المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17738 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
القيمة الغذائية للثوم Garlic
2024-11-20
العيوب الفسيولوجية التي تصيب الثوم
2024-11-20
التربة المناسبة لزراعة الثوم
2024-11-20
البنجر (الشوندر) Garden Beet (من الزراعة الى الحصاد)
2024-11-20
الصحافة العسكرية ووظائفها
2024-11-19
الصحافة العسكرية
2024-11-19

Coloring-Bounds on Chromatic Number
27-7-2016
النحل المتطفل Parasitic Bees
30-6-2020
أنواع وسائل الاتصال في إدارة العلاقات العامة
2023-02-09
حكم الجريدتين ونوعها
24-8-2017
التّدخين وأثره على جمال المرأة
29-12-2018
لتحقيق اهداف التحرير في الصحيفة الإلكترونية
12-2-2022


قصة ذي القرنين  
  
4371   04:43 مساءاً   التاريخ: 2-06-2015
المؤلف : د. محمود البُستانِي
الكتاب أو المصدر : دراسات فنية في قصص القران
الجزء والصفحة : ص293-313
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة ذي القرنين وقصص أخرى /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 11-10-2014 2116
التاريخ: 2-06-2015 4372
التاريخ: 11-10-2014 16208
التاريخ: 11-10-2014 1625

هذه هي القصة الثالثة من القصص التي تضمنتها سورة (أهل الكهف).

كانت القصة الاولى تتصل باهل الكهف ،... والقصة الثانية بصاحب الجنتين... ،... والقصة الثالثة (من حيث الترتيب ، هي قصة موسى والعالم ،... وقد أجلنا الحديث عنها الى الخاتمة) ،... واما القصة الاخيرة ، فهي قصة ذي القرنين ، فيما نعتزم الآن الحديث عنها.

إن ما يهمنا أن نلفت الانتباه إليه ، هو : المبنى الهندسي للسورة من حيث قصصها الاربع ، وصلة هذه القصص بمقدمة السورة التي طرحت مفهوما محددا هو : زينة الحياة الدنيا ، وضرورة نبذ هذه الزينة ، والى أنها محط (اختبار) للكائن الآدمي ، فضلا عن انها متاع عابر ، صعيد جرز. ولنقرأ مقدمة السورة من جديد : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } هذا المفهوم للزينة ، واللإختبار : هو الذي جسدته العناصر القصصية في السورة ، بنحو هندسي منتقى. فأهل الكهف ، جسدوا (نبذ) الزينة ، والتجأوا الى الكهف. وصاحب الجنتين جسد تشبثه بتلك الزينة ، ولكنه جسد في الآن ذاته نهاية تلك الزينة ، متمثلة في إبادة جنته التي اصحبت صعيدا زلقا ، على نحو ما أشارت مقدمة السورة إليه ، من أن ما على الأرض قد جعلته السماء صعيدا جرزا.

واما قصة ذي القرنين ، فانها تمثل وجها جديدا من التعامل مع زينة الحياة الدنيا ، مفصحة عن بعد آخر من أبعاد التعامل البشرى مع الحياة.

واذا كان صاحب الجنتين ، قد بهرته جنتاه ، واختل توازنه من التملك لتينك الجنتين بحيث دفعتاه الي ان يدل ويتباهى ويتعالى على صاحبه الذي لا يملك مزرعة ومجدا اجتماعيا ،... أقول ، اذا كان تملك مجرد مزرعتين يدفع صاحبهما الى تناسي نعم الله ، والتشكيك باليوم الآخر ، والانغماس في ملذات الحياة الدينا ،... إذا كان مجرد تملك ذينك البستانين يفقد صاحبهما وعيه بحقيقة السماء والحياة وظيفته ،... فإن ذي القرنين على العكس من ذلك تماما ،... إنه يمتلك مزرعتين تحتلان مساحة صغيرة من ارض الله ـ كما انه يمتلك (ليس مجرد نفر هو : عشيرته التي يتباهى بها) ،... إنه يمتلك كل الأرض : مشرقها ومغربها ،... ويمتلك كل الرقاب : كل الآدميين الذين بسط نفوذه عليهم ، وأخضعهم لسلطانه...

اذن : كم هو الفارق بين صاحب جنتين ومجموعة افراد ، وبين صاحب الدنيا كلها مشرقا ومغربا ، والآدميين بأكملهم... كم هو الفارق بينهما ، من حيث ضآلة التملك لدى الاول ، وضخامة التملك لدى الآخر.

ومع ذلك ، فان صاحب الجنتين ، يلفه الطغيان ويركب رأسه... ،... في حين يتواضع ذو القرنين للسماء ، ويدرك تماما وظيفته التي اوكلتها السماء إليه ، فيتعامل مع السماء ، ومع الآخرين على النحو الذي تطلبه السماء منه ، بحيث يجتاز (الاختبار) الذي مهدت له مقدمة السورة بنجاح ،.... بينا يسقط صاحب الجنتين في (الاختبار) المذكور على النحو الذي تحدثنا عنه مفصلا.

إذن : المبنى الهندسي لهذه القصة من حيث صلتها بالقصة التي سبقتها ، يتحدد بوضوح حينما نقف على هذا التوازن والتقابل بين شخصيتين يمثلان بطلين لقصتين مختلفتين ، تعالج كل واحدة منهما موقفا متميزا كل التمايز عن الآخر ،... تعالج الاولى بطلا عاديا تبهره زينة الحياة الدنيا : مع أنه لا يملك منها إلا مزرعتين ومجموعة أفراد ،... وتعالج الثانية بطلا لا تقعده زينة الحياة الدنيا عن وظيفته الأساس في الحياة ، مع انه يملك الدنيا كلها مشرقا ومغربا ، ويملك الآدميين كلهم.

