أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-07-2015
9507
التاريخ: 29-09-2015
11055
التاريخ: 24-09-2014
7767
التاريخ: 8-11-2014
7917
|
مقدّمة
لقد أثار أعداء الإسلام من جاهليّين قُدامى ومستشرقين جدد الشبهات الكثيرة حول الوحي القرآني، وكانت تستهدف هذه الشبهات في الغالب تأكيد أنّ الوحي القرآني ليس مرتبطاً بالسماء وإنّما هو نابعٌ من ذات محمّدٍ الإنسان (صلّى الله عليه وآله).
وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض هذه الشبهات في مواضع مختلفة (1)، وردّد بعض المستشرقين هذه الشبهات وغيرها وحاول إضفاء طابع البحث والدراسة وسمات الموضوعيّة عليها، كما هي الطريقة المضلِّلة المتّبعة لديهم في مثل هذه الحالات.
ويحسن بنا أن نكوِّن فكرةً واضحة عن الوحي الذي نحن بصدد بحث الشبهة حوله ومناقشتها تمهيداً للدخول في صلب الموضوع.
ما هو الوحي؟
الوحي لغةً:
هو الإعلام في خفاء (2)، ولكن ما هو الوحي الإلهي الذي اختصّ به الله سبحانه النبيّين من عباده، وتجلّى بشكلٍ واضح في القرآن الكريم؟
وبصدد الإجابة عن هذا السؤال يمكن أن نقول:
إنّ كلّ فكرةٍ يدركها الإنسان فهي ترتبط في وجودها ـ بسببٍ أو بآخر ـ بالله سبحانه وتعالى خالق الإنسان ومدبِّر أُموره؛ لأنّ الله تعالى هو مسبّب الأسباب، ولذا تُنسب إليه الأشياء في القرآن الكريم.
ولكنّ شعور الإنسان تجاه مصدر هذه الفكرة ـ بالرّغم من إدراكه العقلي لهذه الحقيقة ـ قد يكون مختلفاً، ونذكر أنحاءً ثلاثة لهذا الشعور:
أ ـ أن يشعر بأنّ الفكرة نابعةٌ من ذاته ووليدة جهده الخاص وإدراكه الشخصي.
وهذا الشعور هو ما نحسّ به في حالات الإدراك الاعتيادية تجاه أفكارنا العاديّة أو المبتكرة نتيجة الجهد العلمي فإنّنا ـ مع اعتقادنا بأن أفكارنا منسوبة إلى الله تعالى على أساس أنّه الخالق المدبِّر لعالم الوجود بجميع مقوِّماته، ومنه قدرتنا على التفكّر ـ نشعر وكأن هذه الفكرة وليدة هذا المزيج المركّب الذي أودعه الله في أنفسنا، وناتجةُ عن مجموعة المواهب والقدرات الشخصية لنا.
ب ـ أن يشعر الإنسان بأن الفكرة قد أُلقيت إليه من طريق آخر وجاءته من خارج ذاته، وشعوره هذا بدرجةٍ من الوضوح بحيث يحسّ بهذا الإلقاء والانفصاليّة بين الذات المُلقية والذات المتلقّية، ولكنّه مع ذلك كلِّه لا يكاد يحس بالأُسلوب والطريقة التي تمّت فيها عملية إلقاء الفكرة.
وهذا النحو من الشعور تجاه الفكرة هو ما يحصل في حالات (الإلهام) الإلهي(3).
ج ـ أن يصاحب الشعور الحسّي الذي شرحناه في فقرة (ب)، شعورٌ حسّي آخر بالطريقة والأُسلوب الذي تتمّ به عمليّة الإلقاء والاتصال، وهذا الحس والشعور ـ سواء الحس بأنّ الفكرة جاءت من أعلى أو الحس بأنّ مجيئها كان بالأُسلوب الخاص ـ لا بُدّ فيه أن يكون واضحاً وجليّاً وضوح إدراكنا للأشياء بحواسّنا العاديّة، غاية الأمر في موارد الإدراك بالحواس العاديّة (السمع والبصر واللّمس) يكون التلقّي بالوسائل المادّية التي هي طُرق الإثبات العلميّة المادّية، وأمّا التلقّي إذا لم يكن بالأدوات الحسّية أو كان ولكنّ الطرف الآخر في الإلقاء كان غير حسّي؛ فهذا هو ما يحدث في حالات (الوحي) إلى الأنبياء، أو على الأقل ما حدث في وحي القرآن الكريم إلى نبيّنا محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله).
