أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-8-2022
1906
التاريخ: 21/12/2022
962
التاريخ: 12-3-2016
4845
التاريخ: 24/12/2022
1059
|
الحضارات القديمة وصناعة الفكر الجغرافي
هذا وفي مرحلة طويلة، نعرف يشى كبير من وضوح الرؤية متى بدأت وكيف بدأت، تستشعر اجتهاد الانسان ،وهو يتحسس مكانه في الارض، ويتعرف على الواقع الجغرافي من حوله - وقد نستشعر أيضاً، كيف تطلع الانسان يكل الاجتهاد إلى تحسين مستوى تعايشه، وهو يتطلع إلى قبة السماء ، ويود لو اخترق الحجاب وأحاط بالكون علما, ويتطلع إلى تطويع الأرض والواقع الجغرافي فيها لإرادة حياته، في أحضان مساحات واقطار وأوطان من حول حوض البحر المتوسط الشرقي.
وكان من الطبيعي أن يتأتى نلك الاجتهاد في تلك المساحات والأوطان، التي شهدت الانسان هو يفجر ويصنع الحضارات - وما من شك في أن ابداع وسائل التدوين والكتابة والتسجيل قد أتاح للانسان أن يسجل ابداعه وأن يدون تراثه ، وأن يكتب خلجات فكره ، بقدر ما أقاح للخلف أن يرث ويستوعب، وينتفع بتراث السلف، ولن يتحمل هذا الخلف أمانه التطوير والاضافة والتجديد. وهذا معناه أن بدأ تزود الانسان بزاد حضاري مفيد - وما من شك في هذا الزاد الحضاري المقيد ، قد وضع الانسان في الموضع الذي أثار فيه شهية متفتحة ورغبة متعطشة. للمعرفة بالأرض من حوله، واستطلاع سبل دعم وتحمين نمط وتوجهات الحياة فيها.
وينبغي أن تذكر بداية، كيف حرر التقدم الحضاري حلجة الانسان آنذاك م منطق الاكتفاء الذاتي, وكيف أطلق تطلعه إلى صيغة من صيغ التكامل بين المكان والمكان الاخر, وما من شك في ان هذا التطلع الذي حفز التحرك من المكان إلى المكان الأخر, واخترق حاجز المساقة بينهما، قد أسقر عن استشعار حقيقي لمعنى ومغزى وصدى التباين والتنوع بين الأوطان - وهذا معناه أن التقدم الحضاري, الذي بنى على الاستقرار والاستيطان في أوطان معينة، بعد أن طوع الواقع الجغرافي فيها لحياته وطوع حياته فيها للواقع الجغرافي، قد صعد فرص إقامة وترسيخ، للعلاقات بين الناس في أوطانهم حرياً وسلماً.
وعندئذ حمل هذا التصعيد مسئولية توسع دائرة رؤيته للأرض، توسيعا كبيراً, وأطلعه على مدى ومعنى وجدوى التباين بين الواقع الجغرافي الذي يميز كل وطن من هذه الأوطان " وكانت بالضرورة دعوة استقطبت اجتهاد الانسان، وفرضت عليهم تقصى الحقائق واستيعاب التباين، واستطلاع ماهية التنوع الجغرافي من مكان إلى مكان آخر.
هكنا استوجب أمر الحياة في مواطن الحضارات القديمة الاهتمام بالواقع الجغرافي ، في دائرة اتسعت مع اتساع وتصاعد اختراق حاجز المسافة في أنحاء الأرض من حولها . كما استوجب ايضاً وضعه في اطار التدبر والتفكير والاجتهاد الباحث عن مزيد من المعرفة الجغرافية، وعندئذ نبغ بعض الناس في هذه المواقع في تجسيد رؤيتهم الجغرافية. وتقوق من بين هؤلاء صفوة تفرغت واخذت على عاتقها مسئولية الاستغراق في التدبر والتفكير الكاشف لأبعاد المعرفة الجغرافية وكان هدف هذه الصفوة التي أسفرت عن شكل فج من اشكال التخصص، هدفا واضحا، تمثل في الاحاطة بالأرض علما، والتعرف على خصائصها جعلة ، والكشف عن أنماطه انتفاع الناس بها ضمناً، في كل مكان عاينوه أو استمعوا للرواية عنه, كما تمثل في هذا الهدف في تجسيد هذه المعرفة والتعيير عنها، بالكلمة أى بالصورة، وتوصيلها إلى غيرهم من الناس واشباع تهمهم إليها.