هذا المبنى الهندسي ، ينبغي ألا نغفل عن جماليته الضخمة ،... ينبغي ألا نغفل عن عنصر التقابل والتوازن فيه : من حيث صلة قصة ذي القرنين بقصة صاحب الجنتين.

أيضا ، ينبغي ألا نغفل عن صلة قصة ذي القرنين بقصة أهل الكهف... والجمالية التي ينطوي البناء الهندسي عليها ، من خلال العلاقة القائمة على التوازن والتقابل بينهما. فأهل الكهف قد هربوا من زينة الحياة الدنيا ، واتجهوا الى كهف منزو. اما ذو القرنين فلم يهرب من الحياة ، بل تغلغل الى آفاقها أجمع ،... انه تملك كل معالم الزينة ، وأخضعها لسلطاته... انه على العكس تماما من أصحاب الكهف الذين لم يتملكوا من زينة الحياة حتى مجرد الحياة الاعتيادية ،... انهم لم يتملكوا أبسط حقوق التملك ، وهو : العيش في دار بسيطة مثل الآخرين ، بل لجأوا الى كهف بعيد عن العمران ، عن الناس ، عن العيش ولو ببساطة.

بيد أن هذا الفارق بين اصحاب الكهف وذي القرنين ، هو مجرد فارق بين نمطين من التعامل الايجابي مع السماء ،... وليس بمثل الفارق بين صاحب الجنتين ، وبين تعامل ايجابي صائب غلف ذا القرنين. في حين ان الفارق بين اصحاب الكهف وذي القرنين قائم على طرفين إيجابيين ، يخضع كلاهما للتعامل الصائب مع السماء... كل ما في الأمر ، أن الظروف الاجتماعية هي التي جعلت أصحاب الكهف يختارون (العزلة ـ وهم محقون في ذلك) ، وجعلت ذا القرنين يختار (النشاط ـ وهو محق في ذلك).

هذا النحو من التقابل بين (العزلة) و(النشاط) ، يمثل وجها فنيا آخر من وجوه التقابل الهندسي في قصص سورة الكهف ، مما يضخم لدينا عنصر الاحساس الجمالي ،... عنصر التذوق ،... عنصر الاستجابة الفنية ، حيال بناء قصصي محكم ، يتوفر على صياغة مختلف أسس التوازن والتوازي والتقابل؛ بغية تحقيق اشد فرص الامتاع الفني للمتلقي ، بما يصاحب فرص الامتاع المذكور ، من مواجهة فكرية للموضوعات المتنوعة التي يستهدف النص إيصالها إلينا ، عبر الصياغة الجمالية المذكورة.

بدأت قصة ذي القرنين على النحو التالي :

{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا } [الكهف : 84]

وهذا يعني أن بداية القصة تتحدث عن بطل مكنته السماء من التملك للأرض ومن عليها. وإذا تذكرنا ان القصة المتصلة بصاحب الجنتين [وقد وقفنا عليها مفصلا] قد بدأت على هذا النحو :

{جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا } [الكهف : 32] إلخ إذا تذكرنا بداية هذه القصة وربطناها ببداية قصة ذي القرنين ، أمكننا أن نفيد من المقارنة بينهما ، ان النص قد استهدف من هاتين البدايتين ، التشدد على أن (التمكن) في الحالتين ، مصدره ، هو : السماء.

بيد أن صاحب الجنتين قد كفر بأنعم الله ، ولفه الغرور ، حتى انتهى الأمر ، إلى أن تمسح عنه الجنتان في نهاية المطاف.

ولكن ، ماذا عن ذي القرنين ؟؟

إن البداية القصصية لا توحي لنا بمستقبل الأحداث اللاحقة بهذا (التمكن) الذي هيأته السماء للبطل ، وطريقة استجابته لهذا التمكن.

بيد اننا من أن نتابع أحداث القصة ، حتى نبدأ باستكشاف شخصية ذي القرنين ، وافتراقه تماما عن صاحب الجنتين.

فمن حيث السمة الاجتماعية ، تنقل لنا نصوص التفسير أن ذي القرنين لم يكن مجرد شخصية اعتيادية كصاحب الجنتين. فهناك من النصوص ما يشير الى انه كان (نبيا) بعثه الله إلى قومه ، لكنهم ضربوه على قرنه الأيسر فمات… ثم بعثه الله واحياه ، وأرسله من جديد إليهم… فضربوه على قرنه الأيمن... فسمي بذي القرنين.

وهناك من النصوص ما يشير الى انه كان ملكا.

لكن غالبية النصوص المفسرة ، تشير الى ان لم يكن نبيا ولا ملكا ، بل كان عبدا صالحا أحب الله فأحبه الله... ودعا قومه إلى عبادة الله ، فضربوه على قرنه الأيسر... ثم غاب عنهم ، وعاد من جديد يدعوهم الى الله ، فضربوه على قرنه الأيمن.

هذه النصوص المفسرة الأخيرة ، تدلنا على ان ذا القرنين لم يكن يحمل سمة اجتماعية تتصل بالنبوة أو الملوكية ، مما يقتادنا إلى القول بأن سمته العبادية هي التي أهلته لأن يصبح ذا سمة اجتماعية خطيرة على النحو الذي ستكشف نصوص القصة عنه.

من هنا ، يتعين على المتلقي ان يقوم بموازنة بين رجلين إعتياديين : أحدهما ساقته العبادة المخلصة : الحب لله ، إلى أن يحتل مركزا اجتماعيا فذا من حيث تملكه للأرض ومن عليها.

والآخر. ساقته نزعاته الذاتية : التباهي بالمال والعشيرة ، إلى أن يفقد حتى مزرعتيه.