كما تؤكّد ذلك مجموعةٌ من الأحاديث التي تصف حالات الوحي الإلهي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، نذكر منها ما يلي:
)عن عائشة، أنّ الحارث بن هاشم سأل النبيَّ (صلّى الله عليه وآله) كيف يأتيك الوحي؟
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله: (
)أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ، فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال، وأحياناً يتمثّل لي الملك رجلاً فيكلّمني فأعي ما يقول. (
قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقاً (4).(
وعن عبادة بن الصامت قال:
كان النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) إذا أُنزل عليه الوحي كرب لذلك وتربّد وجهه(5).
وعنه قال: (كان نبيُّ الله (صلّى الله عليه وآله) إذا أُنزل الوحي نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم فلمّا أُتلِيَ عنه رفع رأسه) (6).
(عن زرارة قال:
قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) كيف لم يف رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيما يأتيه من قِبَل الله أن يكون ذلك ممّا ينزغ به الشيطان؟
قال: فقال:
)إنّ الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عيه السكينة والوقار فكان يأتيه من قبل الله عزّ وجلّ مثل الذي يراه بعينه)) (7).
(عن الأحوال في حديثٍ مُعْتَبرٍ قال:
سألت أبا جعفرٍ (عليه السلام) عن (الرسول) و(النبي) و(المحدّث)؟ قال:
(الرسول: الذي يأتيه جبرئيل (عليه السلام) قُبلاً فيراه ويكلِّمه، فهذا الرسول.
وأمّا النبيّ فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم (عليه السلام) ونحو ما كان رآى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أسباب النبوّة قبل الوحي حتّى أتاه جبرئيل (عليه السلام) من عند الله بالرسالة، وكان محمّدٌ (صلّى الله عليه وآله) حين جمع له النبوّة وجاءته الرسالة من عند الله يجيئه بها جبرئيل (عليه السلام) ويكلّمه بها قبلاً، ومن الأنبياء من جمع له النبوّة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلّمه ويحدّثه من غير أن يكون يرى في اليقظة.
وأما المحدّث فهو الذي يحدّث فيسمع ولا يعاين ولا يرى في منامه)( (8).
(عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
قال بعض أصحابنا، أصلحك الله أكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: جبرئيل، وهذا جبرئيل يأمرني، ثمّ يكون في حالٍ أُخرى يُغمى عليه؟
قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام) :
(إنّه إذا كان الوحي من الله إليه ليس بينهما جبرئيل أصابه ذلك لثقل الوحي من الله، وإذا كان بينهما جبرئيل لم يصبه ذلك، فقال: قال لي جبرئيل، وهذا جبرئيل)) (9).
إذاً، فهناك فرق بين الإدراك العادي الذي يكون نتيجة (الموهبة)، وبين (الإلهام)، و(الوحي).
لأنّ إدراك (الموهبة) في الحقيقة، يُعبِّر عن فكرةٍ يدركها الإنسان، مع شعوره بأنّها نتيجة للجهد الشخصي، وإن كان يدرك بشكل عقلي ومنطقي أنّها مرتبطة بسببٍ أو بآخر بالله سبحانه.
والإلهام:
عبارة عن فكرة يدركها الإنسان، مصحوبة بالشعور الواضح، بأنّها ملقاة من طرفٍ أعلى منفصل عن الذات الإنسانية، وإن كان لا يدرك الإنسان شكل الطريقة التي تمّ فيها هذا الإلقاء.
والوحي:
عبارة عن فكرةٍ يدركها الإنسان، مصحوبة بالشعور الواضح، بأنّها ملقاة من طرفٍ أعلى منفصلٍ عن الذات الإنسانية، وشعور آخر واضح بالطريقة التي تمّ فيها الإلقاء، مع وجود عنصر الغيب والخفاء في هذه العملية، ولذا تُسمّى بالوحي.
الشبهة حول الوحي:
هناك ارتباط وثيق بين هذا الموضوع وبحث إعجاز القرآن؛ لأنّنا نتعرّف من خلال ذلك البحث، على أنّ القرآن ليس ظاهرةً بشريّة، ومن ثَمَّ ليس من صنع محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله)، وإنّما يكشف بجوانب التحدّي فيه عن ارتباطه بعالم الغيب، كما أشرنا إلى ذلك في بحث إعجاز القرآن.
وعلى هذا الأساس:
نجد أنّ مناقشة الشبهات، التي تُثار حول الوحي القرآني، لا بُدّ وأن تعتمد بصورةٍ رئيسة على نتائج بحث إعجاز القرآن.
ولذا فنحن عندما نذكر هنا بعض ما يُثار حول الوحي، نقصد بذلك أن نعالج بعض التفاصيل ذات العلاقة بهذه الإثارة دون الجانب الأساسي للمسألة.