وقبل أن نبحث عن اجتهاد هذه الصفوة وقبل أن نتقصى حقيقة هذا الاجتهاد الجغرافي وقبل أن نسبر غوره ونقوم أهم نتائجه يجب أن نذكر كيف أن المرحلة التي عاشتها مسيرة الفكر الجغرافي من خلال اجتهاد هذه الصفوة سعيا وراء المعرفة بالأرض وبحثا عن الحقائق الجغرافية كانت مرحلة شاقة وقد واجه الاجتهاد حاجز المسافة، وكان عليه أن يسخر الوسيلة لاختراق هذا الحاجز بين المكان والمكان ، لكي يؤدى دوره الوظيفي, كما واجه مشقة الرحلة وتمويلها وتهيئة أسباب ودواعي الانفتاح على الناس، والتعامل معهم وجنى ثمرات التفتح لحساب المعرفة الجغرافية.
هذا وكان من الطبيعي أن يجنى الاجتهاد حصاناً، وأن يكون هذا الحصاد اضافة، تنمي المعرفة بأنحاء الأرض - ولكن كان من الطبيعي أيضا أن تتحقق هذه المكاسب ببطء شديد، وعلى مدى زمنى طويل, وهن شأن هذا الحصاد، الذي تأتى على المدى الطويل، والذي فتح الباب لزيادة رصيد المعرفة الجغرافية، أن يتمثل في شقين كبيرين. وقد ركز الشق الاول على الارض, وتطلع الشق الثاني إلى الكون الذي يحتوى الأرض - وانشطار الاجتهاد إلى هنين الشقين كان انشطاراً منطقيا وموضوعياً - بل لعله كان من وراء الاجتهاد المتوازي، الذي انكب كل فريق منهما على الشق الذي شد اهتمامه وأثار أو استنفر فكره .
وعن الاجتهاد الذي انكب على دراسة الأرض نذكر كيف اهتم بالمعرفة الجغرافية في اطار ثلاث دوائر متداخلة ومتكاملة، وانصب الاجتهاد الجغرافي في الدائرة الأولى على توسيع دائرة المعرفة بالأرض على المستوى الأفقي، من حول مواطن الحضارات القديمة، والاحاطة بمدى التباين الجغرافي بين المكان والمكان الآخر. وفي الدائرة الثانية، كرس الاجتهاد الجغرافي اهتمامه بتوسيع دائرة المعرفة بالناس في اطار الأوطان المتنوعة، ورصد اختلاف لموانهم ولسنتهم وأنماط وأساليب حياتهم.
وركز الاجتهاد الجغرافي في الدائرة الثالثة على رؤية واستيعاب مدى التنوع في أساليب التفاعل بين الناس والأرض، وعلى رصد مدى التنوع والتباين اجتماعيا واقتصاديا، بين الناس والاقوام في اوطانهم المتباينة في انحاء الأرض.
