أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-7-2020
7224
التاريخ: 16-7-2020
4735
التاريخ: 20-7-2020
3431
التاريخ: 14-7-2020
3913
|
قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُومَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 5-7]
لما تقدم ذكر الأدلة على أنه سبحانه قادر على الإنشاء والإعادة عقبه بالتعجب من تكذيبهم بالبعث والنشور فقال {وإن تعجب} يا محمد من قول هؤلاء الكفار في إنكارهم البعث مع إقرارهم بابتداء خلق الخلق فقد وضعت التعجب موضعه لأن هذا قول عجب ومعناه عجب للمخلوقين فإن معنى العجب في صفات الله لا يجوز لأن العجب أن يشتبه عليه سر أمره فيستطرفه {فعجب قولهم}أي: فقولهم عجب { أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي: أنبعث ونعاد بعد ما صرنا ترابا هذا مما لا يمكن وهذا منهم نهاية في الأعجوبة فإن الماء إذا حصل في الرحم استحال علقة ثم مضغة ثم لحما فإذا مات ودفن استحال ترابا فإذا جاز أن يتعلق الإنشاء بالاستحالة الأولى فلم لا يجوز تعلقه بالاستحالة الثانية وسمى الله تعالى الإعادة خلقا جديدا.
واختلف المتكلمون فيما يصح عليه الإعادة فقال بعضهم كلما يكون مقدورا للقديم سبحانه خاصة ويصح عليه البقاء يصح عليه الإعادة ولا يصح الإعادة على ما لا يقدر على جنسه غيره تعالى وهذا قول أبي علي الجبائي وقال آخرون كلما كان مقدورا له وهو مما يبقى يصح عليه الإعادة وهو قول أبي هاشم ومن تابعه فعلى هذا يصح إعادة أجزاء الحياة.
ثم اختلفوا فيما يجب إعادته من الحي فقال أبو القاسم البلخي يعاد جميع أجزاء الشخص وقال أبو هاشم: يعاد الأجزاء التي بها يتميز الحي من غيره ويعاد التأليف ثم رجع عن ذلك وقال تعاد الحياة مع البنية وقال القاضي أبوالحسن تعاد البنية وما عدا ذلك يجوز فيه التبديل وهذا هو الأصح {أولئك}المنكرون للبعث {الذين كفروا بربهم}أي: جحدوا قدرة الله تعالى على البعث { وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} في الآخرة وقيل أراد به أغلال الكفر أي كفرهم أغلال في أعناقهم { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} مضى تفسيره {ويستعجلونك} أي: يستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون {بالسيئة قبل الحسنة} أي: بالعذاب قبل الرحمة عن ابن عباس ومجاهد أي بالعقاب الذي توعدوا به على التكذيب قبل الثواب الذي وعدوا به على الإيمان وذلك حين قالوا فأمطر علينا حجارة من السماء وقيل يستعجلونك بالعذاب الذي توعدهم به قبل الإحسان بالإنظار فإن إنظار من وجب عليه العقاب إحسان إليه كإنذار من وجب عليه الدين وسماها سيئة لأنها جزاء السيئة {وقد خلت من قبلهم} أي: مضت من قبلهم {المثلات} أي: العقوبات التي يقع بها الاعتبار وهو ما حل بهم من المسخ والخسف والغرق وقد سلك هؤلاء طريقتهم فكيف يتجاسرون على استعجالها وقيل: هي العقوبة الفاضحة التي تسير بها الأمثال وتقديره وقد خلت المثلات بأقوام أوخلا أصحاب المثلات فحذف المضاف { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} قال المرتضى ( ره ) :في هذه الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة لأنه سبحانه دلنا على أنه يغفر لهم مع كونهم ظالمين لأن قوله {على ظلمهم} إشارة إلى الحال التي يكونون عليها ظالمين ويجري ذلك مجرى قول القائل أنا أود فلانا على غدره وأصله على هجره.
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} لمن استحقه وروي عن سعيد بن المسيب قال لما نزلت هذه الآية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لولا عفو الله وتجاوزه ما هنا أحدا العيش ولولا وعيد الله وعقابه لا تكل كل واحد وتلا مطرف يوما هذه الآية فقال لو يعلم الناس قدر رحمة الله وعفو الله وتجاوز الله لقرت أعينهم ولو يعلم الناس قدر عذاب الله وبأس الله ونكال الله ونقمة الله ما رقا لهم دمع ولا قرت أعينهم بشيء { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} مثل الناقة والعصا عن ابن عباس وقال الزجاج طلبوا غير الآيات التي أتى بها فالتمسوا مثل آيات موسى وعيسى فأعلم الله أن لكل قوم هاد والمعنى أنه سبحانه بين سوء طريقتهم في اقتراح الآيات كما في قوله لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا إلى قوله أوتأتي بالله والملائكة قبيلا وكما قالوا اجعل الصفا لنا ذهبا حتى نأخذ منه ما نشاء وإنما لم يظهر الله تعالى تلك الآيات لأنه لوأجاب أولئك لاقترح قوم آخرون آية أخرى وكذلك كل كافر فكان يؤدي إلى غير نهاية.
{ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فيه أقوال ( أحدها ): أن معناه إنما أنت منذر أي: مخوف وهاد لكل قوم وليس إليك إنزال الآيات عن الحسن وأبي الضحى وعكرمة والجبائي وعلى هذا فيكون أنت مبتدأ ومنذر خبره وهاد عطف على منذر وفصل بين الواوو المعطوف بالظرف (والثاني): أن المنذر هو محمد والهادي هو الله تعالى عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد ( والثالث ): أن معناه إنما أنت منذر يا محمد ولكل قوم هاد نبي يهديهم وداع يرشدهم عن ابن عباس في رواية أخرى وقتادة والزجاج وابن زيد ( والرابع ): أن المراد بالهادي كل داع إلى الحق وفي رواية أخرى عن ابن عباس قال لما نزلت الآية قال رسول الله: أنا المنذر وعلي الهادي من بعدي يا علي بك يهتدي المهتدون وروى الحاكم أبوالقاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن حكم بن جبير عن أبي بردة الأسلمي قال دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالطهور وعنده علي بن أبي طالب فأخذ رسول الله بيد علي بعد ما تطهر فألزمها بصدره ثم قال: إنما أنت منذر ثم ردها إلى صدر علي ثم قال ولكل قوم هاد ثم قال إنك منارة الأنام وغاية الهدى وأمير القرى وأشهد على ذلك أنك كذلك وعلى هذه الأقوال الثلاثة يكون هاد مبتدأ ولكل قوم خبره على قول سيبويه ويكون مرتفعا بالظرف على قول الأخفش .
___________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص13-15.
{ وإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } . الخطاب لمحمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) ، وضمير قولهم للمشركين الذين أنكروا نبوته ، والمعنى : ان تعجب
من عبادة المشركين للأصنام ، وانكارهم نبوتك فإن تكذيبهم بالبعث أعجب وأغرب ، ذلك انهم يعترفون بأنه تعالى خلق الكون وأوجده ، ومن قدر على ذلك فبالأولى ان يقدر على إعادة الإنسان بعد موته .
{ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وأُولئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ } . ذكر سبحانه أولئك ثلاث مرات مبالغة في التهديد والتعبير عن غضبه وسخطه . . وقوله : أولئك الذين كفروا بربهم يدل على أن من آمن بان اللَّه هو خالق الكون يلزمه حتما أن يؤمن بأنه تعالى قادر على أن يبعث من في القبور ، ومن أنكر ذلك فقد كفر باللَّه من حيث يريد أو لا يريد ، ومن جمع بين الإيمان باللَّه ، وبين الإيمان بعجزه عن احياء الأموات فقد جمع بين النقيضين والمشركون قد أنكروا البعث لأن اللَّه بزعمهم لا يقدر عليه كما يشعر قولهم :
أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد . . إذن ، هم منكرون للَّه في واقعهم ، وان اعترفوا به بألسنتهم .
الماديون والحياة بعد الموت :
أنكر الماديون وجود اللَّه ، وبالأولى أن ينكروا الحياة بعد الموت ، ودليلهم واحد لا تبديل فيه ولا تعديل ، وهو كل ما يظهر للحواس عيانا ومشاهدة يجب الايمان به ، وكل ما يخفى عليها يجب نفيه وإنكاره ، فالحواس هي الأول والآخر ، والظاهر والباطن على حد تعبيرهم . . إذن ، كيف يؤمنون بالجنة ولم يأكلوا ثمارها ؟
وكيف يعتقدون بجهنم ولم تصلهم بنارها ؟ .
ونحن نسألهم بدورنا : من أين لكم هذا العلم أو الايمان بأن الحواس الظاهرة هي وحدها طريق الحق والواقع ، وما عداها لغو وكلام فارغ ؟ على حد تعبيرهم أيضا . فإن قلتم جاءنا من شهادة الحواس قلنا : نحن عندنا حواس ، وما رأينا أحدا - غيركم - يقول : لا تصدقوا الا الحواس . وان قلتم : جاءنا من غير الحواس فقد ناقضتم أنفسكم بأنفسكم ، حيث آمنتم بما لا شاهد عليه من الحواس .