ولعلّ من أخبث الأساليب في إثارة الشبهة حول الوحي، هو الأُسلوب الذي حاول أن يُضفي على النبيِّ محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) صفات الصدق والأمانة والإخلاص والذكاء، ولكن يفترض أن يتخيّل له أنّه ممّا يوحى إليه، وهو ما يُسمّى بالوحي النفسي، فإنّ هذا الأُسلوب يحاول أن يستر دوافعه المغرضِة، بمظاهر الإنصاف والمحبّة والإعجاب.
وهذا الأُسلوب طرحه بعض المستشرقين وتبعته بعض المذاهب والأحزاب المادّية في البلاد العربية.
القرآن وحيٌ نفسيٌّ لمحمّدٍ (صلّى الله عليه وآله:(
وخلاصة ما قيل في صياغة هذه الشبهة:
أنّ محمّداً (صلّى الله عليه وآله) قد أدرك بقوّة عقله الذاتية، وممّا يتمتّع به من نقاءٍ وصفاءٍ روحيّ ونفسيّ، بطلان ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام، كما أدرك ذلك أيضاً أفرادٌ آخرون من قومه.
وأنّ فطرته الزكيّة ـ إضافةً إلى بعض الظروف الموضوعيّة كالفقر ـ حالت دون أن يمارس أساليب الظلم الاجتماعي من الاضطهاد، وأكل المال بالباطل، أو الانغماس بالشهوات، وارتكاب الفواحش: كالاستمتاع بالسُكر والتسرِّي وعزف القيان وغير ذلك من القبائح.
وإنّه طال تفكيره من أجل إنقاذهم من ذلك الشرك القبيح، وتطهيرهم من تلك الفواحش والمنكرات.
وقد استفاد من النصارى الذين لقِيَهم في أسفاره أو في مكّة نفسها كثيراً من المعلومات عن الأنبياء والمرسلين، ممّن بعثهم الله في بني إسرائيل وغيرهم، فأخرجوهم من الظلمات إلى إلى النور.
كما أنّه لم يقبل جميع المعلومات التي وصلت إليه من هؤلاء النصارى، لما عرض للنصرانية من الأفكار الوثنية والانحرافات، كإلوهيّة المسيح وأُمّه، وغير ذلك من البِدَع.
وأنّه كان قد سمع أنّ الله سيبعث نبيّاً مثل أولئك الأنبياء من عرب الحجاز، بشّر به عيسى المسيح وغيرُه من الأنبياء، وتولّد في نفسه أملٌ ورجاء في أن يكون هو ذلك النبيّ الذي آن أوانه، وأخذ يتوسّل إلى تحقيق هذا الأمل بالانقطاع على عبادة الله تعالى في خلوته بغار حراء.
وهنالك قَوِيَ إيمانُه وسما وجدانه، فاتّسع محيط تفكيره وتضاعف نور بصيرته، فاهتدى عقله الكبير إلى الآيات والدلائل البيِّنة ـ في السماء والأرض ـ على وحدانية الله سبحانه خالق الكون ومدبِّر أُموره.
وبذلك أصبح أهلاً لهداية الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور.
ثمّ ما زال يفكّر ويتأمّل ويتقلّب بين الآلام والآمال، حتّى أيقن أنّه هو النبيُّ المنتظَر الذي يبعثه الله لهداية البشرية، وتجلّى له هذا الاعتقاد في الرؤى المناميّة، ثمّ قَوِيَ حتّى صار يتمثّل له الملك يلقّنه الوحي في اليقظة.
وأمّا المعلومات التي جاءته من هذا الوحي، فهي مستمدة في الأصل من تلك المعلومات، التي حصل عليها من اليهود والنصارى، وممّا هداه إليه عقله وتفكيره في التمييز بين ما يصحّ منها وما لا يصح، ولكنّها كانت تتجلّى وكأنّها وحي السماء، وخطاب الخالق عزّ وجلّ، يأتيه بها الناموس الأكبر، الذي كان ينزل على موسى بن عمران وعيسى بن مريم، وغيرهما من النبيّين (عليهم السلام).
مناقشة الشبهة:
وإذا أردنا أن ندرس هذه النظرية (نظرية الوحي النفسي)، لا نجدها تصمد أمام النقد والمناقشة العلميّتين، إذ يمكن أن يُلاحظ عليها من خلال أبعاد ثلاثة:
الأوّل:
إنّ الدلائل التأريخية القطعية وطبيعة الظروف التي مرّ بها النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) تأبى التصديق بهذه النظرية وقبولها.