وعى الاجتهاد الذي تفرغ لدراسة الكون نذكر كيف اهتم بالتطلع إلى قبة السماء ورصد الأجرام في أنحائها، في اطار ثلاث دوائر متداخلة ومتكاملة, وانصب الاجتهاد في الدائرة الأولى على متابعة حركة الشمس وحركة القمر ورصد مرور الوقت الذي تستغرقه هذه الحركة، وصولاً إلى ابداع التقويم وحساب الزمن. وفي الدائرة الثانية كرس الاجتهاد الجغرافي اهتمامه بمتابعة الأجرام السماوية وانتقال الشمس من حين إلى حين، وتغيير أوضاع الأجرام وصولاً إلى رصد الأبراج والربط بينهما وجين أحوال الناس على الأرض وحظوظهم. وركز الاجتهاد الجغرافي في الدائرة الثالثة على تقصي أوضاع الأجرام السماوية في الكون، واستشعار مكان الأرض ومكانتها في هذا الكون وصولا الى أنها تحتل قلب الكون.
وربما كانت المعرفة في اطار أى دائرة من دوائر البحث - آنذاك - سطحية ومن غير عمق مشبع. وريما كانت الاضافات تدون أو تكتب، من غير أن يتوخى الكاتب الدقة أو من غير أن يلتفت إلى تقصى الأسباب التي تفسر تفسيراً مقنعاً - ومع ذلك فهو حصاد نقبله على علاته، ولا يستحق أن نجادل تحسبا لبيان مدى صدقه أو كذبه . وكيف نجادل وكيف لا نقبله, وهو يمثل الإضافة التي اشبعت حاجة الانسان آنذاك إلى المعرفة الجغرافية بالأرض من حوله، لو بالكون الفسيح من حول الأرض - وهو بأي المقاييس حصاد اثرى رصيد الانسان من المعرفة، وجاوب تطلعه إلى الانفتاح على الكون ومكانة الأرض فيه، أو إلى الانفتاح على الأرض ونبض الحياة في الأوطان المتنوعة.
هذا وقد اشترك في جمع وتكوين هذا الرصد الذي امتلأت به جعبة الفكر الجغرافي للمكتوب في ذلك الوقت المبكر، نفر كثير من الرجال المجتهدين من مصر وبابل والفرس والهند وغيرها من بلدان, على امتداد زمن طويل - ولم تكن - بكل تأكيد- ثمة مناهج لى معايير متفق عليها، لكي يتوافق اجتهاد العاملين في الحقل الجغرافي توافقا فكرياً مقبولاً أو مقنعا، وهم بصدد جمع الحصاد وتسجيل الرصيد الجغرافي. وما من شك في أن الأمر كله قد خضع - آنذاك - لمدى اقتناع كل مجتهد ص المجتهدين في حفل العمل الجغرافي ومام شك في أن حصاد كل مجتهد من هؤلاء المجتهدين قد أضاف شيئاً إلى رصيد المعرفة الجغرافية. ولعلهم أسهموا جميعا في اشياع نهم الناس إلى المعرفة الجغرافية، وارضاء تطلعهم إلى كشف النقاب عن المجهول.
وينبغي أن نفطن إلى أن الاجتهاد في طلب المعرفة الجغرافية عد الكون ومكان الأرض فيه، قد تأتي من خلال معاينة السماء والتطلع إلى حركة الأجرام فيها، طلبا لشكل من أشكال ادراك المجهول عن هذه الحركة, وهذا معناه أن الرصد بالعين المجردة من مواقع منتخبة كاشفة لقبة السماء، قد أسعف هذا الاجتهاد ويصره بجدوى الانفتاح ومتابعة التغير في مواقع الأجرام, ومعناه أيضا أن معاينة السماء ومطالعة التغير في حركة الأجرام ، قد شد اهتمام الاجتهاد إلى المجهول وحفزه إلى كشف النقاب عنه، على اعتبار أنه الهدف الأساسي الذي تطلبه المعرفة الجغرافية استجابة لإرادة الحياة.