والقصة ، لم تقل لنا هذا مباشرة. ولم تقم موازنة بينهما. لكنها سلكت منحى فنيا غير مباشر ، بحيث جعلت المتلقي يستكشف بنفسه هذه الفارقية بينهما ، حتى تترك أثرا فنيا لدى المتلقي أشد فاعلية في عملية التذوق.

المهم ، يتعين علينا أن نتابع شخصية ذي القرنين ، من خلال منطق الأحداث نفسها : ولنقرأ :

{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } [الكهف : 84 - 88]

ان هذا النص ، يمثل القسم الأول من القصة التي كانت بدايتها تومئ إلى ظاهرة (التمكن) لذي القرنين. وها هي القصة تبدأ [في قسمها الأول] بتفصيل ما أجملته البداية.

إن البداية القصصية أومأت أيضا. إلى ان السماء آتته من كل شيء سببا ، أي : سبيلا ، أو امكانيات كبيرة بحيث يستطيع من خلالها ، أن يذلل كل الصعاب التي تعترض مهمته العبادية على الأرض.

ولكن ، ما هي مهمته العبادية هذه؟؟.

لا يزال النص في القسم الأول من القصة يبهم مهمة ذي القرنين ، وبخاصة أنه دلنا على أن ذا القرنين ، قد بدأ باتباع المنهج الذي رسمته السماء... إنه قد بدأ يتبع سببا ، يتبع سبيلا.... يتبع خطة ما ، لبلوغ مهمته (فاتبع سببا).

ومن جديد ، ما هي الخطة التي اتبعها ذو القرنين في هذا الصدد ؟؟

هنا ، تبدأ الاحداث بالانكشاف.

لكنه ، انكشاف محفوف بضباب فني ، قد استهدفته القصة لمسوغات جمالية تتصل بعملية التذوق الفني... وهي عملية ينصب اهتمامها على مشاركة المتلقي في استخلاص الأحداث وتفسيرها ، دون أن يتدخل النص في التعقيب والتوضيح والتفصيل لها.

إن تكشف الاحداث ، تنقله الفقرة التالية :

{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} [الكهف : 86]

فالقارئ أو السامع ، يبدأ باستكشاف أن المهمة العبادية لذي القرنين قد اكتسبت طابعا سياسيا هو : الفتح ، بما يتطلبه من رحلة عسكرية تمتد الى مغرب الشمس.

بيد أن المتلقي يبقى في رحلة غامضة لا يكاد يتبين من خلالها ، مقر ذي القرنين ، ولا أسلحة ، ولا طريقة فتحه للأرض الواقعة في مغرب الشمس.

كل ذلك. يظل مجهولا أمام القارئ أو المستمع.

ولعله ـ أي المتلقي ـ يتساءل عن السر الفني لهذا الغموض الذي واكب رحلة ذي القرنين : بدء من مقره ، مرورا بالزحف العسكري ، وانتهاء بوصوله الى مغرب الشمس.

ومن قبل اولئك جميعا ، يظل الغموض ، يلف حتى شخصية ذي القرنين ، من حيث علاقته بقومه ، ونمط تعاملهم واياه.

إن هذه التساؤلات ، من الممكن الاجابة عليها بوضوح.. إذا أخذنا بنظر الاعتبار ، ان النص يستهدف لفت الانتباه الى حقيقة فكرية هي : ظاهرة [الاخلاص في العبادة] واستتباعها (تمكين) الشخصية المخلصة في الأرض بجنود السماء ، وليس بجنود الأرض التي يعصب ـ حسب منطق الآدميين ـ توفرها في مناخ لا يزال بعيدا عن السماء ، مما يتطلب مرشدا يهديهم إليها.

وها هو المرشد تهيؤه السماء ، متمثلا في شخصية ذي القرنين.

أما علاقة ذي القرنين بالآخرين ، ونمط تعاملهم وأياه... ثم مقره ، أو جيشه ، أو أدوات الزحف بكل مستوياتها... فإمر ، لا ضرورة فنية لتفصيله ما دام الهدف منصبا ليس على (الأداة) بل على مطلق (التمكين)... وما دام ذلك كله ، يبقى موكولا إلى المتلقي ، حتى يشارك بنفسه في استكشاف الحقائق وفقا لخبراته التي يستطيع من خلالها ان يستخلص ، ويقارن ، ويتساءل ، ويتكهن ، ويتنبأ بهذا أو بذاك ، من التفصيلات.

مع رحلة ذي القرنين نحو مغرب الشمس ، يبدأ المتلقي باستكشاف الأحداث ، واستخلاص الهدف من الرحلة.

بيد ان عنصرا بيئيا محددا قد رسمه النص قبل توضيح الهدف من الرحلة ، ألا وهو : أن ذا القرنين وجد الشمس تغرب في عين حمئة.

ترى ، ما هو الهدف الفني من وراء هذا العنصر؟؟

إن غروب الشمس في عين حمئة [والحمأة هي الطين الأسود] يعني أن ذا القرنين شاهد الشمس وكأنها تغور في عين ، أي ، انها مجرد مشاهدة تخيلية ناجمة عن خداع الحواس.

ومما لا يشك فيه أن هذا المرأى أو المشهد ، ينطوي أولا على حقيقة حسية : بغض النظر عما رواء هذه الحقيقة من خداع الحواس. وثانيا ، ينطوي المرأى أو المشهد على حقيقة جمالية من حيث خصائص الطبيعة وما تتركه من استجابة جمالية لدى المشاهد للمرأى المذكور.

بيد ان بعض النصوص المفسرة تربط بين هذا الرسم القصصي للمرأى المذكور ، وبين حقائق غيبية اتيحت الذى القرنين ، بحيث يمكننا أن نستخلص وجود صلة فنية بين رسم هذه البيئة وبين مشاهد ذي القرنين عيانيا [من وراء تكشف حجب الغيب] حركة الشمس والأرض ، وموقع المهمة التي أوكلتها السماء إلى الملائكة في تسيير الحركة المذكورة.