الثاني:
إنّ المحتوى الداخلي للقرآن الكريم ـ بما يضم من تشريع وأخلاق وعقائد وتأريخ ـ لا يتّفق مع هذه النظرية في تفسير الوحي القرآني.
الثالث:
إنّ موقف النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من الظاهرة القرآنية، يشهد بوضوحٍ على رفض تفسير الظاهرة القرآنية بنظريّة الوحي النفسي.
أ ـ الدلائل التأريخية تناقض نظريّة الوحي النفسي:
لقد ذكر السيّد رشيد رضا ـ بصدد مناقشته للمقدّمات التأريخية وغيرها التي رتّبها (درمنغام) لعرض نظريّة الوحي النفسي ـ عشر ملاحظات، وسوف نقتصر على تلخيص بعضها:
الأُولى:
إنّ أكثر المقدّمات التي بنى عليها أصحاب النظريّة بنيانهم ونظريّتهم، لا تقوم على أساس تأريخي صحيح، وإنّما تنطلق من نقطة مفروضة على البحث بشكل مسبق، وهي: أنّ الوحي القرآني ليس وحياً إلهيّاً منفصلاً عن الذات المحمّدية، الأمر الذي كان يدعو أصحاب النظرية إلى اختلاق الحوادث والأخبار، أو تخيّلها من أجل إكمال الصورة الكاذبة ووصل بعض الحلقات ببعضها الآخر.
ومن الأمثلة على ذلك ما يذكرونه من تفاصيل ـ ليس لها مصدر تأريخي ـ في مسألة لقاء الراهب بحيرا مع محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) وهو بصحبة عمِّه أبي طالب، الأمر الذي يدعوهم إلى الاستنتاج وافتراض محادثات دينيّة وفلسفية معقّدة جرت بينهما.
وما يذكرونه أيضاً بصدد تعليل اطّلاعه على أخبار عادٍ وثمود، من أنّه كان نتيجة مروره بأرض الأحقاف، بالرّغم من أنّ هذه الأرض لا تقع على الطريق الاعتيادي لمرور القوافل التجارية، كما أنّ التاريخ لم يذكر لنا مرور النبيّ بها.
إلى غير ذلك من الأحداث والقضايا.
الثانية:
إنّ افتراض تعلُّم النبي (صلّى الله عليه وآله) من نصارى الشام وغيرهم لا يتّفق مع واقع الحيرة والتردد في موقف المشركين من دعوة رسول الله ونسبته الرسالة إلى الوحي الإلهي؛ لأنّ مثل هذه العلاقة ـ لو كانت موجودة ـ لا يمكن التستّر عليها أمام أعداء الدعوة من المشركين وغيرهم، الذين عاصروه وعايشوه في مجتمعٍ ضيِّقٍ وعرفوا أخباره وخبروا حياته العامّة بما فيها من سفرات ورحلات.
وبالرّغم من أنّ هؤلاء لم يمسكوا عن إطلاق تهم وأراجيف شتّى ضد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وافترضوا في الوحي الفروض المتعدِّدة، ومنها: فرض التعلُّم والتلقّي من أشخاص معيّنين: كالرومي الحدّاد في مكّة(10)، ولكن مع ذلك كله لم يكن ليفرضوا أن يكون قد تعلّم من نصارى الشام أو غيرهم من أهل الكتاب.
الثالثة:
إنّه لم يُعرف عن الرسول محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) أنّه كان ينتظر أن يُفاجأ بالوحي، أو يأمل أن يكون هو الرسول المنتظَر؛ لينمو ويتطوّر هذا الأمل في نفسه، فيصبح واقعاً نفسيّاً، بالرّغم من تدوين كتب السيرة النبويّة لأدق الأحداث والتفصيلات عن حياة الرسول الشخصية.
ولعلّ من القرائن التأريخية التي تشهد بكذب هذا الافتراض: هو ما ذكرته كتب السيرة من اضطراب النبي ـ في البداية ـ وخوفه حين فاجأه الوحي في غار حراء.