ويتبغى أن نفطن مرة أخرى إلى أن الاجتهاد في طلب المعرفة الجغرافية عن الأرض والناس ، قد تأتى في اطار ادراك حقيقة وحدة الأرض ووحدة الناس ، ومن خلال حركة بعض الناس طليا لشكل من أشكال التعامل مع غيرهم من الناس . وهذا معنا ه أن الحركة سواء كانت سلمية بناءة أو عدوانية هدامة ، كانت من وراء الانفتاح الذي أسفر عن حصاد لحساب المعرفة الجغرافية - وما من شك في أن خطوات التقدم الحضاري في أقطار بعينها ، قد حفزت الحركة السلمية لحساب الحصول على انتاج معين من قطر معين - وما من شك أيضاً في لن صيانة التقدم الحضاري في أقطار بعينها ، قد حفزت الحركة السلمية لحساب الحصول على انتاج معين من قطر معين. وما من شك أيضا في أن صيانة التقدم الحضاري في اقطار يعينها قد حفزت الحركة العشوائية لحساب ردع العدوان للغير عليها من قطر أو أقطار معينة مجاورة. وفي أى من هاتين الحالتين يفتح التحرك لهدف أساسي الباب، لكي يصبح استطلاع المكان وجمع المعلومات لحساب المعرفة الجغرافية، هدفاً جانبياً إلى حد كبير .
ورحلة في ركب التحرك السلمى البناء لحساب شكل مبكر من أشكال التجارة والتبادل التجاري أو في ركب التحرك الحربي العدواني الهدام لحساب الغزو أو التصدي للعدوان وردعه، في البر أو في البحر، يمكن أن تسعف الاجتهاد في طلب المعرفة الجغرافية عن الأرض والناس. ولكن الرحلة التي تتصدى أصلاً للكشف الجغرافي تكون هي الأفضل في خدمة المعرفة الجغرافية - ومما لا شك فيه أن هذا النوع من الرحلات لم يكن هناك استعداد له في ذلك الوقت - بمعنى أن التسجيل الجغرافي وجمع المعلومات قد اعتمد على الرحلة التابعة, بل ربما انبرى نفر من الذين عمل في ركب التحرك السلمي، أو في ركب التحرك الحربى لأداء مهمة العمل الجغرافي وربما تمثل هذا الأداء في رواية أو حكاية ما استرعى انتباهه، لكي يتلقفه المجتهدون ويسجلونه لحساب المعرفة الجغرافية.
ويصرف النطر عن شكل الرحلة، وبصرف النظر عن مدى الصدق في الرواية التي أسقرت عتها الرحلة، ينبغي أن نستشعر كيف فتحت الرحلة، وهى برية تضرب في دروب الأرض، أو وهى بحرية تطوع البحر وتركبه، باب المشاهدة والمعاينة والملاحظة في أنحاء من الأرض, وصحيح أن الرحلة أسقطت حاجز ألمساقة ووسعت دائرة الرؤية والمعاينة، وأتاحت فرص التزود وجمع المعلومات، واسهمت في زيادة رصيد المعرفة الجغرافية, ولكن الصحيح أيضاً أن هذه لرحلات الجماعية، قد وسعت مصادر الرواية والقصص, وهيأت قرص الاستماع والانصات، لكي يسجل ويضيف إلى رصيد للعرقة الجغرافية، ويثريها - هذا ، وكان من شأن المجتهدين الذين اشتركوا من خلال المعاينة أو من خلال الاستماع إلى الرواية في جمع المعلومات ، لحساب المعرفة الجغرافية أن ينكبوا على تسجيل اجتهادهم والتعليق عليه - وقد فعلوا ما يجب أن يفعل كبداية مبكرة في حقل التسجيل الجغرافي، وأقلحوا في اثراء المعرفة الجغرافية، واثارة التدبر في يعض الحقائق الجغرافية, وهتا الاجتهاد الجغرافي مشكور، لأنه يعبر عن استجابة للتطلع الموضوعي إلى دراسة الأرض، والتعرف على الناس وأنماط حياتهم في احضانها. ولأنه استوعب أهم المضامين التي تخدم إرادة الحياة.