وهذا يعني ـ في تصورنا ـ ان الأمر لم يقف عند مجرد إشباع الحس الجمالي لدينا ، او ارواء الدافع الى الاستطلاع ، أو تثبيت مشهد واقعي صرف... بل ، إن الأمر يتعدى ذلك الى حقيقة تتصل بذي القرنين نفسه من حيث كونه قد هيأت له السماء كل شيء ، وسخرت له السحاب والنور [كما تذكر ذلك بعض النصوص المفسرة] بحيث طويت له الأرض ، وشاهد ما شاهد من أسرار الجو والارض والمحيطات : بضمنها حركة الشمس والأرض والبحر : من حيث علاقة بعضها مع الآخر في عملية الغروب.

المهم ، ان مثل هذا الاستخلاص يظل مرتبطا بشخصية ذي القرنين اكثر من ارتباطه بشخصية المتلقي ، إلا في حدود اطلاعنا على (التمكين) الذي هيأته السماء لذي القرنين ، وحملنا على ادراك هذه الحقيقة ، بغية الافادة من ذلك في تغيير سلوكنا, ودفعنا الى الاخلاص في العمل العبادي.

وخارجا عن ذلك ، فإن القصور في إدراك ما وراء هذا ، من أسرار فنية تغلف رسم مشهد الشمس [وهي تغرب في عين حمئة] يظل واحدا من عشرات النماذج التي يظل المتلقي مغلفا بالقصور في إدراكها.

إن الأحداث تبدأ بالانكشاف تماما ، عندما يدرك المتلقي ان هدف رحلة ذي القرنين نحو أقصى الغرب ، وهو : تحقيق المهمة العبادية المتمثلة في إرشاد القوم الذين احتوتهم المنطقة المذكورة.

ومن خلال حوار فني غير مباشر ، جعلنا النص نستكشف أن هؤلاء القوم كانوا غائبين عن السماء... كانوا كفارا لا بد أن تصاغ الحجة عليهم.

نستكشف ذلك من خلال هذه الفقرة الحوارية :

{ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا } [الكهف : 86]

فهذا الحوار قد اكتنفته اسرار فنية في عملية إنماء المواقف والأحداث ، وتطويرها ، والكشف عن تفصيلاتها التي اختزلها النص فنيا ، وتركنا نستخلصها بأنفسنا.

فنحن من خلال الفقرة الحوارية المركزة المذكورة ، قد استخلصنا هذا الحشد من الحقائق :

أولا : ان هناك قوما كافرين.

ثانيا : ان السماء خيرت ذا القرنين [في التعامل مع هؤلاء القوم] بين قتلهم ، وبين العفو عنهم. وعملية التخيير تعني أننا نستخلص إمكان أن يهتدي بعض منهم في حالة العفو... واليأس من الهداية في حالة الإقدام على القتل.

ثالثا : ان هذا التخيير سيلقي باضاءته على المواقف والأحداث اللاحقة في القصة : حيث سنرى بالفعل ممارسة ذي القرنين لهذا التخيير ، كما تكشف عنه الفقرة الحوارية التي أجراها ذو القرنين مع قومه ، حينما خاطبهم :

{ قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} [الكهف : 87]

{وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } [الكهف : 88]

فهذه الفقرة الحوارية ، تشكل تطويرا وإنماء للموقف ، السابق الذي طرحته الفقرة الحوارية السابقة ، القائمة على التخيير.

لقد استخلص المتلقي هذا الحشد من الحقائق الفنية ، وانتهى الى حقائق جديدة عن نمط التعامل لدى ذي القرنين بالنسبة الى القوم الكافرين.

هذا التعامل الجديد مع القوم ، قائم على الالتزام بتوصية السماء في عملية التخيير بين قتلهم والعفو عنهم.

والشيء الذي كشف عنه الحوار الجديد : حوار ذي القرنين مع قومه ، هو : الربط بين الثواب والعقاب الدنيويين ، والعقاب والثواب الأخرويين.

ومن الواضح ، أن الربط المذكور يساهم [من حيث الاستجابة لنداء السماء] في دفع المتمردين الى التفكير في سلوكهم وتعديله ما دام الأمر محفوفا بثواب عاجل هو العفو عنهم. ليس هذا فحسب ، بل تيسير أمورهم أيضا.

وكل ذلك في الحياة الدنيا. وهذا وحده كاف في حملهم على الايمان إذا كان الأمر متصلا بإشباع الحاجات الأمنية لديهم في غمرة هذه الحياة العابرة.

وأما إذا كان الأمر متصلا بالحياة اللاحقة ، فإن الاشباع يظل أشد وامتع : كما هو واضح.

واما حالة ركوب الخطأ ، والانقياد إلى الذات وحاجاتها الملتوية ، فان مجرد التذكير بإطفاء الإشباع من خلال القتل ، والتهديد بإطفائه في اليوم الآخر ، كاف في المساهمة بتعديل ما أعوج من السلوك.

والمهم ، في الحالات كلها أن فقرتين من الحوار : حوار السماء مع ذي القرنين أولا ثم حوار ذي القرنين مع قومه : وهو حوار متطور عن الحوار السابق قد حفلا بحشد من الحقائق التي انتظمها القسم الأول من قصة ذي القرنين بما يواكب هذه الحقائق من تجلية لظاهرة (التمكين) الذي استهدفه النص [وهو يقص علينا ملامح من شخصية ذي القرنين] وتمكنها من الأرض ومن عليها فيما كشف النص عن أحد مفرداته ، متمثلا في الوصول إلى أقصى الغرب ، دون أن يستخدم الوسائل التي يتطلبها الفتح ، بقدر ما أمدته السماء بوسائل ، اختزلها النص من القصة ، لتعميق قناعتنا بان التعامل المخلص مع السماء يتجاوز ما هو مألوف ، إلى ما هو (معجز) ، من حيث الإمداد الذي ترفده السماء للمخلصين من عبادها.