الرابعة:
إنّ هذه النظرية تفرض أن يكون إعلان النبوّة نتيجة مرحلةٍ معيّنةٍ من التكامل العقلي والنفسي، ونتيجة مراحل طويلةٍ من المعاناة والتفكير والتأمّل والحساب، وهذا يستلزم بطبيعة الحال أن ينطلق الرسول في اللحظة الأُولى من دعوته إلى طرح مفاهيمه وأفكاره ومناهجه عن الكون والحياة والمجتمع بجوانبه المتعدِّدة؛ لأنّ المفروض أنّ الصورة كانت متكاملة عنده نتيجة التفكير الطويل ودراسة الكتب وأعمال الأنبياء السابقين، مع أنّ التأريخ يؤكِّد أنّ أُسلوب الدعوة وطريقتها كانا يختلفان عن ذلك تماماً، وأنّ البداية كانت هي الخوف والاضطراب ثمّ الدعوة إلى التوحيد، ومن ثمّ الانطلاق إلى المجالات الأُخرى سواء على مستوى المفاهيم أو الموقف بشكلٍ تدريجيٍّ مع ما كان يتخلّل ذلك من حالات ركودٍ وانقطاعٍ في الوحي.
ب ـ المحتوى الداخلي للظاهرة القرآنية يناقض نظريّة الوحي النفسي:
إنّ للمحتوى الداخلي للظاهرة القرآنية وما تتّصف به من مواصفات، ولسعة النظرية القرآنية وآفاقها المتعدِّدة ومجالاتها المتشعّبة، أهميّة كبرى في رفض نظرية الوحي النفسي، غذ إنّ هذه المواصفات وهذا الاتساع والشمول لا يتفق مع طبيعة الوحي النفسي، إذ إنّ هذه المواصفات وهذا الاتساع والشمول لا يتّفق مع طبيعة المصادر التي تفرضها النظرية، ويتّضح ذلك عندما نلاحظ الأُمور التالية:
1ـ إنّ الموقف العام للقرآن الكريم تجاه الديانتين اليهودية والمسيحية هو موقف المصدِّق لهما والمهيمن عليهما، فقد صدَّق القرآن الكريم الأصل الإلهي لهاتين الديانتين وارتباطهما بالمبدأ الأعلى، ولكنّه في نفس الوقت جاء مهيمناً ورقيباً وحاكماً على ما فيهما من ضلالات.
وجاءت هذه الرقابة دقيقةً شاملة، فلم تترك مفهوماً أو حكماً أو حادثةً إلاّ ووضعت المقياس الصحيح له.
ولا يمكن أن نتصوّر محمّداً (صلّى الله عليه وآله) وهو يأخذ عن أهل الكتاب ويراهم قد أخذوا عن الوحي الإلهي، ومع ذلك يتمكّن من أن يصفهم بالجهل والتحريف والتبديل بمثل هذا اليقين والثبات، ثم يوضِّح الموقف الصحيح في المسائل الكبرى التي اختلفوا فيها أو خالفوا الواقع الصحيح للديانة، ثمّ تأتي نظريّته بعد ذلك كاملةً شاملةً ودقيقة، ليس فيها تناقضٌ ولا اختلاف!
ولكنّ الحقيقة هي أنّ محمّداً لم يكن قد أخذ منهم شيئاً، وإنّما تلقّى كلّ ذلك عن الوحي الإلهي الذي جاء مصداقاً لما سبقه من الوحي ومهيمناً على الانحراف والتّحريف معاً.
2 ـ ونجد القرآن أيضاً يخالف التوراة والإنجيل في بعض الأحداث التأريخية، فيذكرها بدقّةٍ متناهيةٍ ويتمسّك بها بإصرار، في الوقت الذي كان بإمكانه أن يتجاهل بعضها على الأقل، تفادياً للاصطدام بالتوراة والإنجيل.
ففي قصّة موسى، يشير القرآن إلى أنّ التي كفلت موسى هي امرأة فرعون، مع أنّ سِفْر الخروج من التوراة يؤكِّد أنّها كانت ابنته.
كما أنّ القرآن يذكر غرق فرعون بشكلٍ دقيق، ولا يتجاهل حتّى مسألة نجاة بدن فرعون من الغرق مع موته وهلاكه:
{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } [يونس: 92].
في الوقت الذي نجد التوراة تشير إلى غرق فرعون بشكلٍ مبهمٍ، ويتكرّر نفس الموقف في قضيّة العِجْل؛ حيث يذكر التوراة أن الذي صنعه هو هارون، وفي قصّة ولادة مريم للمسيح (عليهما السلام) وغيرهما من القضايا.
ولا يصح لمحمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) وهو الإنسان الصادق الأمين الذكي أن يذكر هذه التفاصيل التي لا وجود لها في التوراة والإنجيل، فيصطدم بالتوراة والإنجيل دون سببٍ معقول، لولا أن يكون قد تلقّى ذلك عن طريق الوحي الإلهي الذي لا يستطيع مخالفته.
