أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-08-08
467
التاريخ: 2024-02-05
854
التاريخ: 2023-12-19
1069
التاريخ: 2024-03-11
862
|
في الطرف الأقصى من غربي الدولة الفارسية الضخمة، احتكَّ الفُرس باليوانة المعروفين عند العرب باليونان، وعند الإفرنج بالهلين. وهذا الاحتكاك كان يُسبِّب قلقًا دائمًا لكلٍّ من الطرفين، ولا سيما لأصحاب تلك المدن الآسيوية التي كانت كل منها دولة قائمة بنفسها تريد الاستقلال والتمتُّع بحريتها، وألا يكون على سكانها رئيسٌ يراقب أعمالهم ويسيطر عليهم سوى آلهتهم وشرائعهم، وكان في الجانب الآخر من بحر إيجى أُناس آخرون من عنصرهم يطوون بساط أيامهم في البلقان، وهي دار أصل قوميتهم، وهي «الهلاس»؛ أي بلاد الهلين إن أُطلق هذا اللفظ. وكان اليونان الذين في آسية يشتدون همةً ويزدادون رغبة في العصيان كلما وردهم عون أو أيد من إحدى تلك المدن أو من عدة مدن من المدن الواقعة وراء البحر. وقد كان تمالؤ هؤلاء أولاد الأعمام منذ البدء؛ ولهذا كنت ترى الإيرانيين الفاتحين واليوانة الجمهوريين في قراعٍ ونزاعٍ دائمَين. وبعد أن فتح كورش لوذيتها وليدية ونصف العالم المعروف كان يومئذٍ عند قدميه، جاءه ذات يوم وهو في سردس وفد قادم من مدينة صغيرة من مدن يوانة، واقعة في غربي إيجى اسمها «إسبرطة»، فلما مثُل بين يديه قال له: «لا تَضع يدك على مدينة من المدن اليونانية؛ لأن الإسبرطيِّين يستنكفون من ذلك.» فلما وقف كورش على قوة موفديهم لم يخشهم، لكنه عزم هو وابنه خشايرشا أن يستأصلا شأفة هذا الداء حسمًا للقلق وقمعًا لجماح أولئك المتغطرسين، فيسحقاهم في عُقر دارهم. فجيَّش دارا جيشًا عليهم، لكنه لم يصل؛ لأن الأثِنين قاموا عليه (سنة 490 ق.م)، واضطرُّوه إلى العود إلى السفن التي نقلَته حينما نزلوا على سواحل أتيكة. فنهض ابنه خشايرشا، وسار في جيوش رجراجة على طريق تراقية ومكدونية، فلما وصل بلاتيا نُكب فيها نكبة عظيمة (سنة 479ق.م) لم يَنسَها الفُرس؛ إذ وطَّنوا أنفسهم على القعود مدة جيل أو جيلين لينسوا أوتينا سوءَ كسرة خشايرشا. فلما رأى هذا الأمر اليونان، أخذَت مدنهم تنسلخ عن الفُرس الواحدة بعد الأخرى، ومدينة آثينة تمالئهم على عملهم عملًا بمعاهدة بحرية عُقِدَت عراها معهم، وبعد أن فكَّر الفُرس في حيلة يحتالونها على أعدائهم وجدوا وسيلة موقنة يفككون بها ما تحكَّم من عُرى ذلك التحالف، وتلك الوسيلة هي إلقاء بذار الفتن والتباغُض والتشاحُن بين المدن اليونانية، وإثارة الواحدة على الأخرى، فنجحوا بفضل ما صرفوه من الأبيض الفتَّان والأصفر الرنَّان، وهي طريقة عُرفت في الشرق منذ القديم، ولا تزال جارية فيه إلى يومنا. وتمكَّن ملوك الفُرس في آخر الأمر من إخضاع يونان آسية لصولجانهم مرة أخرى، وإكراههم على أداء الجزية وإيواء الحامية في مدنهم، ولو كانت تلك الثغور يومئذٍ في مأمنٍ من كل هجوم أو غارة، وكان إذا عرض لقُوَّاد الجيوش اليونانية أو لمرازبة الفُرس العُصاة حدث خروج على الحكومة الفارسية في غربي مملكتهم فإنهم كانوا يجدون دائمًا بين اليونان أُجرَاء يأتمرون بأمرهم وينتهون بنهيهم، ولضيق المقام لا نورِد هنا إلا شاهدًا واحدًا إثباتًا لما نقول؛ وذلك أن أخ أرتحششتا الثاني تربَّع على أريكة المملكة بواسطة جيش من الأُجراء اليونان، حتى بلغ به إلى الفرات في موضعٍ يسامت بغداد (سنة 399 ق.