ولا ينبغي آن نتوقع بداية التسجيل الجغرافي من غير ان يستغرق في وصف سطحي عام ، بالأسلوب الذي يشبع رغبة الناس في المعرفة الجغرافية بمساحات وأقطار وأقاليم من الأرض, كما ينبغي أن نتوقع ممارسة التسجيل الجغرافي الكاشف عن اهم مضامين دراسة الأرض، من غير عرض وتركيز على الصور الغريبة التي لفتت الانتباه، وأشبعت حلجة الناس للتفكير والتدبر في المجهول – كما لا ينبغي أن نتوقع عرض التسجيل. الجغرافي الكاشف عن مضامين دراسة الأرض وحياة الناس فيها من غير الخلط بين السرد التاريخي والتصوير الجغرافي، أو من غير الخلط بين الغرائب والعجائب والخرافات في جانب، والحقيقة والواقع في جانب أخر.
وهكذا أوردت للمعرفة الجغرافية التي التسجيل الجغرافي صورا مشوهة عن كثير من الاقطار التي دخلت في اطار الاجتهاد العتيق, وقد نجد في ذلك التصوير حشوا من الخرافات والاساطير والغرائب التي تفسد في كثير من الاحيان معنى ومغزى التعبير الجغرافي ودلالته المفيدة, وكانت الاضافات في بعض الاحيان غاية في الغرابة لأنها نبعت في حقيقة الامر من صميم المعتقدات الدينية العتيقة أو من تقاليد الناس البالية او البائدة, لكي يستجيب التصوير الجغرافي لفضول الناس، وانغماسهم في الخراقة وانبهارهم بالعجائب والغرائب - وصحيح أن الخيال الخصب قد لعب دوراً، هاماً، وهو يغرق الاجتهاد الجغرافي في الخلط بين الحقيقة والخرافة ولكن الصحيح أيضاً أن هذا الخلط الذي أشبع فضول الناس، قد تسبب في طمس وجه الحقيقة الصحيحة، وضيع معالمها إلى الحد الذي لخل بالعرض الموضوعي -لحساب المعرفة الجغرافية.
ومن غير اطار واضح يحس أبعاد الاجتهاد الجغرافي، أو يوجهه في اتجاه سوي، اشترك نفر كبير من المجتهدين الذين استقطيتهم المعرفة الجغرافية، في تسجيل أو تدوين حصاد لاجتهادهم ومن الجائز أن
شفع بعض هؤلاء المجتهدين التسجيل، الذي يصور حصاد اجتهادهم بالخريطة أو الصورة التي تمثل امتداداً للاجتهاد الحريص على وضوح العرض الجغرافي, ولأن الاجتهاد الجغرافي افتقد المنهج، فقد خضع أمر التعجيل والتدوين الجغرافي كله، لتصور كل مجتهد وقدرته على استيعاب رؤيته الجغرافية من ناحية، ولمنطق الواقع الحضاري الذي بث النبض الحيوي في هذا الاجتهاد وحدد أهدافه من ناحية أخرى.
ومن خلال حصاد الرحلات التي أكسبت الاجتهاد الجغرافي فرص المعاينة والملاحظة والمعايشة ، أو فرص الاستماع إلى الرواية والقصة تأتى التسجيل، الذي أثرى المعرفة الجغرافية مع مرور الوقت وكانت حاجة التسجيل الجغرافي إلى الرحلة، لا تعنى فقط الحاجة إلى جسارة الرجل المغامر، لكي يقتحم المجهول ويسقط الحجاب عنه، لكنها احتاجت بالفعل إلى الرجل الحصيف صاحب الحس الجغرافي المرهف، لكي يجنى الثمرة الجغرافية المقيدة، من خلال اختراق حاجز المسافة إلى المجهول من الأرض وصحيح لننا لا تملك بياناً كاشفا ينبئ يما كان من أمر هذه الرحلات في صعبة التحرك لحساب التجارة ، أو التحرك لحساب الحرب احياناً ، أو يما كان من أمر خروج هذه الرحلات لحساب السفارة احياناً لخرى.