3 ـ إنّ سعة التشريع الإسلامي وعمقه وشموله للمجالات المختلفة من الحياة، مع دقّة التفاصيل التي تناولها، والانسجام الكبير بين هذه التفصيلات، برهان واضح على تلقّيه ذلك عن طريق الوحي؛ إذ لم يكن محمّدٌ ـ وهو الإنسان الأُمّي، الذي كان يعيش في ذلك العصر المظلم، كما أنّه قضى أكثر حياة دعوته في خِضَمّ الصراع الاجتماعي ـ ليتمكن بصفته إنساناً أن يفعل ذلك لولا أن يكون قد تلقّى ذلك عن طريق الوحي والسماء.
ج ـ موقف النبي من الظاهرة القرآنية شاهد على رفض نظريّة الوحي النفسي(11) :
إنّ موقف النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) هو من أفضل الشواهد على بطلان نظريّة الوحي النفسي ، فقد كان النبيُّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) يدرك بشكلٍ واضح الانفصال التام بين ذاته المتلقّية والذات الإلهيّة الملقية من أعلى.
وهذا الإدراك هو حقيقة الوحي الذي أشرنا إليه سابقاً، وقد صوّر الرسول (صلّى الله عليه وآله) هذا الوعي والإدراك في مناسبات متعدِّدة، وأوضحه للمسلمين فيما روى عنه، حيث قال:
(أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عني وقد وعيت ما
قال، وأحياناً يتمثّل لي الملك رجلاً فيكلّمني فأعي ما يقول) (12).
وقد انعكس هذا الشعور الواعي بالانفصال في الوحي، بين الذات الإلهيّة الآمرة المعطية والذات المحمّدية المخاطَبة المتلقِّية على الظاهرة القرآنية ونصوص القرآن الكريم.
وكان له مظاهر عديدة نذكر منها الأشكال الثلاثة التالية:
الشكل الأوّل:
الصورة التي يبدو فيها النبيُّ من خلال الظاهرة القرآنية عبداً ضعيفاً لله سبحانه، يقف بين يدي مولاه يستمدُّ منه العون ويطلب منه المغفرة ويمتثل أوامره، ونواهيه، ويتلقّى منه العقاب بمختلف مراتبه وأشكاله؛ والأمثلة القرآنية على ذلك كثيرة:
1 ـ فالقرآن يصوِّر محمّداً (صلّى الله عليه وآله) في صورة الإنسان المطيع الذي لا يملك لنفسه شيئاً، ويخاف ربّه إن عصاه، فيلتزم الحدود التي وضعها له ويرجو رحمته، وليس من شيءٍ يأتيه إلاّ من قِبَل ربّه، فهو يعترف بالعجز المطلق تجاه إرادة الله أو تبديل حرفٍ من القرآن:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [يونس: 15، 16].
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ...} [الكهف: 110].
{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ...} [الأعراف: 188].
{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ... } [الأنعام: 50].
ومن يقرأ هذه الآيات القرآنية ونظائرها ويترك لوجدانه الحكم، لا يسعه إلاّ أن يقتنع من أعماق قلبه ونفسه بالفَرْق بين الذات الإلهيّة الآمرة المُلْقِية والذات المحمّدية المطيعة المتلقِّية.
2 ـ ثمّ يزداد هذا الفرق وضوحاً بين ذات الله المتكلِّم مُنْزِل الوحي وصفاته، وبين ذات رسوله المخاطَب متلقِّي الوحي وصفاته في الآيات التي يعتب الله فيها على نبيِّه عتاباً خفيفاً أو شديداً، أو يعلِّمه فيها بعفوه عنه وغفرانه ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر.
فمن العتاب الخفيف المقترن بالعفو خطابه لرسوله في شأن من أذِن لهم بالقعود عن القتال في غزوة تبوك:
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } [التوبة: 43].
أو في موضعٍ آخر حين يقول:
{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } [الفتح: 2].
وأشد من هذا ما يُوجّه إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) من الإنذار والتهديد في مثل قوله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]
حيث ورد ذلك في قضيّة الإعلان بولاية عليٍّ (عليه السلام) للأمر بعد النبي، الذي تمّ في يوم الغدير؛ حيث تردّد النبيُّ في ذلك خوفاً من تكذيب المنافقين له، أو ردّهم لهذا الأمر وادّعائهم أنّ هذا الأمر بدوافع القرابة والمحبّة الشخصيّة، أو قوله تعالى:
{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } [الإسراء: 73 - 75].
وهذا الإنذار يبلغ القمّة، فيستصغر بعده كلّ تهديد وكلّ وعيد حين يقول الله تعالى:
{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 - 47].
ومن خلال هذه الآيات المتوعِّدة المُنْذِرة وتلك المعاتِبة المؤدِّبة يبدو لنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مخلوقاً ضعيفاً بين يدَي ربِّه ذي القدرة القاهرة، والقوى الكبرى والإرادة التي لا معقب لها.
