المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17808 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
اتجاه ميلان المحور Precession
2024-11-28
مواعيد زراعة الكرنب (الملفوف)
2024-11-28
عمليات خدمة الكرنب
2024-11-28
الأدعية الدينية وأثرها على الجنين
2024-11-28
التعريف بالتفكير الإبداعي / الدرس الثاني
2024-11-28
التعريف بالتفكير الإبداعي / الدرس الأول
2024-11-28

اسئلة واجوبة حول منتجات النحل
5-4-2017
Grimm’s law
2023-09-15
خطة أخرى للقضاء على الحكومة الاسلامية
11-5-2017
تطبيقات إدارة التسويق للنماذج السلوكية (تـعريـف العلـوم السلوكيـة) 
9/10/2022
إسماعيل بن أحمد العقيلي الهاشمي، النوري
29-7-2016
محل الصوم
15-12-2015


تفسير الآية (25-29) من سورة الانفال  
  
4237   12:03 صباحاً   التاريخ: 7-4-2021
المؤلف : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة ...
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الألف / سورة الأنفال /

 

قال تعالى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال : 25 - 29].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

 

{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} حذرهم الله تعالى من هذه الفتنة ، وأمرهم أن يتقوها ، فكأنه قال : اتقوا فتنة لا تقربوها فتصيبنكم ، لأن قوله {لا تصيبن} : نهي مسوق على الأمر ، ولفظ النهي واقع على الفتنة ، وهو في المعنى للمأمورين بالاتقاء كقوله {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} أي : إحذروا أن يدرككم الموت ، قبل أن تسلموا. واختلف في معنى الفتنة هاهنا ، فقيل : هي العذاب ، أمر الله المؤمنين أن لا يقربوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب ، والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة عن ابن عباس ، والجبائي.

وقيل : هي البلية التي يظهر باطن أمر الانسان فيها ، عن الحسن ، قال :

ونزلت في علي ، وعمار ، وطلحة ، والزبير ، وقد قال الزبير : لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها ، فإذا نحن المعنيون بها فخالفنا حتى أصابتنا خاصة. وقيل :

نزلت في أهل بدر خاصة ، فأصابتهم يوم الجمل ، فاقتتلوا ، عن السدي. وقيل :

هي الضلالة وافتراق الكلمة ، ومخالفة بعضهم بعضا ، عن ابن زيد. وقيل : هي الهرج الذي يركب الناس فيه بالظلم ، ويدخل ضرره على كل أحد.

ثم اختلف في إصابة هذه الفتنة على قولين : أحدهما : إنها جارية على العموم ، فتصيب الظالم وغير الظالم. أما الظالمون فمعذبون ، وأما المؤمنون فممتحنون ممحصون ، عن ابن عباس ، وروي أنه سئل عنها فقال : أبهموا ما أبهم الله. والثاني : إنها تخص الظالم لأن الغرض منع الناس عن الظلم ، وتقديره : واتقوا عذابا يصيب الظلمة خاصة. ويقويه قراءة من قرأ {لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} باللام ، فإنه تفسيره على هذا المعنى ، وقيل : إن {لا} في قوله {لا تصيبن} زائدة ، ويجوز أن يقال : إن الألف في (لا) لإشباع الفتحة على ما تقدم ذكره. قال أبو مسلم : تقديره إحذروا أن يخص الظالم منكم بعذاب ، أي : لا تظلموا فيأتيكم عذاب لا ينجو منه إلا من زال عنه اسم الظلم.

{واعلموا أن الله شديد العقاب} لمن لم يتق المعاصي. وروى الثعلبي بإسناده عن حذيفة ، أنه قال : أتتكم فتن كقطع الليل المظلم ، يهلك فيها كل شجاع بطل ، وكل راكب موضع ، وكل خطيب مصقع (2). وفي حديث أبي أيوب الأنصاري : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، قال لعمار : يا عمار! إنه سيكون بعدي هنات ، حتى يختلف السيف فيما بينهم ، وحتى يقتل بعضهم بعضا ، وحتى يبرأ بعضهم من بعض ، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني ، علي بن أبي طالب عليه السلام ، فإن سلك الناس كلهم واديا ، وسلك علي واديا ، فاسلك وادي علي ، وخل عن الناس. يا عمار! إن عليا لا يردك عن هدى ، ولا يدلك على ردى. يا عمار! طاعة علي طاعتي ، وطاعتي طاعة الله ، رواه السيد أبو طالب الهروي ، بإسناده عن علقمة والأسود ، قالا : أتينا أبا أيوب الأنصاري الخبر بطوله. وفي كتاب (شواهد التنزيل) للحاكم أبي القاسم الحسكاني : وحدثنا عنه أبو الحمد مهدي بن نزار الحسني ، قال حدثني محمد بن القاسم بن أحمد ، قال : حدثنا أبو سعيد محمد بن الفضيل بن محمد ، قال : حدثنا محمد بن صالح العرزمي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم ، قال : حدثنا أبو سعيد الأشج ، عن أبي خلف الأحمر عن إبراهيم بن طهمان ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية {واتقوا فتنة} قال : (قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : من ظلم عليا مقعدي هذا بعد وفاتي ، فكأنما جحد بنبوتي ، ونبوة الأنبياء قبلي).

{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

المعنى : ثم ذكر سبحانه حالتهم السالفة في القلة والضعف ، وإنعامه عليهم بالنصر والتأييد والتكثير ، فقال {واذكروا} معشر المهاجرين {إذ أنتم قليل} في العدد ، وكانوا كذلك قبل الهجرة في ابتداء الاسلام {مستضعفون} يطلب ضعفكم بتوهين أمركم {في الأرض} أي : في مكة ، عن ابن عباس ، والحسن. {تخافون أن يتخطفكم الناس} أي : يستلبكم المشركون من العرب إن خرجتم منها. وقيل :

إنه يعني بالناس كفار قريش ، عن قتادة ، وعكرمة ، وقيل : فارس ، والروم ، عن وهب {فآواكم} أي : جعل لكم مأوى ترجعون إليه ، يعني المدينة دار الهجرة.

{وأيدكم بنصره ، أي : قواكم. {ورزقكم من الطيبات} يعني : الغنائم أحلها لكم ، ولم يحلها لأحد قبلكم. وقيل : هي عامة في جميع ما أعطاهم من الأطعمة اللذيذة {لعلكم تشكرون} أي : لكي تشكروا ، والمعنى : قابلوا حالكم التي أنتم عليها الآن ، تلك الحال المتقدمة ليتبين لكم موضع النعمة ، فتشكروا عليها.