في سنة 1962 ألَّفت كتابا في الرد على الماديين ، وهو كتاب « فلسفة المبدأ والمعاد » طبع ونفدت نسخه في أمد قصير ، ثم قرأت بعده كثيرا عن الماديين والردود عليهم ، من ذلك :
1 - يجب على منطق الماديين ان لا يوجد أي فرق بين الإنسان صانع المعجزات وبين أحقر الحشرات التي تولدت من العفونة والقذارات ، ما دام كل منهما ابنا شرعيا للصدفة والطبيعة العمياء ولم تنله يد العناية والتدبير .
2 - لقد وجد العلماء في دماغ الإنسان 14 ألف مليون خط منسقة ومرتبة ترتيبا محكما ودقيقا ، يعجز عنه أعظم المهندسين بل كلهم مجتمعين ، بحيث إذا انحرف واحد منها قيد شعرة عن موقعه ذهب ادراك الإنسان أو اضطرب ، تماما كما يحدث لنور الكهرباء إذا اختلت الأسلاك . . ولا تفسير لذلك عند العقل إذا لم يفرض وجود مدبر حكيم لا يحس بالعين أو الأذن أو اليد أو الأنف أو اللسان . . ومهما بلغت الصدفة من المعجزات والخوارق فإنها لا تنشئ محطة كهرباء واحدة ، وتوصل بها 14 ألف مليون خط محكمة الصنع والوضع في آن واحد ، فكيف إذا كانت هذه المحطات على عدد رؤوس الآدميين وأدمغتهم ؟ . . وفوق ذلك أنها تحس وتشعر .
3 - يقول الماديون : ان دماغ الإنسان ، تماما كالعقل الألكتروني ، كلاهما مجموعة من أجزاء جامدة مرتبة ومنسقة على شكل تترتب عليه تلك الآثار والمعطيات . .
وأجابهم العالم الفرنسي « كوسا » بقوله : « إذا زعقت سيارتي القديمة ، وتأوهت مثل المصاب بآلام الروماتزم فهل يمكنني أن أقول : ان سيارتي تعاني من آلام الروماتزم ؟ . وإذا حشرج فيها الكاربوريتر عندما أضغط على البنزين فهل يمكن أن أقول : انه مصاب بالربو ؟ » . .
ونعطف نحن على قول هذا العالم ان الترتيب والتنسيق في العقل الألكتروني جاء من فعل الإنسان ما في ذلك ريب ، ولكن من الذي رتب ونسق دماغ الإنسان ؟
وإذا اخترع الإنسان عقلا الكترونيا فهل يستطيع هذا العقل الألكتروني أن يخترع عقلا مثله أو دونه ولو دبوسا ؟ . وفي كتاب « العمل والمخ » للعالم السوفيتي يوري باخلوف ، ترجمة شكري عازر : « الذين يظنون أن في إمكان الآلة أن تحل محل المخ الإنساني يخطئون خطأ جسيما . . ان المخ الإنساني يمتاز بقابليته لتلقّي المهارات والعبقريات والعادات إلى ما لا نهاية ، أما العقل الألكتروني فإنه محدود ، وخاضع لما يقرر له الإنسان » .
4 - « ان أعظم اكتشاف للنحل - غير ما هو معروف عنه - انه عرف قبل الإنسان جهاز التكييف ، فإذا ارتفعت درجة الحرارة في خلية النحل يذهب فوج منه ويأتي بالماء في خراطيمه ويضعه في خزان ، حتى إذا اجتمع منه قدر الكفاية قام فوج آخر برشه ، وهزّ ثالث أجنحته ليصنع تيارا من الهواء ، فيتبخر الماء بسرعة ، ومع هذا التبخر تنخفض درجة الحرارة » ( 2 ) .
من الذي ألهم النحل إلى الاختراع ، الصدفة ، أو ان وراء الطبيعة قوة وحقيقة هي المدخل إلى الطبيعة ونظامها ؟ . . وللنحل والنمل وغيرهما حكايات تفوق التصور ولا تفسير لها إلا بوجود مدبر حكيم . . ونعود إلى قول فولتير الذي أشرنا إليه فيما سبق أكثر من مرة ، وهو « أمام الفكرة في وجود اللَّه عقبات ، ولكن في الفكرة المضادة حماقات . . وهكذا ينتقل الإنسان من شك إلى شك حتى يصل إلى أن التصديق باللَّه هو الأقرب ، وبه تتعلق القوانين الضرورية للعالم » .
{ ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ } . المراد بالسيئة هنا العقاب ، وبالحسنة الثواب ، وبالمثلات العقوبات . . دعا رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله وسلم ) المشركين إلى التوحيد ، ووعدهم بالثواب ان استجابوا ، وتوعدهم بالعقاب ان استنكفوا ، وبدلا من أن يستجيبوا ويتوبوا من الشرك ازدادوا تمردا وطغيانا ، وأخذتهم العزة بالإثم ، وقالوا : عجل لنا بما تعدنا ان كنت من الصادقين ،قالوا هذا ولم يعتبروا بالأمم الخالية الذين عصوا رسل ربهم ، فأخذهم اللَّه أخذا وبيلا .
وتجدر الإشارة إلى أن الغفلة عن الاعتبار والاتعاظ لا تختص بالمشركين وحدهم فإن أكثر الناس لا يعتبرون بالغير ، ولا يتعظون بالعبر ، حتى الواعظين . .
والسر أن الأكثرية الغالبة تنقاد لمصلحتها وعاطفتها ، لا لعقلها ودينها ، وفي الأمثال الغربية : المرأة تقود الرجل من بطنه لا من عقله .
{ وإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ } . المراد بالمغفرة هنا الامهال وعدم تعجيل العقوبة على الذنب ، والقرينة على ذلك قوله تعالى : { وإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ } لأن المغفرة لا تجتمع بحال مع العقوبة الأخروية فضلا عن شدتها ، والمعنى ان اللَّه سبحانه لا يعاقب العبد بمجرد ان يذنب ويسئ ، وانما يؤخره ، ويفتح له باب التوبة على مصراعيه ، عسى أن يرجع عن غيه ، ويثوب إلى رشده .
وقيل في تفسير الآية : ان اللَّه تعالى يغفر الذنوب للعصاة من المسلمين ، ويشدد العقاب على الكافرين . . وهذا التفسير خلاف الظاهر ، بالإضافة إلى أنه إغراء بالمعصية ، وتشجيع للعصاة . . والحق ما قلناه ، والدليل قوله تعالى : « ولَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ - 61 النحل » . فإن القرآن ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض .
{ ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ } . مر نظيره في الآية 37 من الأنعام ج 3 ص 184 . وتكلمنا مفصلا عن معجزة محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) وطلب المكابرين عند تفسير الآية 118 من سورة البقرة ص 189 .
_______________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، صفحه 378-382.
2-. مجلة روز اليوسف المصرية عدد 27 / 1 / 1969 عن كتاب بين الإنسان والآلة . السيبر ناطيقا تأليف يلنيا سابارينا .
عطف على بعض ما كان يتفوه به المشركون في الرد على الدعوة والرسالة كقولهم: أنى يمكن بعث الإنسان بعد موته وصيرورته ترابا؟ وقولهم: لولا أنزل علينا العذاب الذي ينذرنا به ومتى هذا الوعد إن كنت من الصادقين؟ والجواب عن ذلك بما يناسب المقام.
قوله تعالى:{ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} إلى آخر الآية قال في المجمع،: العجب والتعجب هجوم ما لا يعرف سببه على النفس والغل طوق تشد به اليد إلى العنق انتهى.
أشار تعالى في مفتتح كلامه إلى حقية ما أنزله إلى نبيه من معارف الدين في كتابه ملوحا إلى أن آيات التكوين تهدي إليه وتدل عليه وأصولها التوحيد والرسالة والبعث ثم فصل القول في دلالة الآيات التكوينية على ذلك واستنتج من حجج ثلاث ذكرها توحيد الربوبية والبعث بالتصريح، ويستلزم ذلك حقية الرسالة والكتاب المنزل الذي هو آيتها، فلما اتضح ذلك واستنار تمهدت الطريق لذكر شبه الكفار فيما يرجع إلى الأصول الثلاثة فأشار في هذه الآية إلى شبهتهم في البعث وسيتعرض لشبههم وأقاويلهم في الرسالة والتوحيد في الآيات التالية.
وشبهتهم في ذلك قولهم:{ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أورده بعنوان أنه عجب أحرى به أن يتعجب منه لظهور بطلانه وفساده ظهورا لا مسوغ لإنسان سليم العقل أن يرتاب فيه فلوتفوه به إنسان لكان من موارد العجب فقال:{وإن تعجب فعجب قولهم} إلخ.
ومعنى الجملة على ما يرشد إليه حذف متعلق{تعجب} إن تحقق منك تعجب ولا محالة يتحقق لأن الإنسان لا يخلومنه - فقولهم هذا عجيب يجب أن يتعلق به تعجبك، فالتركيب كناية عن وجوب التعجب من قولهم هذا لكونه قولا ظاهر البطلان لا يميل إليه ذولب وحجى.
وقولهم:{ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} مرادهم من التراب بقرينة السياق ما يصير إليه بدن الإنسان بعد الموت من صورة التراب وينعدم عند ذلك الإنسان الذي هو الهيكل اللحمي الخاص المركب من أعضاء خاصة المجهز بقوى مادية على زعمهم وكيف يشمل الخلقة أمرا منعدما من أصله فيعود مخلوقا جديدا؟.