3 ـ ويبدو لنا أيضاً: كامل الوعي للفَرْق بين ذاته المأمورة وذات الله الآمرة، وبوعيه الكامل هذا كان (عليه السلام) يُفرِّق بوضوحٍ بين الوحي الذي ينزل عليه وبين أحاديثه الخاصّة التي كان يُعبِّر عنها بإلهامٍ من الله، لذلك كان يتعامل مع القرآن بطريقةٍ خاصّة، حيث نهى (عليه السلام) أوّل العهد لنزول الوحي عن تدوين شيءٍ عنه سوى القرآن؛ لكي يحفظ للقرآن صفته الربّانيّة، ويحول دون اختلاطه بشيءٍ ليست له هذه الصفة القُدسيّة(13)، بينما كان عند نزول الوحي ـ ولو آية أو بعض آية ـ
يدعو أحد الكتبة فوراً ليدوِّن ما نزل من القرآن، وأمّا أحاديثه الأُخرى وحتّى الأحاديث القدسيّة فكان يترك أمرها للمسلمين ليحفظوها بطريقتهم الخاصّة.
الشكل الثاني:
يبدو النبيُّ في القرآن الكريم بمظهر الخائف من ضياع بعض الآيات القرآنية ونسيانها، الأمر الذي كان يدعوه إلى أن يعجِّل بقراءة القرآن، قبل أن يُقضى إليه وحيه ويأخذ بترديده ويُجْهِد نفسه وفكره من أجل أن لا يفوته شيءٌ من ذلك، ويتّضح هذا في قوله تعالى:
{.... وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [طه: 114].
ومن أجل ذلك يطمئنه سبحانه ويتعهد له بحفظه وجمعه:
{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 - 19].
ولا يسعنا إزاء هذه الحقيقة إلاّ أن نعترف باستقلال ظاهرة الوحي عن ذات النبي استقلالاً مطلقاً، وتفرّدها عن العوامل النفسيّة تفرّداً كاملاً، فالنبيُّ لا يملك حتّى استخدام ذاكرته في حفظ القرآن، بل الله يتكفّل بتحفيظه إياه، وقانون التذكّر نفسه بطل الآن سحره وعفا أثره تجاه إرادة الله.
فكيف لا يعي النبيُّ ـ بعد هذا كلِّه ـ الفرق العظيم بين ذاته المأمورة وذات الله الآمرة، وهو يرى بنفسه أنّه لا يملك من أمر نفسه شيئاً؟!
الشكل الثالث:
يبدو النبيُّ من خلال تأريخ نزول القرآن أنّه كان مقتنعاً بأنّ التنزيل القرآني مصحوبٌ بانمحاء إرادته الشخصيّة، وأنّه منسلخٌ عن الطبيعة البشرية حتّى ما بقي له (عليه الصلاة والسلام) اختيار فيما ينزل إليه أو ينقطع عنه؛ فقد يتتابع الوحي ويحمي حتّى يشعر أنّه يكثر عليه، وقد يفتر عنه بل وينقطع وهو يشعر أنّه أحوج ما يكون إليه.
فقد كان الوحي ينزل على قلبه (صلوات الله عليه) في أحوال مختلفة:
إنّه ليأوي إلى فراشه فما يكاد يغفو إغفاءةً حتّى ينهض ويرفع رأسه مبتسماً، فقد أُوحيت إليه سورة الكوثر (الخير الكثير) وإنّه ليكون وادعاً في بيته وقد بقي من الليل ثلثه، فتنزل عليه آية التوبة في الثلاثة الذين خُلِّفوا:
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }[التوبة: 117-118].
إنّ الوحي لينزل على قلب النبيِّ في الليل الدامس والنهار الإضحيان وفي البرد القارس أو لظى الهجير، وفي استجمام الحضر أو أثناء السفر، وفي هدأة السوق أو وطيس الحرب.
ثمّ ها هو ذا الوحي ينقطع عن النبي، وهو أشدّ ما يكون إليه شوقاً وله طلباً، فبعد أن نزل عليه جبريل بأوائل سورة العلق:
{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق: 1]
فتر الوحيُ ثلاثَ سنواتٍ فحزن النبي.
ثمّ حمى الوحيُ وتتابع فاستبشر النبيُّ وتبدَّل انتظاره الحزين فرحةً غامرة، وأيقن أنّ هذا الوحي الذي استعصى عليه ولم يوافه طوع إرادته، مستقلٌّ عن ذاته خارجٌ عن فكره، فاستقرّ في ضميره الواعي أنّ مصدر هذا الوحي هو الله علاّم الغيوب.
