أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-8-2020
1393
التاريخ: 5-2-2017
1443
التاريخ: 26-1-2023
1304
التاريخ: 2023-06-11
930
|
ثمة الكثير من «الصدف السعيدة» في الفيزياء الأساسية تجعل الكون ملائما لاستضافة الحياة. من الأمثلة الأخرى كتل الجسيمات دون الذرية المتنوعة. يضع الفيزيائيون جداول لها، ويضعون بها أرقامًا مبهرة، بيد أنها من الظاهر لا تحمل أي معنى على الإطلاق. دائمًا ما أتلقى العديد من المخطوطات من علماء هواة ذوي عقول حالمة يعتقدون أنهم حددوا أنماطاً معينة للقيم العددية لهذه الكتل. لكن مما يؤسف له أن كل هذه الأفكار غير سليمة. ربما في يوم ما يتمكن المنظرون من استقاء هذه الأرقام من بعض المبادئ الرياضية الأعمق المرتبطة بنظرية فيزيائية ملائمة، لكن ليس من المرجح حدوث هذا في وقت قريب. في الوقت ذاته يمكننا اعتبار هذه الأرقام كمسلمات والتحديق بها، والتساؤل عما تعنيه للحياة.
لتدرك ما أعني تدبر ما يلي؛ النسبة بين كتلة البروتون وكتلة الإلكترون هي 1836.1526675، وهو رقم عادي لا شيء استثنائي فيه، وتبلغ النسبة بين كتلة النيوترون وكتلة البروتون 1.00137841870، وهو رقم لا يوحي بشيء هو الآخر. من الناحية المادية يعني هذا الرقم أن البروتون يحمل تقريبا نفس كتلة النيوترون؛ الأثقل، كما رأينا من قبل، بحوالي 0.1 بالمائة. هل هذه الحقيقة مهمة؟ في الواقع هي كذلك، ولا تقتصر أهميتها على تحديد نسبة الهيدروجين إلى الهليوم في الكون. إن حقيقة أن كتلة النيوترون يتصادف أنها أكبر بقدر طفيف من مجموع كتلة البروتون والإلكترون والنيوترينو مجتمعة هي التي تمكن النيوترونات الحرة من التحلل. فإذا كانت النيوترونات أخف ولو بقدر طفيف «جدا» فلن تتمكن من التحلل دون الاستعانة بطاقة خارجية من نوع ما. ولو كانت النيوترونات أخف ولو بنسبة واحد بالمائة فستكون كتلتها أقل من كتلة البروتونات، وسينقلب الحال؛ إذ ستكون البروتونات المنفردة، وليس النيوترونات غير مستقرة. وقتها ستتحلل البروتونات إلى نيوترونات وبوزيترونات، وهو ما سيكون له تداعيات خطيرة على الحياة؛ لأنه من دون البروتونات لن توجد ذرات أو كيمياء.
يقدم علم الكونيات أمثلة أخرى لافتة للنظر على الضبط الدقيق. يُغطى إشعاع الخلفية الكوني بتموجات أو اضطرابات مهمة للغاية؛ إذ إنها تعكس بذور البنية الكلية للكون. هذه البذور، يُعتقد بأنها نشأت في التفاوتات الكمية التي وقعت إبان التضخم من الناحية العددية هذه التفاوتات لها حجم صغير؛ حوالي جزء واحد في كل مائة ألف جزء، وهي الكمية التي يشير لها علماء الكونيات بالحرف Q. لو حدث أن كان Q أصغر من واحد على مائة ألف واحد على مليون مثلا، فسيمنع هذا المجرات والنجوم من التكون. وعلى العكس، لو كان Q أكبر؛ جزء في العشرة آلاف أو أكثر، فستكون المجرات أكثر كثافة، وهذا سيؤدي إلى المزيد من التصادمات النجمية المخلة بنظام الكواكب. إذا كان Q كبيرًا للغاية فسينتج عن ذلك ثقوب سوداء عملاقة بدلًا من عناقيد النجوم في شتى الحالات يحتاج Q أن يستقر في نطاق ضيق محدد كي يسمح بتكون نجوم مستقرة طويلة العمر وفيرة العدد مصحوبة بنظم كوكبية من النوع الذي نسكنه.
المثال الأعظم على الضبط الدقيق في الكون
وصفت الطاقة المظلمة بأنها قوة طرد - أو جاذبية مضادة - كونية تبعد المجرات بعضها عن بعض بمعدل متزايد. بيد أن هذا الوصف مضلل بعض الشيء؛ لأن الجاذبية المضادة تظل تعمل حتى في حالة عدم وجود المادة العادية على الإطلاق. فإننا لو وضعنا في الاعتبار قوى الطرد الكونية فسيتمدد الكون الخاوي تمامًا بصورة «أسّية»؛ أي يتضاعف في الحجم على فترات منتظمة من الوقت. خلاصة القول هو أننا نستطيع التفكير في الفضاء الخاوي على أنه مليء بطاقة مظلمة غير مرئية وما يرتبط بها من ضغط سالب، وهذا المزيج هو ما يخلق الجاذبية المضادة.