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

ثم أمرهم الله سبحانه بترك الخيانة ، فقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } أي : لا تخونوا الله بترك فرائضه ، والرسول بترك سننه وشرائعه ، عن ابن عباس. وقيل : إن من ترك شيئا من الدين وضيعه ، فقد خان الله ورسوله ، عن الحسن {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} يعني الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد ، يعني الفرائض التي يقول لا تنقصوها عن ابن عباس. وقيل. إنهم إذا خانوا الله والرسول ، فقد خانوا أماناتهم ، عن السدي {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ما في الخيانة من الذم والعقاب. وقيل : وأنتم تعلمون أنها أمانة من غير شبهة {وَاعْلَمُوا } أي :

وتحققوا وأيقنوا {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} أي : بلية عليكم ، ابتلاكم الله تعالى بها ، فإن أبا لبابة حمله على ما فعله ماله الذي كان في أيديهم ، وأولاده الذين كانوا بين ظهرانيهم {وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} لمن أطاعه ، وخرج إلى الجهاد ، ولم يخن الله ورسوله ، وذلك خير من الأموال والأولاد.

بين سبحانه بهذه الآية أنه يختبر خلقه بالأموال والأولاد ، ليتبين الراضي بقسمه ، ممن لا يرضى به ، وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن ليظهر الأفعال التي بها يستحق الثواب والعقاب ، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين علي عليه السلام في قوله : (لا يقولن أحدكم اللهم إني أعوذ بك من الفتنة ، لأنه ليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة ، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلات الفتن ، فإن الله تعالى يقول :

{واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة} وقد روي هذا المعنى عن ابن مسعود أيضا.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }.

 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } أي : يا أيها المؤمنون {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ } أي :

إن تتقوا عقاب الله باتقاء معاصيه ، وأداء فرائضه {يجعل لكم فرقانا} أي : هداية ونورا في قلوبكم ، تفرقون بها بين الحق والباطل ، عن ابن جريج ، وابن زيد. وقيل معناه : يجعل لكم مخرجا في الدنيا والآخرة ، عن مجاهد. وقيل. يجعل لكم نجاة ، عن السدي. وقيل : يجعل لكم فتحا ونصرا كما قال : {يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} ، عن الفراء. وقيل : يجعل لكم عزا في الدنيا ، وثوابا في الآخرة ، وعقوبة وخذلانا لأعدائكم ، وذلا وعقابا ، كل ذلك يفرق بينكم وبينهم في الدنيا والآخرة ، عن الجبائي {ويكفر عنكم سيئاتكم} التي عملتموها {ويغفر لكم} ذنوبكم {والله ذو الفضل العظيم} على خلقه بما أنعم عليهم من أنواع النعم ، فإذا ابتدأهم بالفضل العظيم من غير استحقاق ، كرما منه وجودا ، فإنه لا يمنعهم ما استحقوه بطاعاتهم له. وقيل معناه : إذا ابتدأ بنعيم الدنيا من غير استحقاق ، فعليه إتمام ذلك بنعيم الآخرة باستحقاق ، وغير استحقاق.

النظم : قيل : اتصلت الآية بأول السورة من الأمر بالجهاد ، وتقديره : إن تتقوا الله ، ولم تخالفوه فيما أمركم به من الجهاد ، يجعل لكم فرقانا. وقيل : إنه لما أمر بالطاعة وترك الخيانة ، بين بعده ما أعده لمن امتثل أمره في الدنيا ، والآخرة.

_________________

1- تفسير مجمع البيان ، الطبرسي ، ج4 ، ص452-457.

2- الراكب الموضع في الفتنة - : المسرع فيها. والمصقع - كمنبر - : البليغ.

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

 

{ واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهً شَدِيدُ الْعِقابِ } . هذا تحذير منه تعالى لكل مفتن يفسد في الأرض ، بخاصة الذين يبثون الخلافات والنعرات الدينية ، ويقلقون راحة الآمنين ، ويعتدون على المستضعفين ، هذا تحذير منه تعالى بأن شرور الفتنة ومفاسدها لا تقتصر على الظالمين ، بل تعم المجتمع بكامله صالحه وطالحه . . وفي تفسير الطبري نقلا عن السدي ، وهو مفسر كبير ، ان هذه الآية تنطبق على أصحاب الجمل الذين حاربوا علي بن أبي طالب وذكر الرازي عند تفسير هذه الآية : ان الزبير كان يسامر رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) يوما إذ أقبل علي رضي اللَّه عنه فضحك إليه الزبير ، فقال له رسول اللَّه : كيف حبك لعلي ؟ فقال : يا رسول اللَّه أحبه كحبي لولدي أو أشد . فقال له الرسول : كيف أنت إذا سرت إليه تقاتله ؟ .

وأيضا في تفسير الطبري : ان الزبير بن العوام قال : قرأنا هذه الآية زمانا ، وما أرانا من أهلها ، فإذا نحن المعنيون بها .

{ واذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ ورَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . الخطاب لصحابة الرسول ( صلى الله عليه واله وسلم ) يذكرهم اللَّه تعالى بما كانوا فيه قبل الإسلام من الضعف والخوف ، والمهانة والفقر ، وبما هم عليه بعد الإسلام من الأمن والمنعة ، والغنى والعز ، لأنهم استجابوا لدعوة الحياة التي دعاهم إليها اللَّه ورسوله ، والغرض من هذا التذكير أن يستمروا على الطاعة والاستجابة لدعوة الحياة ، ليعيشوا في ظلها أقوياء أعزاء . . وانهم متى أعرضوا وعصوا عادوا إلى ما كانوا فيه من الضعف والهوان كما هي حال المسلمين اليوم ، بخاصة العرب .

{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهً والرَّسُولَ } . وليست خيانة اللَّه والرسول بترك الصوم والصلاة فقط ، وإنما الخيانة العظمى هي خيانة الأمة والوطن ، هي أن يتولى الطغاة مركز القوة والقيادة ، ويتحكموا بالبلاد ومقدراتها ، وان نصبر عليهم وعلى طغيانهم ، ونسكت عن حربهم وجهادهم { وتَخُونُوا أَماناتِكُمْ } . أي ولا تخونوا أماناتكم . وقال كثير من المفسرين : ان هذا نهي عن خيانة الأمانة فيما بين الناس من المعاملات المالية . . وليس من شك ان رد الأمانة واجب ، وان خيانتها حرام ، ولكن من الخيانة ، بل من أعظمها عدم التعاون مع المستضعفين لاسترداد حقوقهم من الأقوياء الظالمين { وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ولا أحد أجرأ على اللَّه ممن يقدم على معصيته عالما متعمدا .

{واعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ }. جاءت هذه الآية بعد النهي عن الخيانة للتنبيه إلى أن المؤمن لا ينبغي له أن يمنعه المال والولد عن القيام بواجبه تجاه اللَّه والأمة والوطن ، والمراد بالفتنة هنا المحبة التي تصد عن الحق والخير .

وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه واله وسلم ) أنه قال : الولد ثمرة القلب ، وانه مجبنة مبخلة محزنة ، تماما كالمال ، فإنه ثمرة عرق الجبين وكد اليمين ، وهو مجبنة لأن صاحبه يجبن عن قول الحق وفعله خوفا عليه ، كما يجبن خوفا على ولده ، وهو مبخلة لأن مالكه يبخل به حرصا عليه كما يحرص على ابنه ، وهو محزنة لأن جامعه يحزن إذا أصيب به كما يحزن إذا أصيب بثمرة فؤاده . وأحسن ما قرأت في هذا الباب قول أعرابي في ولده :

أحبه حب الشحيح ماله * قد كان ذاق الفقر ثم ناله

إذا يريد بذله بدا له

{وأَنَّ اللَّهً عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} والعاقل يرغب في هذا الأجر العظيم ، ويسعى إليه بالجهاد والعمل الصالح ، ولا يؤثر عليه مالا يفنى ، وولدا لا يبقى .

{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهً يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً } . كثيرا ما يقع الإنسان فريسة للعاطفة ، فتصور له الحسن قبيحا ، والقبيح حسنا ، وأكثر ما يكون ذلك فيما يتصل بماله وولده ، حيث تبلغ العاطفة ذروتها ، ومن أجل هذا أمر سبحانه بالتقوى بعد أن حذر من الافتتان بالأموال والأولاد ، أما الفرقان أي الهداية التي يمنحها اللَّه للمتقين ليميزوا بها بين الحق والباطل ، أما هذه الهداية فهي نتيجة حتمية للتحرر من الأهواء والأغراض ، لأن الهوى يعمي ويصم . .

ونسب اللَّه الهداية إليه لأنه هو الذي أقام عليها الدلائل ، ومن نظر إليها مجردا عن كل غاية إلا طلب الهداية إلى الحق فإنه بالغها لا محالة .

{ ويُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ واللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } . قال المفسرون :

المراد بتكفير السيئات سترها في الدنيا ، وبالمغفرة الصفح عنها في الآخرة ، قالوا هذا فرارا من التكرار . . أما نحن فلا نفر من التكرار في القرآن ، وبينا وجهه في المجلد الأول والثاني . . والمعنى المراد من مجموع الآية أن من يتقي اللَّه يمنحه الهداية والصفح والثواب ، وما ذلك على اللَّه بكثير ، لأنه عظيم الأفضال ، وعطاؤه سهل المنال يبلغه كل طالب وراغب في مرضاته تعالى .

 

____________________

1- تفسير الكاشف ، محمد جواد مغنيه ، ج3 ، ص468-470.

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

قوله تعالى : {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} قرأ علي والباقر عليهما السلام من أئمة أهل البيت وكذا زيد بن ثابت والربيع بن انس وأبو العالية على ما في المجمع : لتصيبن باللام ونون التأكيد الثقيلة ، والقراءة المشهورة : لا تصيبن بلا الناهية ونون التأكيد الثقيلة.

وعلى أي تقدير كان ، تحذر الآية جميع المؤمنين عن فتنة تختص بالظالمين منهم ، ولا يتعداهم إلى غيرهم من الكفار والمشركين ، واختصاصها بالظالمين من المؤمنين وأمر عامتهم مع ذلك باتقائها يدل على انها وإن كانت قائمة ببعض الجماعة لكن السيئ من أثرها يعم الجميع ثم قوله تعالى : {واعلموا ان الله شديد العقاب} تهديد للجميع بالعقاب الشديد ولا دليل يدل على اختصاص هذا العقاب بالحياة الدنيا وكونه من العذاب الدنيوي من قبيل الاختلافات القومية وشيوع القتل والفساد وارتفاع الامن والسلام ونحو ذلك.

ومقتضى ذلك أن تكون الفتنة المذكورة على اختصاصها ببعض القوم مما يوجب على عامة الأمة ان يبادروا على دفعها ، ويقطعوا دابرها ويطفؤا لهيب نارها بما أوجب الله عليهم من النهى عن المنكر والامر بالمعروف.

فيؤول معنى الكلام إلى تحذير عامة المسلمين عن المساهلة في أمر الاختلافات الداخلية التي تهدد وحدتهم وتوجب شق عصاهم واختلاف كلمتهم ، ولا تلبث دون ان تحزبهم أحزابا وتبعضهم أبعاضا ، ويكون الملك لمن غلب منهم ، والغلبة لكلمة الفساد لا لكلمة الحق والدين الحنيف الذي يشترك فيه عامة المسلمين.

فهذه فتنة تقوم بالبعض منهم خاصة وهم الظالمون غير أن سيئ أثره يعم الكل ويشمل الجميع فيستوعبهم الذلة والمسكنة وكل ما يترقب من مر البلاء بنشوء الاختلاف فيما بينهم ، وهم جميعا مسؤولون عند الله والله شديد العقاب.

وقد أبهم الله تعالى أمر هذه الفتنة ولم يعرفها بكمال اسمها ورسمها غير أن قوله فيما بعد : {لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} وقوله : {واعلموا ان الله شديد العقاب} - كما تقدم - يوضحها بعض الايضاح ، وهو انها اختلاف البعض من الأمة مع بعض منها في أمر يعلم جميعهم وجه الحق فيه فيجمح البعض عن قبول الحق ويقدم إلى المنكر بظلمه فلا يرد عونه عن ظلمه ولا ينهونه عن ما يأتيه من المنكر ، وليس كل ظلم ، بل الظلم الذي يسرى سوء أثره إلى كافه المؤمنين وعامة الأمة لمكان امره سبحانه الجميع باتقائه ، فالظلم الذي هو لبعض الأمة ويجب على الجميع ان يتقوه ، ليس الا ما هو من قبيل التغلب على الحكومة الحقة الاسلامية ، والتظاهر بهدم القطعيات من الكتاب والسنة التي هي من حقوقها.

وأيا ما كان ففي الفتن الواقعة في صدر الاسلام ما ينطبق عليه الآية أوضح انطباق وقد انهدمت بها الوحدة الدينية ، وبدت الفرقة ونفدت القوة ، وذهبت الشوكة على ما اشتملت عليه من القتل والسبي والنهب وهتك الاعراض والحرمات وهجر الكتاب وإلغاء السنة ، وقال الرسول : يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.

ومن شمول مشأمتها وتعرق فسادها ان الامه لا تستطيع الخروج من أليم عذابها حتى بعد التنبه منهم لسوء فعالهم وتفريطهم في جنب الله كلما أرادوا ان يخرجوا منها اعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق.