م)، والحق يُقال كان اليوانة جذوة نار دائمة، وجرثومة اضطراب وفِتَن في تخوم الدولة من جهتها الغربية، وكانوا أشد بلاء من الأقوام الطوارئ التي نزحَت من قلب آسية، فسبَّبت تلك القلاقل والزعازع في تخومها الشرقية، بل كانوا أسوأ مغبَّة من الأقوام العُتاة الطُّغاة أقوام الهِضاب، مثل الكشيين الذين كان يدفع إليهم الجزية الملك الأكبر نفسه لمَّا كان يذهب إلى بابل وإصطخر مارًّا بديارهم الجبليَّة. ومن الغريب أن هذه الدول الهلنية التي أقلقت كل الإقلاق وقتئذٍ بابل وشوشن، وأضرَّت بالمجتمع البشري لِما كانت تُسبِّبه من الفتن والإحن، صارت بعد حين أعظم أمَّة نفعَت أبناء آدم، اللهم إذا استثنينا شرذمة اليهود التي خرج منها نور العالم، وإلا فإن أولئك اليونان كانوا قد ولجوا مقامًا جديدًا من الأفكار في تلك المدن اليونانية، مقامًا نُسميه اليوم: «تمدُّن الغرب» مع سيادته العُظمى على الطبيعة المادية التي هي من نتيجته، وأخذوا يُحرِّرون أفكارهم مما كان يُنقَل عن السلف من العوائد والعقائد، تحريرًا لم يسبقهم إليه سابق، وكانوا يُمحِّصون كل شيء بعد أن يعرضوه على نار العقل ونوره، ليعرفوا زائفه من خالصه، وممن اشتهر منهم وبرز في هذا الميدان: طالس الفيلسوف، أو ثالس، من مليطس بالقرب من أفسس على الساحل الآسيوي، فإنه بعد أن زار ديار مصر وقسمًا من آسية، واقتبس كثيرًا من علوم ومعارف تلك الأرجاء، أصبح أبا العلم عند اليونان، قيل: وكانت ولادته سنة 636 ق.م، وقيل: 640 ، ولا يُعرف من أمره شيء على التحقيق، إلا أنه يُعتبر مُنشِئ الفلسفة اليونانية وأباها، وله معارف جليلة في الرياضيَّات والفلكيات، وهو أول مَن علَّم الهندسة في ديار اليونان، ويُنسب إليه عدة نظريات في هذا العلم، ويُقال إنه هو أول مَن قاس سمكة الأهرام المصرية بالمقابلة بين ظلها في الهاجرة وظل جسم آخر، طبقًا للسادسة من قضايا إقليدس، وقد حاول أن يُؤوِّل تأويلًا طبيعيًّا أصل العالم، مخالفًا في ذلك ما اتصل إليه من تواتر الخلف عن السلف، ناظرًا إليه نظره إلى حديث خُرافة، وذهب إلى أن كل شيء صُنع من الماء المتخثِّر قليلًا أو كثيرًا. لا جرمَ أن هذا التأويل تأويل أعمى، لكنه كان منبثق العلم الحديث. وكان اليونان قد بدئوا أيضًا في البحث عن أمر الخير والشر الواقع بين البشر ليعرفوا سِيَر الدول وتنظيمها، وفي كل مباحثهم لا يُلقون الكلام على عواهنه كما في السابق، زعمًا أن «هذا ما نُقل إلينا عن آبائنا»، بل رفعوا المسألة إلى قولهم: «ما أحسن وجه يُوجَّه إليه هذا الأمر في نظر العقل؟» فالجري على هذا المنحى من تدبُّر الحقائق دفع القوم إلى رقي دائم، ومنذ ذلك الحين بدأ اليونان ينظرون إلى الطبيعة بعين البصيرة لا بعين البصر، وجدُّوا في أن يمثِّلوا الأشياء بصورتها الحقيقية، ولا سيما هيئة الإنسان، فجرَّهم هذا الجد إلى إتقان الصناعة أيَّ إتقان، حتى بلغوا فيها مبلغًا لم يصل إليه قبلهم أحد، إن كان من جهة إدراك الحقيقة المنشودة، وإن كان من جهة شعورهم بمحاسن