لماذا أن يجب يحتوي الفضاء الخاوي على طاقة مظلمة؟ لماذا لا يكون خاويا وحسب، دون وجود أي طاقة من أي نوع؟ هناك سبب لذلك، يتمثل في أن الفضاء سيحتوي على طاقة مظلمة لو كان يتخلله مجال قياسي غير مرئي، مثل مجال التضخم. لن نقدر على رؤية هذا المجال أو لمسه، لكنه سيولد جاذبية مضادة، وهو نفس ما يفترض حدوثه بقوة إبان مرحلة التضخم للكون المبكر للغاية. لكن هناك سببًا آخر تقدمه لنا ميكانيكا الكم التي تتنبأ بأنه حتى الفضاء الخاوي يمتلئ بجسيمات افتراضية. تحمل الجسيمات الافتراضية طاقة على غرار الجسيمات العادية، ويتضح لنا أنها تحمل أيضًا مقدار الضغط السالب المطلوب لتوليد قوى طرد كونية من النوع الذي اقترحه أينشتاين. حين أدرج أينشتاين قوى الطرد الكونية «عنوة» في نظرية النسبية العامة، لم تستطع النظرية نفسها تحديد قيمتها كانت له حرية اختيار أي رقم يريده كي يضرب فيه طرف الجاذبية المضادة في المعادلة ومن ثم يحدد مدى شدة قوة الطرد الكونية الكلية. حدث أن استخدم أينشتاين البيانات الفلكية لحساب قيمة مقبولة تسمح بوجود كون ثابت، وهو النموذج الأثير لديه. حين غير أينشتاين رأيه حيال الكون الثابت، كان كل ما عليه عمله هو تعديل الرقم الذي يُضرب فيه طرف الطرد الكوني في المعادلة إلى الرقم صفر، وبهذا يلغي ذلك الطرف من المعادلات بالكامل. مثل هذا المنهج السريع غير الدقيق لحساب قوة الطرد الكونية، أو الجاذبية المضادة، قد يكون مبررًا إذا كان تحليلنا يقتصر على قوة الجاذبية وحدها، لكن حين تدخل ميكانيكا الكم الصورة فلن يفلح الأمر.
منذ حوالي ثلاثين عامًا قرر عدد من علماء الفيزياء النظرية، بمن فيهم أنا، تحديد مقدار الطاقة المظلمة التي ستتولد من جميع الجسيمات الافتراضية التي تقطن الفراغ الكمي. يمكن لنا التفكير، مثلا، في المجال الكهرومغناطيسي وتحديد مقدار طاقة الكم الكامنة في حجم معين من الفضاء الخاوي (أي الذي لا يحوي أي فوتونات). ليس حساب ذلك بالأمر العسير؛ بل يمكن الوصول لإجابة تقريبية بعمل بعض الحسابات على ظهر مظروف. إلا أن الإجابة، لسوء الحظ، يستحيل تصديقها. فبتحويلها إلى كثافة للمادة يكون الناتج حوالي 1093 جرام في السنتيمتر المكعب؛ ما يعني أن ملء كستبان من الفضاء الخاوي من المفترض احتواؤه على مليون مليار مليار مليار مليار مليار مليار مليار طن علق ستيفن هوكينج على هذا الأمر ذات مرة مازحًا بقوله: إن هذا بالتأكيد أكبر فشل لنظريات الفيزياء في التاريخ. كيف وقعنا في مثل هذا الخطأ؟19
في مواجهة مثل هذا الإحراج الكبير عمد علماء الفيزياء للبحث عن تفسير. ربما توجد آلية اختزال من نوع ما. إن المجال الكهرومغناطيسي ما هو إلا واحد من مجالات عديدة في الطبيعة، وبعض المجالات الأخرى تسهم بطاقة مظلمة سالبة. ربما يوجد تناظر عميق يجعل القوى الموجبة والسالبة يلغي بعضها بعضًا إلغاء تامًا. وفي الواقع يوجد بالفعل هذا النوع من التناظر، وهو التناظر الفائق المشكلة هي أننا نعرف أن التناظر الفائق لا يعمل في العالم الحقيقي، وما لم يكن التناظر تاماً فلن تلغي التأثيرات الموجبة والسالبة بعضها بعضًا. جربت أفكار عديدة أخرى، لكنها جميعًا بدت ملفقة. ومع ذلك كان من الممكن أن نؤمن - بل آمن بالفعل بعض علماء الفيزياء والكونيات - بأن آلية فيزيائية «من نوع ما» هي التي قادت قيمة الطاقة المظلمة (أو) قوى الطرد الكونية إلى الصفر بالضبط.20
تحطمت هذه الآمال تمامًا حين اكتشف علماء الفلك أن الطاقة المظلمة لا تبلغ قيمتها صفرًا بأي حال كان هذا الأمر صادمًا؛ إذ اتضح أن قيمة كثافة كتلة الطاقة المظلمة التي قاسها العلماء تبلغ عشرة أس 120 أقل من القيمة الطبيعية التي نحصل عليها من تطبيق نظرية الكم على الجسيمات الافتراضية في الفراغ. حين كانت قيمة الطاقة المظلمة تبلغ الصفر، كان على الأقل من المقبول الاعتقاد بأن آلية ما سيتم اكتشافها مستقبلا، هي التي تعمل على فرض هذا الاختزال بشكل تام. لكن، كما عبر ليونارد ساسكيند،21 فإن الآلية التي تلغي حتى أس واحد من 120 أس ثم تتوقف بعد ذلك هي شيء مختلف بشكل كلي. لإعطاء القارئ فكرة عن كيف يبدو هذا الاختزال شبه التام وكأنه عملية ضبط مقصودة، سأكتب لك الرقم عشرة أس 120 کاملا:
10000000000000000000000000000000000000000
0000000000000000000000000000000000000000
0000000000000000000000000000000000000000
وهكذا تعمل عملية الضبط المقصودة هذه22 بشكل رائع (إن لم يكن غامضًا طيلة عشرة أس 119 ضعف، لكنها تتوقف بعد أن تبلغ عشرة أس 120.)