وقد تفطن بعض المفسرين بأن الآية تحذر الأمة وتهددهم بفتنه تشمل عامتهم وتفرق جمعهم ، وتشتت شملهم ، وتوعدهم بعذاب الله الشديد ، وقد أحسن التفطن غير أنه تكلف في توجيه العذاب بالعذاب الدنيوي ، وتمحل في تقييد ما في الآية من إطلاق العقاب ، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد.

ولنرجع إلى لفظ الآية :

أما على قراءة أهل البيت عليه السلام وزيد : و {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} فاللام في {لتصيبن} للقسم والنون الثقيلة لتأكيده ، والتقدير :

واتقوا فتنة أقسم لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ، وخاصة حال من الفتنة ، والمعنى اتقوا فتنة تختص إصابته بالذين ظلموا منكم أيها المخاطبون وهم الذين آمنوا ، وعليك ان تتذكر ما سلف بيانه ان لفظ : {الذين آمنوا} في القرآن خطاب تشريفي للمؤمنين في أول البعثة وبدء انتشار الدعوة لولا قرينة صارفة عن ذلك ، ثم تذكر ان فتن صدر الاسلام تنتهى إلى أصحاب بدر ، والآية على أي حال يأمر الجميع ان يتقوا فتنة تثيرها بعضهم ، وليس إلا لان أثرها السئ يعم الجميع كما تقدم.

وأما على قراءة المشهور : {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} فقد ذكروا : ان لا في {لا تصيبن} ناهية والنون لتأكيد النهى ، وليس {لا تصيبن} جوابا للامر في {اتقوا} بل الكلام جار مجرى الابتداء والاستيناف كقوله تعالى :

{يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} [النمل : 18] فقد قال اولا : {واتقوا فتنة} ثم استأنف وقال : {لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} لاتصال الجملتين معنى.

وربما جوز بعض النحاة ان يكون {لَا تُصِيبَنَّ} ونهيا واردا في جواب الامر كما يقال : اتق زيدا لا يضربك أو لا يضربنك والتقدير : اتق زيدا فإنك إن اتقيته لا يضربك ولم يشترط في نون التأكيد أن لا يدخل الخبر.

وربما قال بعضهم : ان لا زائدة والمعنى : اتقوا فتنة تصيبن الآية.

وربما ذكر آخرون : (ان أصل لا تصيبن) (لتصيبن) أشبعت فتحة اللام حتى تولدت الألف ، وإشباع الفتحة ليس بعزيز في الشعر قال :

فأنت من الغوائل حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح يريد : بمنتزح ، والوجهان بعيدان لا يحمل على مثلهما كلامه تعالى.

ومال المعنى على هذا الوجه أي على قراءة الأولى (لا تصيبن) أيضا إلى ما تفيده القراءة الأولى (لتصيبن) كما عرفت.

والآية - كما عرفت - تتضمن خطابا اجتماعيا متوجها إلى مجموع الأمة وذلك يؤيد كون الخطاب في الآية السابقة : {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} خطابا اجتماعيا متوجها إلى كافة المؤمنين ، ويتفرع عليه ان المرا بالدعوة إلى ما يحييهم الدعوة إلى الاتفاق على الاعتصام بحبل الله وإقامة الدين وعدم التفرق فيه كما قال : {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران : 103] وقال : {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى : 13] وقوله : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام : 153].

وبهذا يتأيد بعض الوجوه المذكورة سابقا في قوله : {إذا دعاكم لما يحييكم} وكذا في قوله : {ان الله يحول بين المرء وقلبه} وتختص الآية به بحسب السياق وإن كانت تفيد معنى أوسع من ذلك باعتبار اخذها في نفسها مفردة عن السياق ، والباحث الناقد لا يعوز عليه تمييز ذلك والله الهادي.

قوله تعالى : {واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس} إلى آخر الآية. الاستضعاف عد الشئ ضعيفا بتوهين امره ، والتخطف والخطف والاختطاف أخذ الشئ بسرعة انتزاع ، والايواء جعل الانسان ذا مأوى ومسكن يرجع إليه ويأوى ، والتأييد من الأيد وهو القوة.

والسياق يدل على أن المراد بقوله : {إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض} الزمان الذي كان المسلمون محصورين بمكة قبل الهجرة وهم قليل مستضعفون ، وبقوله :

{تخافون ان يتخطفكم الناس} مشركوا العرب وصناديد قريش ، وبقوله {فآواكم} أي بالمدينة وبقوله {وأيدكم بنصره} ما أسبغ عليهم من نعمة النصر ببدر ، وبقوله :

{ورزقكم من الطيبات} ما رزقهم من الغنائم وأحلها لهم.

وما عده في الآية من أحوال المؤمنين ومننه عليهم بالايواء وإن كانت مما يختص بالمهاجرين منهم دون الأنصار إلا ان المراد الامتنان على جميعهم من المهاجرين والأنصار فإنهم أمة واحدة يوحدهم دين واحد. على أن فيما ذكره الله في الآية من مننه التأييد بالنصر والرزق من الطيبات وهما يعمان الجميع ، هذا بحسب ما تقتضيه الآية من حيث وقوعها في سياق آيات بدر ، ولكن هي وحدها وباعتبار نفسها تعم جميع المسلمين من حيث إنهم أمة واحدة يرجع لاحقهم إلى سابقهم فقد بدأ ظهور الاسلام فيهم وهم قليل مستضعفون بمكة يخافون ان يتخطفهم الناس فآواهم بالمدينة وكثرهم بالأنصار وأيدهم بنصره في بدر وغيره ورزقهم من جميع الطيبات الغنائم وغيرها من سائر النعم لعلهم يشكرون.

قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} آخر الآيتين. الخيانة نقض الأمانة التي هي حفظ الامن لحق من الحقوق بعهد أو وصية ونحو ذلك ، قال الراغب : الخيانة والنفاق واحد إلا ان الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والأمانة ، والنفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر ، ونقيض الخيانة الأمانة يقال : خنت فلانا ، وخنت أمانة فلان وعلى ذلك قوله : لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم. انتهى.

وقوله : {وتخونوا أماناتكم} من الجائز ان يكون مجزوما معطوفا على تخونوا السابق ، والمعنى : ولا تخونوا أماناتكم ، وأن يكون منصوبا بحذف أن والتقدير :

وأن تخونوا أماناتكم ويؤيد الوجه الثاني قوله بعده : {وأنتم تعلمون}.