ولشبهتهم هذه جهات مختلفة أجاب الله سبحانه في كلامه عن كل واحدة منها بما يناسبها ويحسم مادتها: فمنها: استبعاد أن يستحيل التراب إنسانا سويا، وقد أجيب عنه بأن إمكان استحالة المواد الأرضية منيا ثم المني علقة ثم العلقة مضغة ثم المضغة بدن إنسان سوي ووقوع ذلك بعد إمكانه لا يدع ريبا في جواز صيرورة التراب ثانيا إنسانا سويا قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} الآية:. الحج: 5. ومنها: استبعاد إيجاد الشيء بعد عدمه.
وأجيب بأنه مثل الخلق الأول فليجز كما جاز قال تعالى:{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ}: يس: 79.
ومنها: أن الإنسان تنتفي ذاته بالموت فلا ذات حتى تتلبس بالخلق الجديد ولا إنسان بعد الموت والفوت إلا في تصور المتصور دون الخارج بنحو.
وقد أجيب في كلامه تعالى عنه ببيان أن الإنسان ليس هو البدن المركب من عدة أعضاء مادية حتى ينعدم من أصله ببطلان التركيب وانحلاله بل حقيقته روح علوية - وإن شئت قلت: نفس - متعلق بهذا المركب المادي تستعمله في أغراضه ومقاصده وبها حياة البدن يبقى بها الإنسان محفوظ الشخصية وإن تغير بدنه وتبدل بمرور السنين ومضي العمر ثم الموت هو أن يأخذها الله من البدن وتقطع علقتها به ثم البعث هو أن يجدد الله خلق البدن وتعليقها به وهو القيام لله لفصل القضاء.
قال تعالى:{ وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}: الم السجدة: 11 يقول إنكم بالموت لا تضلون في الأرض ولا تنعدمون بل الملك الموكل بالموت يأخذ الأمر الذي تدل عليه لفظة{كم} و{نا} وهي النفوس فتبقى في قبضته ولا تضل ثم إذا بعثتم ترجعون إلى الله بلحوق أبدانكم إلى نفوسكم وأنتم أنتم.
فللإنسان حياة باقية غير محدودة بما في هذه الدنيا الفانية وله عيشة في دار أخرى باقية ببقاء الله ولا يتمتع في حياته الثانية إلا بما يكتسبه في حياته الأولى من الإيمان بالله والأعمال الصالحة ويعده في يومه لغده من مواد السعادة فإن اتبع الحق وآمن بآيات الله سعد في أخراه بكرامة القرب والزلفى وملك لا يبلى، وإن أخلد إلى الأرض وانكب على الدنيا وأعرض عن الذكرى بقي في دار الشقاء والبوار وغل بأغلال الخيبة والخسران في مهبط اللعن وحضيض البعد وكان من أصحاب النار.
وإذا عرفت هذا الذي قدمناه وتأملته تأملا كافيا بان لك أن قوله تعالى:{أولئك الذين كفروا بربهم} إلى آخر الآية ليس بمجرد تهديد بالعذاب لهؤلاء القائلين:{ءإذا كنا ترابا ء إنا لفي خلق جديد} على ما يتخيل في بادىء النظر بل جواب بلازم القول.
وتوضيح ذلك أن لازم قولهم: إن الإنسان إذا مات وصار ترابا بطلت الإنسانية وانعدمت الشخصية أن يكون الإنسان صورة مادية قائمة بهذا الهيكل البدني المادي العائش بحياة مادية من غير أن تكون له حياة أخرى خالدة بعد الموت يبقى فيها ببقاء الرب تعالى ويسعد بقربه ويفوز عنده وبعبارة أخرى تكون حياته محدود بهذه الحياة المادية غير أن تنبسط على ما بعد الموت وتدوم أبدا، وهذا في الحقيقة إنكار للعالم الربوبي إذ لا معنى لرب لا معاد إليه.
ولازم ذلك أن يقصر الإنسان همه في المقاصد الدنيوية والغايات المادية من غير أن يرتقي فهمه إلى ما عند الله من النعيم المقيم والملك العظيم فيسعى لقربه تعالى ويعمل في يومه لغده كالمغلول الذي لا يستطيع حراكا ولا يقدر على السعي لواجب أمره.
ولازم ذلك أن يثبت الإنسان في شقاء لازم وعذاب دائم فإنه أفسد استعداد السعادة وقطع الطريق وهذه اللوازم الثلاث هي التي أشار تعالى إليه بقوله:{أولئك الذين كفروا} إلخ.