انتهى القسم الأول من أقصوصة ذي القرنين ، مع رحلته إلى مغرب الشمس.

أما القسم الثاني من القصة ، فيتمثل في : رحلته إلى مطلع الشمس.

في رحلة البطل إلى مغرب الشمس ، واجه قوما كافرين. أما في رحلته الى مطلع الشمس ، فقد واجه أقواما ، نسج النص صمتا حيال شخصياتهم ، واكتفى بوصف المناخ الجغرافي لهم.

يقول النص :

{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا } [الكهف : 90]

. بهذه الآية أو الفقرة ، ينتهي القسم الثاني من القصة.

غير أن ما يلفت الانتباه في هذا القسم من حيث صلته بالقسم الأول من القصة هو : عمارية الشكل القصصي ، خلال (التقابل) بين الرحلتين ، وما يشيعه هذا التقابل من أحساس ثر بجمالية القصة.

فنحن حيال رحلتين : الاولى نحو مغرب الشمس. والثانية : نحو مطلع الشمس.

هذا التقابل بين رحلتين ، ينطوي على ما يسمى [في لغة الجمال الفني] بـ[ألتقابل من خلال التضاد] و[التضاد من خلال التقابل].

ويمكننا ملاحظة كل من ظواهر (التضاد) و(التقابل) على هذا النحو :

1 ـ هناك بعد جغرافي يجمع بين الرحلتين ، يتمثل في : موقع (الشمس) من الرحلتين.

2 ـ تجسد الشمس بعدين متقابلين هما : مشرفها ومغربها.

3 ـ مواجهة البطل في الرحلتين لأقوام يتم التعامل حيالهم وفق خطة ما.

4 ـ افتراق كل من المواجهتين : إحداهما عن الأخرى ، من حيث أن الأقوام في رحلة المغرب تعومل حيالهم سياسيا.. في حين نسج الصمت حيال رحلة المشرق.

5 ـ رحلة المغرب تضمنت بعدا جغرافيا يتصل بمواجهة البطل وطريقة استجابته حيال عملية الغروب في العين الحمئة... أم رحلة المشرق فقد تضمنت بعدا جغرافيا يتصل بالأقوام انفسهم ، من حيث سكناهم في أرض قاحلة لا شجر ولا بناء بها ، أو [وفق بعض النصوص المفسرة] ان الأقوام كانوا متخلفين حضاريا إلى الدرجة التي لم يعرفوا حتى إيجاد البيوت لهم.

6 ـ ان الرحلتين تمتا وفق خطة ، أو دليل أو مسلك أو ـ كما أسمته السماء ـ وفق (سبب) قد اتبعه ، حيث مهد النص القصصي لكل رحلة ، بقوله عن الرحلة المغربية (فاتبع سببا) ، وعن الرحلة المشرقية بقوله (ثم اتبع سببا).

ومن البين أن هذه الصياغة القصصية [من خلال عمارة الشكل المذكور] تترك عند المتلقي تجربة تذوق ضخمة لا يتحسسها ـ غنى وتنوعا ـ إلا من أوتي إحساسا بالجمال الفني للنصوص ، بما تنطوي عليه من مفردات (متقابلة) أو متماثلة : تتماثل من خلال صعيد يجمع بين أشتاتها ، وتتضاد من خلال (وحدة) تنتسب إليها.

هنا ، يثار السؤال :

لماذا نسج النص صمتا حيال رحلة المشرق ، بنحو اكتفى منه ، بوصف البيئة الجغرافية ، للعنصر البشري الذي واجهه البطل؟

في تصورنا ـ فنيا ـ ان عنصر التماثل من خلال التضاد ، والتضاد من خلال التماثل ، يجسده النص هنا في مفردة جديدة هي : التقابل في الرحلتين بين وصف بيئي يتصل احدهما باستجابة البطل في رحلته المغربية... والوصف البيئي الآخر يتصل باستجابة القوم ، وليس البطل.

ففي رحلة المغرب ، ألفت النص انتباهنا إلى وقوف البطل على أسرار غيبية حيل بين العاديين من البشر وبين معرفتها ، بينما أحيط البطل بها.

أما في رحلة المشرق ، فقد ألفت النص انتباهنا إلى بيئة جغرافية تتصل بالأقوام وطبيعة تكيفهم مع تلك البيئة ، وهو نحو مصحوب بالدهشة أيضا ما دام الأمر ـ كما تقول بعض النصوص المفسرة ـ من ان اولئك الاقوام كانوا يغورون في المياه عندما تشرق الشمس عليهم ، ويمارسون نشاطهم مع غروب الشمس مما يكشف عن دلالة ما تقوله القصة في وصفها للبيئة المذكورة ، من ان الشمس {تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا} [الكهف : 90]

اذن : في الحالتين ، نواجه وصفا إعجازيا أو ـ على الأقل ـ مدهشا من حيث عدم انتساب البيئة إلى ما هو مألوف. كل ما في الأمر ان الوصف الأول يتصل بشخصية ذي القرنين ، والآخر بشخصيات الأقوام.

يضاف الى ذلك : أن النص [وقد مهد في مقدمة القصة بتمكن ذي القرنين] دلنا بوصف الرحلة المشرقية على بعد من أبعاد التمكين الذي وفرته السماء للبطل. مثلما ، أطلعتنا على البيئات المختلفة للعنصر البشري من حيث تخلف البعض حضاريا ، أو فكريا... ومن حيث التكيف البيئي الذي تصحبه صعوبات عند بعض الأقوام ، وعدمه عند أقوام آخرين. كل ذلك... سيترك آثاره الفكرية عند المتلقي دون أدنى شك ، مما يدفعه إلى إعمال فكره في إبداع السماء ، وعطائها ، وحكمتها في تسيير الكون والمجتمع والفرد.