ومَن ذا الذي ينسى كيف أبطأ الوحي بعد (حديث الإفك) الذي رمى به المنافقون زوج النبي (صلّى الله عليه وآله)، وأثاروا به حولها الفضيحة حتّى عصفت بقلب الرسول الريبة.
من ذا الذي لا يدرك أنّ هذه المدّة التي تصرّمت على الحادثة من غير أن يتلقّى النبيُّ خلالها وحياً، كانت أثقل عليه من سنين طويلة؛ بعد أن خاض المنافقون في زوجه خوضاً باطلاً؟
فما بالُ النبيِّ الذي كان فريسةً للشكِّ والقلق، يظل صامتاً ينتظر واجماً يتربّص حتّى نزلت آيات سورة النور تُبرّئ أمّ المؤمنين؟
وما له لا يُسرِع إلى التدخّل في أمر السماء ـ إذا كان الوحي نفسيّاً ـ فيرتدي مسوح الرهبان، ويهيئ الأسجاع ويطلق البخور، ويبرئ زوجه من قذف القاذفين؟
ولقد كان النبيُّ يتحرّق شوقاً إلى تحويل القِبلة إلى الكعبة، وظلّ يُقلِّب وجهه في السماء ستّة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، لعلّ الوحي ينزل عليه بتحويل القِبلة إلى البيت الحرام، ولكنّ ربّ القرآن لم يُنزل في هذا التحويل قرآناً، رغم تلهّف رسوله الكريم إليه، إلاّ بعد قُرابة عامٍ ونصف العام:
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...} [البقرة: 144].
فلماذا لم يُسعَف النبيُّ بوحيٍ عاجلٍ يحقِّق ما يصبو إليه ويتمنّاه؟
إنّ الوحي ينزل ويكثر على محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) حين يشاء ربُّ محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) ويفتر إذا شاء له ربُّ محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) الانقطاع، فما تنفع التعاويذ والأسجاع، ولا تقدِّم عواطف محمّدٍ (صلّى الله عليه وآله) ولا تؤخِّر في أمر السماء.
وين نلتفت إلى هذه الأشكال الثلاثة بصورها المختلفة، ونضيف إليها البُعدين الآخرين السالفين، لا يبقى لدينا مجالٌ لأيّ تردد في شأن حقيقة الظاهرة القرآنية، وانفصالها عن الذات المحمّدية، وبطلان الوحي النفسي وما إليه من شبهات قد تُثار.
1- منها : الأنبياء: 21، والدخان: 14، والفرقان: 5 والنحل: 103، وغيرها.
2- لسان العرب 15: 381 مادّة (وحي).
3- قارن ذلك بما ذكره الدكتور صبحي الصالح في كتابه (مباحث في علوم القرآن(.
4- فتح الباري 1: 18. دار المعرفة، بيروت.
5و6- صحيح مسلم 15: 89. دار إحياء التراث العربي. بيروت.
7- بحار الأنوار 18: 262 رقم 16 عن تفسير العيّاشي.
8- بحار الأنوار 18: 268 رقم 30 عن أمالي الشيخ الطوسي، ورواه البرقي في المحاسن بسندٍ مُعتَبر بهذا المعنى.
9- المصدر السابق.
10- كما عرفنا في بحث إعجاز القرآن وأشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى:
{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].
11- لخصّنا هذا الموضوع ـ بتصرّف ـ عن الدكتور صبحي الصالح في كتابه (مباحث علوم القرآن) : 28 ـ 38 وهو بدوره أخذه ـ كما يظهر ـ من الدكتور محمّد عبد الله دراز في كتابه (النبأ العظيم) ومالك بن نبي في كتابه (الظاهرة القرآنية.(
12- بحار الأنوار 18: 260.
13- هذا النهي رواه بعض المؤرِّخين، وإذا صح فهو بالنسبة إلى عامّة الناس لا الخاصّة منهم : كعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وغيره ممّن كان يميّز بوضوحٍ بين القرآن وغيرن، وإن كنّا نشكّ أصلاً في وجود مثل هذا النهي، وعلى أيِّ حالٍ فيكفي في هذا الأمر اهتمام النبي بتدوين القرآن بشكلٍ مضبوطٍ على ما عرفنا في بحث ثبوت النص القرآني.
|
|
5 علامات تحذيرية قد تدل على "مشكل خطير" في الكبد
|
|
|
|
|
لحماية التراث الوطني.. العتبة العباسية تعلن عن ترميم أكثر من 200 وثيقة خلال عام 2024
|
|
|