مهما تكن ماهية الطاقة المظلمة - وقد تكون هي الطاقة الطبيعية للفضاء الخاوي - فهي طاقة خطيرة. في الحقيقة، قد تكون هذه الطاقة أخطر شيء يعرفه العلم. منذ حوالي عشرين عامًا، أوضح ستيفن واينبرج أنه لو كانت شدة الطاقة المظلمة أكبر ولو بشكل بسيط من قيمتها المدركة فستعمل على كبح عملية تكون المجرات.23 تتكون المجرات عن طريق التجمع البطيء للمادة بفعل قوة الجاذبية. إذا قوبل هذا بقوة طرد كونية قوية بما يكفي فلن تتمكن المجرات من النمو بالشكل الملائم. وكما قلت من قبل فإنه دون المجرات لن تكون هناك نجوم أو كواكب على الأرجح، ولا حتى حياة. هكذا يعتمد وجودنا على كون الطاقة المظلمة غير قوية للغاية. إن فارق عشرة أضعاف يكفي لمنع الحياة من الظهور؛ بمعنى أنه لو كان الكون يحتوي على عشرة أضعاف مقدار الطاقة المظلمة التي يحتوي عليها الآن إذن لتمدد بسرعة بالغة تمنع المجرات من التكون. قد يبدو فارق عشرة أضعاف كالهامش الواسع، لكن أسا واحدًا من 120 أسا يعد فارقًا تافها للغاية. إن العبارة التقليدية: «الحياة معلقة على حافة سكين.» هي وصف لا يفي موقفنا الحالي حق قدره؛ فلا يوجد في الكون بأسره سكين له مثل هذا الحد الرفيع.24
من الناحية المنطقية يمكن أن تتفق قوانين الفيزياء لخلق مثل هذا الاختزال شبه التام لقوة الطاقة المظلمة، لكن ستكون مصادفة استثنائية أن يكون هذا القدر تحديدا من الاختزال - البالغ عشرة أس 119 - هو المطلوب تمامًا لجعل الكون ملائما للحياة. إلى أي مدى يمكن الركون للمصادفات كجزء من التفسير العلمي؟ من معايير الحكم على الأمر تشبيهه بإلقاء العملة المعدنية؛ الاحتمال عشرة أس 120 إلى واحد يعني الحصول على الصورة وليس الكتابة لما لا يقل عن أربعمائة مرة على التوالي. وإذا كان وجود الحياة في الكون لا يعتمد بالكامل على آليات الضبط الدقيق هذه، أي إنه ليس إلا مصادفة، فهذه احتمالات وجودنا. إن ذلك القدر من المصادفات يبدو عسيرًا على التصديق وحسب. لكن ما البديل؟ هناك بالفعل طريقة أخرى لتفسير القيمة الضئيلة للطاقة المظلمة، بل وربما جميع «المصادفات» السعيدة الأخرى في الفيزياء والكون، لكنها تتطلب منا الابتعاد عن طريقة التفكير المعتادة في العلم، وعلماء كثيرون يرهبونها.
هوامش
(19) That is, why is the model so wrong—I don’t think we made a mistake in our sums!
(20) Inflation requires dark energy to be non-zero for a very brief time just after the big bang, but physicists still assumed that in the postinflation phase the dark energy would drop to precisely zero.
(21) Leonard Susskind, The Cosmic Landscape: String Theory and the Illusion of Intelligent Design (New York: Little, Brown, 2005), p. 78.
(22) As far as I know, Sidney Coleman of Harvard University, who helped to pioneer the subject of symmetry-breaking in the early universe, was the first person to use the phrase “the big fix” to describe the dramatic suppression of dark energy.
(23) Steven Weinberg, “Anthropic Bound on the Cosmological Constant,” Physical Review Letters, vol. 59 (1987), p. 2607.
(24) The formation of galaxies depends delicately on the magnitudes of both the dark energy and the primordial density fluctuations. In my discussion I am assuming that the latter is held fixed while the former is allowed to vary. If both quantities are allowed to vary together, the analysis is more complicated. See, for example, Tegmark et al., “Dimensionless Constants, Cosmology and Other Dark Matters.”
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|