ولكن الصحيح أيضا أن هذه الرحلات قد بدأت في جملتها من المواقع التي عاشت فيها المدنيات القديمة إلى الأقاليم من حولها. وما من شك في أن المنطق الحضاري، كان أهم قوة من قوى الدفع التي حفزت الرجل الحصيف، لكي يخرج في سبيل الاجتهاد الجغرافي، ولكي يقتحم المجهول وصولاً إلى الاضافة إلى الرصيد الجغرافي.
وبهذا المنطق، ينبغي أن نتصور أيضا الفارق الزمني، بين بداية الاجتهاد الجغرافي، وبداية التسجيل الجغرافي, وريما تسبب هذا الفارق الزمنى في بعض الخطأ أحياناً، وبعض الخلط لحياناً اخرى ومن الطبيعي أن تتوقع هنا الخطأ والخلط والمغالطة الذي شوه التسجيل الجغرافي بقصد احيانا ، ومن غير قصد أحيانا اخرى. ومع ذلك فالتسجيل الجغرافي علامة على حرص الاجتهاد الجغرافي على رصيد جغرافي يضاف إلى تراث الانسان - ومن ثم نستطيع أن نفسر لماذا كانت البداية في احضان المواقع التي شهدت تفتح ونمو الحضارات القديمة في ثلاثة مواقع رئيسية كبرى هي:
1- الصين الحقيقية التي تطوقها الجبال والهضاب في المكان القصي من أسيا الشرقية.
2- الهند الكبرى التي تطوقها الجبال الشمالية والشمالية الغربية وتعزلها في آسيا الجنوبية.
3- الأقطار في ظهير حوض البحر للتوسط الشرقي الذي يحتل الموقع القلب من جزيرة العالم.
وصحيح أن الحضارات المنفتحة في هذه المواقع قد استقبلت البحر، وتعلمت الملاحة وركوب البحر لحساب الرحلة، التي خدمت شكلاً أولياً مبكراً من اشكال التجارة الدولية والتبادل التجاري، وحققت صورة مشرفة من صور الانفتاح على العالم من حولها وصحيح أن هذه الحضارات قد وجهت بعض الرحلات على الدروب البرية لأهداف تجارية، استجابة لتصاعد الطلب على سلع ومنتجات من أقطار في غير متناول الرحلات البحرية وصحيح أن الرحلات البحرية والبرية قد خدمت أهداف الكشف الجغرافي ، وجمع المعلومات واثراء المعرفة الجغرافية. ولكن الصحيح أيضا أن الموقع الجغرافي كان - بكل تأكيد - من وراء اختلاف حقيقي بين اسهام الحضارات في الصين والهند، واسهام الحضارات في حوض البحر المتوسط الشرقي في توسيع دائرة المعرفة الجغرافية وتسجيل الاضافات واثراء الرصيد الجغرافي.
ولكي نتفهم نلك الاختلاف، نذكر أن موقع الصين والهند من وراء الحاجز التضاريسي الذي يطوقها، قد تسيب في اهدار أهم منجزات الاجتهاد الجغرافي بل يمكن القول أنه كان بحكم الموقع الجغرافي في المكان القصي المعزول اجتهادا منطويا على ذاته ، لأنه لم يجد الفرصة للانفتاح أو للاحتكاك المثمر مع الاجتهاد الجغرافي في اجزاء اخرى من العالم - أما الاجتهاد الجغرافي الذي انطلق من مواطن الحضارات في أنحاء من الأقطار في حوض البحر للتوسط الشرقي فقد اسعفه الموقع الجغرافي وظاهره إلى أبعد الحدود - بل يجب أن تتصور كيف كان هذا الاجتهاد الجغرافي منفتحاً على اوسع مدى، وكيف استثمر الاحتكاك مع الاجتهادات الجغرافية الاخرى والانفتاح عليها.