الجمال؛ فلقد أبرز اليونان في أيام الدولة الفارسية من مآثر الآداب اللغوية العُظمى ما جعله أساسًا للآداب اللغوية الحالية، لا سيما في أوروبة، ولقد وجد نتائج عقلهم هذا معدنًا في مزاجهم الأدبي الخاص بهم، ولا سيما في مزاج أبناء الدول اليونانية ما لا غاية وراءه، وكان اليونان شديدي الوطنية الضيقة الفكر، كثيري التعصُّب لعنصرهم، حتى كانوا يكرهون كل الكراهية مَن يقول بأنها دويلة لا دولة، وكانوا ينفثون في صدور أبنائهم أنهم أُناس أحرار، وأن مقامهم فوق مقام الآسيويين؛ لأنهم كانوا يرون كأنهم خُلقوا للذل والرِّق؛ إذ كثيرًا ما كانوا يشاهدونهم يخرُّون سُجَّدًا لرؤسائهم البشر ويتضاءلون بين أيديهم أمر ما كان يستنكف منه اليونان، وما كانوا يُريدون أن يقوموا به إلا أمام صور معبوداتهم.(1) فأخلاقيات اليونان وعقليَّاتهم الجديدة وصناعيَّاتهم وأدبيَّاتهم هي ما يُطلق عليها اسم «الهلنية، أو الخصائص اليونانية» نسبة شاذة إلى بلاد هلاس، التي هي بلادهم الأصلية، على ما ألمعنا إليه قبل هذا، كما قالت العرب رازي، في النسبة إلى ري. ويجوز لنا أن نقول: إن في هذا اليوم الذي مَثُلَ رسول إسبرطة بين يدي كورش في سردس بدأت منازعة عظيمة بين هلاس وإيران في أيهما يملك غربي آسية الصغرى، ودامَت هذه المنازعة بين القومَين أكثر من ألف سنة، كان فيها الظفر للهلنية. ولا جرمَ أن الفُرس عرفوا ما لحضارة اليوانة من المنزلة والرِّفعة ولو بعض المعرفة، يشهد على ذلك أنهم كانوا قد أبقَوا عندهم في قصور ملوكهم بعض أطباء يونان لما شاهدوا فيهم من الكفاءة وسعة الاطلاع، وكان أغلب الإيرانيين احتكاكًا باليوانة الأشراف منهم الذين كان لهم ماشية في آسية الصغرى، والذين ربطتهم بهم منفعتهم في المعاملات اليومية أو في الأفكار الجديدة التي أدخلها هؤلاء الناس المتنوِّرون، لكن لم يُفكر الإيرانيون قط بأن اليونان يُكوِّنون يومًا دولة تُمكِّنهم من السيادة في آسية؛ لأنهم كانوا معروفين بحب الفتن والقلاقل والتخاذل والتنازُع وشق العصا، أما في بلاد اليونان نفسها (أي إغريقية) فكان قد انتشر في النصف الأول من القرن الرابع أن تخاذل اليونان هو الحائل المكين دون سيادتهم، وهي وحدها تمكِّنهم من القبض على أعِنَّة العالم؛ ولذلك قامت فيهم دعوة إلى بث توحيد الكلمة ولمِّ شعث الأمة كلها، فكانت حقيقة دعوة إلى الجامعة الهلنية تضافروا فيها وتعاونوا ليحملوا حملة واحدة على الإيرانيين. وقد عرض إيسقراطس الهجَّاء أن يكون على رأس هذه العصابة ملك مكدونية، التي كان أهاليها مرتبطين باليونان نَسبًا، وكان رؤساؤها المدبِّرون لشئونها قد انحازوا إلى الهلنية في قسْمها الأعظم.
...........................................
1- إنَّ وَهْمَ اليونان هذا مبني على مشاهدتهم تكفير الفُرس لملوكهم، والتكفير هو أن يخضع العلج للملك بأن يضع يده على صدره ويُطأطئ رأسه ويتظامن تعظيمًا له، ولم يَعُنَّ في بلاد الفُرس أن يعبدوا ملوكهم، كما لم يخطر في فكر ملوكهم أن تعبدهم رعاياهم، وإنما اليونان المنحطون عن منزلتهم هم الذين أدخلوا في آسية اليونانية أعمال تأليه الملوك.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|