وذلك أن الخيانة وإن كانت إنما يتعلق النهى التحريمي بها عند العلم فلا نهى مع جهل بالموضوع ولا تحريم غير أن العلم من الشرائط العامة التي لا ينجز تكليف من التكاليف المولوية إلا به فلا نكتة ظاهرة في تقييد النهى عن الخيانة بالعلم مع ان العلم لكونه شرطا عاما مستغنى عن ذكره ، وظاهر قوله : {وأنتم تعلمون} بحذف متعلقات الفعل ان المراد : ولكم علم بأنه خيانة لا ما قيل : إن المعنى :

وأنتم تعلمون مفاسد الخيانة وسوء عاقبتها وتحريم الله إياها فان ذلك لا دليل عليه من جهة اللفظ ولا من جهة السياق.

فالوجه ان تكون الجملة بتقدير : وأن تخونوا أماناتكم ، ويكون مجموع قوله :

{لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} نهيا واحدا متعلقا بنوع خيانة هي خيانة أمانة الله ورسوله وهى بعينها خيانة لأمانة المؤمنين أنفسهم فان من الأمانة ما هي أمانة الله سبحانه عند الناس كأحكامه المشرعة من عنده ومنها ما هي أمانة الرسول كسيرته الحسنة ، ومنها ما هي أمانة الناس بعضهم عند بعض كالأمانات من أموالهم أو اسرارهم ، ومنها ما يشترك فيه الله ورسوله والمؤمنون ، وهى الأمور التي أمر بها الله سبحانه وأجراها الرسول وينتفع بها الناس ويقوم بها صلب مجتمعهم كالأسرار السياسية والمقاصد الحربية التي تضيع بإفشائها آمال الدين وتضل بإذاعتها مساعي الحكومة الاسلامية فيبطل به حق الله ورسوله ويعود ضرره إلى عامة المؤمنين.

فهذا النوع من الأمانة خيانته خيانة لله ورسوله وللمؤمنين فالخائن بهذه الخيانة من المؤمنين يخون الله والرسول وهو يعلم أن هذه الأمانة التي يخونها أمانة لنفسه ولسائر إخوانه المؤمنين وهو يخون أمانة نفسه ، ولن يقدم عاقل على الخيانة لأمانة نفسه فان الانسان بعقله الموهوب له يدرك قبح الخيانة للأمانة فكيف يخون أمانة نفسه؟

فالمراد بقوله : {وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} - والله أعلم - وتخونوا في ضمن خيانة الله والرسول أماناتكم والحال انكم تعلمون انها أمانات أنفسكم وتخونونها ، وأي عاقل يقدم على خيانة ذ أمانة نفسه والاضرار بما لا يعود إلا إلى شخصه فتذييل النهى بقوله : {وأنتم تعلمون} لتهييج العصبية الحقة وإثارة قضاء الفطرة لا لبيان شرط من شرائط التكليف.

فكأن بعض افراد المسلمين كان يفشى أمورا من عزائم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المكتومة من المشركين أو يخبرهم ببعض اسراره فسماه الله تعالى خيانة. ونهى عنه ، وعدها خيانة لله والرسول والمؤمنين.

ويؤيد ذلك قوله بعد هذا النهى : {واعلموا انما أموالكم وأولادكم فتنة} الخ

فان ظاهر السياق انه متصل بما قبله غير مستقل عنه ، ويفيد حينئذ ان موعظتهم في أمر الأموال والأولاد مع النهى عن خيانة الله والرسول وأماناتهم انما هو لاخبار المخبر منهم المشركين بأسرار رسول الله المكتومة ، استمالة منهم مخافة ان يتعدوا على أموالهم وأولادهم الذين تركوهم بمكة بالهجرة إلى المدينة ، فصاروا يخبرونهم بالاخبار إلقاء للمودة واستبقاء للمال والولد أو ما يشابه ذلك نظير ما كان من أبى لبابة مع بني قريظة.

وهذا يؤيد ما ورد في سبب النزول ان ابا سفيان خرج من مكة بمال كثير فأخبر جبرئيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروجه وأشار عليه بالخروج إليه وكتمان أمره فكتب إليه بعضهم بالخبر فأنزل الله : {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} وفي نزول الآية بعض أحاديث أخر سيأتي إن شاء الله في البحث الروائي التالي.

قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا ان تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم} الفرقان ما يفرق به بين الشئ والشئ ، وهو في الآية بقرينة السياق وتفريعه على التقوى الفرقان بين الحق والباطل سواء كان ذلك في الاعتقاد بالتفرقة بين الايمان والكفر وكل هدى وضلال أو في العمل بالتمييز بين الطاعة والمعصية وكل ما يرضى الله أو يسخطه ، أو في الرأي والنظر بالفصل بين الصواب والخطأ فان ذلك كله مما تثمره شجرة التقوى ، وقد اطلق الفرقان في الآية ولم يقيده وقد عد جمل الخير والشر في الآيات السابقة والجميع يحتاج إلى الفرقان.

ونظير الآية بحسب المعنى قوله تعالى : {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} وقد تقدم الكلام في معنى تكفير السيئات والمغفرة ، والآية بمنزلة تلخيص الكلام في الأوامر والنواهي التي تتضمنها الآيات السابقة أي ان تتقوا الله لم يختلط عندكم ما يرضى الله في جميع ما تقدم بما يسخطه ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم.

__________________

1- تفسير الميزان  الطباطبائي ، ج9 ، ص41-46.

 

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

 

كلمة (فتنة) استعملت في القرآن المجيد بمعان مختلفة ، فقد جاءت تارةً بمعنى الإِختيار والإِمتحان ، وتارة بمعنى البلاء والعذاب والمصيبة ، وهي في الأصل بمعنى إدخال الذهب في بوتقة النّار ليتميز جيده من رديئه ، ثمّ استعملت بمعنى الإِختيارات التي تكشف الصفات الباطنية للإِنسان ، واستحدثت في الإِبتلاء والجزاء الذي يبعث الصفاء في روح الإِنسان ويطهّره من شوائب الذنوب ، وأمّا في هذه الآية فإنّ كلمة (فتنة) بمعنى البلاء والمصائب الإِجتماعية التي يصاب بها الجميع فيحترق فيها الأخضر مع اليابس.

وفي الحقيقة فشأن الحوادث الإِجتماعية هو هكذا ، فإذا ما توانى مجتمع ما عن أداء رسالته ، وإنهارت القوانين على أثر ذلك ، وإنعدم الأمن ، فإنّ نار الفتنة ستحرق الأبرار مع الأشرار ، وهذا هو الخطر الذي يحذر الله تبارك وتعالى منه ويحذر في هذه الآية المجتمعات البشرية كلّها.