ومن المفيد- على كل حال- أن نطالع الاجتهاد الجغرافي الذي وليت أمره الحضارات القديمة في أقطار حوض البحر المتوسط الشرقي ويكون الهدف أن نتبين كيف سار هذا الاجتهاد الجغرافي في الاتجاه الصحيح، وكيف أسفر عن اضافات أثرت الرصيد الجغرافي، ووسعت دائرة المعرفة الجغرافية، لحساب الانسان. ومن الطبيعي أن نستشعر أبعاد الانفتاح على العالم، سواء كان لحساب الحرب وردع العدوان وصيانة الوجود الحضاري، أو كان لحساب السلام وخدمة التجارة واشباع الوجود الحضاري، وهو يشد أزر الاجتهاد الجغرافي في صحبة التحرك والرحلة ومن الطبيعي أيضا أن نتبين الاسهام الذي قدمه الاجتهاد الجغرافي لإرضاء شهوة المعرفة الجغرافية، ولتهيئة الأساس الذي ارتكز عليه التدبر والتفكير، وبناء قواعد الفكر الجغرافي القديم.
هذا وينبغي أن نحسب حساب الموقع الجغرافي الممتاز في قلب جزيرة العالم النابضة بالحياة، لكي نتصور كيف كان الواقع الجغرافي والواقع الحضاري في كل من مصر والعراق والشام، من وراء كل الحوافز التي فتحت أبواب الانفتاح على العالم من حولها، ووجهت الاجتهاد الجغرافي لكي يطل على هذا العالم وصحيح ان الرحلة دلفت من أبواب الانفتاح لحساب الحري أو لحساب السلام وفي صحبتها الاجتهاد الجغرافي, ولكن الصحيح أيضا أن الاجتهاد الجغرافي الذي أطل على العالم وسجل معرقته ببعض أقطاره ، قد بصر ورشد الرحلة وهى في سبيل الحرب أو السلام، وقاد مسيرتها إلى أهدافها في تلك الأقطار.
كما ينبغي أن نستشعر كيف أقلح الابداع الحضاري في اسقاط واختراق حاجز المسافة في البر و في البحر، وكيف كفل هذا الابداع تحريك الرحلة لحساب الانفتاح على للعالم من حول مواطن الحضارات في حوض البحر المتوسط الشرقي وما من شك في أن الاجتهاد الجغرافي قد استثمر هذا التحريك، وهو يركب البحر أو يتسلل عبر الدروب والمسالك على الأرض وهذا معناه أن هناك علاقة موضوعية بين تطوير وسيلة النقل وزيادة كفاءة اختراق حاجز المسافة من ناحية، وتصاعد الاجتهاد الجغرافي وتأمين مسيرته في البر و البحر على السواء من ناحية أخرى.
هذا وفي الوقت الذي أصبح فيه الفكر الجغرافي مدون، أو مسجلا ضمن تراث المدنيات العريقة، في كل من مصر وبابل والهند وفارس والصين، وتحول أو أقلع عن التوارد التلقائي العفوي المبنى على المصادقة البحتة، تأتى التحول الفعلي من انغلاق الاستغراق في قيود الخصوصية الذاتية إلى انفتاح التوجه إلى الخصوصية المدنية الاقليمية, وقل ان التحلي بانفتاح هذا التوجه، إلى الخصوصية المدنية الاقليمية، وهي تجاوب حاجة المجتمع، وتلبي مطلب من مطلب المصلحة المشتركة للمجتمع ، الذي يصنع قواعد مدنيته ، جسد خطوة هامة في الاتجاه الصحيح - يل قل أن هذه الخطوة الهامة ، كانت التمهيد الحقيقي لتحول الفكر الجغرافي في مرحلة تالية ، من حبكة الخصوصية المدنية الاقليمية الضيقة المحدودة، إلى أفاق العمومية العالمية المتفتحة تماماً ، لحساب الانسان على صعيد الأرض.
