أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-03-2015
4320
التاريخ: 23-09-2015
6906
التاريخ: 25-09-2015
4144
التاريخ: 25-09-2015
5438
|
وهو
امتزاج آخر ما يقدم الشاعر على المدح من نسب أو فخر أو وصف أو أدب أو زهد أو مجون
أو غير ذلك بأول بيت من المدح. وقد يقع ذلك في بيتين متجاورين، وقد يقع في بيت
واحد، وهذه وإن لم تكن طريقة المتقدمين في تغالب أشعارهم، فإن المتأخرين قد لهجوا
بها وأكثروا منها، وهي لعمري من المحاسن وهذا الباب قديم، وهو من أجل أبواب
المحاسن، ويسمى معرفة الفصل من الوصل.
وقد
ذهب أصحاب الإعجاز إلى أنه وجه الإعجاز، وهو دقيق في عين الغبي خفي يخفى على غير
الحذاق من ذوي النقد. وهو مبثوث في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره، فإنك تقف من
الكتاب العزيز على مواضع تجدها في الظاهر فصولاً متنافرة لا تعرف كيف تجمع بينها،
فإذا أنعمت النظر وكنت ممن له دربة بهذه الصناعة، ظهر لك الجمع بينهما، كقوله
سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى
لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا * ذُرِّيَّةَ مَنْ
حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } فإنك إذا نظرت إلى قوله
تعالى: { وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} وجدت
هذا الفصل مبايناً لما قبله حتى تفكر فتجد الوصل بين الفصلين في قوله: { سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} فإنه سبحانه أخبر
بأنه أسرى بمحمد صلى الله عليه[وآله] وسلم ليريه من آياته، ويرسله إلى عباده، كما
أسرى بموسى من مصر ين خرج منها خائفاً يترقب، فأتى مدين، وتزوج بابنة شعيب، وأسرى
بها فرأى النار، فخاطبه ربه وأرسله إلى فرعون، وآتاه الكتاب، فهذا الوصل بين هذين
الفصلين، وأما الوصل بين ما ذكرت وبين قوله تعالى: { ذُرِّيَّةَ مَنْ
حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}
فقد كان على بني إسرائيل نعمة عليهم قدماً حيث نجاهم في السفن، إذ لو لم ينج أباهم
من أبناء نوح لما وجدوا، وأخبرهم أن نوحاً كان شكوراً، وهم ذريته، والولد سر أبيه،
فيجب أن يكونوا شاكرين كأبيهم.
وأما
في الشعر فأتم الناس براعة في التخلص وأول من أحسن في ذلك من القدماء في غالب ظني
زهير، حيث قال [بسيط]:
إن
البخيل ملومٌ حيث كان ولـ ... ـكن الكريم على علاته هرم
ولقد
اتفق له في هذا البيت اتفاق صالح حيث جاء مدمجاً من جهة عروضه، فامتزج المعنيان
والقسيمان امتزاجاً كلياً لفظياً ومعنوياً مع ما وقع في البيت من المطابقة
اللفظية، ثم تأنث المتأخرون في ذلك، فمن مجيد مبرز، ومن ضعيف مقصر، فمن المجيدين
في ذلك الذي أتى فيه بما لا يلحق سبقاً مسلم بن الوليد، حيث قال [طويل]:
أجدك
ما تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك ينشر
سريت
بها حتى تجلّت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر جعفر
فإن
التخلص وقع في بيت واحد، وهو أحسن قسميه، إلى ما جاء في البيت من التعليق
والإشارة، فإنه علق الغزل بالمدح، حيث أشار إلى فرط حب يحيى لولده جعفر، وهو
الممدوح، وفي ذلك مدحه بالبر لأبيه، الذي أوجب له ذلك عليه، وفي وصفه بالبر لأبيه
جما خير الدنيا والآخرة، فأدمج المبالغة في التعليق.
ومن
المجيدين في ذلك أيضاً أبو نواس حيث يقول [طويل]:
تقول
التي من بيتها خف محملي ... يعز علينا أن
نراك تسير
أما
دون مصر للغنى متطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت
لها، واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى في إثرهن عبير
ذريني
أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير
وكقول
أبي تمام [كامل]:
لا
والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم
ما
زلت عن سنن الوداد ولا غدت ... نفسي على إلف سواك تحوم
وكقوله
حيث يقول [وافر]:
لقد
أنست مساوئ كل دهر ... محاسن أحمد بن أبي دؤاد
وكقوله
معتذراً في وصف الإبل [طويل]:
سرت
تحمل العتبى إلى العتب والرضا ... إلى السخط والعذر المبين
إلى الحقد
وكقوله
[بسيط]:
يقول
في قومسٍ صحبي وقد أخذت ... منّا السرى وخطا المهرية
القود
أمطلع
الشمس تبغي أن تؤم بنا ... فقلت كلا ولكن مطلع الجود
ومما
تقدم فيه غيره قوله [بسيط]:
إساءة
الحادثات إستنبطي نفقاً ... فقد أظلك إحسان بن حسان
وكقوله
[بسيط]:
لم
يجتمع قط في مصر ولا طرفٍ ... محمد بن أبي أيوب والنوب
وكقوله
[كامل]:
فالأرض
معروف السماء قرى لها ... وبنو الرجاء لهم بنو
العباس
على
أن أبا الطيب المتنبي قد أتى في هذا الباب بما لا يقصر به عن لحاق أبي تمام ولا
أمثاله من المجيدين، ويكفيه من ذلك قوله [بسيط]:
مرت
بنا بين تربيها فقلت لها ... من أين جانس هذا الشادن
العربا
فاستضحكت
ثم قالت كالمغيث يرى ... ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا
وأما
إذا وصلت إلى ابن حجاج في هذا الباب، فإنك تصل إلى ما لا تدركه الألباب، ومن ذلك
قوله [وافر]:
وقد
بادلتها فمبالها لي ... بمشورة اسـ... ولها قذالي
كما
لابن العميد جميع مدحى ... ودنيا ابن العميد جميعها
لي
وكقوله
[خفيف]:
فبهم
قد أمنت خوف معادي ... وبهذا الوزير خوف زماني
ومن
براعة التخلص في الكتاب العزيز قوله تعالى: { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} فإنه سبحانه أشار بقوله:
أحسن القصص إلى قصة يوسف، فوطأ بهذه الجملة إلى ذكر القصة مشيراً إليها بهذه
النكتة من باب الوحي والرمز، وإنما كانت أحسن القصص بكون كل قضية منها كانت
عاقبتها إلى خير، فإن أولها رميه في الجب، فكانت عاقبته السلامة، وبيع ليكون عبداً
فاتخذ ولداً، ومراودة امرأة العزيز له فعصمه الله، ودخوله السجن، وخروجه ملكاً،
وظفر إخوته به أولاً، وظفر بهم آخراً، وتطلعه إلى أخيه بنيامين، واجتماعه به، وعمى
أبيه، ورد بصره، وفراقه له، ولأخيه، واجتماعه بهما، وسجود أبويه وإخوته له تحقيقاً
لرؤياه من قبل.
وكقوله
تعالى: موطئاً للتخلص لذكر مبدأ خلق المسيح عليه السلام: إن الله اصطفى آدم
ونوحاً الآية. والله أعلم.