ومفهوم الآية هنا هو أنّ أفراد المجتمع مسؤولين عن أداء وظائفهم ، وكذلك فهم مسؤولون عن حثّ الآخرين لأداء وظائفهم أيضاً ، لأنّ الإِختلاف والتشتت في قضايا المجتمع يؤدي إِلى إنهياره ، ويتضرر بذلك الجميع ، فلا يصحّ أن يقول أحد بأنّنى أؤدي رسالتي الإِجتماعية ولا علاقة لي بالآثار السلبية الناجمة عن عدم أداء الآخرين لواجباتهم ، لأنّ آثار القضايا الإِجتماعية ليست فردية ولا شخصية.

وهذا الموضوع يشبه تماماً ما لو احتجنا لصد هجوم الأعداء إِلى مئة ألف مقاتل ، فإذا قام خمسون ألف مقاتل بأداء وظائفهم فمن اليقين أنّهم سيخسرون عند منازلتهم العدو ، وهذا الإِنكسار سيشمل الذين أدوا وظائفهم والذين تقاعسوا عن أدائها وهذه هي خصوصية المسائل الإِجتماعية.

ويمكن إيضاح هذه الحقيقة بصورة أجلى وهي : أنّ الأخيار من أبناء المجتمع مسؤولون في التصدّي للاشرار لأنّهم لو اختاروا السكوت فسيشاركون أُولئك مصيرهم عند الله كما ورد ذلك في حديث مشهور عن النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال : (إنّ الله عزّ وجلّ لا يعذب العامّة بعمل الخاصّة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكرون ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصّة والعامّة)(2).

ويتّضح ممّا قلناه أنّ هذا الحكم يصدق في مجال الجزاء الإِلهي في الدنيا والآخرة ، وكذلك في مجال النتائج وآثار الأعمال الجماعية(3).

وتُختتم الآية بلغة التهديد فتقول : {واعلموا أنّ الله شديد العقاب} لئلا يصاب هؤلاء بالغفلة بسبب الألطاف والرحمة الإِلهية وينسوا شدّة الجزاء الإِلهي ، فتأكلهم الفتن وتحيط بهم من كل جانب ، كما أحاطت المجتمع الإِسلامي ، وأرجعته القهقرى بسبب نسيانه السنن والقوانين الإِلهية.

فنظرة قصيرة إِلى مجتمعنا الإِسلامي في زماننا الحاضر والإِنكسارات التي أصابته أمام أعدائه ، والفتن الكثيرة ، كالإِستعمار والصهيونية ، والإِلحاد والمادية ، والفساد الخلقي وتشتت العوائل وسقوط شبابه في وديان الفساد ، والتخلف العلمي ، كل ذلك يجسد مضمون الآية ، وكيف أنّ تلك الفتن أصابت كل صغير وكبير ، وكل عالم وجاهل ، وسيستمر كل ذلك حتى اليوم الذي تتحرك فيه الروح الإِجتماعية للمسلمين ، ويهتم الجميع بصلاح المجتمع ولا يتخلفوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

ويأخذ القرآن الكريم مرّة أُخرى بأيدي المسلمين ليعيدهم نحو تاريخهم ، فكم كانوا في بداية الأمر ضعفاء وكيف صاروا لعلهم يدركون الدرس البليغ الذي علّمهم إيّاه في الآيات السابقة فيقول : {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ}.

وهذه عبارة لطيفة تشير إِلى الضعف وقلّة العدد التي كان عليها المسلمون في ذلك الزمن ، وكأنّهم كانوا شيئاً صغيراً معلقاً في الهواء بحيث يمكن للأعداء أخذه متى أردوا ، وهي إشارة لحال المسلمين في مكّة قبل الهجرة قبال المشركين الأقوياء. أو إشارة لحال المسلمين في المدينة بعد الهجرة في مقابل القوى الكبرى كالفرس والروم : {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .

الخيانة وأساسها :

يوجه الله سبحانه في الآية الأُولى من الآي محل البحث الخطاب إِلى المؤمنين فيقول : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ}.

إنّ الخيانة لله ورسوله ، هي وضع الأسرار العسكرية للمسلمين في تصرف أعدائهم ، أو تقوية الأعداء أثناء محاربتهم ، أو بصورة عامّة ترك الواجبات والمحرمات والأوامر الإِلهية ، ولذلك فقد ورد عن (ابن عباس) : إنّ من ترك شيئاً من الأوامر الإِسلامية فقد ارتكب خيانة بحق الله ورسوله.

ثمّ تقول الآية : {وتخونوا أمّاناتكم}(4).

و(الخيانة) في الأصل معناها : الإِمتناع عن دفع حق أحد مع التعهد به ، وهي ضد (الأمانة) والأمانة وإن كانت تطلق على الأمانة المالية غالباً ، لكنّها في منطق القرآن ذات مفهوم أوسع يشملُ شؤون الحياة الإِجتماعية والسياسية والأخلاقية كافة ، ولذلك جاء في الأحاديث : «المجالس بالأمانة».

ونقرأ في حديث آخر : «إذا حدث الرجل بحديث ثمّ التفت فهو أمانة. ومن ذلك تكون أرض الإِسلام أمانة إلهية بأيدي المسلمين وأبنائهم أيضاً. وفوق كل ذلك فإنّ القرآن المجيد وتعاليمه كل ذلك يعد أمانة إلهية كبرى ، وقد قال بعضهم : إنّ أمانة الله هي أوامره ، وأمانة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) سنته ، وأمانة المؤمنين أموالهم وأسرارهم ، ولكن الأمانة في الآية ـ آنفاً ـ تشتمل على كل ذلك.

على كل حال ، فإنّ الخيانة في الأمانة من أقبح الأعمال وشرّ الذنوب. فإنّ من يخون الأمانة منافق في الحقيقة ، كما ورد في الحديث عن الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم). حيث قال : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ، وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم».

كما أن ترك الخيانة في الأمانة يُعدّ من الحقوق والواجبات الإِنسانية ، حتى إذا كان صاحب الأمانة غير مسلم فلا تجوز خيانة أمانته.

ويقول القرآن في آخر الآية : {وأنتم تعلمون} أي أنّه قد يصدر منكم على نحو الخطأ ما هو خيانة ، ولكن تُقدموا على الخيانة وأنتم تعلمون ، فإنّ عملا كعمل (أبي لبابة) لم يكن لجهل أو خطأ ، بل بسبب الحب المفرط للمال والبنين وحفظ المصالح الشخصية الذي قد يسد في لحظة حساسة كل شيء بوجه الإِنسان ، فكأنّه لا يرى بعينه ولا يسمع بأذنيه ... فيخون الله ورسوله ، وهذه في الحقيقة خيانة مع العلم; والمهم أن يستيقظ الإِنسان بسرعة كما فعل (أبو لبابة) ليصلح ما قام بتخريبه.

والآية بعدها تحذر المسلمين ليجتنبوا الماديات والمنافع العابرة ، لئلا تلقى على عيونهم وآذاتهم غشاء فيرتكبون خيانة تعرّض المجتمع إِلى الخطر فتقول : {واعلموا إنّما أموالكم وأولادكم فتنة}.