ومع انتهاء القسم الثاني من قصة ذي القرنين ، نواجه القسم الأخير من القصة ، أي : القسم الثالث منها : وهو حافل بأحداث ومواقف وبيئات اكثر تفصيلا من القسمين السابقين.

كما أنه ـ من حيث الشكل الهندسي ـ يظل خاضعا لنفس العمارة الفنية التي لحظناها في القسم الأول والثاني : سواء أكان ذلك متصلا بوصف البيئة ، أو برسم ملامح الشخوص ، أو المواقف : مع ملاحظة أن القسم الثاني من القصة [وهو القسم الذي يتناول رحلة البطل إلى مطلع الشمس] قد اكتفي منه بوصف البيئة الجغرافية وصلتها بالأقوام الذين واجههم البطل... بينما يظل القسم الأول [والقسم الثالث من القصة كما سنرى] حافلا برسوم شتى عن التعامل القائم بين البطل وقومه ، أو بين البطل وأقوام آخرين ، على نحو ما سنوضحه مفصلا.

ولكن ، لنقرأ أولا نصوص القصة : يقول النص عن الرحلة الثالثة :

{ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا } [الكهف : 92 - 98]

بهذا النص القصصي الممتع تنتهي قصة ذي القرنين.

ولكن : كيف تمت صياغة النص فنيا وفكريا؟؟ ما هي صلته بالقسمين المتقدمين من القصة؟

يبدأ القسم الثالث من قصة ذي القرنين ، برحلة ثالثة نحو (السدين) اللذين جعل حاجز بينهما وبين أقوام يأجوج ومأجوج.

هذه الرحلة تختلف عن سابقتيها في جملة من المعالم ، منها :

ان الرحلة تتجه نحو أحد مجاهيل الأرض حيث (الظلمة) وانها تخص تعامل ذي القرنين مع قوم يستعينون به ضد أقوام غزاة ، والى انها تحفل ببيئة صناعية متصلة ببناء السد.

والسؤال هو : عن عمارية هذا القسم من القصة من حيث صلتها بالقسمين السابقين... فمن حيث البيئة :

1 ـ ان الاقسام الثلاثة من قصة ذي القرنين ، تنتظم في بناء هندسي عام هو : الرحلة.

2 ـ ان الرحلات الثلاث ، يتجه كل منها نحو أحد أجزاء الأرض.

3 ـ الرحلات الثلاث تتعامل مع بيئات تنتسب إلى غير المألوف ، وغير الاعتيادي منها. أما من حيث صلة القسم الثالث بالقسم الأول والثاني من القصة ، فيتمثل من حيث الشخوص في :

1 ـ ان أقوام المغرب كانوا كافرين ، في حين نسج النص صمتا حيال أقوام المشرق ، بينما كان أقوام بين السدين مستضعفين بعامة : قبال أقوام غزاة يزحفون عليهم فيأتون على مزارعهم ولحومهم ودوابهم.

2 ـ أقوام المغرب تعومل معهم بالتخيير بين قتلهم والعفو عنهم لإرجاعهم إلى الصواب. بينما تعومل مع أقوام بين السدين على صعيد المساعدة. ونسج الصمت حيال المشرقيين كما تقدم.

3 ـ المشرقيون طبعتهم سمة جسمية هي : إحالة ألوانهم بسبب حرارة الشمس التي لم يجعل دونها سترا. في حين طبعت أقوام بين السدين سمة لغوية غير مفهومة. ونسج الصمت حيال سمات المغربيين الجسمية.

وأما من حيث الاحداث ، فان بناء السد ، ومنع الغزو ، يطبعان رحلة بين السدين... وعملية القتل والعفو ، طبعا رحلة المغرب.

والمهم ، ان العمارية المذكورة تنتظم أشكالا هندسية مختلفة من البناء... لكنها تتوازى وتتناسب وتتقابل وفق تخطيط بالغ الجمال والدلالة ، من خلال شكل هندسي عام يوحد بينها هو : الرحلة ، ثم : من خلال خطوط ثانوية تنتظم حينا في الرحلات الثلاث ، وحينا في الرحلتين : الاولى والثانية ، أو الاولى والثالثة ، والثانية والثالثة ، على النحو الذي أشرنا إليه.

والآن : كيف تمت صياغة الشكل القصصي لهذا القسم من قصة ذي القرنين في رحلته الأخيرة.

تبدأ الرحلة الثالثة ، على هذا النحو :

{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف : 93]. إن أول ما يلفت الانتباه في هذه الرحلة وسابقتيها ، هو : ان النص يحدد أولا أرضا مجهولة ، لكنها لافتة للنظر من حيث غرابة موقعها. فهنا تتجه الرحلة الى ما بين السدين. وهو مكان مجهول لكنه متميز من حيث كونه متصلا ببيئة متميزة [بين السدين]. وكان الأمر يحمل نفس الطابع بالنسبة الى مغرب الشمس ومطلعها.

والطابع الآخر الذي يلفت الانتباه هو : وصول ذي القرنين إلى (أقوام) متميزين أيضا بنحو يتساوق فنيا مع تميز البيئة التي تكتنفهم. فهنا (أقوام) لا يكادون يفقهون قولا... وهناك في الرحلة الثانية (أقوام) يغورون في المياه عند طلوع الشمس...

نحن ـ إذن ـ أمام بيئة خاصة ، وأمام شخوص يحملون سمات خاصة. ثم : نحن امام (رحلة) خاصة مطبوعة بسمة الاعجاز أو المدهش أو الخاص. فضلا عن اننا أمام بطل خاص تطبعه نفسه السمة المدهشة.