ومع ذلك ينبغي أن نميز جيدا، بين مدنيات قديمة باشرت الاهتمام بالمعرفة الجغرافية، وعاشت تجارب التفكير الجغرافي، في اطار الخصوصية المدنية الاقليمية ، وتكتمت عليه ولم تجازف بالإعلان عن رصيدها الجغرافي في جانب ، ومدنيات قديمة اخرى باشرت الاهتمام بالمعرفة الجغرافية، وخاضت تجارب التفكير الجغرافي، في اطار الخصوصية المدنية الاقليمية ، ولم تجد مبرراً واحدا ًللتكتم على رصيدها الجغرافي في جانب أخر - وقل أن المدنيات التي تكتمت، ولم تعلن عن رصيدها الجغرافي، ووظفت القصص الأسطوري للتفزيع والمبالغة في التكتم على هذا الرصيد، كانت تحمى سدها في استثمار هذا الرصيد، وتغطى احتكارها وعوائدها لضخمة من الابحار في المحيط الهندي، ولقيام بدور الوساطة التجارية، بين عالم للحيط الهندي وعالم البحر المتوسط - بل قل آن هذا التكتم يستوجب استبعاد أو اخراج هذه المدنيات ورصيدها الجغرافي من الحساب تماما ذلك أن التكتم لا يعني شيئاً، غير الامعان في الانغلاق الكامل، على خصوصية مدنيتهم الاقليمية المحدودة .
ويبقى أن نقول أن المدنيات العريقة الأخرى، التي لم تجد مبرراً للتكتم أو الانغلاق قد أعلنت عن رصيدها الجغرافي . وصحيح أن أوضاع هذه المدنيات في مواقعها الجغرافية المتباينة، قد استوجبت شيء من التنوع والتباين، في الرصيد الجغرافي الخاص بكل مدنية، من هذه المدنيات المتميزة - ولكن الصحيح بعد ذلك كله أن الانفتاح قد أباح شيء من الاحتكاك الحضاري ، وتفتحت قنوات التواصل والاطلاع، على أرصدة هذه المدنيات الجغرافية ولقد يسر هذا التواصل وهذا الاطلاع فرص الأخذ والعطاء لكي يبشر بشيء من التوجه إلى عمومية تضع هذا الرصيد الجغرافي وتوجهاته السديدة، في خدمة العالمية.
ولكي نجري حصراً شاملا عن الرصيد الجغرافي الذي انتمى إليه الاجتهاد الجغرافي النشيط، يجب أن تطالع قصة كلأ من للمصريين القدماء والبابليين ولفينيقيين عن هذا الاجتهاد, كما ينبغي ان نتبين اتجاهات هذه الاجتهادات الجغرافية العامة، وهي تعالج وتسجل الاستشعار الجغرافي عن الأرض ووضعها في الكون مرة، وعن مساحات الأرض المعمورة من حول أوطانهم مرة اخرى ومن ثم نستطيع أن نقيم الرصيد الجغرافي الذي اشترك الاجتهاد الجغرافي في جمعه وتسجيله، وأن نتبين كيف اشترك الاجتهاد المصري والبابلي اشتراكا حقيقيا في ريادة مسيرة فكرية جغرافية ، حققت القاعدة التي بنى عليها الفكر الجغرافي القديم.
|
|
مخاطر خفية لمكون شائع في مشروبات الطاقة والمكملات الغذائية
|
|
|
|
|
"آبل" تشغّل نظامها الجديد للذكاء الاصطناعي على أجهزتها
|
|
|
|
|
المجمع العلميّ يُواصل عقد جلسات تعليميّة في فنون الإقراء لطلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف
|
|
|