وكلمة «فتنة» ـ كما ذكرنا ـ تأتي في مثل هذه الموارد بمعنى وسيلة الإِمتحان ، والحقيقة أنّ أهم وسيلة لإِمتحان الإِيمان والكفر والشخصية وفقدانها ، وميزان القيم الإِنسانية للأفراد هو هذان الموضوعان (المال والأولاد).

فكيفية جمع المال وكيفية إنفاقه ، والمحافظة عليه و ميزان التعلق به ، كل تلك ميادين لإِمتحان البشر ، فكم من أناس يلتزمون بظاهر العبادة وشعائر الدين ، حتى المستحبات يلتزمون بشدّة في أدائها ، لكنّهم إذا ما ابتلوا بقضية مالية ، تراهم ينسون كل شيء ويدعون الأوامر الإِلهية ومسائل الحق والعدل والإِنسانية جانباً.

أمّا عن الأبناء فهم ثمار قلب الإِنسان وبراعم حياته المتفتحة ، ولهذا نجد الكثير من الناس المتمسكين بالدين والمسائل الأخلاقية والإِنسانية ، لا يراعوا الحق والدين بالنسبة للمسائل المتعلقة بمصلحة أبنائهم ، فكأنّ ستاراً يلقى على أفكارهم فينسون كل الأُمور ، ويصير حبّهم لأبنائهم سبباً ليحُلُّوا الحرام ويحرموا الحلال ، ومن أجل توفير المستقيل لأبنائهم يستحقون كل حق ويقدمون على كل منكر ، فيجب علينا الإِعتصام بالله العظيم في هذين الميدانين العظيمين للإِمتحان ، وأن نحذر بشدّة ، فكم من الناس زلت أقدامهم وسقطوا فيهما ، وظلت لعنة التأريخ تلاحقهم أبداً بذلك. فإذا زلت لنا قدم يوماً ، فيجب علينا الإِسراع في تصحيح المسير كـ (أبي لبابة) وإذا كان المال هو السبب في الإِنحراف ، فعلينا بذله وإنفاقه في سبيل الله.

وفي نهاية الآية بشارة كبرى لمن يخرج من هذين الامتحانين منتصراً ، فتقول : {وإنّ الله عنده أجر عظيم}.

فمهما كان حبّ الأبناء كبيراً ، ومهما كانت الأموال محبوبة وكثيرة ، فإنّ جزاء الله وثوابه أعلى وأعظم من كل ذلك.

وهنا تثارُ أسئلة كثيرة ، منها : لماذا يمتحن الله الناس مع إحاطته العلمية بكل شيء؟ ولماذا يكون الإِمتحان شاملا للجميع حتى الأنبياء؟ وما هي مواد الإِمتحان الإِلهي وما هي السبل للتغلب عليها؟ وقد أجبنا على كل تلك الأسئلة في المجلد الأُولى من التّفسير الأمثل.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .

الإِيمان ووضوح الرّؤية :

تناولت الآيات السابقة أوامر حياتية تتضمّن السعادة المادية والمعنوية للإِنسان ، لكن العمل بها غير ممكن إِلاّ في ظلال التقوى ، لذلك جاءت هذه الآية المباركة لتؤكّد أهمية التقوى وآثارها في مصير الإِنسان ، وقد بيّنت الآية أربعة ثمار ونتائج للتقوى.

فقالت إبتداءاً : {يا أيّها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً...}.

وكلمة «فرقان» صيغة مبالغة من مادة (فرق) وهي هنا بمعنى الشيء الذي يفصل بين الحق والباطل تماماً.

إنّ هذه الجملة الموجزة والكبيرة في معناها قد بيّنت إحدى أهم المسائل المؤثره في مصير الإِنسان ، وهي أنّ درب الإِنسان نحو النصر محفوف دائماً بالمصاعب والحفر فإذا لم يبصرها جيداً ويحسنُ معرفتها واتقاءها فسيسقط فيها لامحالة ، فأهم مسألة في هذا الطريق هي معرفة الحق والباطل ، معرفة الحسن والقبيح ، معرفة الصديق والعدو ، معرفة الفوائد والأضرار ، معرفة عوامل السعادة والضياع ، فإذا استطاع الإِنسان معرفة هذه الحقائق جيداً فسيسهل عليه الوصول إِلى الهدف.

إنّ المشكلة التي تعترض الانسان غالباً هي خطأه في تشخيص الباطل واختياره على الحق ، وإنتخاب العدوّ بدل الصديق ، وطريق الضلال بدل طريق الهداية ، وهنا يحتاج الإِنسان إِلى بصر وبصيرة قويّة ، ووضوح رؤية. إنّ هذه الآية المباركة تقول : إنّ هذه البصيرة ثمرة لشجرة التقوى. أمّا كيف تعطي هذه التقوى البصيرة للإِنسان؟ فقد يكون الأمر مبهماً لدى البعض ، لكن قليلا من الدقّة والتأمل كافية لتوضيح العلاقة الوثيقة بين هذين الإِثنين ، ولإِيضاح ذلك نقول :

أوّلا : إنّ قوّة عقل الإِنسان تستطيع إدراك الحقائق بقدر كاف ، ولكن ستائر من الحرص والطمع والشهوة وحبّ النفس والحسد ، والحبّ المفرط للمال والأزواج والأولاد والجاه والمنصب كل ذلك يغدُوّ كالدخان الأسود أمام بصيرة العقل ، أو كالغبار الغليظ الذي يملأ الآفاق ، وهنا لا يمكن للإِنسان معرفة الحق والباطل في أجواء مظلمة ، أمّا إذا غسل تلك الغشاوة بماء التقوى وانقشع ذلك الدخان الأسود ، عند ذاك تسهل عليه رؤية نور الحق.

ثانياً : أنّنا نعلم أنّ كل كمال في أي مكان إنّما هو قبس من كمال الحق ، وكلّما اقترب الإِنسان من الله فإنّ نور الكمال المطلق سينعكس في وجوده أكثر ، وعلى ذلك فإنّ أي علم ومعرفة فهو نبع من علمه ومعرفته تعالى ، وكلّما تقدّم الإِنسان في ظلال التقوى وترك المعاصي من الله ، ذابت قطرة وجوده في بحر وجود العظيم أكثر ، وسيحصل على مقدار أكثر من العلم والمعرفة.

وبعبارة أُخرى فإنّ قلب الإِنسان كالمرآة ، ووجود الله كالشمس الساطعة على الوجود ، فإذا تلوثت مرآة قلبه من الأهواء حتى اسودت ، فسوف لا تعكس النور ، فإذا تمّ جلاؤها بالتقوى وزال الدرن عنها ، فإنّ تلك الشمس الوضاءة الساطعة ستنعكس فيها وتنير كل مكان.