هذه الأبعاد المتجانسة : بطلا وشخوصا وبيئة ، بل ـ ومواقف واحداثا كما سنرى ـ تشد انتباه المتلقي ـ دون أدنى شك ـ وتدعه أسير جمالية فائقة تشي بسحرها الفني الممتع ، مما يقف حيالها موقف الدهشة والانبهار.

ولكن ، لنتابع أسرار هذه الرحلة المدهشة.

لنقف أولا مع (الموقع) الذي انتهت الرحلة إليه ، و(الشخوص) الذين واجههم البطل.

تقول النصوص المفسرة ، ان ذا القرنين سلك طريق (الظلمة) في رحلته الثالثة ، حتى وصل على موقع يسمى بـ[بين السدين] حسب لغة النص القصصي نفسه (حتى إذا بلغ بين السدين).

وأيا كان هذا الموقع ، فإن طبيعة الأقوام الذين يعيشون فيه ، طبعتهم سمة [عدم تفقههم للقول].

هذه السمة ينبغي أن نقف عندها ، لنتعرف على دلالتها الفنية في القصة.

إن المتلقي يتساءل [كما تساءل من قبل عن التفسير الفني لأقوام المشرق الذين لم تسترهم الشمس] ، يتساءل الآن أيضا عن التفسير الفني لهؤلاء الأقوام الذين لا يكادون يفقهون قولا.

والنصوص المفسرة ، تميل في تحديد هذه السمة ، إلى انها تتمثل في لغة لم يفهمها غير أقوام بين السدين.

والحق ، أن لغة أي قوم لا تكاد تفقه لدى اللغات الأخرى ، إلا لأنفار ضئيلي العدد بالقياس إلى الغالبية. وهذا يعني أن تخصيص أقوام بين السدين بعدم التفقه ، يظل موضع تشكيك ، إذا كان الأمر عاما بالنسبة لكل اللغات... ففيم التخصيص إذن ؟؟

وفي تصورنا ان عدم التفقه من الممكن أن يكون ناجما عن التخلف الحضاري لأولئك الأقوام وانعكاس هذه البدائية على لغتهم من حيث شحوب مفرداتها ودلالاتها.

وأيا كان الأمر ، فان ذا القرنين ، ما دام يحمل سمة اعجازية ، يظل تعامله اللغوي مع القوم واضحا محددا لديه.

بيد ان السؤال هو : ما هي الدلالة الفنية لرسم السمة المذكورة في القصة؟

إن المتتبع لملابسات (الرحلة) التي واكبت ذا القرنين ، في أقسامها الثلاثة ، يلحظ أن النص كان يشدد على ما هو نادر ، أو ما هو [في لغة علماء الأقوام] يمثل (مجتمعات) منعزلة أو متخلفة أو واقعة في أقصى الأرض ، بعيدة عن اضواء الحضارة.

ومع ان طبيعة الفترة الزمنية لذي القرنين ، تمثل ـ في حد ذاتهاـ عصورا ضاربة في القدم على النحو الذي ترويه بعض النصوص ، فيما تذهب الى أنها فترة أعقبت زمان نوح عليه السلام ، أي : في القرون الأولى من التأريخ... إلا أن هذه القرون ذاتها شهدت بعض الانماط الحضارية التي لا بد ان تتفاوت من موقع لآخر في معالمها الحضارية ، أو على الأقل ، فإن أقاصي الأرض لا بد أن تظل أضال حظا من سواها في المعلم الحضاري.

والمهم ، ان (الرحلة) مادامت تستهدف ـ كما لحظنا ذلك في الرحلتين السابقتين ـ ارتياد المجتمعات النائية أو المنعزلة أو المتميزة بسمة من السمات... فحينئذ يكون التشدد على إبراز معالمها المتميزة ، أمرا تفرضه ضورة الفن ، فضلا عن انها تكشف عن دعم السماء لأية شخصية تخلص في أداء وظيفتها العبادية ، بحيث تذلل السماء لها كل صعوبة : سواء أكانت الصعوبة تتصل بتطويع الرض أو بتسخير الجو من سحاب أو نور يستعين به البطل المؤمن في تحقيق هدفه العبادي : كما هو شأن ذي القرنين حينما طويت له الأرض ـ ووفقا للنصوص المفسرة ـ وحينما سخر له السحاب ، وحينما سخر له النور حتى يبصر الظلمات... أو كما نتوقع ـ بوضوح ـ أن يدرك لغة القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا بحيث يستطيع أن يفقههم كلامه ، حينما يأمرهم ـ كما سنرى ـ بتهيئة الوسائل اللازمة لبناء السد.

بدأت الرحلة الثالثة [من رحلات ذي القرنين] مع وصوله إلى الموقع الذي اسماه النص القرآني الكريم بـ [بين السدين] ، حيث واجه قوما لا يكادون يفقهون قولا.

ومع هذه المواجهة ، يبدأ القسم الثالث من القصة برسم بيئة نستكشف من خلالها أحداثا ومواقف وشخوصا وصراعات ، يرسمها النص على هذا النحو الذي تنقله الفقرة الحوارية التي وجهها : الأقوام الذين لا يكادون يفقهون قولا

{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا } [الكهف : 94]

إن هذا الحوار الموجه الى ذي القرنين ، ينطوي على جملة من الخصائص الفنية ، ينبغي أن نقف عندها.

لقد اختزلت القصة طريقة المواجهة... بل قد اختزلت قبل ذلك هدف رحلة ذي القرنين إلى هذا الجزء من الأرض.

بيد ان المتلقي سيستخلص : أن ذا القرنين قد اتجه الى هذه الأرض بناء على أمر ألهمته السماء إياه. ويستخلص المتلقي ايضا ان ذا القرنين عند وصوله لهؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون قولا ، قد تفقد حالتهم وفق لغة خاصة علمته السماء اياها ، وإلى انهم قدموا شكواهم من المفسدين : أقوام يأجوج ومأجوج ، واقترحوا على البطل أن يبني لهم حاجزا يحول دون المفسدين.