فقوله:{أولئك الذين كفروا بربهم} إشارة إلى اللازم الأول وهوإعراض منكري المعاد عن العالم الربوبي والحياة الباقية والستر على ما عند الله من النعيم المقيم والكفر به.
وقوله:{وأولئك الأغلال في أعناقهم} إشارة إلى اللازم الثاني وهوالإخلاد إلى الأرض والركون إلى الهوى والتقيد بقيود الجهل وأغلال الجحد والإنكار، وقد مر في تفسير قوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} الآية: البقرة: 26 في الجزء الأول من الكتاب كلام في كون هذه التعبيرات القرآنية حقائق أومجازات فراجع إليه.
وقوله:{ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} إشارة إلى اللازم الثالث وهومكثهم في العذاب والشقاء.
قوله تعالى:{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ} إلى آخر الآية.
قال في المجمع،: الاستعجال طلب التعجيل بالأمر والتعجيل تقديم الأمر قبل وقته، والسيئة خصلة تسوء النفس ونقيضها الحسنة وهي خصلة تسر النفس، والمثلات العقوبات واحدها مثلة بفتح الميم وضم الثاء، ومن قال في الواحد: مثلة بضم الميم وسكون الثاء قال في الجمع: مثلات بضمتين نحوغرفة وغرفات، وقيل في الجمع: مثلات ومثلات - أي بسكون الثاء وفتحها - انتهى.
وقال الراغب في المفردات،: المثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع به غيره وذلك كالنكال وجمعه مثلات ومثلات - أي بضم الميم أو فتحها وضم الثاء - وقد قرىء: من قبلهم المثلات، والمثلات بإسكان الثاء على التخفيف نحوعضد وعضد.انتهى.
وقوله:{يستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} ضمير الجمع للذين كفروا المذكورين في الآية السابقة، والمراد باستعجالهم بالسيئة قبل الحسنة سؤالهم نزول العذاب إليهم استهزاء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل سؤال الرحمة والعافية، والدليل عليه قوله:{وقد خلت من قبلهم المثلات} - والجملة في موضع الحال - فإن المراد به العقوبات النازلة على الأمم الماضين القاطعة لدابرهم.
والمعنى: يسألك الذين كفروا أن تنزل عليهم العقوبة الإلهية قبل الرحمة والعافية بعد ما سمعوك تنذرهم بعذاب الله استهزاء وهم على علم بالعقوبات النازلة قبلهم على الأمم الماضين الذين كفروا برسلهم والآية في مقام التعجيب.
وقوله:{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} استئناف أوفي موضع الحال، ويفيد بيان السبب في كون استعجالهم أمرا عجيبا أي إن ربك ذورحمة واسعة تسع الناس في جميع أحوالهم حتى حال ظلمهم وذوغضب شديد وقد سبقت رحمته غضبه فما بالهم يعرضون عن وسيع رحمته ومغفرته ويسألون شديد عقابه وهم مستعجلون؟ إن ذلك لعجيب.
ويظهر من هذا المعنى الذي يعطيه السياق: أولا: أن التعبير عنه تعالى بقوله:{ربك} إنما هو للدلالة على كونهم مشركين وثنيين لا يأخذونه تعالى ربا بل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي يأخذه ربا من بين قومه.
وثانيا: أن المراد بالمغفرة والعقاب هو الأعم من المغفرة والعقوبة الدنيويتين فإن المشركين إنما كانوا يستعجلون بالسيئة والعقوبة الدنيويتين، والمثلات التي يذكر الله تعالى أنها خلت من قبلهم إنما هي العقوبات الدنيوية النازلة عليهم.
على أن العفو والمغفرة لا يختصان بما بعد الموت أوبيوم القيامة ولا أن آثارهما تختص بذلك، وقد تقدم ذلك مرارا فله تعالى أن يبسط مغفرته على كل من شاء حتى على الظالم حين هو ظالم فيغفر له مظلمته إن اقتضته الحكمة، وله أن يعاقب قال تعالى:{ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: المائدة: 118.
ولهذه النكتة عبر تعالى عن مورد المغفرة بقوله:{للناس} ولم يقل للمؤمنين أوللتائبين ونحوذلك فلو التجأ أي واحد من الناس إلى رحمته وسأله المغفرة كان له أن يغفر له سواء في ذلك الكافر والمؤمن والمعاصي الكبيرة والصغيرة غير أن المشرك لوسأله أن يغفر له شركه انقلب بذلك مؤمنا غير مشرك، والله سبحانه لا يغفر المشرك ما لم يعد إلى التوحيد قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}: النساء: 48.
فكان على هؤلاء الذين كفروا أن يسألوه تعالى - ويستعجلوا به - أن يغفر لهم شركهم أوما يتفرع على شركهم من المعاصي بتقديم الإيمان به وبرسوله أوأن يسألوه العافية والبركة وخير المال والولد على كونهم ظالمين فإنه برحمته الواسعة يفعل ذلك حتى بمن لا يؤمن به ولا ينقاد له، وأما الظلم حال ما يتلبس به الظالم فإن المغفرة لا تجامعه وقد قال تعالى:{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: الجمعة: 5.
وثالثا: أن قوله:{لذو مغفرة} ولم يقل: لغفور أوغافرة كأنه للتحرز من أن يدل على فعلية المغفرة لجميع الظالمين على ظلمهم كأنه قيل: عنده مغفرة للناس على ظلمهم لا يمنعه من إعمال هذه المغفرة عند المصلحة شيء.
ويمكن أن يستفاد من الجملة معنى آخر وهو أنه تعالى عنده مغفرة الناس له أن يغفر بها لمن شاء منهم، ولا يستوجب ظلم الناس أن يغضب تعالى فيترك الاتصاف بالمغفرة من أصلها فلا يغفر لأحد، وهذا يوجب تغيرا في بعض ما تقدم من نكت الآية غير أنه غير ظاهر من السياق.
وفي الآية مشاجرات بين المعتزلة وغيرهم من أهل السنة وهي مطلقة لا دليل على تقييدها بشيء إلا بما في قوله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به} الآية: النساء: 48.
تتعرض الآيات لقولهم:{ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} وترده عليهم أن الرسول ليس له إلا أنه منذر أرسله الله على سنة الهداية إلى الحق ثم تسوق الكلام فيما يعقبه.
قوله تعالى:{ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ } إلى آخر الآية ليس المراد بهذه الآية الآية القاضية بين الحق والباطل المهلكة للأمة وهي المذكورة في الآية السابقة بقوله:{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} بأن يكون تكرارا لها وذلك لعدم إعانة السياق على ذلك، ولوأريد ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: ويقولون لولا{إلخ}.
بل المراد أنهم يقترحون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آية أخرى غير القرآن تدل على صدقه في دعوى الرسالة وكانوا يحقرون أمر القرآن الكريم ولا يعبئون به ويسألون آية أخرى معجزة كما أوتي موسى وعيسى وغيرهما (عليهم السلام) فكان في قولهم:{لولا أنزل عليه آية} تعريض منهم للقرآن.
وأما قوله:{ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فإعطاء جواب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي توجيه الخطاب إليه دونهم وعدم أمره أن يبلغ الجواب إياهم تعريض لهم أنهم لا يستحقون جوابا لعدم فقههم به وفقدهم القدر اللازم من العقل والفهم وذلك أن اقتراحهم الآية مبني على زعمهم - كما يدل عليه كثير مما حكى عنهم القرآن في هذا الباب على أن من الواجب أن يكون للرسول قدرة غيبية مطلقة على كل ما يريد فله أن يوجد ما أراد وعليه أن يوجد ما أريد منه.
والحال أن الرسول ليس إلا بشرا مثلهم أرسله الله إليهم لينذرهم عذاب الله ويحذرهم أن يستكبروا عن عبادته ويفسدوا في الأرض بناء على السنة الإلهية الجارية في خلقه أنه يهدي كل شيء إلى كماله المطلوب ويدل عباده على ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم.
فالرسول بما هو رسول بشر مثلهم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وليس عليه إلا تبليغ رسالة ربه وأما الآيات فأمرها إلى الله ينزلها إن شاء وكيف شاء فاقتراحها على الرسول جهل محض.
فالمعنى: أنهم يقترحون عليك آية - وعندهم القرآن أفضل آية - وليس إليك شيء من ذلك وإنما أنت هاد تهديهم من طريق الإنذار وقد جرت سنة الله في عباده أن يبعث في كل قوم هاديا يهديهم.
والآية تدل على أن الأرض لا تخلومن هاد يهدي الناس إلى الحق إما نبي منذر وإما هاد غيره يهدي بأمر الله وقد مر بعض ما يتعلق بالمقام في أبحاث النبوة في الجزء الثاني وفي أبحاث الإمامة في الجزء الأول من الكتاب.
__________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج11،ص244-250.
تعجّب الكفّار من المعاد:
بعد ما إنتهينا من البحث السابق عن عظمة الله ودلائله، تتطرّق الآية الأُولى من هذه المجموعة إلى مسألة المعاد التي لها علاقة خاصّة بمسألة المبدأ، ويؤكّد القرآن الكريم هذا المعنى حيث يقول: { وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}(2) أي إذا أردت أن تتعجّب من قولهم هذا فتعجب لقولهم في المعاد.
هذا التعجّب من المعاد كان موجوداً عند جميع الأقوام الجاهلة، فهم يظنّون أنّ الحياة بعد الموت أمرٌ محال، ولكنّنا نرى أنّ الآيات السابقة وآيات أُخرى من القرآن الكريم تجيب على هذا التساؤل، فما هو الفرق بين بدء الخلق والبعث من جديد؟ فالقادر الذي خلقهم أوّل مرّة بإستطاعته أن يبعث الروح فيهم مرّة ثانية، وهل نسي هؤلاء بداية خلقهم حتّى يجادلوا في بعثهم!؟
ثمّ يبيّن حالهم الحاضر ومصيرهم في ثلاث جمل:
يقول أوّلا: { أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} لأنّهم لو كانوا يعتقدون بربوبيّة الله لما كانوا يتردّدون في قدرة الله على بعث الإنسان من جديد، وعلى هذا فسوء ظنّهم بالمعاد هو نتيجة لسوء ظنّهم بالتوحيد وربوبية الله.
والأمر الآخر انّه بكفرهم وعدم إيمانهم وخروجهم من ساحة التوحيد قيّدوا أنفسهم بالأغلال، أغلال عبادة الأصنام والأهواء والمادة والجهل والخرافة، وجعلوها في أعناقهم { وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ}.
ومثل هؤلاء الأشخاص ليس لهم عاقبة سوى دخول النّار { وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وفي الآية الثانية يشير إلى دعوى أُخرى للمشركين حيث يقول: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} بدلا من طلب الرحمة ببركة وجودك بينهم.
لماذا يصرّ هؤلاء القوم على الجهل والعناد؟ لماذا لم يقولوا: لو كنت صادقاً لأنزلت علينا رحمة الله، أو لرفعت العذاب عنّا!؟
وهل يعتقدون بكذب العقوبات الإلهيّة؟ { وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ}(3).
ثمّ تضيف الآية { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}. إنّ العذاب الشديد غير مخالف لرحمته الواسعة، كما لا يتوهّم أحداً أنّ رحمته العامّة هي إعطاء الفرصة للظالمين أن يفعلوا ما يريدون. لأنّه في هذه الموارد يكون شديد العقاب، والحصول على نتائج هذه الصفتين للربّ يعني {ذو مغفرة} و {شديد العقاب} مرهونٌ بسلوك الإنسان نفسه.
ذريعة أُخرى!
بعد ما أشرنا في الآيات السابقة إلى مسألة «التوحيد» و «المعاد»، تتطرّق هذه الآية إلى واحدة من إعتراضات المشركين المعاندين حول مسألة النبوّة: { وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}.
ومن الواضح أنّ إحدى وظائف النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إظهار معاجزه لكي يدلّ على صدقه وصلته بالوحي الإلهي، والذي يبحث عن الحقيقة له الحقّ في المطالبة بالمعجزة أثناء شكّه وتردّده في تصديق الدعوة، أو تتّضح له دلائل النبوّة عن طريق آخر.
ولكن يجب أن نلتفت إلى هذه النقطة وهي: إنّ أعداء الأنبياء لم يكن لديهم حُسن نيّة أو اتّباع للحقّ عند طلبهم المعجزة، بل لعنادهم وعدم تسليمهم للأمر الواقع ولذلك كانوا يقترحون بين فترة وأُخرى معاجز عجيبة وغريبة. وهذه ما يسمّى بـ «المعجزات الأخلاقية».
إقتراحهم للمعاجز لم يكن لكشف الحقيقة، ولهذا لم يستجب الأنبياء لمطاليبهم، وفي الحقيقة كانت هذه الفئة من الكفّار المعاندين يعتقدون أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدّعي القدرة على إنجاز أي عمل خارق للعادة، وأيّ واحد منهم يقترح عليه إنجاز عمل ما سوف يُلبّي مطاليبه.
ولكن الأنبياء كانوا يقولون لهم الحقيقة وهي أنّ المعاجز بيد الله، ورسالتنا هداية الناس.
ولذلك نقرأ في تكملة الآية قوله تعالى: { إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}.
_________________
1- تفسير الامثل، ناصر مكارم الشيرازي،ج6،ص394-397.
2- ويحتمل في تفسير جملة {إن تعجب فعجبُ قولهم} إنّ المقصود منه إن تعجب من عبادتهم للأصنام فالأعجب أن ينكروا المعاد، ولكن هذا الإحتمال غير وارد، والصحيح ما هو ظاهر الآية المذكور في المتن.
3 ـ المثلات جمع «مثلة» بفتح الميم وضمّ الثاء ومعناها العقوبات النازلة على الاُمم الماضية.
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|