ولذلك فإنّنا نرى على مدى التأريخ بعض النساء والرجال المتّقين يملكون وضوحاً من الرؤية لا يمكن بلوغه بوسائل العلم والمعرفة أبداً ، فهم يرون أسباب الكثير من الحوادث التي تعصف بالمجتمع غير المرئية ، ويرون وجود أعداء الحق وإن حجبتها آلاف الستائر الخادعة.

وهذا الأثر العجيب للتقوى في معرفة الواقع ، جاء ذكره في الكثير من الرّوايات والآيات الأُخرى ، ففي سورة البقرة تقول الآية 282 : {اتقوا الله ويعلمكم الله} ، وجاء في الحديث المعروف : «المؤمن ينظر بنور الله».

وفي نهج البلاغة في قصار الكلم : «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع».

ثالثاً : بالتحليل العقلي يمكن فهم العلاقة الوثيقة بين التقوى وإدراك الحقائق أيضاً ، لأنّ المجتمعات التي تسير في دروب الفساد والرذيلة وأجهزة الإِعلام فيها تطبل لذلك الميسر ، والصحافة والراديو والتلفزيون كلها تدعو للتلوث والإِنحراف وخدمة الفساد ، فمن البديهي أن يصعب على الناس تمييز الحق من الباطل ، الجيد من الرديء ، ونتيجة الأمر ، فإنّ إنعدام التقوى يكون سبباً لفقدان القدرة على هذه المعرفة أو سوء المعرفة.

ومثال آخر : فإنّ عائلة غير متقيّة ، وصغارها يشبون في محيط ملوث بالفساد والرّذيلة ، فمن العسير على هؤلاء في المستقبل تمييز الجيد من الرديء ، وإهدار القوى والطاقات في الذنوب يتسبب بقاء الناس على مستوى دان من البصيرة والمعرفة وانحطاط في التفكير حتى وإن كانوا متقدمين في الصناعة والحياة المادية.

وبناءً على ما تقدم فإنّنا نرى أنّ ادنى انحراف عن التقوى يسبب نوعاً من العمى وسوء المعرفة ، لذلك نرى في العالم الصناعي اليوم مجتمعات متقدمة جدّاً في العلم والصناعة ، ولكنّها في حياتها اليومية مصابة بأمراض ومشاكل شديدة تبعث على الإِستغراب والتعجب ، وهنا تتجلى عظمة ما قاله القرآن الكريم.

ونظراً إِلى أنّ التقوى لا تنحصر بالتقوى في العمل ، بل تشمل التقوى في الفكر والعقل ، فإنّ هذه الحقيقة تتّضح بصورة أجلى. فالتقوى في الفكر تعني مواجهة التسيّب وعدم الإِنضباط في التفكير ، بمعنى أن نبحث في دراساتنا وتحقيقاتنا عن أصح الأدلة وأوثق البراهين ، وأن لا نلتزم بعقيدة دون التحقيق الكافي والدقة اللازمة.

والذين يراعون التقوى ويلتزمونها في تفكيرهم سيبلغون النتائج الصحيحة أسرع بكثير ممن لا يلتزم بها ، كما أنّ الخلط والخطأ يكثر عند من لايتقي الله في استدلالاته وأسلوب تفكيره.

وهناك أمر آخر يجب الإِنتباه إليه ، لأنّ الكثير من مفاهيمنا الإِسلامية قد تعرضت للتشويه بين المسلمين ، وهو أنّ الكثير من الناس يتصور أنّ الإِنسان المتقي هو الذي يكثر من غسل بدنه ولباسه ويعتبر كل فرد وكل شيء نجساً ومشكوكاً فيه ، وينزوي جانباً متجنباً الخوض في الأُمور الإِجتماعية ، ويسكت أمام كل واقعة ، فهذه النظرات المغلوطة عن التقوى والمتقين في الحقيقة إحدى عوامل انحطاط المجتمعات الإِسلامية ، لأنّ هذه التقوى لا تنتج معرفة ولا وضوح رؤية ولا تكون فرقاناً بين الحق والباطل.

وعلى كل حال ، وبعد أن إتّضح أوّل ثواب للمتقين نعود لتفسير بقية الآية وسائر الثمار الإربعة لها.

يقول القرآن الكريم : إنّه إضافة إِلى معرفة الحق من الباطل فإنّ من آثار التقوى أن يغطي على ذنوبكم ويمحوا آثارها من وجودكم {ويكفر عنكم سيئاتكم}.

مضافاً إِلى ذلك ، فإنّه تعالى سيشملكم بمغفرته {ويغفر لكم}.

وثمار كثيرة أُخرى تنتظركم لا يعلمها إلاّ الله : {والله ذو الفضل العظيم}. فهذه الآثار الأربعة هي ثمرات في شجرة التقوى ، ووجود روابط طبيعية بين التقوى وقسم من هذه الآثار لا يمنع من نسبة كل ذلك إلى الله تبارك وتعالى ، لأنّنا وكما قلنا مراراً في هذا التّفسير فإنّ أي موجود ذي آثار إنّما تحصل بمشيئة الله وقدرته ، فيمكن نسبة تلك الآثار إِلى الله عزّ وجلّ ، وإِلى ذلك الموجود أيضاً.

وأمّا الفرق بين (تكفير السيئات) و(الغفران). فقد قال بعض المفسّرين بأنّ الأُولى إشارة إِلى الحجب من الدنيا ، والثّانية إِلى النجاة من الجزاء الأخروي ، ويردُ احتمال آخر هنا وهو أن (تكفير السيئات) تشير للآثار النفسية والإِجتماعية للذنوب والتي تزول بفعل التقوى ، ولكن (الغفران) إشارة إِلى مسألة العفو الإِلهي والخلاص من الجزاء ... .

________________
1- تفسير الامثل ، مكارم الشيرازي ، ج5 ، ص44-54.

2 ـ تفسير المنار ، الجزء 9 ، ص 638.

3 ـ فقد جرى الحديث بين المفسّرين حول كلمة «لا تصيبنّ» في أنّها هل هي صيغة نفي أو نهي ، فالذين قالوا بالنهي وفسّروها بمعنى اتّقوا الفتن لأنّها لا تصيب الظالمين وحدهم ، وقال بعض : إنّها صيغة نفي ولكن لما يعتقده علماء العربية بأنّ نون التوكيد لا تظهر في النهي وجواب القسم ، فقد إعتبروا الجملة جواباً لقسم مقدر.

4 ـ «تخونوا} في الأصل {لا تخونوا} وقد حذفت {لا} بقرينة الجملة السابقة.

 

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .