا : لا معنى لتنجيز ما عدا مؤدّيات الأمارات والاُصول ; لعدم تعلّق العلم بالتكليف الفعلي ، بل إنّما تعلّق بخطابات قابلة للانطباق على مؤدّياتها .

ولهذا لا يلتزم الأخباري بلزوم الاحتياط عند قيام الأمارة على نفي التكليف في مورد . فلو صحّ ما يدّعيه من العلم الفعلي بالتكاليف الفعلية التي لا يرضى الشارع بتركها على أيّ حال لزم عليه الاحتياط في ذلك المورد ، مع أنّه لا يلتزم به .

وهذا ـ أي التعبّد بالأمارات والاُصول ـ أوضح دليل على عدم كون الأحكام بمثابة لا يرضى بتركها ، وأنّ الشارع قد رفع اليد عنها في غير موارد الأمارات والاُصول من الشبهات .

استدلال عقلي آخر للأخباري (أصالة الحظر):

 

وهو مسألة كون الأصل في الأشياء الحظر ، وأنّ العالَم كلّه ـ من سمائه وأرضه ـ مملوك لله ، كما أنّ المكلّف عبد له تعالى ، فلابدّ أن يكون عامّة أفعاله ـ من حركة وسكون ـ برضىً منه ودستور صادر عنه . وليس لأحد أن يتصرّف في العالم بغير إذنه ; لكون المتصرّف ـ بالكسر ـ والمتصرَّف مملوكين لله .

وفيه : أنّه إن اُريد من كون المكلّف والعالم مملوكين لله بالملكية الاعتبارية الدائرة في سوق العقلاء فلا نسلّمه ، بل لا وجه لاعتبار ملكية اعتبارية لله عزّوجلّ ; فإنّ اعتبارها لابدّ وأن يكون لأغراض حتّى يقوم به المعيشة الاجتماعية ، وهو سبحانه أعزّ وأعلى منه .

وإن اُريد منه المالكية التكوينية ; بمعنى أنّ الموجودات والكائنات ـ صغيرها وكبيرها ، أثيريها وفلكيها ـ كلّها قائمة بإرادته ، مخلوقة بمشيّته ، واقعة تحت قبضته تكويناً ، فلا يمكن للعبد أن يتصرّف في شيء إلاّ بإذنه التكويني وإرادته ، وأنّ العالم تحت قدرته ; قبضاً وبسطاً تصرّفاً ووجوداً فهو غير مربوط بالمقام ، ولا يفيد الأخباري شيئاً .

على أنّ الآيات والسنّة كاف في ردّ تلك المزعمة ; حيث يدلّ على وجود الإذن من الله بالنسبة إلى تصرّفات عبيده ، قال عزّ من قائل : {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10] إلى غير ذلك .

______________

1ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 62 ـ 63 .

2 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 81 ـ 82 و 239 .

3 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 429 .

4 ـ راجع وسائل الشيعة 27 : 20 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 4 ، الحديث 1 و2 و3 و5 و9 و10 و14 و29 و30 .

5 ـ الكافي 1 : 50 / 10 ، وسائل الشيعة 27 : 155 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 3 .

6 ـ الفقيه 4 : 285 / 854 ، وسائل الشيعة 27 : 162 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 28 .

7 ـ عيون أخبار الرضا ـ عليه السلام ـ 2 : 20 / 45 ، وسائل الشيعة 27 : 115 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 21 .

8 ـ كتاب سليم بن قيس : 67 ، وسائل الشيعة 27 : 166 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 40 .

9 ـ الأمالي ، الشيخ الطوسي : 231 / 2 ، وسائل الشيعة 27 : 168 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 48 .

10 ـ تفسير العياشي 1 : 260 / 206 ، وسائل الشيعة 27 : 171 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 56 .

11 ـ الكافي 1 : 356 / 16 ، وسائل الشيعة 27 : 157 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 10 .

12 ـ الكافي 2 : 388 / 19 ، وسائل الشيعة 27 : 158 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 11 .

13 ـ نهج البلاغة : 416 ـ 417 ، وسائل الشيعة 27 : 159 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 17 .

14 ـ نهج البلاغة : 434 ، وسائل الشيعة 27 : 159 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 18 .

15 ـ نهج البلاغة : 121 ، وسائل الشيعة 27 : 160 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 20 .

16 ـ نهج البلاغة : 392 ، وسائل الشيعة 27 : 160 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 21 .

17 ـ راجع وسائل الشيعة 27 : 167 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 47 .

18 ـ ذكرى الشيعة 2 : 444 ، وسائل الشيعة 27 : 173 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 63 .

19 ـ الخصال : 16 / 56 ، وسائل الشيعة 27 : 165 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 38 .

20 ـ نهج البلاغة : 488 ، وسائل الشيعة 27 : 161 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 23 .

21 ـ الأمالي ، الشيخ الطوسي : 381 / 69 ، وسائل الشيعة 27 : 167 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 45 .

22 ـ كنز الفوائد 1 : 352 ، وسائل الشيعة 27 : 169 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 52 .

23 ـ تفسير العياشي 1 : 8 / 2 ، المحاسن : 215 / 102 ، وسائل الشيعة 27 : 171 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 57 .

24 ـ نقله عن الراوندي في وسائل الشيعة 27 : 119 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 35 .

25 ـ التعادل والترجيح ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 169 .

26 ـ الكافي 1 : 67 / 10 ، وسائل الشيعة 27 : 106 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 1 .

27 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 64 ـ 65 .

28 ـ كفاية الاُصول : 392 .

29 ـ التعادل والترجيح ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 169 .

30 ـ كما في الاحتجاج والمستدرك .

31 ـ الكافي 1 : 67 / 10 ، الاحتجاج 2 : 260 / 232 ، وسائل الشيعة 27 : 106 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 1 ، مستدرك الوسائل 17 : 302 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 1 .

32 ـ الفقيه 4 : 285 / 854 ، وسائل الشيعة 27 : 162 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 28 .

33 ـ الكافي 1 : 67 / 10 ، وسائل الشيعة 27 : 157 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 9 .

34 ـ وسائل الشيعة 27 : 167 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 45 .

35 ـ الاحتجاج 2 : 264 / 233 ، وسائل الشيعة 27 : 121 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 40 .

36 ـ الاحتجاج 2 : 264 / 234 ، وسائل الشيعة 27 : 122 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 41 .

37 ـ التعادل والترجيح ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ : 135 .

38 ـ تقدّم في الصفحة 96 .

39 ـ تقدّم في الصفحة 96 .

40 ـ الكافي 4 : 391 / 1 ، وسائل الشيعة 27 : 154 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 1 .

41 ـ تهذيب الأحكام 2 : 295 / 1031 ، وسائل الشيعة 4 : 176 ، كتاب الصلاة ، أبواب المواقيت ، الباب 16 ، الحديث 14 .

42 ـ فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 76 .

43 ـ رجال النجاشي : 184 / 488 .

44 ـ الأمالي ، الشيخ الطوسي : 110 / 22 ، وسائل الشيعة 27 : 167 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 12 ، الحديث 46 .

45 ـ الفوائد الطوسية : 507 ، اُنظر فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25 : 87 .

46 ـ نهاية الدراية 4 : 114 ـ 115 .

47 ـ نهاية الأفكار 3 : 250 ـ 251 .

48 ـ نهاية الأفكار 3 : 251 ـ 252 .

49 ـ كفاية الاُصول : 395 .

50 ـ يأتي في الصفحة 179 .

51 ـ نهاية الدراية 4 : 120 ـ 121 .

52 ـ فإن قلت : الظاهر أنّ مراده هو الفرق بين طرف العلم ومتعلّقه ; فإنّ ما لا يقبل الإجمال والتردّد إنّما هو الطرف ; ضرورة أنّ العلم ـ سواء كانت داخلة تحت مقولة أو لا ـ من الاُمور العامّة التي لها نحو إضافة إلى المعلوم ، وله نحو تشخّص معه ، فلا يعقل أن يتشخّص بأمر مردّد . والمراد من الطرف هنا هو الوجوب ، وقد تعلّق به العلم وتطرّف بذلك . وأمّا ما يقبل التردّد فإنّما هو متعلّقه وحواشيه ; أعني الظهر والعصر .

   وعلى هـذا فلا بأس بـأن يقال : إنّ العلم ـ مطلقاً ـ يتعلّق بأمـر معيّن ; وهو الوجوب ـ مثلاً ـ المردّد تعلّقـه بالظهـر أو الجمعـة . ولا مانع مـن كون متعلّق الوجـوب أمـراً مـردّداً ; لكونه أمـراً اعتبارياً .

   قلت : نعم ، العلم بما أ نّه متشخّص في النفس لا يعقل تعلّقه وتشخّصه بالمردّد الواقعي وبالحمل الشائع ; ضرورة أ نّه لا تشخّص ولا تحقّق له ; لا خارجاً ولا ذهناً . لكن في العلم الإجمالي تعلّق على عنوان أحد الخاصّين القابل للانطباق على كلّ منهما بخصوصية ، لا على عنوان ما لا يخرج عنهما ، كما هو الموافق للوجدان . [المؤلّف]

53 ـ تقدّم في الصفحة 113 ـ 114 .

54 ـ كفاية الاُصول : 395 .




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.