كل ذلك ، يستخلصه المتلقي ، خلال الاقتصاد اللغوي الذي توفر النص القرآني عليه... بل ، من خلال حوار واحد يوجهه القوم الى البطل ، فيما يكتنز هذا الحوار الفني بدلالات متنوعة.. تكشف عن مواقف وأحداث ، أوكلها النص إلى استخلاص المتلقي.

ويلاحظ ايضا أن الحوار المذكور قد سكت عن تحديد الملامح الداخلية أو الخارجية لأقوام يأجوج ومأجوج ، مكتفيا من ذلك بتعريفهم بأنهم (مفسدون).

هذا الإبهام لهوية الغزاة ، يظل بدوره سرا فنيا يصوغه النص على النحو المتقدم ، بغية منح المجال للسامع أو القارئ أن يكتشف بنفسه : مستخلصا ، ومستفهما ، ومتأملا أبعاد سمة (المفسدين) ، ما دام الأمر ـ من الوجهة الفنية ـ غير منصب على تحديد مفردات (الافساد) ، بل مطلق الافساد الذي يتطلب وسيلة لمحوه.

وها هي الوسيلة ، أو الحل ، أو المواجهة ، تأخذ فاعليتها ، في الاقتراح أو الشكوى التي يقدمها المستضعفون إلى بطل القصة.

وحين نظل بعيدا عن الاستكشاف الموكول إلى المتلقي ، ونتجه إلى النصوص المفسرة... حينئذ نجد ان هذه النصوص تلقي إنارة كاملة على هوية (المفسدين) وطبيعة نشاطهم.

فالنصوص المفسرة ، تقدمهم لنا ، مجموعتين من الأمم ، تنتظمهم أصناف ثلاثة من حيث الملامح الخارجية لهياكلهم... وكلها تتسم بما هو غير عادي : ضخامة أو طولا أو عرضا أو قوة أو سلاحا إلخ...

وأما نشاطهم المفسد ، فيتمثل في إغارتهم على المستضعفين : أقوام بين السدين ، حيث كانوا يأتون على زرعهم ودوابهم ولحومهم.

وواضح ، ان هذه السمات غير العادية التي سردتها النصوص المفسرة ، تظل متساوقة مع السمات غير العادية التي صاغتها القصة : احداثا أو مواقف أو شخوصا.

والمهم ، ان النص القصصي [وهو يبهم ملامح الغزاة] يقدمهم لنا ، نموذجا من (المفسدين) ، لابد أن تضع السماء حدا لإفسادهم : من خلال (رحلة) قد خطط لها ، على نحو ما أنهاه الحوار المذكور ، حيث أنهاه ، إلى تلك الشكوى... إلى ذلك الاقتراح ببناء السد.

وهنا ، لا مناص من التوقف عند الاقتراح الذي قدمه المستضعفون : من حيث اقترانه بإعطائهم (أجرا) لذي القرنين على إنقاذهم.

لنقرأ من جديد :

{فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا } [الكهف : 94]

إن الضبابية الفنية الجملية التي غلفت حوار القوم مع ذي القرنين ، والصمت الذي نسجه النص حول طريقة المواجهة ، والتعرف ، بل : الصمت الذي نسجه النص حيال شخصيات هؤلاء القوم ، وطريقة تعاملهم الاجتماعي... كل ذلك يدعنا ، نستخلص ـ على الأقل ـ ان هؤلاء الذين لا يكادون يفقهون قولا ، قد دفعتهم المأساة إلى التعامل مع ذي القرنين بنحو يبتغون من خلاله أن ينقذوا بأية حال ، وان يقدموا (بديلا) لعملية الانقاذ ، بغض النظر عن هوية (البطل) الذي أرسلته السماء ، وإدراك ما اذا كان مثل هذا البطل يتعامل مع البدائل أو الشكر أو غيرهما من سمات التعامل الأرضي. ولعل تخلفهم أو عزلتهم ، أو : بكلمة أخرى ، لعل عدم معرفتهم بالبطل هو الذي دفعهم الى تقديم المكافأة.

ومما لا شك فيه ، أن مثل هذا الاقتراح ، يكشف ـ من خلال الانتقاء الفني له ـ عن مدى الاستضعاف الذي لحق هؤلاء القوم من جانب ، ومدى الأذى الذي يعانونه من جانب آخر : بحيث يمكننا ـ بسهولة ـ ان ندرك القيمة الفنية التي أبرزها النص لنا بتقديمه إقتراح (المكافأة) المذكورة.

هذا الى ان اقتراح (المكافأة) ، سيلقي بإنارته ـ فنيا ـ على جواب ذي القرنين ، وصلة ذلك بما تستهدف السماء من التشدد على ان (عطاءها) وليس عطاء (الآخرين) هو الذي يقلب الموازين ، ويضع حدا للمأساة ، وللإفساد.

ولنر : جواب ذي القرنين ، على الاقتراح المذكور.

لقد أجاب ذو القرنين على شكوى المستضعفين ، واقتراحهم بتقديم (المكأفاة)... اجابهم بما يلي :

{قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا }

وبهذه الاجابة ، تنتهي قصة ذي القرنين .

بيد اننا ننوي أن نتحدث عن (المكافأة) و(الانقاذ) اللذين رافقا هذه الاجابة ، وما ينطويان عليه من أسرار فنية أولا ، وبما واكبهما من أحداث قد انتهت ببناء السد ، ومواقف قد انتهت بقول البطل { هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} وبمواقف واحداث تصل بين إنجاز يتم إلى (حين) ، وصلته باليوم الآخر ، تتلاشى الأرض ومن عليها.




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .